السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

غزوة الخندق

غزوة الخندق

يوم بلغت القلوب الحناجر

آخر محاولة من قريش لوأد الدولة الإسلامية
أفشلها سلمان وخدعة نُعَيم والعاصفة العاتية

فوجئ المسلمون بضخامة جيش الأحزاب المهاجمة
فاقترح سلمان على الرسول حفر خندق حول المدينة

القائد خالد بن الوليد كان من بين قادة الهجوم على المدينة ولم يكن قد أسلم بعد
القائد خالد بن الوليد كان من بين قادة الهجوم على المدينة ولم يكن قد أسلم بعد

خسائر المسلمين في غزوة «أحد» أضعفت المعنويات
فحرّض اليهود قريش على تسديد الضربة القاضية

في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة الموافق 627 للميلاد تعرّضت الدولة الإسلامية في المدينة لخطر وجودي بكل معنى الكلمة كاد لولا تأييد الله أن يتحول إلى كارثة على المسلمين، ففي تلك الموقعة حشد ما سمي تحالف الأحزاب بقيادة قريش أكثر من 10،000 مقاتل كاملي التجهيز والعتاد لهدف واحد هو شنّ هجوم كاسح على الدولة الناشئة في المدينة والقضاء عليها قضاء تاماً والتخلص بالتالي من التهديد الذي باتت تمثله لسلطان قريش وإمتيازاتها ونظام الجاهلية وقيمه وشرائعه وعلى رأسها عبادة الأصنام. في مقابل هذا الجيش اللجب المتحمس للقضاء على المسلمين تجمع داخل المدينة 3،000 مقاتل من المسلمين كانوا ينظرون بمزيج من الخوف والرجاء إلى جيش الكفار وهم يتساءلون كيف يا ترى سيمكنهم ردّ الهجوم وإنقاذ الدين وأهله من ذلك الخطر العظيم؟ لكن }كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ { (البقرة: 249). وبالفعل فقد قيض الله أن تتحول غزوة باغية هدفها القضاء على المسلمين إلى نصر غير متوقع لأن المشركين الذين خسروا الرهان على تلك الغزوة لم يتمكنوا بعدها من شن أي غزوة على المسلمين بل المسلمون هم الذين سيأخذون المبادرة بعدها وسيزدادون قوة على قوة إلى أن ييسّر الله تعالى لهم القضاء على الشرك وفتح مكة ورفع لواء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية.
بهذا المعنى فإن معركة الخندق التي صمد فيها المسلمون أمام جحافل المشركين والقبائل التي تحالفت معهم يمكن اعتبارها معركة فاصلة بين مرحلتين : مرحلة ضعف المسلمين وتشريدهم من مكة ولجوئهم إلى المدينة والتزامهم سياسة الدفاع والمهادنة وبين مرحلة ضعف المشركين وإدراك الرسول (ص) مع الوقت أن الموازين قد انقلبت ضد قريش وحلفائها الأمر الذي سيزيد المسلمين تصميماً وإقداماً في التعامل مع المشركين وسيدفع بهم في الوقت المناسب من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم وحسم الموقف مع أهل الكفر.
فما هي خلفيات معركة الخندق ما الأسباب التي قادت إليها؟ وكيف مكّن الله تعالى للمسلمين المستضعفين يومها الصمود ثم النصر في وجه عدو يفوقهم بأكثر من ثلاثة أضعاف؟

أسباب معركة الخندق
في السنة الخامسة للهجرة، وهي السنة التي حصلت فيها غزوة الخندق كان المسلمون قد تمكنوا منذ خروجهم من مكة من بناء دولة صغيرة في المدينة بالاستناد إلى حلف المهاجرين الذين قدموا من مكة هرباً من اضطهاد قريش والأنصار الذين كانوا من سكان المدينة والذين استقبلوا الرسول ومهاجري المسلمين بالتأييد والنصرة وكانوا يتألفون بصورة أساسية من قبيلتي الأوس والخزرج. ورغم انحصار الوجود السياسي للمسلمين في المدينة دون امتداده إلى نواح أوسع من الجزيرة، فإن المسلمين استخدموا المدينة كقاعدة لشن هجمات على المشركين ومناوشتهم باستمرار، وكانت أول موقعة مهمة لهم مع قريش وحلفائها هي غزوة بدر التي انتصر فيها نفر قليل من المسلمين على جيش كبير من المشركين وقتلوا خلالها أكثر من 70 من كبرائهم وصناديدهم.
بعد غزوة “بدر” وهزيمة قريش بات المسلمون يشكلون خطراً حقيقياً على اقتصاد مكة عن طريق السرايا التي كانت تقطع طريق قوافل قريش التجارية وعن طريق الإغارة على القبائل لإجبارها على قطع موالاتها لمكة. وقد شن الرسول (ص) بعد “بدر” غزوتين مهمتين الأولى استهدفت بني سليم والثانية غطفان وهي من القبائل القوية المتحالفة مع قريش. في هذه الأثناء خشي اليهود وكانوا قوة يحسب حسابها في المدينة ونواحيها أن تقوى شوكة الإسلام فأخذوا بتحريض قريش على الثأر لهزيمة “بدر” كما إن أعيان قريش كانوا يصرون على أبي سفيان أن يجهز حملة كبيرة على المسلمين من أجل الثأر لقتلى القبيلة العزيزة واستعادة هيبتها. وبالفعل قررت قريش شنّ حملة كبيرة أسفرت عما سمي بغزوة “أحُد” (و”أحُد” هو جبل يقع على مقربة من المدينة) وقد مني خلالها المسلمون بخسائر كبيرة وتعرض فيها الرسول نفسه إلى هجمات مباشرة من المشركين الذين أحاطوا به وحاولوا قتله وأصابوا منه جروحاً أسالت دمه وكادوا أن ينالوا منه لولا استماتة بعض الصحابة في الدفاع عنه وصدّ السهام التي كانت تطلق عليه بصدورهم وظهورهم.
ورغم أن غزوة “أحُد” انتهت دون نصر حاسم لقريش إلا أنها أصابت المسلمين بخسائر كبيرة اعتبرتها قريشا ثأراً لقتلاها في “بدر”. ومن هنا فإن معركة “أحُد” لعبت دوراً كبيراً في وقوع غزوة “الخندق” لأنها أثرت على هيبة المسلمين، كما إنها جعلت اليهود الذين كان الرسول (ص) قد عقد معهم مواثيق شرف بعدم الاعتداء والتضامن في وجه أي عدوان خارجي يكشفون أوراقهم ويبدأون بالتطاول على المسلمين واستفزازهم. كما إنهم في الوقت نفسه بدأوا مع منافقي المدينة وزعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول بتحريض قريش على استكمال غزوة “أحُد” بغزوة حاسمة يجمعون لها قبائل العرب ويوجهون خلالها ضربة تقضي على المسلمين وعلى الرسول (ص) وتخلص قريش وحلفاءها من هذا الخطر المتعاظم.
قبل غزوة “الخندق” حصلت أحداث مهمة تمثلت في اصطدام المسلمين بقبيلة بني النضير اليهودية بسبب ما بدأ يظهر من أفرادها من مظاهر تحدٍ للمسلمين بعد الخسائر التي منيوا بها في «أحُد». وظهرت نوايا القبيلة جلية عندما جاءها الرسول (ص) طالباً المساعدة في دية قتيلين فرفضوا المساعدة بل وحاولوا خلال زيارة الرسول لحيِّهم أن يستدرجوه إلى مكان يمكنهم فيه أن يرموه بحجر كبير من السطح بهدف اغتياله. وبالفعل حاول يهودي من بني النضير تنفيذ الجريمة فصعد إلى سطج يعلو المكان الذي جلس فيه النبي وأصحابه مسنداً ظهره إلى جدار تمهيداً لإلقاء الحجر لكن الملاك جبريل أنبأ الرسول فنهض مع أصحابه فجأة وغادروا المكان.
بعدها أنذر الرسول قبيلة بني النضير بالخروج من المدينة ولما رفضوا حاصر قواتهم التي كانت تضمّ 1500 مقاتل ست ليال أذعنوا بعدها عندما لم يأتهم التأييد الموعود من المنافقين وقبلوا الخروج دون أي سلاح وأن يأخذوا من متاعهم فقط ما يمكن لإبلهم أن تحمله.
بعد خروجهم من المدينة نزل أشراف بني النضير أولاً في خيبر التي كان يسكنها اليهود أيضاً وبدأوا يفكرون في الثأر من المسلمين وفي الوسائل التي توصلهم إلى تحقيق غرضهم وتردهم إلى مزارعهم في منطقة يثرب، وأجمع قرار زعماء اليهود على أن السبيل الأفضل للثأر هو بذل جهود منسقة بهدف تحريض قريش والقبائل العربية الكبيرة على شن حرب كاسحة على الدولة الإسلامية في المدينة والقضاء عليها قبل أن يستفحل أمرها. ومن أجل ذلك سار جمع من كبرائهم ومنهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق النضري وحييّ بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عامر الفاسق إلى مكة بهدف دعوة قريش لمحاربة رسول الله (ص). وكانت خطتهم أن يلفتوا قريش إلى أن المسلمين أصبحوا الآن ضعفاء بعد غزوة «أحد» وأن الفرصة متاحة للتخلص من الدولة الإسلامية في ما لو نشأ حلف كبير من القبائل لتولي تلك المهمة.
كان لقريش بالطبع أسبابه الخاصة للتفكير بشنّ حملة كبرى على المسلمين، فقد كانت دولة المدينة قد تحوّلت إلى خطر محدق بقوافل قريش التجارية وكان المسلمون يزدادون ثقة وجرأة في مضايقة المشركين وشنّ الغزوات على قوافلهم وعلى قوافل القبائل الحليفة لقريش. لكن رغم ذلك تعجب زعماء قريش لعداء اليهود الشديد للمسلمين وارتابوا في نواياهم، لذلك خاطبهم زعماء قريش بالقول: “يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول وأنتم تعلمون بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ وكان قصد قريش فهم الغاية من قدوم ممثلي اليهود وطلبهم التحالف لأن المنطق هو أن المسلمين واليهود أهل كتاب ووحي.
هنا لم يتردد زعماء اليهود في القول: “بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه” وهو ما سر المشركين وأقنعهم بإعداد العدة للغزوة الكبرى التي سميت في ما بعد بـ “غزوة الأحزاب” وقد تابع زعماء اليهود سيرهم إلى قبيلة غطفان القوية ودعوها إلى مشاركتهم في الحرب وذكروا لزعمائها استعداد قريش فأجابوهم إلى ما رغبوا فيه.
سلمان يقترح حفر الخندق
وصلت إلى الرسول (ص) من عيونه في مكة أخبار الحشد العسكري الذي كانت قُريش تحضر له لمهاجمة المسلمين. عندها جمع النبي (ص) أصحابه للتشاور في استراتيجية مناسبة لصد العدوان المحتمل على المدينة. صدر عن هذا الاجتماع قرار بالبقاء في المدينة والدفاع عنها من الداخل على عكس ما حصل في معركة “أُحُد”. أثناء عملية التشاور اقترح الصحابي سلمان الفارسي (ر) على الرسول (ص) حفر خندق عميق حول المدينة لتعزيز دفاعاتها والتعويض عن أي تفوق عددي محتمل في صفوف حلف الأحزاب. وقال سلمان: يا رسول الله كنا في فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. ثم شرح سلمان للرسول (ص) وللصحابة تقنية الخندق وطريقة حفره، وكان المسلمون يملكون وقتاً محدوداً قبل وصول طلائع الجيوش المهاجمة فقرروا العمل بسرعة وكسب الوقت. الجدير بالذكر هنا أن كلمة “خندق” هي كلمة فارسية في الأصل.
أذن الرسول بحفر الخندق حول المدينة في الجهات التي لم تكن حصينة لتعوق العدو المهاجم، واشتغل بنفسه على حفر الخندق ليقتدي به المسلمون، وليشجعهم على العمل فاشتغل المسلمون معه، أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون من دون إذن رسول الله (ص) ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم وتباطأ رجالهم في العمل وصار الواحد منهم ينصرف إلى أهله من غير استئذان.

” أرادت قريش القضاء على الدولة الإسلامية لأن الدعوة كانت تنتشر بسرعة ولأن دولة المدينة تحولت إلى تهديد خطير لقوافل المشـركين التجارية “

غزوة الخندق
غزوة الخندق

سلمان منا أهل البيت
خط رسول الله (ص) الخندق ثم قسمه إلى قطع الواحدة منها تعادل أربعين ذراعاً وأوكل لكل عشرة من المسلمين أمر حفر تلك القطعة، وعندما همّ بـتخصيص سلمان الفارسي ومجموعة بقطعة من الخندق بهدف إنجاز حفرها مع بقية الصحابة، اختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياً ومهاباً فقالت الأنصار: سلمان منا (يريدون أن يكون في فرقتهم) وقالت المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله (ص) “سلمان منا أهل البيت” فأخرج سلمان بذلك من شبكة الانتماءات والولاءات القبلية ليضمه معنوياً إلى أهل بيته الشريف، وقد كان وبقي بعد ذلك من أقرب المقربين إليه ومن أهل شورته.

الصخرة ومعجزة الرسول
بينما كان فريق من المسلمين يعملون في حفر الخندق في الجزء المخصص لهم ومعهم سلمان الفارسي، إذ ظهرت صخرة بيضاء شديدة الصلابة فكسرت حديد معاولهم وشقت عليهم، فطلبوا من سلمان أن “أبلغ رسول الله بأمر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها وإما أن يأمر فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه”، فرقي سلمان حتى أتى رسول الله فأخبره برأي الجماعة، فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق وأخذ المعول من سلمان (ر) فقال: “بسم الله” ثم ضربها فنثر ثلثها وخرج منها نور أضاء ما بين جانبي المدينة، فقال: “الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة من مكاني”، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثاً آخر فبرقت برقة من جهة فارس أضاءت كالأولى فقال: “الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن فأبشروا بالنصر”، فسُرَّ المسلمون، ثم ضرب الثالثة وقال: “بسم الله” فقطع بقية الحجر وخرج نور من صوب اليَمَن فأضاء جانبي المدينة حتى كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة”.

” أراد بنو النضير اليهود من تحريض بني قريظة على القتال الإستفادة من موقعهم المتميّز في جنوب المدينـة وإحداث تحول يؤدي إلى هزيمة المســلمين “

تنظيم الدفاع
استمر بعد ذلك العمل في حفر الخندق كما تقرر إقامة أبراج لمراقبة الخندق منها. ثم جعل النبي (ص) النساء والصبيان في أحد حصون بني حارثة لحمايتهم، ثم أمر بتنظيم دوريّاتٍ لحراسة المدينة من جميع الجهات ، وعيّن سلمة بن أسلم الدوسي (ر) لتولّي الحراسة عند الخندق، وأرسل مع زيد بن حارثة (ر) مائتي رجل لمراقبة الجهة الجنوبية وبذلك يصعب على الأعداء مفاجأة المدافعين أو استغلال نقطة ضعف معينة لاختراق الخندق ودخول المدينة. وبذلك تمكن المسلمون من إنهاء الخندق قبل وصول العدو بستة أيام!
وعند وصول حلف الأحزاب ونيتهم القضاء على دعوة الإسلام وعلى النبي (ص) قدر عدد مقاتليهم بنحو 10،000 مقاتل كانت بينهم فرقة من الفرسان وقد زحفوا جميعاً بقيادة أبي سفيان إلى المدينة، لكن الجيوش التي قدمت وفي ظنها أن حسم المعركة لصالحها لن يأخذ وقتاً طويلاً فوجئت عند وصولها بالخندق الذي يلف الحدود المفتوحة للمدينة فوقفت عاجزة عن عبوره لمهاجمة المسلمين بعد أن حاولت موجات مقاتليها اختراقه أكثر من مرة، وكانت إحدى محاولات الاختراق بقيادة خالد بن الوليد كما شارك عمر بن العاص في الهجوم وكان هذان البطلان الإسلاميان لا يزالان في صفوف المشركين. وبعد أن فشل حلف الأحزاب بقيادة أبي سفيان في اقتحام المدينة بفضل حفر الخندق قرر الجيش المهاجم نصب الخيام وفرض حصار على المدينة إلى أن تستسلم، لكن خطة الدفاع كانت محكمة والمدينة تختزن مؤونة تكفي سكانها أشهراً طويلة بينما الجيش المهاجم لم يكن مستعداً لحصار طويل ولم يكن قد جلب معه مؤونات تكفيه أكثر من شهر. وقد طال الحصار فعلاً نحو شهر وكانت الحرب عبارة عن كرّ وفرّ. المدافعون المسلمون يرمون المهاجمين بالنبال لمنع خيولهم من اجتياز الخندق، وقد قتل للمشركين خيل كثيرة في محاولاتهم اجتياز تلك العقبة وبدأ التعب يحل في صفوفهم رغم كثرة عددهم. أحد العوامل التي أضعفت معنويات المهاجمين كان البرد القارس خصوصاً في الليل وكان الوقت شتاء إذ بدأت الحملة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة١ وكان ذلك يوافق شهر كانون الثاني/يناير البارد جداً من سنة 627 ميلادية.

خيانة بني قريظة
مع صمود المسلمين داخل حصون المدينة وخلف الخندق الذي أصبح عنصر حماية أساسياً بدأ يهود بني النضير الذين شاركوا في التحضير لهذا الهجوم بالتفكير في خطة جديدة أملوا أن تقلب الموازين وتعيد المبادرة إلى حلف المهاجمين، وقرروا تحريض بني قومهم يهود بني قريظة الذين مازالوا يعيشون في المدينة ويربطهم عهد مع المسلمين على نقض العهد مع رسول الله (ص) .
كان المسلمون يعتبرون حي بني قريظة في المدينة منطقة محايدة تحمي ظهرهم، لذلك فإن انحياز تلك القبيلة اليهودية إلى المهاجمين وتحولها إلى قتالهم من داخل المدينة ومن خلفهم كان سيضعضع صفوف المدافعين، إذ يجعلهم بين نارين، ويسهل بالتالي على المهاجمين تحقيق الاختراق المنشود وكسب المعركة. فذهب إليه حُيَيّ بن أخطب النضري وهو أحد الذين حزبوا الأحزاب إلى سيد بني قريظة وكان كعب بن أسد القرظي، فلما سمع كعب حُيَيّ بن أخطب يطرق الباب أغلق دونه باب حصنه ولم يرد أن يستقبله لأنه علم أنه جاء يطلب منه نقض عهده مع المسلمين. لكن حيي ألحّ عليه حتى فتح له وما زال يستميله ويغريه بكثرة الأحزاب وقوّتها، ووعدهم بالحماية بعد انتهاء الحرب ورحيل الجيوش وكان هدف حيي بن أخطب من بني النضير أن يستفيد المهاجمون من الموقع المتميّز لبني قريظة في جنوب المدينة وهو ما أمل أن يحدث تحولاً كبيراً في مجرى القتال.
ولما وصلت الأخبار إلى النبي (ص) بنقض بني قريظة للعهد حزن كثيراً وأرسل سعد بن معاذ و سعد بن عبادة وآخرين للوقوف على حقيقة الأمر والتأكّد من صحّة الخبر، ولما دنا الرجال منهم محاولين تذكيرهم بالعهد وجدوا أنّ اليهود قد نقضوا العهد فعلاً ومزّقوا الوثيقة وكانوا يجاهرونهم بالسوء، وبلغوا حد سب الرسول قائلين: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.

امتحان شديد للمسلمين
رجع الصحابة بسرعة إلى رسول الله (ص) وأخبروه بغدر بني قريظة، فحزن الرسول (ص) حزناً شديداً لهذا الخبر لدرجة أنه تقنع بثوبه (غطى رأسه بالثوب) ومكث طويلاً، وهو يفكر فيما سيحدث. ثم رفع رأسه فجأة وقال للمسلمين بصوت عال: “اللّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ” .
وانتشر خبر خيانة بني قريظة بين المسلمين فعظم عليهم البلاء، وأصابهم الكرب الشديد، فقد كانت المدينة مكشوفةً من الجنوب على بني قريظة، وزاد من خوفهم وجود بعض النساء والأولاد في حصون اليهود، وقد وصف الله تعالى تلك اللحظات العصيبة في قرآنه الكريم بقوله:}إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا{ ( الأحزاب : 10و11).
وكان للمنافقين دورٌ في زيادة المحنة، وذلك بالسخرية من المؤمنين وبثّ روح الهزيمة والانهزامية فيهم ، كما قال تعالى }وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا{ (الأحزاب:12)، واستأذن كثير منهم النبيَّ في العودة إلى ديارهم بحجّة أنها مكشوفة للأعداء، وغرضهم في الحقيقة إنما هو الفرار من أرض المعركة وسمع البعض منهم يتهكم تعليقاً على بشارات الرسول (ص) بالفتوحات القادمة، ويقول: “كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط”.
وبدأ المنافقون في التسرب من الصف أي الفرار } وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا{(الأحزاب: 13).
مع تزايد الضغوط على المدافعين وفي محاولة استباقية عاد النبي (ص) إلى سلاح الدبلوماسية والمهادنة الذي طبقه في أكثر من مناسبة يكون فيها صف المؤمنين ضعيفاً، وتمثلت خطته في محاولة استمالة قبيلة غطفان الكبيرة والقوية وفصلها عن التحالف. وكان اقتراحه أن يعقد مصالحة مع غطفان للعدول عن الحرب مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة. لكن لما كانت ثمار المدينة ملك الأنصار فقد وجد لزاماً عليه أن يستشير في الأمر لذلك استدعى زعيمي الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة (ر) وعرض عليهما ما يجول في فكره فقالا: “لقد كنا نحن وهؤلاء القوم (أي غطفان)على الشرك بالله وعبادة الأوثان،أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف” “ فاستحسن النبي (ص) قولهما، وتراجع عن الفكرة. وكان رأي الصحابيين الجليلين في محله لأنه لو أعطيت غطفان وهي قبيلة مجاورة للمدينة ثلث الثمار لكان ذلك بمثابة إشارة ضعف من معسكر المسلمين وكان سيزيد في هبوط معنوياتهم، ولكانت هذه التسوية أسست لعادة تقوم فيها القبائل بإبتزاز المسلمين عبر التهديد بالحرب.

“نفذ نعيم بن مسعود خدعة بارعة أدت إلى انهيار الثقة بين اليهـــود وبين الأحزاب وكانت هذه من أهم أســباب وقف قريش للحملة على المدينـــة”

أحد الجبال المحيطة بالمدينة المنورة وكانت أثناء الغزوة تمثل حماية لها
أحد الجبال المحيطة بالمدينة المنورة وكانت أثناء الغزوة تمثل حماية لها

خدعة…في الوقت المناسب
بينما كانت الضغوط تتصاعد على المسلمين المحاصرين في مدينتهم جاء رسول الله (ص) رجل يدعى نُعيم بن مسعود بن عامر فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي وعرض أن يستخدم هذا الأمر لينفذ خدعة تضعضع صفوف المهاجمين. وبالفعل جاء نعيم بن مسعود بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فذكرهم بأنهم يظاهرون قريشاً وحلفاءها ويخاطرون لأن قريشاً والقبائل جاءت لكسب المغانم فإن لم توفق لذلك فستتركهم وتعود أدراجها وعندها سينتقم منهم المسلمون، ونصح نعيم اليهود بأن يطلبوا من قريش رهائن من رجالهم يكونون بمثابة ضمانة بأن قريش ستقاتل المسلمين حتى حسم الموقف. ثم مضى نعين إلى قريش وقال لهم إن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن طلب إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج وقال لغطفان ما قاله لقريش وحذّرهم ما حذرهم.
وبالفعل لما حثت قريش اليهود على مقاتلة النبي (ص) محمد ردّ اليهود عليهم بأن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً كما إننا لن نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون في أيدينا برهاناً لنا أنكم ستقاتلون محمداً لأننا نخشى إن تعبتم من الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن أنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كانوا غير ذلك عادوا إلى بلادهم وتركوكم لتواجهوا محمداً وقومه في بلادكم، فأرسل اليهود مجدداً يطلبون رهائن من قريش ليقاتلوا ورفضت قريش ودب الخلاف بين الفريقين.

تصوير ثلاثي الأبعاد يوضح مجريات معركة الخندق أو غزوة الأحزاب
تصوير ثلاثي الأبعاد يوضح مجريات معركة الخندق أو غزوة الأحزاب

الطقس …يدخل الحرب
نجح نعيم بن مسعود في خدعته وأوقع الفشل بين بني قريظة وقريش، لكن لم يكد يتم لنعيم الأمر حتى حدث أمر لم يحسب المشركون حسابه إذ هبت عليهم ريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تطفئ نيرانهم وتقلب قدورهم وتقتلع خيامهم وأدت الرياح الشديدة البرودة إلى شل حركة الجند الذين باتوا مهتمين بسلامتهم ومات للمشركين الكثير من مواشيهم.. قال تعالى: } يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا{ (الأحزاب:9). فلما انتهى إلى رسول الله ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً، وبالفعل تسلل حذيفة إلى صفوف القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً. فإذا بقائد الحملة أبي سفيان يخطب في الأحزاب التي بدأت تتشتت ويصيبها الذعر فيقول:
“يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل” ثم قام إلى جمله فجلس عليه ثم ضربه فوثب به ووجه رحله في طريق العودة إلى مكّة.
حطمت خطبة أبي سفيان ما بقي من معنويات أو إرادة قتال لدى المشركين، لأنه كان قائد الحملة وماذا سيفعل بقية الجمع بعد أن عاد قائدهم القهقرى إلى بلده تاركاً الجمع المشتت والمذعور ليدبر أمره بنفسه. لقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البرد وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال، وقد كانوا يأملون دخول المدينة وكسب المغانم من حربهم على المسلمين لكن الخندق الذي أشار سلمان الفارسي بحفره منعهم وأحبط خطتهم على الرغم من كثرة عددهم. ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش رفعوا مضاربهم أيضاً وجمعوا خيلهم وإبلهم وقفلوا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من متاعهم فغنمه المسلمون، وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوماً (وفي رواية شهراً كاملاً). وكان أول ما قاله الرسول (ص) لأهل المدينة أن بشرهم بأن قريش “لن تغزوكم ثانية بعد عامكم هذا”وقد كان كما أخبر (ص) فقد كانت هذه الغزوة آخر محاولة من جانب أشراف مكة للقضاء على الدين الجديد ألا وهو الإسلام.
بعد انسحاب جيش الأحزاب يجر أذيال الخيبة استفاق بنو قريظة على خطورة ما ارتكبوا من خيانة للمسلمين في أصعب أوقاتهم، وتوجه المسلمون فور انتهاء غزوة الخندق إلى حي بني قريظة لتصفية الحساب معهم فحاصروهم حتى استسلامهم فأخرجوهم من المدينة ولم يسمحوا لهم بأخذ أي شيء من أملاكهم معهم كما كان الحال مع بني النضير، كما إنهم أوقعوا القصاص بحد السيف في عدد من كبرائهم ومقاتليهم.

طريق الحرير

طريق الحرير

طريــــــق الحضــارة البشريــة

كان طريق الحرير أهم شريان عالمي لتبادل السلع
وحركة القوافل والسفن والأفكار والتأثيرات الحضارية

كان طول طريق الحرير أكثر من 30,000 كلم
وكانت الخانات تؤمن الراحة والأمان للمسافرين

قبل سنوات أعلنت الصين التي باتت أكبر اقتصاد من حيث الناتج المحلي في العالم (وفق ما أعلنه البنك الدولي) عن مشروع ضخم أسمته “طريق الحرير الجديد” وهو يستهدف ربط دول آسيا والشرق الأوسط وأوروبا بشبكة متطورة من الطرق البرية والبحرية والموانئ والمطارات وشبكات الاتصالات والخدمات المالية والتجارية بهدف تعزيز التجارة والعلاقات الاقتصادية بين دول المجموعة، كما يتضمن المشروع إنشاء بنك تنمية صينياً سيتولى توفير الموارد المالية اللازمة لتمويل مشاريع الربط والبنى الأساسية الضرورية لجعل هذا المشروع الطموح حقيقة واقعة.
ويستلهم مشروع “طريق الحرير” الجديد المثال الباهر الذي كان عليه طريق الحرير التاريخي الذي ازدهر واشتهر بصورة خاصة مع قيام الحضارة العربية الإسلامية وازدهار بلدان الشرق وتطورها الاقتصادي ونمو ثرواتها بصورة غير مسبوقة، الأمر الذي أعطى في حدّ ذاته دفعاً كبيراً للتجارة بين المنطقة العربية والقارة الآسيوية ولم يكن ما عرف في ما بعد بإسم “طريق الحرير” في الحقيقة سوى مجموعة متشابكة من الطرق والممرات والمحطات التجارية التي كانت تخدم تدفقات البضائع بين دول الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وفارس والقرن الأفريقي وبين القارتين الصينية والهندية، وكان “طريق الحرير” أهم شريان عالمي لحركة الأشخاص والقوافل ولتبادل البضائع والسلع الأفكار والتأثيرات الثقافية من الشرق الأدنى وحتى الشرق الأقصى مروراً بآسيا الوسطى، في ما كانت أوروبا ما زالت تغرق في ظلمات التخلف، وهي لن تلحق بركب “طريق الحرير” إلا في وقت متأخر ابتداءً من القرون الوسطى.
فما الذي نعرفه عن “طريق الحرير” الذي كان رمزاً للإزدهار والتقارب بين الشعوب لآلاف السنين؟
كانت “طريق الحرير” شبكة من المسالك والممرات البرية والبحرية التي استخدمتها الأمم الغابرة لتحقيق شتى أنواع التبادل السلعي، وكانت طرق الملاحة البحرية تعتبر جزءاً لا يستهان به من هذه الشبكة وهي مثّلت بالتالي حلقة وصل ربطت الشرق بالغرب عن طريق البحر واستُخدمت على الأخص لتجارة التوابل بحيث بات إسمها الآخر الشائع “طرق التوابل” Spice Road.
هذه الشبكات الواسعة من طرق التجارة لم تستخدم فقط لتبادل السلع والبضائع الثمينة فحسب وإنما أتاحت أيضاً تناقل المعارف والأفكار والثقافات والمعتقدات بفضل هذا التمازج الهائل بين قوافل التجار من مختلف الأمم والحضارات المستمرة واختلاطهم المتواصل مما أثر في وقت لاحق تأثيراً عميقاً في تاريخ شعوب المنطقة الأوروبية والآسيوية وحضاراته. ولم تكن التجارة وحدها هي التي جذبت المسافرين المرتحلين على طول “طريق الحرير” وإنما التلاقح الفكري والثقافي الذي كان أيضاً سائداً في المدن الواقعة على تلك الطرق حتى إن العديد من هذه المدن تحوّل إلى مراكز للثقافة والتعلم والإكتشاف. وقد شهدت المجتمعات المستقرة على امتداد هذه الطرق تبادلاً وانتشاراً للعلوم والفنون والأدب ناهيك عن الحرف اليدوية والأدوات والتقنيات، الأمر الذي أدى إلى تفاعل غني جداً للغات والأديان والثقافات..
ويُعتبر مصطلح “طريق الحرير” في الواقع مصطلحاً حديث العهد نسبياً إذ لم تحمل هذه الطرقُ القديمة طوال معظم تاريخها العريق إسماً بعينه. وفي أواسط القرن التاسع عشر، أطلق العالم الجيولوجي الألماني، البارون فرديناند فون ريشتهوفن، إسم “دي سيدينستراس” (أي طريق الحرير بالألمانية) على شبكة التجارة والمواصلات هذه ولا تزال هذه التسمية المستخدمة أيضاً بصيغة الجمع تلهب الخيال بما يلفها من غموض وإيحاءات رومنطيقية.

” بدأت طريق الحرير بعلاقات قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهـندوس قبل أن تتوســــع الشبكة نحو الصين ثم أوروبـا  “

طريـــق الحرير
طريـــق الحرير

في البدء .. كان الحرير
عرفت الصين دودة الحرير قبل 6,000 عام وبعد 2,000 عام من ذلك التاريخ صنع الصينيون القدماء أول آلة لحلج الحرير وعندما برزت فرنسا في القرن السادس عشر بإعتبارها البلد الأول في تصنيع الحرير الفاخر فإنها تعلمت تقنيات تلك الصناعة من الصين والتي كانت يومها أكبر دولة متقدمة اقتصادياً وتقنياً في العالم.
يتكون الحرير من ألياف بروتينية تنتجها دودة القز عندما تقوم بغزل شرنقتها، وقد بدأت صناعة الحرير بحسب المصادر الصينية عام 2700 قبل الميلاد تقريباً. وكان الحرير يعدّ من المنتوجات النفيسة جداً، فانفرد بلاط الإمبراطورية الصينية باستخدامه لصنع الأقمشة والستائر والرايات وغيرها من المنسوجات القيّمة، وبقيت تفاصيل إنتاجه سراً حفظته الصين بشدة طيلة 3000 سنة تقريباً بفضل مراسيم إمبراطورية قضت بإعدام كل من يتجرأ على إفشاء سرّ إنتاج الحرير لشخص غريب. وتحوي قبور مقاطعة هوبي، العائدة إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، نماذج فاتنة لهذه المنسوجات الحريرية ومن بينها الأقمشة المزخرفة والحرير المطرّز والألبسة الحريرية في جميع أشكالها.
إلا أن احتكار الصين لإنتاج الحرير لا يعني أنها لم تتاجر به وتبادل به سلعاً أخرى من العالم كانت تحتاجها. وقد استُخدم الحرير كهدايا قيمة في العلاقات الدبلوماسية وبلغت تجارته شأناً كبيراً بدءاً بالمناطق المتاخمة للصين مباشرة وصولاً إلى المناطق النائية، بحيث بات الحرير إحدى الصادرات الرئيسية للصين في عهد سلالة الهان (استمر حكمها من سنة 206 ق.م وحتى سنة 220 ميلادية)، وقد عُثر بالفعل على أقمشة صينية من هذه الحقبة في مصر وشمال منغوليا ومواقع أخرى من العالم.
وفي وقت ما من القرن الأول قبل الميلاد، دخل الحرير إلى الإمبراطورية الرومانية حيث اعتُبر سلعة فاخرة تغري بغرابتها وعرف رواجاً هائلاً وصدرت مراسيم ملكية لضبط سعره، وبقي يلاقي إقبالاً شديداً طوال القرون الوسطى حتى إن قوانين بيزنطية سُنت لتحديد تفاصيل حياكة الألبسة الحريرية، وهذا خير دليل على أهميته إذ كان يعدّ نسيجاً ملكياً خالصاً ومصدراً هاماً للمداخيل بالنسبة إلى السلطة الملكية. وفضلاً عن ذلك، كانت الكنيسة البيزنطية تحتاج إلى كمّيات ضخمة من الملبوسات والستائر الحريرية. ومن هنا، مثّلت هذه السلعة الفاخرة أحد المحفزات الأولى لفتح المسالك التجارية بين أوروبا والشرق الأقصى.
وكان الإلمام بطريقة إنتاج الحرير أمراً بالغ الأهمية وعلى الرغم من سعي الإمبراطور الصيني إلى الاحتفاظ جيداً بهذا السر تجاوزت صناعة الحرير في النهاية حدود الصين لتنتقل إلى الهند واليابان أولاً ثم الإمبراطورية الفارسية وأخيراً الغرب في القرن السادس ميلادي. وذكر المؤرخ بروكوبيوس أن بعض الكهنة الهنود جاءوا بيزنطا في نحو العام 550 م, وأقنعوا الإمبراطور جوستنيان أوغست بأنهم سيوفرون للرومان سبل إنتاج الحرير بأنفسهم بحيث يستغنون عن التعامل مع أعدائهم الفرس. وكشفت البعثة الهندية للإمبراطور عن طريقة تربية دودة القز مؤكدة له أن تربيتها عملية سهلة وقدمت البعثة معلومات عن طرق الحصول على بيوض دود القز وحفظها والتشجيع على تفقيسها وتحولها إلى ديدان القز ثم الفراشات. وبعد اقتناع الإمبراطور بالفكرة عاد الكهنة الهنود إلى بلادهم ثم عادوا إلى بيزنطا وهم يحملون بيوض ديدان القز إليها وكانت هذه بداية تاريخ إنتاج الحرير في الإمبراطوريةالبيزنطية وانتقاله منها في ما بعد إلى القارة الأوروبية.

من هنا كانت تمر إحدى تفرعات طريق الحرير وتبدو أطلال أحد الخانات التي كانت تخدم تجار القوافل على الطريق الطويل
من هنا كانت تمر إحدى تفرعات طريق الحرير وتبدو أطلال أحد الخانات التي كانت تخدم تجار القوافل على الطريق الطويل

دروب ومسالك ..وبضائع
مع أن تجارة الحرير مثلت أحد الدوافع الأولى لتطور واتساع الطرق التجارية عبر آسيا الوسطى، فإن الحرير في حدّ ذاته لم يشكل سوى واحد من المنتجات العديدة التي كانت تُنقل بين الشرق والغرب، ومنها الأنسجة والتوابل والبذور والخضار والفواكه وجلود الحيوانات والأدوات والمشغولات الخشبية والمعدنية والقطع ذات الدلالات الدينية والفنية والأحجار الكريمة وغيرها الكثير. وازداد الإقبال على طريق الحرير وتوافد المسافرون عليها طوال القرون الوسطى، وبقيت تُستخدم حتى القرن التاسع عشر مما يشهد ليس على جدواها فحسب وإنما على مرونتها وتكيفها مع متطلبات المجتمع المتغيرة أيضاً، كما لم تقتصر هذه الدروب التجارية على خط واحد – فكان أمام التجار خيارات عديدة من الطرق المختلفة المتوغلة في مناطق متعددة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى، ناهيك عن الطرق البحرية حيث كانت تُنقل البضائع من الصين وجنوب شرقي آسيا عن طريق المحيط الهندي وبحر العرب باتجاه أفريقيا والهند والشرق الأدنى.
وتطوّرت هذه الطرق مع الزمن، ومع تبدّل السياقات الجغرافية السياسية عبر التاريخ حاول تجار الإمبراطورية الرومانية مثلاً تجنّب عبور أراضي البارثيين أعداء روما وسلكوا بالتالي الطرق المتجهة نحو الشمال عبر منطقة القوقاز وبحر قزوين. وكذلك، شهدت شبكة الأنهار التي تجتاز سهوب آسيا الوسطى حركة تجارية مكثفة في بداية القرون الوسطى، إلا أن مستوى مياهها كان يرتفع ثم يهبط وأحياناً كانت المياه تجف كلياً فتتبدل الطرق التجارية بناءً على ذلك.
وشكلت التجارة البحرية فرعاً آخر اكتسب أهمية بالغة في هذه الشبكة التجارية العالمية. وبما أن الطرق البحرية اشتهرت خاصة بنقل التوابل، عُرفت أيضاً بإسم طريق التوابل، فقد زَوّدت أسواق العالم أجمع بالقرفة والبهار والزنجبيل والقرنفل وجوز الطيب القادمة كلها من جزر الملوك في اندونيسيا (المعروفة أيضاً بإسم جزر التوابل)، وبطائفة كبيرة من السلع الأخرى. فالمنسوجات والمشغولات الخشبية والأحجار الكريمة والمشغولات المعدنية والبخور وخشب البناء والزعفران منتوجات كان يبيعها التجار المسافرون على هذه الطرق الممتدة على أكثر من 15,000 كيلومتر، ابتداءً من الساحل الغربي لليابان مروراً بالساحل الصيني نحو جنوب شرقي آسيا فالهند وصولاً إلى الشرق الأوسط ثم إلى البحر المتوسط.
ويتصل تاريخ هذه الطرق البحرية بالعلاقات التي قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهندوس. وتوسّعت هذه الشبكة في مطلع القرون الوسطى، إذ شقّ بحارة شبه الجزيرة العربية مسالك تجارية جديدة عبر بحر العرب وداخل المحيط الهندي. وقد ارتبطت شبه الجزيرة العربية والصين بعلاقات تجارية بحرية منذ القرن الثامن الميلادي، وتيسّر مع الوقت ركوب البحر لمسافات طويلة بفضل الإنجازات التقنية التي تحققت في علم الملاحة والعلوم الفلكية وتقنيات بناء البواخر. ونمت مدن ساحلية مفعمة بالحياة حول الموانئ المحاذية لهذه الطرق التي كانت تستقطب أعداداً كبيرة من الزوار على غرار زنجبار والإسكندرية ومسقط وغوا، وأضحت هذه المدن مراكز غنية لتبادل السلع والأفكار واللغات والمعتقدات مع الأسواق الكبرى وجموع التجار والبحارة الذين كانوا يتبدلون بإستمرار.
وفي أواخر القرن الخامس عشر، أبحر المستكشف البرتغالي، فاسكو دي غاما، ملتفاً حول رأس الرجاء الصالح فكان أول من وصل البحارة الأوروبيون بالطرق البحرية المارة من جنوب شرقي آسيا فاسحاً المجال لدخول الأوروبيين مباشرة في هذه التجارة. وبحلول القرنين السادس عشر والسابع عشر باتت هذه الطرق والتجارة المربحة التي تمر بها موضع تنافس شرس بين البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين. فكان الاستيلاء على موانئ الطرق البحرية يوفّر الغنى والأمان على حد سواء لأن هذه الموانئ كانت في الواقع تهيمن على ممرات التجارة البحرية وتتيح أيضاً للسلطات التي تبسط نفوذها عليها إعلان احتكارها لهذه السلعة الغريبة التي يكثر الطلب عليها وجباية الضرائب المرتفعة المفروضة على المراكب التجارية.
تميّزت طريق الحرير بتنوع هائل لأن كل منطقة أو شعب أو قوافل تجارية كانت تتخذ لنفسها طريقاً تلائم تجارتها وعوامل واعتبارات أخرى كثيرة وكان التجار يضعونها في حسابهم، وكان هؤلاء التجار يسافرون محملين بمختلف أصناف البضائع ويأتون براً أو بحراً من شتى بقاع الأرض. واعتادت القوافل التجارية في غالب الأحيان على قطع مسافة معينة من الطريق ثم التوقف لنيل قسط من الراحة والتزوّد بالمؤن أو حط الرحال وبيع حمولاتها في مواقع منتشرة على طول الطرق، وقد أفضى ذلك إلى نشأة مدن وموانئ تجارية ترشح بالحياة، واتسمت طرق الحرير بالحيوية وتخللتها المنافذ والمداخل فكانت البضائع تباع للسكان المحليين القاطنين على طول الطريق واعتاد التجار على إضافة المنتوجات المحلية إلى حمولاتهم إذ كان قسم من التجارة يتم عن طريق المقايضة، كما نشأ ما يمكن تسميته بالتجارة العابرة حيث يشتري التجار من مكان ما في طريق رحلتهم لكي يبيعوها في مكان آخر فكانت القافلة بالتالي تشتري وتبيع حمولتها أكثر من مرة خلال تنقلاتها، وكانت هذه وسيلة مهمة لتعظيم الأرباح وتمويل التكلفة العالية للرحلات الطويلة التي تقطع ألوف الأميال بين البلدان والممالك.

تمثال للأدميرال والقائد البحري الصيني الشهير زنغ هـ الذي لعب دورا كبيرا في تطوير التجارة البحرية لطريق الحرير في القرن الخ
تمثال للأدميرال والقائد البحري الصيني الشهير زنغ هـ الذي لعب دورا كبيرا في تطوير التجارة البحرية لطريق الحرير في القرن الخ

“كانت القافلة تشتري حمولتها وتبيعها أكثر من مرة على الطريق وكانت هذه وسيلة أساسية لتعظيم الأرباح وتمـــــويل التكلفة العالية للرحلة التجارية”

دروب الحوار
لعل الإرث الأهم الذي تركته طريق الحرير هو دورها في تلاقي الثقافات والشعوب وتيسير المبادلات بينها. فقد اضطر التجار على أرض الواقع إلى تعلم لغات وتقاليد البلدان التي سافروا عبرها لكي يسهلوا على أنفسهم ويزيدوا حظوظهم في عقد الصفقات والصداقات، فكان التفاعل الثقافي جانباً حاسماً من المبادلات المادية، كما أقبل العديد من المسافرين على سلك هذه الطرق بهدف التبادل الفكري فازدهرت اللغات والأديان والثقافات وتمازجت.
وإحدى النتائج الاجتماعية المهمة التي نشأت على هذا التمازج كانت عملية التزاوج الواسعة بين الشعوب فكان الكثير من التجار يحلون في بلد وإذا طابت إقامتهم فيه أو إذا تكررت سفراتهم إليه لأغراض التجارة يتخذون زوجة لهم من ذلك البلد وكانت الزوجات غالباً ما يبقين في بلدهن في انتظار عودة الزوج التاجر من رحلته، وفي حالات قليلة اصطحب التجار زوجاتهم إلى بلدانهم ونشأ عن تلك الزيجات ثم عن موسم الحج السنوي إلى مكة المكرمة من التجار المسلمين من مختلف أنحاء العالم تمازج عرقي وثقافي ما زالت آثاره واضحة في أسماء العديد من العائلات البارزة في الجزيرة العربية أو في دول المشرق العربي. وكان الحج السنوي إلى مكة المكرمة غالباً ما يمتزج بالرحلات التجارية بعد أن أصبحت الجزيرة العربية في ظل الإسلام مركزاً زاهراً للتجارة ورحلاتها ولم يكن امتزاج أغراض تجارة القوافل بالحج إلى الجزيرة العربية أمراً غير عادي إذ علمنا قدر المشقة التي كانت تعترض المسافرين مما جعل مناسبة الحج تستغل أيضاً للتجارة الأمر الذي يساعد التاجر أو الحاج على تغطية نفقات سفره الطويل أحياناً من بلاد بعيدة. وربما كان ذلك هو أحد الأسباب في ازدهار أسواق تجارية تباع فيها كل أنواع السلع في موسم الحج في مختلف مدن الحجاز وفي طرق القوافل المارة عبر الجزيرة العربية.
ومن أبرز الإنجازات التقنية التي خرجت من طريق الحرير إلى العالم تقنية صناعة الورق وتطوّر تقنية الصحافة المطبوعة، كما تتصف أنظمة الري المنتشرة في آسيا الوسطى بخصائص عُممت بفضل مسافري طريق الحرير.
وكان الدين وطلب العلم والمعرفة من الدوافع الأخرى للسفر على هذه الطرق. واعتاد كهنة الصين البوذيون السفر للحج إلى الهند لجلب نصوص مقدسة تتعلق بالعقيدة البوذية التي نشأت في الهند، ويمثل ما دوّنه الكهنة البوذيون من مذكّرات عن رحلاتهم مصدراً مذهلاً للمعلومات. وعلى سبيل المثال تتمتع مذكرات شوان زانغ (تغطي الفترة من 629 وحتى 654 ميلادية) بقيمة تاريخية هائلة. في المقابل قصد الكهنة الأوروبيون في القرون الوسطى الشرقَ في بعثات دبلوماسية وتبشيرية، وبخاصة جيوفاني دا بيان دل كاربيني المرسل من البابا إينوشنسيوس الرابع في بعثة إلى بلاد المغول من عام 1245 حتى عام 1247 ووليام أف روبروك وهو كاهن فلمنكي من الفرنسيسكان أرسله الملك الفرنسي لويس التاسع للاتصال بقبائل المغول ما بين العامين 1253 و1255 ولعل المستكشف البندقي ماركو بولو هو أوسعهم شهرة وقد أمضى ما بين العامين 1271 و1292 أكثر من 20 سنة في الترحال وأضحى سرده للتجارب التي خاضها شهيراً جداً في أوروبا بعد وفاته.
وأدت طرق الحرير كذلك دوراً أساسياً في نشر الأديان في المنطقة الأوروبية والآسيوية. وتعدّ البوذية خير مثال على الأديان التي ارتحلت على طريق الحرير، إذ عُثر على قطع فنية ومزارات بوذية في مواقع بعيدة عن بعضها مثل باميان في أفغانستان وجبل وتاي في الصين وبوروبودور في إندونيسيا. وانتشر الدين المسيحي والإسلامي والهندوسية والزرادشتية والمانوية بالطريقة ذاتها، فقد تشرّب المسافرون الثقافات التي صادفوها وعادوا بها إلى مواطنهم. ودخلت مثلاً الهندوسية ومن ثم الإسلام إلى اندونيسيا وماليزيا عن طريق تجار طرق الحرير الذين ساروا في المسالك التجارية البحرية للهند وشبه الجزيرة العربية.

طريق الحرير في لوحة صينية قديمة
طريق الحرير في لوحة صينية قديمة

“أدت رحـــلات طريـــق الحرير وموسم الحـــج السنـــوي إلى تمازج عرقــــي وثقافـــي ما زالـــت آثاره واضحــــــة في أسـماء العديـــد من العائلات العربيـــة”

السفر على طريق الحرير
تطوّر السفر عبر طريق الحرير بتطور الطرق نفسها. وكانت القوافل التي تجرها الأحصنة أو الجمال في القرون الوسطى هي الوسيلة المعتادة لنقل السلع عن طريق البرّ. وأدت خانات القوافل، وهي عبارة عن مضافات و “فنادق” كبيرة مصممة لاستقبال التجار المسافرين، دوراً حاسماً في تيسير مرور الأشخاص والسلع على هذه الطرق. وكانت هذه الخانات المنتشرة على طرق الحرير من تركيا إلى الصين توفّر فرصة دائمة للتجار لكي يستمتعوا بالطعام وينالوا قسطاً من الراحة ويستعدوا بأمان لمواصلة رحلتهم، ولكي يتبادلوا البضائع ويتاجروا في الأسواق المحلية ويشتروا المنتجات المحلية ويلتقوا بغيرهم من التجار المسافرين أيضاً، مما يتيح لهم التفاعل مع ممثلي ثقافات وأديان وأفكار متنوعة. .
ومع مرور الوقت، تطورت الطرق التجارية وتنامت أرباحها لتزداد بذلك الحاجة إلى خانات القوافل، فتسارعت عملية تشييدها في شتى مناطق آسيا الوسطى بدءاً من القرن العاشر حتى مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر. وأدى ذلك إلى ظهور شبكة من خانات القوافل امتدت من الصين إلى شبه القارة الهندية وإيران والقوقاز وتركيا وحتى إلى شمال أفريقيا وروسيا وأوروبا الشرقية ولا يزال العديد من هذه الخانات قائماً حتى يومنا هذا.
وكان كل خان يبعد عن الخان الذي يليه مسيرة يوم واحد، وهي مسافة مثالية هدفها الحيلولة دون أن يضطر التجار (وحمولاتهم الثمينة على وجه التحديد) لأن يبيتوا في العراء عدة أيام أو ليال ويكونوا بذلك عرضة لمخاطر الطريق. وأدى ذلك في المتوسط إلى بناء خان كل 30 إلى 40 كيلومتراً في المناطق المخدومة بشكل جيد.
وكان التجار البحارة يواجهون تحديات متعددة أثناء رحلاتهم الطويلة. وعزّز تطور تقنية الملاحة ولا سيما المعارف المتعلقة ببناء البواخر من سلامة الرحلات البحرية خلال القرون الوسطى. وأنشئت الموانئ على السواحل التي تقطعها هذه المسالك التجارية البحرية، ما وفّر فرصاً حيوية للتجار لبيع حمولاتهم وتفريغها وللتزوّد بالمياه العذبة، علماً بأن إحدى المخاطر الكبرى التي واجهها البحارة في القرون الوسطى هو النقص في مياه الشرب. وكانت جميع البواخر التجارية التي تعبر طرق الحرير البحرية معرضة لخطر آخر هو هجوم القراصنة لأن حمولاتها الباهظة الثمن جعلتها أهدافاً مرغوبة من عصابات القرصنة البحرية.

العماني أحمد ابن ماجد أمير البحار وعالم الملاحة ومكتشف الهند بعد إبحاره حول رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الأفريقية
العماني أحمد ابن ماجد أمير البحار وعالم الملاحة ومكتشف الهند بعد إبحاره حول رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الأفريقي

إرث حضاري
في القرن التاسع عشر، تردد نوع جديد من المسافرين على طريق الحرير هم: علماء الآثار والجغرافيا، والمستكشفون المتحمسون الراغبون في عيش مغامراتهم الشخصية وتسجيل وقائعها. وتوافد هؤلاء الباحثون من فرنسا وإنكلترا وألمانيا وروسيا واليابان وأخذوا يجتازون صحراء تكلماكان في غرب الصين، تحديداً في منطقة تُعرف الآن بإسم شينجيانغ، قاصدين استكشاف المواقع الأثرية القديمة المنتشرة على طول طرق الحرير، مما أدى إلى اكتشاف العديد من الآثار وإعداد الكثير من الدراسات الأكاديمية والأهم من ذلك أن هذا الأمر أدى إلى إحياء الاهتمام بتاريخ هذه الطرق.
وما زالت العديد من المباني والآثار التاريخية قائمة حتى يومنا هذا، راسمة ملامح طرق الحرير عبر خانات القوافل والموانئ والمدن، إلا أن الإرث العريق والمستمر لهذه الشبكة المذهلة يظهر في الثقافات واللغات والعادات والأديان العديدة المترابطة رغم اختلافها التي نمت طوال آلاف السنين في موازاة تطور التجارة. فلم يولّد مرور التجار والمسافرين على اختلاف جنسياتهم تبادلاً تجارياً فحسب وإنما ولّد أيضاً على نطاق واسع عملية تفاعل ثقافي مستمر. وعليه، تطورت طريق الحرير بعد أولى رحلاتها الاستكشافية لتغدو قوة دافعة حفّزت على تكوين شتى المجتمعات القاطنة في المنطقة الأوروبية -الآسيوية وما يتعداهما.

تأثير الفلسفة

تأثير الحكمة الهرمسية المصرية
في تطور الفكر الفلسفي اليوناني

بِتاح فكَّرَ بالكون ونطَقَ به فكان الوجـــود

محاورات أفلاطون أظهرت مدى تأثر الفكر اليوناني
بتعاليم هرمس المثلث العظمة وعلومه المختلفة

فيثاغوراس قرأ الرسوم على جدران المعابد المصرية
فذهل كهنتها وأدخلوه معابدهم وأصبحوا هم من مُريديه

“ألا تَعْلَم يا أشقلبيوس، أنّ مصرَ هي صورةٌ للسموات، بل في مصرَ، كلُّ القِوَى التي تحكمُ وتُدبِّرُ في السماء قد نُقلت إلى الأرض».
(أشقلبيوس III – الفقرة 24b، من النصوص الهرمسية)

هَمَسَ الكاهنُ الأكبر بمدينة ممفيس في أُذن المُشرِّع والحكيم الإغريقي الكبير صولون (Solon)، “إنّكم أطفالٌ أيُّها الإغريق»، (عبارة هزّت أعماق صولون)، والمقصود بها أنكم أطفالٌ في معرفة الحقيقة والعقل وسرّ الوجود، سوى الذين منكم جاءوا إلى مصر يلتمسون أذيالَ ثوبِ الحقيقة فيها، مصر خزّان العلوم السرّية والحِكَميّ، محجة الحكمة والأسرار الروحانية منذ أقدم الأزمان.
بين صولون ولقائه بكاهن الحكمة المصرية وزيارة فيثاغوراس الغامضة إلى مصر ومكوثه فيها ردحاً طويلاً من الزمن ثم زيارات كبار مثل أفلاطون والقائد الاسكندر وكذلك معاهد الحكمة التي كان المصريون يقبلون فيها الطلبة الإغريق نشأت قصة أكبر عملية نقل للحضارة الحكمية القديمة من الشمال الشرقي الأفريقي في مصر الفرعونية إلى بلاد الإغريق التي كانت قد خرجت لتوها من عصر ظلمات مديد وبدأت تبحث عن وسائل لتكتب فيها فكرها وإرثها الشفهي. إنها قصة رحلة حضارة وفكر عادت فطبعت العالم بأسره عبر امتداد الحضارة الإريقية في ما بعد إلى مختلف أنحاء العالم بما في ذلك بلاد الشرق والمجتمع الإسلامي الذي كان في عزّ تعطشه إلى مختلف أشكال المعرفة ليجد ضالته في أصولها ومصادرها اليونانية الغنية. فما هي حكاية هذا التفاعل العميق والشامل بين أقدم حضارتين سبقتا الحضارتين الإسلامية والمسيحية لتؤثرا فيهما بعد ذلك أيما تأثير؟ وكيف تمكن المصريون من تشكيل الوعي الفلسفي المعاصر عبر القناة الإغريقية وكيف تمكن كهان غامضون لم يعرف أحد عنهم ولم يسمع بأسمائهم من ممارسة هذا التأثير الهائل عبر السنين على الحضارة الإنسانية في مجملها؟

فيثاغوراس أدهش المصريين باطلاعه على أسرار حكمتهم فأدخلوه معابدهم وأصبحوا من مريديه
فيثاغوراس أدهش المصريين باطلاعه على أسرار حكمتهم فأدخلوه معابدهم وأصبحوا من مريديه

لقد بات واضحاً أن المصريين عرفوا التوحيد بصورته الجلية وغير الملتبسة على الإطلاق – كما يتضح من التعاليم الهرمسية نفسها من التأثير الحاسم الذي مارسته تلك التعاليم والشخصية الغامضة للحكيم هرمس في الفكر المصري القديم ولاسيما منه التفكير الروحي والخلاصي. وقد حفظ المصريون هذا التعليم وأسراره في معابدهم ومعاهدهم وحلقاتهم السرية وعلموها بشروط للمستحقين فقط، وبعد التأكد من أهلية المريد، لكنهم ربما بسبب ما كانت تتعرض له عقيدتهم الصوفية من عداء من قبل التفكير «الأصولي» الخاضع لنفوذ الملوك وكهنتهم فإنهم قرروا في وقت معين التحول إلى أسلوب التعليم السري وإلى الرمزية الكثيفة في نصوصهم، وفي تعبيراتهم وكتاباتهم الفلسفية. لكن المدهش هو أن الإغريق فهموا أبعادَ تلك اللغة الأسطورية وقاموا بتأويل معانيها إلى لغة يفهمها الإغريق ونقلوها بالتالي من مصر إلى بلادهم وقد لعب العقلُ الإغريقي البارع دوراً تاريخياً في جمع حلقات الحقيقة وصياغتها بصورة منطقية وفلسفية، كما قام بصياغتها بلغة شفافة وعقلانية وعمد عند الضرورة إلى استعارة مفيدة للتعبيرات الأسطورية لحضارة الإغريق.

الحجُ إلى مصر والتلاقُحُ الفلسفي
إن أهم ما ثبت من دلائل وبراهين على التأثير الحاسم لمصر القديمة في الفكر الفلسفي اليوناني هو «قوافل الحَجَّ” التي تشكلت من الإغريق التائقين إلى اكتساب المعرفة الصوفية نحو مصر ليكونوا مُريدين في تعلُّم نظام الأسرار وسُبُلِ الخلاص الرُّوحي ومبدأ الخير الأسمى ومعرفةِ النفس والتحلِّي بالفضائل، وجاءت شهادات دور مصر في تعليم اليونان تلك المعارف على ألسنة فلاسفة يونانيين، أبرزهم أفلاطون في محاورات «كريتياس” و”تيماوس” و”القوانين”، وهو ما يُثبته أيضاً الفيلسوف طاليس، أب الفلسفة اليونانية من الناحية التاريخية، والفيثاغوريون، وفلاسفة المدرسة الأيونية الأولى، وفلاسفة المدرسة الإيلية اللاحقة. وقد نقلوا هؤلاء «الأمانة الحِكمية» من مصر إلى بلادهم ولاسيّما روّاد المدرسة الفيثاغورية والأورفية الذين كان لهم الفضل الأكبر في نشر الفكرَ الرُّوحاني الصوفي في بلاد الإغريق. وقد تحدثت المصادر التاريخية عن تمكُّن الحكيم فيثاغوراس، خلال زيارته إلى مصر ومكوثه هناك لسنين عدّة، من قراءة الرسوم والنقوش الهيروغليفية على جدران المعابد، وهو ما أذهل الكهنة المصريين، ففتحوا له أبوابَ معابدهم، بل وأصبحوا هم من مُريديه يستقون منه التعاليم الرُّوحيّة على نحو مشترك. فهو كان يشرح لهم بواطن أسرارهم المصرية ويدهشهم بمدى عمقه الفلسفي والرُّوحي.
وهناك أيضاً رواية عن زيارة أفلاطون لحاكم صقلية ديونسيس، حيث التقى هناك بالفيلسوف الفيثاغوري فيلولاوس ودفعَ له المال السخي ليستحصل منه على كتابٍ ضمَّ في حناياه تلك التعاليم الرُّوحانيّة التي تكاملت فيها أسرار العلوم الرُّوحانية المصرية والفلسفة الفيثاغورسية.

أهمية الفكر الفيثاغورسي
من هذا التلاقُحِ الفلسفي الرُّوحاني، تعرَّف اليونانيون على الفكر الفيثاغورسي الصوفي وبعض أهم مفاهميه: الأضداد (نور وظلمة، خير وشر)، والتناغم، والنار الكونية، وكذلك المبادئ الأساسية: العقل الكوني، وخلود الأرواح، والخير الأسمى وغاية الفلسفة. وقد بنى على هذه الركائزِ العقلية الرُّوحانية كبارُ فلاسفة اليونان، من طاليس إلى فلاسفة المدرسة الأيونية الأولى: أنكسماندر وأنكسيمانس، ومن ثم فلاسفة المدرسة الإيلية (بانتقال الفلسفة مع فيثاغوراس إلى إيطاليا) وهم إكزينوفان وبارمنيدس وزينون، ومن ثم الفلاسفة الكبار هيرقليطس وإمبيدوقليس وأنكساغوراس (أول مَنْ تكلّم عن “العقل الكوني” Nous) وصولاً إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو.

” الدارسون وطلاب الحكمة الإغريق توافدوا دوماً إلى مصر ومعابدها لتعلّم أسرار الوجود وسبل الخلاص الروحي ومعرفة النفس  “

التهيُّؤ الرُّوحي والخلاص
في مصر، تعلّمَ الإغريقُ نظريةَ الخلاص الرُّوحي، عبر تشبُّه الإنسانِ بالعوالم الرُّوحانيّة العقلية تحرُّراً من قيود الجسد بلوغاً للتحقُّق الصوفي والكشف الرُّوحي واستنارة البصيرة. فقد كان المُريدون في مدارس التهيُّؤ الرُّوحي المصرية يخضعون لمنهاجٍ معرفيّ شامل. يبدأون بتعلُّم اللغة والخطابة، ومن ثمّ الهندسة والرياضيات وعلم العدد والمنطق وصولاً إلى تعلُّم الفضائل والرُّوحانيات لتحقيق السعادة الخالدة، وبذلك يصبح المُريد شاهداً حيّاً للعقل الكوني «اللوغوس. لكن وقبل أن يدخل المُريدُ مرحلة التهيُّؤ الرُّوحي، كان يتعيّن عليه أن يُظهِر تحلِّيه بصفاتٍ تُحاكي الفضيلة: استقامة الفكر والعمل، بتحكُّمه بفكره وسلوكه، والمثابرة لتحقيق الهدف السامي المنشود، والأخلاق الرُّوحيّة، والتزام تعاليم المرشد الرُّوحي والثقة به، وكذلك الثقة بالقدرة على التعلُّم، وعدم الغضب عند التعرُّض لاضطهاد، وكلّ ما تنطوي عليه هذه السجايا الخُلُقية من فضائل، تغنَّى بها فلاسفة الإغريق في تعاليمهم هم أيضاً.
ولاحظ الباحثون مدى تشابه “آلهيات” الفكر اليوناني مع مثيلاتها لدى مصر وبابل، وأبرز ما دلَّ على هذا التأثُّر هو التشابه بين فلسفتَي أفلاطون وأرسطو ومَنْ جاء بعدهما من الفلاسفة الرُّوحانيين (كأفلوطين)، وبين فلسفة الحكيم المصري «بِتاح حتب» الذي يُعتقَد أنّه عاش حوالي سنة 2700 قبل الميلاد، وربّما قبل ذلك، في مدينة ممفيس. وجوهر هذه الفلسفات هو تفسير الكثرة في الكون وردّها إلى منشأ واحد. ولو أنّ انطلاقة الفلسفة اليونانية كانت تبدو للبعض ماديّة، بيدَ أنّها انتهت إلى ما ورائيات ميتافيزيقية جليّة.

الفيلسوف تاليس نصح فيثاغوراس بالتوجه لتعلم الحكمة في مصر
الفيلسوف تاليس نصح فيثاغوراس بالتوجه لتعلم الحكمة في مصر

مصر المُلهِمَة عند أفلاطون
ممّا يُدلِّلُ على تأثُّرِ أفلاطون بمصر، وهو الذي أمضى فيها ثلاث سنوات( وفي رواية أخرى 13 عاماً) حديثُه المباشر عنها في إحدى عشرة محاورة من محاوراته، وعلى الأخص «كريتياس» و«تيماوس» و«فايدروس» (Phaedrus) و«القوانين» و«السياسي»، في نحو ثلاثة وعشرين موضعاً مختلفاً من تلك المحاورات، حيث أكّد فيها أنّ مصر هي منبع الحكمة وأصل الحضارة.
وفي نهاية محاورة «فايدروس»، وهي من المحاورات المتأخّرة التي كتبها الفيلسوف بعد محاورتَي «الجمهورية» و«المأدبة»، يقصُّ أفلاطون في الحوار، الذي تناول المحبّة والنفس والخطابة، قصةً توارثتها الأجيالُ عن أصل الكتابة تؤكّد أنّ الشخصية الأسطورية المُبجَّلة لدى المصريين «تحوت» (Theuth)، الكاتب الأعظم عند المصريين، هو مُكتشِف علوم الرياضيات والعدد والهندسة والفلك وحروف الأبجدية، وعلم الحروف الصوتية. إنّه الشخصية التي أصُبِغَت عليها في عصور لاحقة صفة إله الحكمة والمعرفة، وبالتالي اعتبرت هذه الشخصية مصدراً للإلهام والحكمة. وقد أطلق الإغريق على هذه الشخصية «هرمس مثلث العظمة» (Hermes Trismegistos).
لقد شكّلت مصر «تحوت/هرمس المثلث العظمة» وعلومه المختلفة مصدراً للإلهام الفلسفي، وتبدَّى ذلك واضحاً في محاورات أفلاطون التي تناول فيها أصلَ العالم وكوزمولوجيا الخلق وظهور الكائنات العلويّة والإنسان والطبيعة والنفس البشرية.
وتحدّث أفلاطون في محاورتَيه «تيماوس» و«كريتياس» عن تلقّيه التقليد الدقيق للنظام الكوني والعقول العشرة استناداً إلى علم العدد من مصر عبر سلفه صولون، ووصْفه بلغة فيثاغورية للكائن الأول «الموناد» (Monad) الذي وُجِدَ منه الكائن العلوي الثاني «دياد» (Dyad)، ومن ثمّ الكائن الثالث “ترياد” (Triad)، ومن ثمّ العناصر الأخرى والأفلاك، ووجود العالَم الأصغر كإنعكاس للعالَم الأكبر. فالعالَمُ الأصغر يعكس «بالعدد» حقائقَ العوالم السماوية من الأفلاك والكواكب إلى الأرض ومَنْ عليها، ولاسيّما الإنسان.

ما الذي نقله صولون؟
في مقارنة بين ما أورده المؤرّخ الإغريقي هيرودوت عن مصر، من حيث الاهتمام التاريخي والمقارنة بين معتقدات وعادات الشعبين في مجالات الحياة والسياسة، وما تحدث عنه أفلاطون فهو التأكيد على أوجه الشبه الفكري بين المصريين والإغريق القدامى، ولا سيّما في عصر صولون، بما يُوحِي بوجود تلاحمٍ قديم بين الشعبين، ولاسيّما في تناقل الحكمة القديمة السرّية.
فالإغريقي بدا للكهنة المصريين توّاقاً مُغامِراً يتميّز بروح الشباب الدائم والأفكار المتجدّدة التي لا تركن إلى التقليد والنقل بل تسعى إلى الإستزادة بالمعرفة العقليّة والتحقُّق الرُّوحي. ومصر هي مُلهِمةُ الفلاسفة الإغريق، ومهدُ التاريخ والحضارة الإنسانية. لقد ورثت مصر «ما قبلها» وأورثته لمَنْ بعدها في سلسلة متصلة من العلم الصوفي الحِكمي الرُّوحاني.
وفي مطلع محاورة «كريتياس» قوله: «إذا ما تذكّرنا تماماً وأوردنا أقوال الكهنة المصريين وقد نقلها صولون إلى بلادنا، فأكاد أعلم أنّنا سنبدو للقوم بمظهر مَنْ أنْجَزَ لهُ ما يليق به…». لكن ما الذي نقله صولون إلى بلاد الإغريق عدا روايته عن قارة أتلانتس الغارقة، وترك ذلك الأثرَ الكبير في الفلسفة الإغريقية وعلم الإلهيات تحديداً؟

بتاح قال للكون كن .. فكان
ثمة باحثون يربطون بين الرؤية الفلسفية لنشأة العالم لدى أفلاطون، ومن ثم أرسطو، وفكرة العقل الكوني الأول «اللوغوس» ونظرية الخلق «الممفيسيّة» (نسبةً إلى ممفيس)، وكذلك ما جاء في نصوصٍ داخل الأهرامات، التي تتحدّث عن الكائن الأعلى «بِتاح» (ويبدو بهيئة بشرية دون أن يصبغ عليه صفات إلهية، وهو ما حدث في وقت متقدم لاحق)، الذي أوجده الإله الأول «آتوم” (Atum)، ووضعَ في فكرِه بالفعل كلّ ما هو كائنٌ. لقد فكَّرَ “بِتاح” بالخلق ثم “نطَقَ” به فكان الوجود، وأوجدَ منه كائناتٌ علويّة أخرى، فأرسى النظام في ثُمانيّة من «الأزواج المتضادة” أو تاسوعيّة (Ennead) تضمّه، وهي ما تُذكِّرنا بالعقول العشرة عند أفلاطون والعقول التسعة لدى أرسطو. فما هي «إلهيّات» ممفيس التي تعود بنا أربعة آلاف سنة قبل الميلاد؟

بتاح نطق بكلمة فوجد المكون
بتاح نطق بكلمة فوجد المكون

حجر «شاباكا» و «إنجيل» ممفيس
في المتحف البريطاني، يُحفَظ حجرٌ يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد يُفسِّر نشأة الكون عند المصريين القدامى، كوزمولوجياً وفلسفياً ودينياً. وهو نقشٌ منقولٌ عن “مخطوطة” تعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، إلى الحقبة الأولى المبكرة من التاريخ المصري، وُجِدَ في العاصمة الحاضرة آنذاك مدينة ممفيس (قبالة القاهرة اليوم)، “استنسخه” عن مخطوطة قديمة جداً ملكُ مصري اسمه شاباكا (من السلالة الخامسة والعشرين قرابة 712-698 قبل الميلاد)، ودُهِشَ علماءُ الحضارة المصرية لمدى التشابه بين الفلسفة اليونانية، ولاسيّما فلسفة أفلاطون وأرسطو وبعدهما أفلوطين، وما كُتِبَ في هذا الحجر، ومن ثم وجِدَ في نصوص داخل الأهرامات، حول النظام الكوني وعلاقته بـ “موجِدِه الواحد”، ولو بلغة “أسطورية”، أو بالأحرى رمزية كأنما أراد كاتبها أن يخفي مقاصده إلا عن الراسخون في العلم.
وقد اعتبر بعضُ الباحثين المختصّين في مصر القديمة وأبرزهم العالمُ والفيلسوف البلجيكي ويم فان دين دونغن
(Wim van den Dungen)، والعالمُ والفيلسوف الهولندي هنري فرانكفورت (Henri Frankfort) حجر شاباكا كأساسٍ أوّليّ للفلسفة الإغريقية بأكملها. فلم تتردّد فيه فحسب العبارةُ الفلسفية الشهيرة التي تُنسَب إلى سقراط: «اعرَفْ نفسك»، والتي وجدها هؤلاء العلماء منقوشة أيضاً على جدران المعابد المصرية، ولا الفضائل والسجايا «الأفلاطونية» الإنسانية كالشجاعة والاعتدال والحكمة والعدالة، بل أيضاً أشار ت إلى “المُحرِّكَ الأولَ غير المُتحرِّك» لدى أرسطو، و”الفيض” الذي اشتُهِرَ في فلسفة أفلوطين.
وكذلك وجِدَ في النقش ما يشبه “الأضداد الفيثاغورية”، والصانع الوسيط العلوي بين الإله والخلق وأصل النظام الكوني، و”الصوادِر الأُوَل”، التي وُجِدَت بـ “كلمةٍ نطقَ” بها الكائن الأعلى الأول «بِتاح” الذي يحمل في قلبه كلّ موجود، الذي “أوجده الإله الأول آتوم ليكون صانعاً للإبداع والخلق”. فكَّرَ “بِتاح” في عقله بكلّ الموجودات ونطقَ بها كلمةً أوجدَت الخلق بعد أن صدرَت عنه ثمانية كائنات علوية أخرى وهي أزواج متضادّة، ليصبح وإيّاها أشبه بالعقول التسعة عند أرسطو.
يُفكِّر «بِتاح” بعناصر الكون في عقله («القلب») ويُوجدها بأمره، وبذلك نجد في بدء التاريخ المصري مقاربةً لعقيدة “اللوغوس” كوسيط للخلق. فالعقل الإلهي الأوّل، وبالتالي الكلمة الإلهية الأولى، أوجدَت الحقيقة انبثاقاً عبر الكائنات العلوية الثمانية تحت «بِتاح”، وهو ما قد يُشكِّل خاتمة القصة التي لم يُكمِلها صولون، وأشار كريتياس إلى أنّها قد تكون لا تزال محفوظة في مخطوطاتٍ ورثها عن جدّه صولون. ولفتَ بريتشهارد إلى أوجه التشابه مع العِلّة الوسيطة للخلق لدى أفلاطون، وكذلك مع “العِلّة الأولى” للفكر المَحْض لدى أرسطو.
وفي هذا المعنى، يقول الكاتبُ دايفيد فيديلير (David Fideler)، المختص بالأديان والفلسفات والكونيات القديمة، في كتابه حول الكوزمولوجيا القديمة والرمزيّة المسيحية الأولى1(**): “يُمثِّل اللوغوس صميمَ النظام الكوني ومصدرَ الوجود، وممثوله الشمس، مصدر الحياة والنور”. وحول تعاليم اللوغوس في المدرستَين الفيثاغورية والأفلاطونية، يقول فيديلير: “يُمثِّل اللوغوس المستوى الأول من التبدِّي أو الكينونة، إذ إنّه يضم في ذاته جميعَ القوانين والعلاقات التي تحكم الكون الظواهري»، ويخلُص إلى القول: «اللوغوس هو مصدر كلّ وجود وهو مرتبطٌ بمبدأ العقل الكوني Nous، الذي تكمن فيه جميع الصور والمبادئ الكونية الذي يستند إليها الخلق».

صولون-المشرع-الحكيم-لأثينا-تأثر-بالحكمة-الهرمسية-المصرية
صولون-المشرع-الحكيم-لأثينا-تأثر-بالحكمة-الهرمسية-المصرية

ما كمِنَ في حَجَر “شاباكا” من «وحدانيّة مَشُوبة» لفِقه “الإلهيّات” الممفيسيّة تلوح منه أفكارٌ انجلت في سياق مبدأ اللوغوس الأفلاطوني ومن ثمّ فكرة اللوغوس لدى المسيحيين الأوائل. وفي هذا يقول الباحث جيمس هنري بريستد (James Henry Breasted) في مقالة له عن “الإلهيات” الممفيسية تحت عنوان «فلسفة كاهن من ممفيس” إنّ ما جاء في “إلهيات” نقش حجر «شاباكا” عن “العقل” الذي ولَّد العوالم
بـ “كلمته” يُشكِّل أساساً كافياً للإقتراح بأنّ مبدأَي العقل الأول Nous والكلمة الإلهية Logos “قد جاءا أيضاً إلى مصر في وقتٍ مبكر من التاريخ نقلاً عن إلهيات وكونيات حضاراتٍ مُوغِلَة في القِدَم”، وكما يؤكّد التقليد الإغريقي عودة أصول فلسفته إلى مصر، ثمة هيروغليفياتٍ تُلمِّح إلى أنّ ثمة مَنْ “همَسَ” أيضاً في آذان الكهنة المصريين حقائقَ توارثتها الأجيالُ من الحكماء عبر تعاقب الحضارات. ويشير بريستد إلى أنّ كلمة Nous اليونانية التي تُشير إلى العقل الكوني، قد تكون مشتقة من الكلمة المصرية «نو» (Nu)، وتشير إلى الرؤية البصرية والعقلية.
يتضح إذاً أنّ المصريين القدامى أخذوا مِشْعَلَ هذا الفكر الوضّاء عمَنْ سبقهم من شعوب، وقدّموه إلى الإغريق الذين بعقلهم المُبدِع أناروا العالم. ومن ثمّ توارت هذه الحقائقُ المصرية تحت رمالِ الآثار وسراديبِ الأهرامات من الأزمان السحيقة. لكنّ السطرين الـ 56
و 57 من نقش حجر “شاباكا” الممفيسي أبَيَا إلَّا الخروج من تلك الرمال والسراديب لينطقا بالحقيقة التي تلقّفها الفلاسفة الإغريق: «انظروا، كلُّ كلمةٍ من الإله أصبحت كائنةً في الوجود عبر أفكار العقل (القلب) والكلمة الآمرة (اللسان)”.

الكتابات الهرمسية
ومبدأ حفظ الأسرار

الحكيم هرمس المثلث العظمة في رسم تخيّلي
الحكيم هرمس المثلث العظمة في رسم تخيّلي

ظهرت الكتابات المسماة (المجموعة الهرمسية) في القرن الميلادي الأول، وكان ظهورها المكثّف في الإسكندرية، وإن كانت الهرمسية لم تكن محدودة بالإسكندرية، فقد كان للهرمسيين تجمعات (سرية) في عديد من المدن القديمة، ومنها ما هو في صعيد مصر.
وقد احتوت مجموعة (مخطوطات نجع حمادي) الشهيرة، التي اكتشفت بالصدفة سنة 1945، على عدد من الرسائل والكتابات الهرمسية، وفي الكتابات الهرمسية المبكرة، يظهر امتزاج النـزعة الصوفية للهرامسة، مع العناية بعلم الكيمياء الذي كان في الزمن القديم مرتبطاً بالسحر، مع الاهتمام بعلم الفلك الذي كان آنذاك مرتبطاً بالتنجيم ..
وفي الكتابات الهرمسية المبكرة، تظهر بقوة النـزعة التوحيدية. وفي كتاب «زجر النفس» المنسوب لهرمس، تأكيدٌ لا لبس فيه على «التوحيد» وعلى أنه السبيل الوحيد للمعرفة والعلم والتحقيق الروحي. وترى الهرمسية أن تعدُد الآلهة سخافةٌ، وإنكار التوحيد هو أكبر مرض يصيب النفس الإنسانية مع أن إدراك الإله الواحد، صعبٌ، وفهمه والكلام عنه مستحيل.
والله عند الهرامسة منـزهٌ عن العالم المادي/ الجسماني، وهو يتجلى في كل الموجودات من دون أن يحتويه شيء، مع أنه يحتوي الأشياء كلها. وقد صنع الله العالم، في المذهب الهرمسي، عن طريق الكلمة (اللوغوس) ليكون الله مرئياً في مخلوقاته.
والإنسان حسب الهرمسية هو مقياسُ الكون وأبدعُ المخلوقات، وهو قسمان أساسيان: الجسم والنفس.. ونفس الإنسان هي «فيض من الله» لكنها أسيرة الجسم المادي المحسوس، مع أنها ليست مادية ولا محسوسة. وهي جوهرٌ روحاني شريف، يستطيع بالتجرُّد عن شهوات الجسد، وبالطقوس التطهيرية أن يستطلع العالم العلوي (الإلهي) ويستشرف الأفق السرمدي، فيصير كالملائكة .
وتؤمن الهرمسية بتقمص الأرواح، فالأشخاص الذين عاشوا حياتهم بشكل رديء، تعود أرواحهم في أبدان المواليد، لتحيا من جديد وتتطهَّر من المساوئ السابقة، وتظل الروح تنتقل في الأبدان، حتى تخلص في نهاية الأمر من خطيئتها.
فقرات من كتاب «سر الخليقة وصنعة الطبيعة» وهو نصٌ توجد منه بعض النسخ الخطية القليلة. منها المخطوطة التي كُتبت قبل ألف سنة، بالعربية، وتوجد اليوم في مكتبة جامعة (أوبسالا) بالسويد !

“الآن أبيِّن لكم اسمي، لترغبوا في حكمتي وتتفكروا في كلامي.. أنا بلنيوس الحكيم، صاحب الطلسمات والعجائب، أنا الذي أوتيت الحكمة من مدبِّر العالم.. كنتُ يتيماً من أهل طوانة (تيانا) لا شيء لي، وكان في بلدي تمثالٌ متلوِّن بألوان شتى، وقد أُقيم على عمود من زجاج، مكتوب عليه بالكتاب الأول (اللغة القديمة): «أنا هرمس المثلَّث بالحكمة، عملت هذه الآية جهاراً، وحجبتها بحكمتي، لئلا يصل إليها إلا حكيم مثلي. ومكتوب على صدر ذلك العمود، باللسان الأول: من أراد أن يعلم سرائر الخليقة وصنعة الطبيعة، فلينظر تحت رجليّ.. فلم يأبه الناسُ لما يقول، وكانوا ينظرون تحت قدميه فلا يرون شيئاً”.
“وكنتُ ضعيف الطبيعة لصغري، فلما قويتْ طبيعتي، وقرأتُ ما كان مكتوباً على صدر ذلك التمثال، فطنتُ لما يقول، فجئت فحفرت تحت العمود. فإذا أنا بَسَربٍ (سرداب) مملوء ظُلمة، لا يدخله نورُ الشمس. دخلتُ السَّرَداب، فإذا أنا بشيخٍ قاعد على كرسيٍّ من ذهب، وفي يده لوحٌ من زبرجد أخضر مكتوب فيه: هذا سرُ الخليقة وعلم علل الأشياء. فأخذت الكتاب واللوح مطمئناً، ثم خرجتُ من السَّرَداب، فتعلَّمت من الكتاب علم سرائر الخليقة، وأدركتُ من اللوح صنعة الطبيعة وعزمتُ على شرح جميع العلل في جميع الخلْق. وأخبركم أيضاً أنِّني إنما وضعت هذا الكتاب وأجهدت نفسي فيه، لأحبائي وخاصتي من نَسْلي”.
“فالآن أقسم وأُحلِّف من سقط إليه هذا الكتاب (وصل إليه) من ولدي وقرابتي، أو ذوي جنسي من أولاد الحكماء، أن يحفظوه مثل حفظ أنفسهم، ولا يدفعوه إلى غريب أبداً. والحلف واليمين بالله الذي لا إله إلا هو.. ألا تغيرِّوا كتابي هذا، ولا تدفعوه يا وُلدي إلى غيركم، ولا تُخرجوه من أيديكم. فإنني لم أدع علماً قلَّ أو كثر، مما علَّمني ربي؛ إلا وضعته في هذا الكتاب، ولا يقرأ كتابي هذا أحدٌ من الناس، إلا ازداد علماً واستغنى عما في أيدي الناس.. والله الشاهدُ على مَنْ خالف وصيتي، وضيّع أمري”.

حجر شاباكا
حجر شاباكا

ماذا في حجر “شاباكا”؟

قُبالة القاهرة، حيث وضعَ جوهرُ الصقلّي الأساسَ الأوّل للعاصمة الفاطمية سنة 970 ميلادي، وعلى بعد يقل عن 18 كيلومتراً، تكمن آثارُ مدينة ممفيس عاصمة الممالك المصرية منذ السلالات الأولى، وبين تلك الآثار، عَثرَ علماءُ الآثار على أرشيفٍ في مكتبة معبد بِتاح وُجِدَ فيه حجرٌ منقوش أسود مائل إلى الأخضر (يبلغ قياس الحجر 138,5 سنتيمتر× 93 سنتيمتراً، أمّا مساحة النقش فهي 134 سنتيمتراً × 69 سنتيمتراً، وثُقِبَ في وسطه كحجر الرحى) يحمل اسمَ الملك المصري شاباكا (حوالي 698- 712 قبل الميلاد) من الأسرة الخامسة والعشرين، وهو الملك الذي تمكّن مجدّداً، ولو لفترةٍ قصيرة، من إعادة مصر إلى التوحيد وجعل ممفيس مقرّاً لحكمه مع نهاية «الفترة الوسطية الثالثة» (664 -1075 قبل الميلاد) التي أعقبت فترة «المملكة الجديدة» (1075 – 1539 قبل الميلاد). وقد نقلَ اللورد جورج جون سبنسر، الملقّب بآرل سبنسر، هذا الحجرَ إلى المتحف البريطاني في العام 1905.
وفي الأسطر الأولى للنص المنقوش باللغة الهيروغليفية، يؤكّد الملك شاباكا أنّه “أنقذ” ما وردَ في مخطوطة قديمة «أخذ يأكلها الدود» تعود إلى التاريخ الأول لتأسيس ممفيس والسلالات الأولى الحاكمة في مصر ما بين 4000
و 3500 قبل الميلاد، وحفظها في نقشٍ يصمد مع الزمن ويمنعه من الضياع.
ويتألف النصُ المنقوش من ستة أقسام تبدأ بمقدّمة تمهيدية عامة حول الملك شاباكا وإنقاذ «مخطوطة أسلافه» التي أخذ يأكلها الدود بنقشٍ دائم، ومن ثم تمجيد لـ «بِتاح» الصانع، والكائنات العليا التي “أوجدها الإلهُ آتوم” انبثاقاً من بِتاح. وتتحدّث الأسطر بين الـ 53 و الـ 61 عن إلهيات ممفيس وكيف “فكّر” بِتاح (Ptah) في عقله و”نطق” بكلماته فأوجدَ الكائنات العليا الثمانية، المؤلّفة من أربعة أزواج متضادة، ومن ثم الخلق. ويرد فيها أيضاً أنّ بِتاح هو في الأعلى (في السماء) كما هو في الأسفل (على الأرض).

المؤرخ حافظ ابو مصلح

ذِكرى المؤرّخ والأديب والشاعر

حافــظ أبــو مصلــــح
مكتبــة فــي رجــــل

أكثر ما يدهش في الإرث الفكري والأدبي للمفكر الراحل الشيخ حافظ أبو مصلح هو تلك الغزارة وذلك الثراء الكبير في إنتاجه الذي امتد على مدى يزيد على النصف قرن وشمل في مواضيعه التاريخ والتأمل الروحي والفلسفي والأدب والقصة والشعر والترجمة حتى يصح القول فيه إنه كان مكتبة في رجل، وقد كان بسبب سخائه في العطاء وفي الكتابة من تلك القلّة النادرة من كتَّاب وجدوا لكي يكتبوا وهو الذي لم ير نفسه إلا في الكتابة التي كانت أنيسة روحه ورفيقة حياته، كأنني به من تلك الفئة من الخلاقين الذين تنطبق عليهم حقيقة إن لم تكتب تموت! هو الذي كان يردّد على مسامعنا أن الكتابة هي الهواء لرئتيه ونبضات قلبه، وأنه إن توقّف عن الكتابة فسيشعر بدنوّ الأَجَل.

عندما جفّ الحبر
كم كان صادقاً في ذلك القول لأنه وفي الفترة الأخيرة التي بدأت فيها صحته بالتدهور، وبدأت الآلام والعمليات الجراحية تدهم جسده النحيل، ولم يعد لديه الوقت والقوة على الكتابة، بدأ يشعر بأن العدّ العكسي بدأ فعلاً، وقد تسلل الموت إلى قلمه ونبض وجوده قبل أن يأتي على جسده وقد ترافق انقطاعه عن الكتابة أو عجزه عن القيام بواجباتها بتراجع متسارع في صحته عجّل في انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
رغم ذلك، لم يودّع حافظ أبو مصلح هذه الدنيا إلا قرير العين بسبب القدر الكبير من التكريم والتقدير اللذين حظي بهما على الدوام من مقدري أدبه وفكره، وقد أوفاه محبوه بعض حقه وهو على قيد الحياة عندما قاموا بتكريمه في احتفال كبير دعت إليه اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بتاريخ 6 أيلول 2013، في بيت اليتيم الدرزي في عبيه، تكلّم فيه السادة الشيخ سامي أبي المنى، والمؤرّخ ناظم نعمة، والأستاذ سماح أبو رسلان، والناقد والأديب سلمان زين الدين، والمكرَّم الشيخ حافظ أبو مصلح. وقد قدّم المتكلّمين د. صالح زهر الدين. وكان للتكريم يومها وقع في قلب الفقيد رغم أنه لفرط تواضعه لم يكن من المهتمين بحفلات التكريم والظهور في الإعلام.
فمن هو حافظ أبو مصلح؟ وماذا عن إنتاجه الفكري والتاريخي والمعرفي وإبداعاته في ميدان الكتابة على اختلافها؟

طفولة يتم وشوق للعلم
ولد الشيخ حافظ أبو مصلح في بلدة عين كسور سنة 1930 وعاش منذ طفولته يتيم الأب إذ توفي والده وهو إبن عامين فتولّت والدته تربيته مع أخيه الأكبر كمال. تلقى علومه الأولى في مدرسة الداوودية في عبيه، وتتلمذ على يدي أخيه كمال وعمّه هاني أبو مصلح، ثم تابع دراسته في مدرسة الليسيه الفرنسية (اللاييك) في بيروت، وبدأ مسيرته التربوية باكراً، عندما درَّس أولاً في مدرسة وادي الرطل (الهرمل)، ثم في لبّايا والعقبة وينطا في البقاع، كما درّس أيضاً في مزرعة الشوف سنة 1956.
كان من مؤسسي مدرسة البنّيه في الشحّار الغربي عام 1957 وكان المدرّس الأوحد فيها، ثم بدأ بتوسيعها وتطويرها إلى أن أصبحت مدرسة متوسطة تمنح شهادة البريفيه، وبقي مدرساً في مدرسة البنّيه لمدّة 22 سنة.
نُقل إلى تعاونية موظفي الدولة في بيروت، وفي سنة 1989 عمل على فتح فرع لتعاونية موظفي الدولة في بيت الدين-الشوف، وبقي فيها الى حين إحالته على التقاعد عام 1993، حيث كان رئيس الفرع.
عمل رئيس تحرير لمجلة “الرؤية” سنة 1990 وكتب في مجلات: “الحداثة” و“الأماني” و“الضحى”، وتمّ تكريمه في الرابطة الثقافية في البنّيه عام 2002.
توفّاه الله بعد 9 أشهر من تكريمه الأخير، وذلك في 7 حزيران 2014.

أحد مؤلفاته
أحد مؤلفاته

قلمـــــــــــــــــي أَبَيْتُ بــــــــــــأن يدوِّن مــــــــــــا اشتــــهــــــــــــى إلا إذا كــــــــــــــــان الــــــــــــمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدادُ مُحَـــــــــــــــــــرَّراً
وخشيت وخز العلم، إنْ شطَّ الهوى فســـــكبتُ روحي للحقيــــــــــــقة أســـطرا

حافظ أبو مصلح

إهتمامه بالتاريخ
كان لحافظ أبو مصلح ميل خاص إلى التاريخ، لذلك كان أكثر من نصف نتاجه الفكري في حقل التاريخ. وفي كثير من لقاءاتنا المتكرّرة كان يشدّد على أهميّة كتابة تاريخ القرى، وينصح كل باحث أن يكتب عن تاريخ قريته خوفاً على هذا التاريخ من الضياع، وفي هذا المجال، يؤكّد الباحث نديم الدبيسي قائلاً بأن الشيخ حافظ أشار عليّ بكتابة تاريخ قريتي مرستي، وقال لي:
“في كلّ قرية ولو صغرت، مادّة تاريخيّة تستحقّ الدراسة. لا فوقيّة في التاريخ، ولا إقطاعية فيه. يتساوى عند المؤرّخ الصّادق ما يحمله المزارع والعامل في الأرض، مع ما يتبجح به صاحب الأطيان والمزارع الكبيرة. فالأرض وجه الإنسان، أو إذا شئت الإنسان وجه أرضه”.
وقال فيه صديقه الراحل الدكتور سامي مكارم: “إن حافظ أبو مصلح، صفا أدبه، وصدق تاريخه، طيب القلب والعشرة، صديق ورفيق”، كما كان “أميناً في دراسة كتب التاريخ، رائعاً بأدبه وشعره” – حسب قول المؤرّخ ناظم نعمه.
وقال فيه الدكتور توفيق توما: “ شرب من ينابيع لبنان، وتنشق ربى جبله، فصفا أدبه وصحّ تاريخه واشتهرت قصصه”…
ولعلّ الشيخ حافظ أبو مصلح نفسه يوضح مسألة البحث في التاريخ وحقيقته بقوله: “ما دَفَعني في الحقيقة إلى هذا العمل المضني الشاق، هو ما وجدته من إهمال في كتابة التاريخ عندنا، ومن تزوير فاضح روّجته السياسة، ومن تغاضٍ مقصود ستراً لحقيقة، ومن أقلام كان همَّها إسترضاء بعض الفئات طلباً لمكسب، ومن دعاية مأجورة كان القصد منها سعياً وراء مغنم. وإنني حاولت أن أكون نزيهاً وصادقاً في نقل الحقائق، لا يحدوني ميل ولا يشدّني غرض ولا تستهويني شهرة. كان همّي أن أعطي أصحاب الحق حقّهم من التاريخ..” (من مقدمة “تاريخ عين كسور”)…
المؤرّخ التوحيدي
من ناحية أخرى، ونظراً إلى الترابط العميق والعلاقة الوثيقة بين التاريخ والتراث الإنساني، ومعرفة حافظ أبو مصلح لذلك معرفة دقيقة، فقد جاء تاريخه الإنساني مترابطاً بين الأرض والعشيرة، تماماً مثلما هو الحال بين الإنسان المعروفيّ الدرزيّ الموحّد وبين قريته وأرضه وجبله ووطنه. وعلى هذا الأساس يبرز حافظ أبو مصلح معروفياً أصيلاً، وقد جاءت مؤلفاته عن طائفة الموحدين الدروز وخلواتها وأضرحتها وتاريخها، تأكيداً على التزامه بمجتمعه والتصاقه بقيم التوحيد والتاريخ الحافل للموحدين ومحطات المجد التي لم تنقطع في مسيرتهم. وقد عبّر عن ذلك خير تعبير المؤرّخ الكبير يوسف ابراهيم يزبك الذي قال فيه: “أرّخ حافظ أبو مصلح عن الدروز بحسٍّ وطنيّ وصدق تاريخي وأمانة أخلاقية عالية”.
أما المؤرّخ ناظم نعمة فقد قال: “إكتشفت بالشيخ حافظ تأصّله العميق بعقيدته التوحيديّة وزهده اللامتناهي عن متاع هذه الأرض، فهو لا يبغي سوى مرضاة ربّه في كلّ ما كتب ويكتب. أليست رسالة التوحيد زهداً وتقشّفاً وانصرافاً عن مباهج الدنيا، والتمسّك بالفضائل الأخلاقية والإنسانيّة؟”…

أمانة فكرية ودِقَّة
يعتبر حافظ أبو مصلح من نخبة البحّاثة الموحّدين الذين جعلوا همهم الحفاظ على التراث الغني والمشرف لهذه الطائفة العريقة بعاداتها وقيمها وتقاليدها وأصالتها وقيمها العربية والإسلامية. لقد كان باحثاً ومنقّباً في مختلف الأماكن المعروفة، وغير المعروفة منها، ليستقي معلوماته من الينابيع الأصلية حرصاً على الصدق في الرواية والدقة في سرد الوقائع، وهذه من صفات الباحث والمؤرّخ الذي يحترم نفسه ويحترم الآخرين. وقد قام المؤرخ والمفكر أبو مصلح بزيارات وجولات في العديد من القرى والأماكن الدرزية أنفق في تلك الجولات قدراً كبيراً من الوقت والجهد والدراسة حتى أصبح بسبب ما جمعه وحققه خزَّان معرفة، ومستودع ثقافة ومعرفة في الشأن التاريخي والاجتماعي الدرزي.
كما يتميّز المخزون الفكري المنشور لحافظ أبو مصلح في غناه وسعته وتنوّعه ومعاصرته، غير انّ حصّة مجتمعه التوحيدي من مؤلفاته كانت وفيرة إلى حدٍّ أنها شملت بصورة كليّة أو جزئية كل كتب التاريخ الثمانية والعشرين التي نشرها، وخمسة من كتب الشعر، وثلاثة من القصص، واثنين من كتب الترجمة، وهذا ما يفوق الـ 70% من إنتاجه الفكري من الكتب.

حصاد ثقافي ضخم
ويكفي أن نلقي نظرة على هذا التراث الفكري التاريخي التوحيدي الذي أنتجه الشيخ حافظ أبو مصلح، لنرى كم كان هذا الأديب ثروة إنسانية حقاً، وهذه لائحة بعناوين هذه المؤلفات التاريخية (التي أعيد طباعة بعضها مرات عدّة):
1. في التاريخ
واقع الدروز وتاريخ دير القمر، تاريخ القرى، تاريخ الدروز في بيروت، تاريخ الدروز في بيروت وعلاقتهم بطوائفها.التنوخيون تاريخ وحضارة (بالإشتراك مع الأستاذ أنيس يحيى)، تاريخ قبرشمون، تاريخ عين كسور، تاريخ البنّيه، تاريخ جسر القاضي، تاريخ عين درافيل، تاريخ ديركوشة، ثوار على الإنتداب.
2. في الإيمان والتوحيد
درّة التاج وسلّم المعراج، الدروز فلسفة ومفاهيم، خلوات القطالب، حسن المآب لمن آمن واستجاب، نور الحكمة سلوك الأجاويد، الظاهر الخفيّ.
2. تأملات في الحياة
أيّها الإنسان: تمهّل، وعادت الأرض، جنّة الأموات، شرح ما يلزم، جهجاه لو عرفته، رسائل الحب، أساطير من لبنان، الستّ جندلة.
حافظ أبو مصلح والترجمة
كان الشيخ حافظ مترجماً ولاسيّما من اللغة الفرنسية إلى العربية، ومن ترجماته على سبيل المثال:
1. “ثورة الدروز وتمرّد دمشق” تأليف الجنرال الفرنسي أندريا Andria- (أعيد طبعه أربع مرات)
2. “الدولة الدرزية” (أعيد طبعه ثلاث مرات)
3. “الأم” لمكسيم غوركي
4. مدام بوفاري
5. رسائل من طاحونتي
6. من الأرض إلى القمر
7. مرتفعات وذرنج
8. قصة حب
9. كيف تكتب الرسالة

حافظ أبو مصلح القاصّ والشاعر
بقدر ما كان مؤرّخاً وموحّداً ومترجماً، فقد كان حافظ أبو مصلح أيضاً قاصاً وشاعراً. وقد قدّم الشاعرُ العربيُّ الفلسطينيُّ الراحل سميح القاسم لكتاب حافظ أبو مصلح “قصائد منمنمة”… وكتب رئيف خوري عن حافظ أبو مصلح بأنه “قصّاصٌ لامع، ولاسيّما في قصّته سيليستا اللبنانية”… أما الدكتور العلاّمة أسعد علي قال عنه بأنّه “روائي لامع. باكورته “ومعي أمي” تنمّ عن قدرته الأدبية ورفعة أسلوبه القصصي.. إياك أن تتوقّف عن الكتابة”… وكذلك الحال مع الدكتور (اللغوي المعروف) أحمد حاطوم الذي قال إن “كتاب “ومعي أمي” فرضت قراءته على ولدي. إنّه كتاب يجب أن يقرأه جميع الأبناء والبنات”.
ومن أهم ما كتب حافظ أبو مصلح في “القصة” ما يلي: 1- ومعي أمي، 2- مدى العمر، 3- دوّامة القدر، 4- سيليستا اللبنانية، 5- على طريق المطار، 6- العسل الكذوب،7- وداعاً أيّها التراب، 8- المقهى المظلم، 9- أحرقوا المدينة.
أما في “الشعر”، فله: 1- سنابل الستين، 2- أزهار كانون الأول، 3- مصفاة النغم، 4- ظلال الروح، 5- قصائد متحرّرة، 6- نفحات شعريّة، 7- وثار الصّمت، 8- قصائد الألفين، 9- قصائد منمنمة (قدّم له الشاعر سميح القاسم).

من حفل تكريمه من قبل اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي ويبدو الشيخ سامي أبي المنى والشيخ هادي العريض يقدمان الدرع
من حفل تكريمه من قبل اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي ويبدو الشيخ سامي أبي المنى والشيخ هادي العريض يقدمان الدرع

حافظ أبو مصلح، سلاحه قلم وورقة
وكتاب وإيمان
يكفي حافظ أبو مصلح الفخر، أنّه أعطى – ولم يأخذ-، أعطى عصارة فكره ودماغه وقلبه، وما اختزنه العقل من معارف وعلوم، وما جادت به القريحةُ من شعر، وما فجّر وجدانه من أدب إجتماعي وروحي، لكي يفتّح عقولاً على كنوز معرفيّة ثمينة… كما رسّخ قناعتنا بأن عَظَمَة الإنسان لا تكمن في ما يكتنزه من ذهب وفضّة، بل مما يختزنه من أدب وعلم وإنسانيّة وعطاء معرفيّ، يقوّم السلوك، ويهذّب النفوس، ويقوّم الإعوجاج – على أنواعه- في سبيل المجتمع الإنساني وأنسنة المجتمع. ولهذا نرى الشيخ حافظ يقول: أنا لا أملك مالاً ولا ثروة نقدية، ولا قصوراً، ولا عقارات… بل أملك فكراً وقلماً أغنى من كل هذه الثروات.
قد بتُّ أغنى من يروحُ ويغتدي فغنى حروفي ثـــــــــروةٌ من عَسْجَدِ
إني أموت بـــــــــــــحرقتي إنْ لم تَكُنْ فـــــــــــي منزلي كتبٌ تُنَوِّرُ لــــــــــــي غدي

في ضوء ذلك، يكفي حافظ أبو مصلح لقب “المؤرّخ الأديب”، حيث يجمع فيه الكلّ إلى الجزء، وإنك إذا دعيت يوماً إلى مائدته المزدانة بالأفكار والصور الرائعة، فإنك ستشبع العقل والوجدان من أطايب شعره وأدبه وتاريخه ولن تشعر مع ذلك بالشبع بل ستطلب المزيد. كذلك الحال في حديقته وعرائشها التي هي من حكمة الدهور وتجارب الزمن، وليست هناك ثمرة في هذا الكون أشهى من ثمرة شجرة المعرفة.
هذا، وبما أن حافظ أبو مصلح كان يتميّز بالصمت وقلّة الكلام أحياناً، لذلك قال عنه أخوه عالِمُ اللغة المرحوم كمال أبو مصلح، إن“حافظ أبو مصلح صَمْتُهُ مدوٍّ، لذلك تراه قليل الكلام”.
لقد كتب حافظ أبو مصلح في الأدب والشعر وفي التاريخ وعن التاريخ، ونقَّب في بطون الخزائن والوثائق بحثاً عن الواقعة الصحيحة وإرضاء لاستقامته الفكرية، لذلك، فإن التاريخ سينصفه كما سينصفه المؤرخون اعترافاً بأمانته وموضوعيته وتقديراً لشخصيته المتنوعة الصادقة المفعمة حباً صادقاً للإنسان من دون تمييز أو إستثناء من أي نوع.

الوسط الأدبي والفكري
يكرِّم ذكرى حافظ أبو مصلح

شهدت قاعة آل أبو مصلح في عين كسور، نهار السبت الواقع فيه 19/9/2015 احتفالاً شعبياً وأدبياً حاشداً كان موضوعه تكريم الكاتب والمفكر وتحدّث في هذه المناسبة كلّ من المؤرخ حافظ أبو مصلح، وقد تحدث فيه كل من الشيخ سامي أبي المنى، والأستاذ سلمان زين الدين، ود. صالح زهر الدين، والأستاذ أنيس يحيى، والأستاذ سماح أبو رسلان، والأستاذ نديم الدبيسي، وأسامة حافظ أبو مصلح عن آل الفقيد، وكان عريف الحفل المهندس الأستاذ كمال فخر.
وقد جاء في كلمة الشيخ سامي أبي المنى قوله: “كأني بالشيخ حافظ حكيماً واعظاً مؤمناً بأنّ أمر الله عدل وتخيير، وأن نهيه عظة وتحذير، طالما أنّ للإنسان عقلاً مميّزاً، معلناً “أنّ لا راحة للإنسان في السماء إن أهمل راحته في الأرض”، أي لا راحة لمن تعجَّل الراحة، على ما يقول الأمير السيد (ق)، ومن يهمل تحصيل زاده الروحي في الدنيا، فكيف له أن يتّقي جوع الآخرة.
وألقى الأستاذ سلمان زين الدين قصيدة عنوانها “إياب” مهداة إلى الشيخ حافظ أبو مصلح. واستذكر الدكتور صالح زهر الدين صداقته مع المرحوم حافظ تجاوزت الثلاثين عاماً وتجسّدت فيها قرابة الحبر في أسمى معانيها، حتى غدت أقوى من قرابة الدم.
وذكر الأستاذ أنيس يحيى كيف أن حافظ أبو مصلح “كان يشعر بالإرتواء عند صدور واحد من كتبه” لكن هذا الإرتواء لا يكتمل ويصبح الظمأ ملحّاً من جديد”. وقال الأستاذ سماح أبو رسلان إن ما قاله وكتبه يصلح لكلّ آن وأين، لذلك ستبقى يا حافظ في ضمير أهل الأدب إسماً، وفي دقّات القلوب وتراً، وفي محافل الشعراء نجماً، وفي قلب التاريخ بدراً”.
وذكر الأستاذ نديم الدبيسي أن منزل الفقيد في عين كسور “كان أشبه بنادٍ ثقافيّ، يلتقي فيه من حين إلى آخر وبفترات متقاربة، أصدقاء، أدباء وشعراء ومؤرّخون، يتباحثون في مختلف الأمور، فكان يستقبلهم بإبتسامته الحانية، وعينيه التي تسبق الشفاه في التعبير وقول الحق، وكذلك عقيلته السيدة أحلام التي نكنّ لها كل التقدير والاحترام”.
وكانت كلمة الختام لآل الفقيد، وقد ألقاها ولده أسامة أبو مصلح شاكراً فيها جميع الأصدقاء المتكلمين والحاضرين والراعين للحفل.
وفي الختام تمّ توزيع كتابه الأخير “أيّها الإنسان تمهّل” على الحضور.

الفـارس الآتي مـن بـاريـس

هــــــــــوَى الفـــــارس الآتــي من بـاريــــــــس

الشاعر والأديب والكاتب الأستاذ أحمـد منصور، مدير مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية في مدينة الشويفات، هـوى مـن على منبـر المكتبة الوطنية في بعقلين، بتاريخ 26/9/2015، أثناء إلقائه كلمة، خلال اللقاء الثقافي للمثقفين والهيئات الثقافية، الذي عقـد في المكتبة الوطنية في التاريخ المذكـور حيث أصيب بعارض صحّي مفاجئ فسـقط أرضاً وما لبث أن فـارق الحيـاة.
ولـد الأستاذ أحمـد منصور سنة 1942، في بلدتـه حاصبيا الجنوبية، وهـو ينتمي إلى عائلة “الكاخي” في البلدة المذكورة. تلقّى دراسته الإبتدائية والتكميلية في مدارسها، والثانوية في مدارس مختلفة، ثـم سافر إلى القاهرة ونال شهادة التعليم الثانوي.
وفي سنة 1967، غادر إلى باريس وانتسب إلى كلية الآداب في جامعة السوربون لمتابعة دراسته الجامعية، وعمـل في التعليم والترجمة ونظم الشعر، ونشر المقالات الصحفية، وأنشأ مكتبة خاصّة حـوت مئات الكتب والوثائق والمجلّدات.
عـاد إلى لبنان، وكان قـد تـمّ إنشاء مكتبة عامّـة في مدينة الشويفات، أطلق عليها “ مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية”. عيّـن الأستاذ أحمـد مـديراً للمكتبة، فقام بنقل جميع محتويات مكتبته الخاصة من باريس إلى لبنان وقـدّمها هبـة إلى مكتبة الأمير شكيب المذكورة.
خلّـف الأستاذ أحمد منصور إرثاً ثقافياً ضخماً في الشعر والنثر، باللغتين العربية والفرنسية، منها:

1. باللغـة الفرنسيـة:
قاموس السبيل، لاروس، (تصحيح ومراجعة) – ودراسة حول البنية العروضية “كتاب الحب” شعـر نـزار قباني – وديـوان شعـر.

2. باللغـة العربية:
عشـرة دوادين شعـرية منشورة، وثمانية دواوين شعرية غير منشورة وجاهزة للنشر، منها ديوان شعري باللغة العامية وثلاثة كتب نثرية جاهزة للنشر أيضاً، بالإضافة إلى مئات المقالات والقصائد نشرت في صحف: الأهرام “مصر” – القدس العربي “لندن”- الإتحاد الإشتراكي
“ المغرب”- وثماني صحف ومجلات لبنانية في بيروت.
بـدأ الأستاذ أحمـد منصور بنظم الشعر صغيراً. هـو والشعر تـؤمان، يتفاعلان ويتلاحمان، فكلاهما واحـد الشاعـر والموهبـة. شعـره عميق الجـذور. يأخـذ من القلب حنينه إلى الجمال، ومـن العقل توقـه إلى الحقيقـة. مـن يقـرأه، يـرى إبداعه في سبك العبارات وصقلها ووزنها، وفي تصوير المعاني، والتحليق في الخيال والحكمة. يـوقن أن البلاغة لـم تخـلق خلقـاً ولا تصنع صنعاً، إنها تركيب دقيـق يعمل فيـه الشاعـر والطبيعـة.
في ديوانـه “مـدار الشمس”. يبدأ بذكر المعلّم كمال جنبلاط، شهيد المستحيل. ص 16
إرتجـــــــف الكــــــونُ نجـومــــــــــاً وجبـــــــــــــالا وجبيـنُ الشمس كالفحـم اسـتحالا
والسّـمــــــا انشقّــــــت بــــــزلـــــــزال هــــــــــــــــــــــوى في مـداه الشّـهبُ سـحبٌ تتعـالى
هـــــــــــــــــــل همـــــــت فــــــي بــــــعلبـك عـمــــــــــــــــــــــــــــــدٌ أم همـى “صنّين” في البحر وسالا
ألف أدهى..صرخوا..قلت إذن جنـدل الأوباش في الشـرق الهلالا

وفي ديوانـه “ حبّة من تراب غـزّة” يقـول: ص 48
أطفـال غـزّة والحـرائق أعيني
كبـدي لظـى .. نبضُ الفـؤاد جِـمارُ
أشـبال غـزّة صـولة في أمّـة
حِمـمٌ تهـبّ وطِيسـُها قهّـار.
أحمـد منصور شاعـر طليعيّ بارع، ورائـد نهضة، ومن المجـدّدين في الشعر. كما بلنـد الحيدري، ومحمـد الفيتوري، وعبد الوهاب البياتي، وسميح القاسم، ومحمد علي شمس الدين، ومعين بسيسو، ومحمود درويش، وأدونيـس، وأنسي الحاج وغيرهـم، الذين نجحـوا في تلقيح الشعـر بـدم التجديـد، النابـع من صـدق المعاناة لقضايا العصر الذي عايشـوه، والإنفتاح على ثقافات الغرب.
رحـل الأستاذ أحمـد منصور، لكنه باقٍ في ذاكرتنا وفي ضميرنا. رحمه اللـه.
8/10/2015

الحسن بن يسار البصري

الإمام الحسن البصري

إمام الزهد وسيّد التابعين

قوّام صوّام كثير الحزن والبكاء
شجاع في الحق عظيم الهيبة

لكل أمة وثن، وصنم هذه الأمة الدرهم والدينار

خطابه للذين يجعلون علمهم الشرعي وسيلة لإستجداء الأمراء

والله لو زهدتم في ما عندهم، لرغبوا في ما عندكم

ولكنكم رغبتم في ما عندهم، فزهدوا في ما عندكم

أرضعته زوجة الرسول طفلاً وعاش بين الصحابة
وأصبح أعظم أهل زمانه معرفة وخوفاً وتقوى

كان الحجاج بن يوسف الثقفي، جزار العراق في أوجّ سطوته وجبروته عندما سمع عن اللهجة الشديدة التي يتكلم بها الإمام الحسن البصري عن ظلمه واضطهاده للناس مذنبهم وبريئهم على السواء، فقرر بكل بساطة قطع رأسه وطلب إحضاره إلى مجلسه وهيّأ السياف لتنفيذ المهمة فور وصول الحسن إلى مجلسه. وبالفعل جاء الإمام ذو الطلعة البهية والمهابة العظيمة ودخل مجلس الحجاج بطمأنينة تامة وتوجه نحوه والطاغية يرغي ويزيد حتى إذا اقترب الحسن البصري منه دون أي خشية أو خوف، ونظر الحجاج في وجهه حتى راعه المنظر وتغيّرت حاله وهدأت غضبته فإذا به بدلاً من أن يأمر السيَّاف بقطع رأس الإمام العالم فريد عصره يدعوه للجلوس إلى جانبه ويبدأ بسؤاله مسائل في الدين وفي غير ذلك من الأمور، وانتهى الأمر بأن ودّع الحجاج الحسن البصري بإحترام شديد وانصرف العالم المطمئن في وجه الموت المحقق كما أتى ولم يتغير في قلبه شيء من قوة المؤمن وثقته بربه، مما أذهل من كان حاضراً في مجلس الحجاج وقدَّم الدليل على أن الرجل يختزن أسراراً وقوة غير عادية جعلت الحجاج البطّاش يرضخ ويظهر الطاعة من دون أن يعلم ربما ما دهاه.

هذه القصة هي ربما خير ما يمكن أن نبدأ به سيرة إمام الزهد والورع الفقيه العارف الجليل الأمين الناصح الأسد الهصور في الحق الإمام الحسن البصري رضي الله عنه. وقد كان فريد عصره في كل تلك الصفات ومدرسة ومنهاجاً لا يضارى في خوف الله والعبادة الحق والتقوى وترك الدنيا والإعراض عن زخرفها كما كان بطلاً في القتال والفتوحات وشيخاً مرشداً يجلس للإستماع إليه المئات بل والآلاف سواء في مجلسه الخاص أو في مجلسه العام في جامع البصرة في مدينة البصرة حيث أقام الشطر الأكبر من حياته إلى أن توفاه الله. فمن هو الإمام الحسن البصري؟ وما هي أهميته الكبيرة في الإسلام ولماذا أصبح له هذا التأثير الكبير والمكانة الجليلة في صفوف العلماء والأئمة العارفين وهو تأثير لا يزال ماثلاً وكبيراً حتى يومنا هذا؟

نسبه ونشأته
هو الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد، كان أبوه مولى جميل بن قطبة وهو من سبيميسان، سكن المدينة وأُعتِق وتزوج بها في خلافة عمر بن الخطاب فولد له بها الحسن رضي الله عنه، أما أمه فإسمها خيرة وكانت مولاة لأم سلمة أم المؤمنين وكانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع فتشاغله أم سلمة وترضعه، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن إنما هي من بركة بيت الرسول (ص) إذ إن أم المؤمنين أم سلمة أصبحت أمّه بالرضاعة فأصبح عن هذا الطريق منسوباً إلى بيت النبيّ (ص)، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له وكان في جملة من دعوا له عمر بن الخطاب (ر) بقوله: اللهم فقّهه في الدين وحبّبه إلى الناس.

عيشه وسط الصحابة
بسبب ولادته وإقامته في المدينة فقد نشأ الحسن البصري منذ يفاعه بين صحابة رسول الله (ص) وقد رأى الحسن عدداً من كبار الصحابة وكان قد بلغ الحلم عندما رافق العديد منهم وتعلّم منهم وسمع منهم مباشرة وروى بعد ذلك الحديث عنهم. ومن الذين روى الحسن البصري عنهم عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب وأبي بكرة الثقفي والنعمان بن بشير وجابر وجندب البجلي وابن عباس وعمرو بن تغلب ومعقل بن يسار والأسود ابن سريع وأنس بن مالك. وحضر الحسن الجمعة مع عثمان بن عفان وسمعه يخطب، وشهد يوم اغتياله وكان عمره أربع عشرة سنة. وفي سنة 37 هـ انتقل إلى البصرة للتلقي والتعلم، حيث استمع إلى الصحابة الذين استقروا بها، وفي سنة 43هـ عمل كاتباً في غزوة لأمير خراسان الربيع بن زياد الحارثي لمدة عشر سنوات، وبعد رجوعه من الغزو إستقر في البصرة حيث أصبح أشهر علماء عصره ومفتيها حتى وفاته.

” دخل أصحابه عليه لعيادته في مرض فلم يجدوا عنده فراشاً ولا بساطاً ولا وسادة ولا حصيراً إلا سرير من طين  “

فرح
فرح

صفاته وشمائله
كان الحسن البصري حسن الصورة، بهي الطلعة، وكان عظيم الزند قال محمد بن سعد: “كان الحسن فقيهاً، ثقة، حجة، مأموناً، ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، وسيماً”. وكان من الشجعان الموصوفين في الحروب، وكان المهلب بن أبي صفرة يقدمهم إلى القتال، واشترك الحسن في فتح كابول مع عبد الرحمن بن سمرة.
قال أبو عمرو بن العلاء: “ ما رأيت أفصح من الحسن البصري”.
وقال الغزالي : “وكان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء، وأقربهم، هدياً من الصحابة، وكان غايةً في الفصاحة، تتصبب الحكمة من فيه”( أي من فمه).
وقال علي بن زيد: “أدركت عروة بن الزبير ويحيى بن جعدة والقاسم فلم أر فيهم مثل الحسن ولو أن الحسن أدرك أصحاب النبي وهو رجل لاحتاجوا إلى رأيه”.
وقال الأعمش: “ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان إذا ذكر عند أبي جعفر يعني الباقر قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء”.

حزنه وخوفه
كان الحسن البصري صواماً قواماً، فكان يصوم الأشهر الحرم والاثنين والخميس وكان كثير الحزن، عظيم الهيبة، قال أحد أصحابه: «ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة».
وقال حمزة الأعمى: “كنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه”، فقلت له يوماً: “إنك تكثر البكاء”، فقال: “يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك”.
أما عن سبب حزنه فيقول الحسن رحمه الله: “يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه”.
وروى حوشب عن الحسن، قائلاً : يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به، ليطولنّ في الدنيا حزنك، وليشتدنّ في الدنيا خوفك، وليكثرنّ في الدنيا بكاؤك
وروى الطبراني عنه أنه قال: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة. يقول أحدهم: إنني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بـالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
ومن شدة خوفه وحرصه على الحلال وفراره من كل حرام، قد رفض تزويج ابنته لرجل عرف عنه أنه جنى مالاً كثيراً، وفي الرواية عن حميد الطويل أن رجلا قدم نيابة عن شاب يطلب خطبة بنت الحسن البصري، وأعرب الحسن في البداية عن قبوله، ثم عاد الوسيط إلى الشيخ وأراد أن يزيد الثناء على الخطيب فقال: يا أبا سعيد، وأزيدك أن له خمسين ألف درهم. قال الحسن على الفور: له خمسون ألفاً ما اجتمعت من حلال، وإن كان جمعها من حلال فقد ضنّ بها على الخلق، لا والله لا يجري بيننا وبينه صهر أبداً”!!

مدينة البصرة في جنوب العراق حيث عاش الإمام الحسن البصري رحمه الله
مدينة البصرة في جنوب العراق حيث عاش الإمام الحسن البصري رحمه الله

واصل بن عطاء

كان العالم واصل بن عطاء من تلاميذ الحسن البصري لكنه قرر في مرحلة معينة ترك مجلس الإمام الحسن وتكوين مذهب أو جماعة سميت في ما بعد بيت “المعتزلة”. وكان سبب ذلك حسب الرواة أن واصلاً ابن عطاء سأل الحسن البصري عن عصاة الموحدين فقال الحسن: “هم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم”، فقال واصل: “بل هم في منزلة بين المنزلتين”، ثم اعتزل حلقته، فقال الحسن البصري: «اعتزلنا واصل»، فسميت فرقته منذ ذلك الحين بـ «المعتزلة».

زهده واستغناؤه عن الناس
كان الحسن البصري من الزاهدين حقاً فهو الذي زهد في ما عند الملوك فرغبوا فيه واستغنى عن الناس وما في أيديهم فأحبوه، فعن يونس بن عبيد وقال: أخذ الحسن عطاءه فجعل يقسمه، فذكر أهله حاجة فقال لهم: دونكم بقية العطاء أما أنه لا خير فيه إلا أن يصنع به هذا.
وقال له رجل: إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً (أي يتصيدون الأخطاء) فقال: هون عليك يا هذا، فإنني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟
وعن خالد بن صفوان قال: لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة؟ قلت: أصلحك الله أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قلبي به أشبه الناس سريرة بعلانية وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك كيف يضلّ قوم هذا فيهم؟! وعن مطر قال: دخلنا على الحسن نعينه فما كان في البيت شيء لا فراش ولا بساط ولا وسادة ولا حصير إلا سرير مرمول هو عليه.

مصحف شريف يعود إلى القرن الخامس الهجري
مصحف شريف يعود إلى القرن الخامس الهجري

“كان جامعاً عالماً عالياً رفيعاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً مهيباً وجميـــــــــــلاً”

علمه
كان الحسن أعلم أهل عصره، يقول قتادة: “ما جمعت علمه إلى أحد العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه كتب فيه إلى سعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن”.
رأى الحسن عدداً كبيراً من الصحابة وروى عنهم مثل النعمان بن بشير، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس رضوان الله عليهم، ونتيجة لما سبق فقد لقّبه عمر بن عبد العزيز بسيد التابعين حيث يقول:” قد وليت قضاء البصرة سيد التابعين”.
ويقول ابن سعد عن علمه: “كان الحسن جامعاً عالماً عالياً رفيعاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فحسن حجة، وقدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه فحدثهم، وكان في من أتاه مجاهد وعطاء وطاووس وعمرو بن شعيب فقالوا أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط. وعن بكر بن عبد الله المزني قال: “من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن”. وقال قتادة: «كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام».

علم للخاصة وعلم للعامة
وقال أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات النساك: «كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن ويسمعون كلامه ويذعنون له بالفقه في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن سأله إنسان عن غيرها تبرم به وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر، فأما حلقته في المسجد فكان يمرّ فيها الحديث والفقه وعلم القرآن واللغة وسائر العلوم، وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب، وكان منهم من يصحبه للحديث، وكان منهم من يصحبه للقرآن والبيان، ومنهم من يصحبه للبلاغة، ومنهم من يصحبه للإخلاص وعلم الخصوص وكل من هؤلاء اشتهر بحال تعنى في العبادة».

حذره من السياسة والفتن
عاش الحسن الشطر الأكبر من حياته في دولة بني أمية، وكان موقفه متحفظاً على الأحداث السياسية، وخاصة ما جرّ إلى الفتنة وسفك الدماء، حيث لم يخرج مع أي ثورة مسلحة ولو كانت بإسم الإسلام، وكان يرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى والإضطراب، وفوضى ساعة يرتكب فيها من المظالم ما لا يرتكب في استبداد سنين، ويؤدي الخروج إلى طمع الأعداء في المسلمين، ولأن الناس يخرجون من يد ظالم إلى ظالم، وإن شقّ إصلاح الحاكم فما زال إصلاح المحكومين يسيراً. أما إن كان الحاكم ورعاً مطبقاً لأحكام الله مثل عُمر بن عبد العزيز، فإن الحسن ينصح له، ويقبل القضاء في عهده ليعينه على أداء مهمته.
ولقد عنّف الحسن البصري طلبة العلم الشرعي الذين يجعلون علمهم وسيلة للإستجداء فقال لهم: “ والله لو زهدتم في ما عندهم، لرغبوا في ما عندكم، ولكنكم رغبتم في ما عندهم، فزهدوا في ما عندكم”.
وكان يخاف الفتن وانزلاق الغوغاء إليها. فلما كانت فتنة بن الأشعث وقتاله الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن البصري وقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة وفعل وفعل؟ فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاءً فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. لكن الثلاثة خرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟ وانضموا إلى فتنة بن الأشعث وقتلوا جميعاً.

وفاته
يقول أبو طارق السعدي: “شهدت الحسن عند موته يوصي فقال لكاتب: اكتب هذا ما يشهد به الحسن بن أبي الحسن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من شهد بها صادقاً عند موته دخل الجنة. ويُروى أنه قبل أن تفارق الروح الجسد دخل في غيبوبة ثم أفاق إفاقة فقال لمن حوله لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم.
ومات الحسن ليلة الجمعة، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصلّ في جامع البصرة. وكان مماته سنة عشر ومائة (هجرية)، وعمره تسع وثمانون سنة، وقال عبد الله بن الحسن إن أباه عاش نحواً من ثماني وثمانين سنة، وقد مات في أول رجب، وكانت جنازته مشهودة صلوا عليه عقب الجمعة بالبصرة فشيّعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع. وقال هشام بن حسان: “كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر” فقال: مات الحسن فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مئة يوم.

” كان يحذر من الفتن وسفك الدماء ويرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى ويقول فوضى ساعة يرتكب فيها من المظـــــالم ما لا يرتكب في اســـــتبداد ســــنين  “

الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن
الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن

في غيبوبة ثم أفاق إفاقة فقال لمن حوله لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم.
ومات الحسن ليلة الجمعة، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصلّ في جامع البصرة. وكان مماته سنة عشر ومائة (هجرية)، وعمره تسع وثمانون سنة، وقال عبد الله بن الحسن إن أباه عاش نحواً من ثماني وثمانين سنة، وقد مات في أول رجب، وكانت جنازته مشهودة صلوا عليه عقب الجمعة بالبصرة فشيّعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع. وقال هشام بن حسان: “كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر” فقال: مات الحسن فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مئة يوم.

قالوا في الحسن البصري
سئل أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول: سلوا الحسن؟ قال: سلوا مولانا الحسن، إنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا.
وقال قتادة: ما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه، وكان الحسن مهيباً يهابه العلماء قبل العامة.
وقال ضمرة بن ربيعة نقلاً عن الأصبغ بن زيد إنه سمع العوام بن حوشب يقول: ما أشبه الحسن إلا بنبي .
وعن أبي بردة، قال : ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليـه وسلَّم منه
وقال مطر الوراق، لما ظهر الحسن جاء كأنما كان في الآخرة، فهو يخبر عما عاين.
وقال معاذ بن معاذ قلت للأشعث: قد لقيت عطاء وعندك مسائل، أفلا سألته ؟ ! قال: ما لقيت أحداً بعد الحسن إلا صغر في عيني.
قال قتادة: ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن.
وعن علي بن زيد، قال : سمعت من إبن المسيب، وعروة، والقاسم وغيرهم، ما رأيت مثل الحسن، ولو أدرك الصحابة وله مثل أسنانهم (أعمارهم) ما تقدموه.
وقال يونس بن عبيد: أما أنا فإنني لم أرَ أحداً أقرب قولاً من فعل من الحسن.

أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال : اختلفت إلى الحسن عشر سنين أو ما شاء الله، فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك.
وقال هشام بن حسان : سمعت الحسن يحلف بالله، ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله .

مختصر مفيد

جاء شاب إلى الحسن البصري فقال: “إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء“ .
فقال له الحسن:“ هل تقوم الليل“؟ فقال: “لا“، فقال: “كفاك أن حرمك الله مناجاته.

من أقوال الحسن البصري

الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن
وطلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب

• من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا
• فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحاً.
• ضحك المؤمن غفلة من قلبه.
• لكل أمة وثن، وصنم هذه الأمة الدرهم والدينار.
• بئس الرفيقين: الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك.
• من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
• ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية ؟ فإن كانت طاعته تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت.
• من ساء خلقه عَذَّبَ نفسه.
• الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن.
• إن المؤمن في الدنيا غريب لا يَجزع من ذلها ولا يُنافس أهلها في عزها.
• قال الحسن البصري: “أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الذي هموا به لهم مضوا وإن كان عليهم أمسكوا“. قال: “وإنما يثقل الأمر يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا، أخذوها من غير محاسبة، فوجدوا الله عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر وقرأ “مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها “.
• إحذر ممن نقل إليك حديث غيرك، فإنه سينقل إلى غيرك حديثك.
• عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك.
• ما رأيت شيئاً من العبادة أشدّ من الصلاة في جوف الليل.
• إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك.
• لولا العلماء لكان الناس كالبهائم.
• ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
• أيها الناس ! احذروا التسويف، فإنني سمعت بعض الصالحين يقول : نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ثم لا نتوب حتى نموت.
• إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله، فبغاك وبغاك- أي طلبك مرة بعد مرة – فإذا رآك مداوماً ملـَّكَ ورفضك، وإذا كنت مرة هكـذا ومرة هكذا طمع فيك.
• تفـقـَّـد الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة والقرآن والذكر، فإن وجدت ذلك فأمض وأبشر، وإلا فاعلم أن بابك مغلق فعالج فتحه.
• إن الله جعل الصوم مضماراً لعباده ليستبقوا إلى طاعته.
• استوى الناس في العافية فاذا نزل البلاء تباينوا.
• قرأت في تسعين موضعاً من القرآن أن الله قدّر الأرزاق وضمنها لخلقه، وقرأت في موضع واحد : الشيطان يعدكم الفقر… فشككنا في قول الصادق في تسعين موضعاً وصدقنا قول الكاذب في موضع واحد.• أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك (قالها لرجل مدحه نفاقاً).
• طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب.
• من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء.
• جاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم استطعه)، فقال: قيدتك خطاياك.

الحسن البصري
في مواقف مشهودة

1- وعظه للخليفة عمر بن عبد العزيز
ذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب الى عمر بن عبد العزيز:
أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزادَ منها تركُها والغنى فيها فقرُها، لها في كل حين قتيل، تُذِلُّ من أعزَّها وتُفقِر من جَمَعها، هي كالسُّمِّ يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرَّارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوَّة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى، ونسى المعاد فشغل بها لبُّه حتى زلَّت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد وقدِم على غير مِهاد، ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء. سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر، فمالها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه فزوَّاها عن الصالحين اختياراً وبسطها لأعدائهِ اغتراراً، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أًكرِم بها ونسي ما صنع الله عزّ وجل برسوله حين شدّ الحجر على بطنه.
وقال الحسن أيضاً : إن قوماً أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها.

2- الحجاج يأمر بقطع رأسه ..ثم يخضع له
لما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ، وطغى في ولايته وتجبَّر، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلاَّسه : تبّاً لكم، سُحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع – إذا كان يُريد قطعَ رأس إنسان بمكان فيه أثاث فاخر حتى لا يلوِّث الدمُ الأثاثَ يأتون بالنطع، والنطع قطعة قماش كبيرة، أو قطعة جلد، إذا قُطع رأسُ من يُقطع رأسُه، لا يلوِّث الدمُ الأثاث، ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفاً بين يديه، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده، وأمرهم أن يأتوا به، ويقطعوا رأسه، وانتهى الأمرُ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ، ووجفت عليه القلوبُ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلالُ المؤمن، وعزة المسلم، ووقارُ الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة، وقال له: ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا، فما زال يوسع له و يقول: ها هنا، والناس لا يصدَّقون ما يرون، طبعا طُلب ليقتل، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه، فكيف يستقبله الحجَّاج، ويقول له : تعال إلى هنا يا أبا سعيد، حتى أجلسَه على فراشه، ووضَعَه جنبه، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج : أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية – نوع من أنواع الطيب – وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه، ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج، وقال له : يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإنني رأيتك عندما أقبلت، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت ؟ فقال الحسن: لقد قلت : يا وليَ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته برداً
وسلاما عليَّ، كما جعلت النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم.

المؤمن في الدنيا غريب

3- كيف يَضِلُّ قوم فيهم الحسن البصري؟
حدَّث خالد بن صفوان فقال: لقيتُ مَسلمةَ بنَ عبد الملك في الحيرة فقال لي: أخبرني يا خالدُ عن حسن البصرة، فإنني أظنُّ أنك تعرف من أمره ما لا يعرف سواك ؟ فقال : أصلح اللهُ الأمير؛ أنا خيرُ مَن يخبِرُك عنه بعلم، قال : أنا جارُه في بيته، وجليسه في مجلسه، و أعلم أهل البصرة به، قال: هاتِ ما عندك .
قال له : إنه امرؤ سريرته كعلانيته – واحدة – و قوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أَعْمَلَ الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أَتْرَكَ الناس له، ولقد رأيتُه مستغنياً عن الناس، زاهداً بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه، طالبين ما عنده “ فقال مسلمةُ : حسبُك يا خالد كيف يضلُّ قومٌ فيهم مثلُ هذا؟”

4- شجاعته في مواجهة الملوك
لما وليّ عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟! فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية فقال:” ابن هبيرة ما تقول يا حسن فقال يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن” فقال الشعبي لابن سيرين:” سفسفنا له فسفسف لنا”.

“الفتنة عقوبة الله عز وجل يحلها بالعباد إذا عصوه. وتأخروا عن طاعته”

5- سراب الدنيا وفتنتها
قال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد ألا يعجبك مثل محمد بن الأهتم؟ فقال: ماله؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفاً وهو يجود بنفسه فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق – وأومأ إلى صندوق في جانب بيته – فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار لم أؤد منها زكاة ولم أصل منها رحماً ولم يأكل منها محتاج فقلنا: يا أبا عبد الله فلمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان ومكاثرة الأقران وجفوة السلطان فقال الحسن: انظروا من أين أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه ومكاثرة أقرانه وجفوة سلطانه !؟ ثم قال أيها الوارث لا تُخدعن كما خُدع صويحبك بالأمس جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعاً منوعاً من باطل جمعه ومن حق منعه، ثم قال الحسن إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره فيرزقه الله فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البر فيجد ماله في ميزان غيره.
جاءه آخر فقال له: إنِّي أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أنني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته وسأله رجل عن الفتنة ما هي وما يوجبها؟ فقال: هي والله عقوبة الله عزّ وجل؟ يحلها بالعباد إذا عصوه. وتأخروا عن طاعته. وقيل له: يا أبا سعيد من أين أتى على الخلق؟ فقال: من قلة الرضا عن الله ـ عزّ وجل ـ قيل له: فمن أين دخل عليهم قلة الرضا عن الله ،عزّ وجل ؟ فقال: من جهلهم بالله. وقلة المعرفة به. وكان يقول: هجران الأحمق قربة إلى الله، ومواصلة العاقل إقامة لدين الله، وإكرام المؤمن خدمة لله، ومصارمة الفاسق عون من الله. وكان يقول: لا تكن شاة الراعي أعقل منك. تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة.

لا تبيعن آخرتك بدنياك
قال الحسن: “ يا ابن آدم عملك فإنما هو لحمك ودمك، فانظر على أي حال تلقى عملك، إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها، صدق الحديث، والوفاء بالعهد ـ وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق وسعة الخلق مما يقرب إلى الله ـ عز وجل ـ يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك، يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئاً وإن هو صغر، فإنك إذا رأيته سرك مكانه، ولا تحقرن من الشر شيئاً فإنك إذا رأيته ساءك مكانه، فرحم الله رجلاً كسب وأنفقه قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وفاقته، هيهات هيهات ذهبت الدنيا، وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، وأنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون؟ إنه لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم، يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً “.

بكاء الورع وخشية الله
عن عمرو ابن ميمون بن مهران قال بعد أن كبر أبي وذهب بصره .. قال لي: هلم بنا إلى الحسن البصري. فخرجت به أقوده إلى بيت الحسن البصري، فلما دخلنا على الحسن قال له أبي : يا أبا سعيد .. قد أنست من قلبي غلظة، فاستلن لي منه!
فقرأ الحسن من سورة الشعراء}أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون(207){.. فبكى أبي حتى سقط، وأخذ يضرب برجله الأرض كما تضرب الشاة المذبوحة، وأخذ الحسن البصري يبكي معه وينتحب فجاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا فأخذتُ بيد أبي فخرجت به .. فلما صرنا في الطريق .. وكزني أبي في صدري وكزة ثم قال : يا بني، لقد قرأ علينا آيات لو فهمتها بقلبك لأبقت فيه كلوماً أي جروحاً. نعم، لا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة يناجيك أو يسليك أو يتوجع.

لا تعيب الناس بعيب هو فيك
روى أبو عبيدة الناجي أنه سمع الحسن يقول: يا ابن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتصلحه، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله تعالى من كان كذلك. وعن يحيى بن المختار عن الحسن قال : إن المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة .
وقال أيضاً :إن المؤمن يفاجئه الشيء يعجبه فيقول: والله إنّي لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا ؟ والله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله . إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم و بين هلكتهمم. إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى إلى فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه و بصره ولسانه وجوارحه.
المصادر
سير أعلام النبلاء – البداية والنهاية – الطبقات الكبرى – تهذيب الكمال – تهذيب التهذيب – وفيات الأعيان – عجائب الآثار – إحياء علوم الدين – ذم الدنيا – صفة الصفوة – مكارم الأخلاق – الوافي بالوفيات.

معرض الكتاب

معرض بيروت العربي الدولي للكتاب
تظاهـرة للكتــاب المطبــوع في عصــر النشــر الإلكترونــي

حفلات توقيع ولقاءات والسياسيون خطفوا الأضواء
العالم العربي الأكثر تأخراً في إصدار الكتب والترجمات

إنتاج-غزير-فأين-القراء
إنتاج-غزير-فأين-القراء

معرض بيروت العربي الدولي للكتاب نظّم دورته الثامنة والخمسين في البيال في تظاهرة مناصرة للكتاب المطبوع تؤكد أنه ما زال موجوداً بيننا رغم ثورة المعلومات وتقنيات النشر الإلكتروني والكتب الإلكترونية وغيرها. لا يعني ذلك أن الكتاب في صحة جيدة، فهناك عوامل كثيرة تضافرت لتضعف من أهميته ومن اهتمام القرّاء أهمها بالتأكيد ثورة المعلومات والميديا والدور الخطير للصحافة المرئية – والآن الصحافة الإلكترونية- وقد احتلت شاشات الـ LED العريضة أو الكمبيوتر المحمول أو الآيباد مكان المكتبات في البيوت وأخذت الصوفا المريحة مكان الكرسي والمكتب واسترخى الناس في مقاعد النظارة وأهملوا تقليد التفكر والتأمل الهادئ في مجريات السياسة والأدب والحياة.

صمود قلعة ثقافية
يستمر معرض بيروت للكتاب بالطبع بسبب وجود جمهوره -المتناقص سنة بعد سنة- وربما بسبب صمود العديد من دور النشر في الميدان والتي لم تضعف معنوياتها بسبب تراجع إقبال القرّاء. إلى أي حد أثّر النشر الإلكتروني على النشر الورقي؟ أثر كثيراً ولاشك وهناك مجلات عريقة عدة قررت وقف طباعة نسختها الورقية والإكتفاء بنسختها الإلكترونية التي يمكن قراءتها Online وهذه الكلمة (أونلاين) هي اليوم الأكثر تردداً في العالم وهي تلخص حجم الثورة التي اجتاحت الكتاب والمعلومة الورقية. وقد أصدرت عدة شركات صانعة نسخاً مختلفة من الكتاب الإلكتروني وبعضها أعطى مواصفات الكتاب بحيث يتم «تصفحه» على طريقة الكتاب وبعض هذه الأجهزة تضم ما لا يعدّ ولا يحصى من المؤلفات الكلاسيكية ربما ما يمكن أن يملأ مكتبة أو دار كتب في جهاز لا يزيد وزنه على 300 غرام.
معرض بيروت للكتاب الذي افتتحه الرئيس تمام سلام بكلمة حيّا فيها الثقافة وصناعة الكتاب صامد في موقع الدفاع عن الكتاب المنشور الملموس الذي يمكن اصطحابه إلى أي مكان وتلمسه وتأمل صفحاته ليكون فعلاً خير جليس وليكون أيضاً رمزاً لاستمرار الأصالة في زمن الحداثة الزاحفة مثل تسونامي لا يتوقف. لكن الخطر على الكتاب لا يأتي فقط من ثورات التكنولوجيا بل هو يهجم الآن من باب الظلامية الزاحفة على أكثر من جبهة. أول القرارات التي اتخذتها بعض الجماعات التكفيرية كانت إلغاء الجامعات ودراسة التاريخ باعتبارها من تأثير عالم الكفر. ما الذي سيأتي بعد؟ كيف نتخيل ازدهار الكتاب من دون حرية التفكير والاعتقاد والتسامح مع الآخر المختلف؟

الكتاب في وجه الإرهاب
رئيسة اتحاد الناشرين سميرة عاصي لمحت الخطر في كلمة اعتبرت فيها الكتاب والكلمة سلاحاً ماضياً في مقاومة الإرهاب والمد الرجعي الزاحف، بينما أكّد رئيس النادي الثقافي العربي سميح البابا أن المعرض يتابع رسالته في ترويج الثقافة والإبداع بعيداً عن أي غايات تجارية. بعض الناشرين تحدثوا عن سرورهم لاستمرار المعرض في استقبال الإنتاج الجديد لكن كثيرين ألمحوا إلى أنهم تعرّضوا لخسائر كبيرة نتيجة الأوضاع العربية التي خلقت خطوط تماس وقطعت أواصر المنطقة وشردت الملايين بحيث أصبح الكتاب في آخر الاهتمامات أمام همّ الأمن وكسب الرزق بل ومجرد تأمين البقاء. وقد شاركت هذا العام كالمعتاد دور النشر من عدة دول في المعرض الذي يعتبر مقصداً لشركات التوزيع وشركات تسويق الكتاب في المنطقة قبل أن يكون سوقاً لقرّاء الكتب الجديدة، لكن الميزة الأهم في المعرض هي حفلات توقيع الإصدارات الجديدة التي تتحول أحياناً إلى حفلات استقبال مصغرة ولقاءات حميمة بين المؤلف وجمهوره مما يضفي على المناسبة جواً اجتماعياً ويوفّر مناسبة نادرة للقاء بالمؤلفين ومنهم شخصيات سياسية وفكرية.

كتب أثارت الاهتمام
من الكتب التي استقطبت الاهتمام هذا العام كتاب «حزب الله والدولة» للنائب حسن فضل الله (الطبعة الثانية للعام 2014) وكتاب «داعش وأخواتها» لمحمد علوش وكتاب «إسرائيل إلى الأقصى» للنائب غازي العريضي وكتاب «الحوثيون واليمن»، للدكتور سعود المولى.
من الكتب الدينية «إظهار العقيدة السنية بشرح العقيدة الطحاوية» تأليف الشيخ عبد الله الهرري وكتاب «وهل الدين الا الحب؟» للشيخ حسين الخشن، من مكتبة السيد محمد حسين فضل الله و كتاب «مركبات التفكير ومناهج البحث العلمي»، لزكي حسين جمعة وكتاب «سيكولوجية الجماهير»، غوستاف لو بون، ترجمة هاشم صالح. وفي الشعر، لفت كتاب «عليك اللهفة «للكاتبة أحلام مستغانمي، و«خربشات على جدران الزمان» لحسان خشفة و«صلاة لبداية الصقيع»، لعباس بيضون. ومن الروايات التي عرضت هذا العام «شخص آخر» لنيرمين الخنسا و «خلف العتمة» لسليم اللوزي و«برتقال مر» لبسمة الخطيب. وصدر في الأدب كتاب « قهوجيات» لغازي قهوجي و«انا الغريب هناك» لزاهر العريضي. وفي كتب السير والتراجم «بعدك على بالي»، لطلال شتوي و«السيد هاني فحص» لهاني فحص وكتاب «الست نظيرة جنبلاط» لكاتبه شوكت اشتي.
من كتب التاريخ والحضارات «العرب والتحديات الحضارية» لاحمد ابو ملحم وكتاب «تاريخ لبنان الحديث» لفواز طرابلسي (طبعة رابعة) وكتاب «تاريخ جبل عامل» لمحمد جابر آل صفا. وتضمّن المعرض أجنحة لكتب العلوم والطبخ وكتب الأطفال والكتب التراثية والتاريخية.

مؤلفون وقعوا كتبهم
«الضحى» لبت دعوات اربعة من المؤلفين الكرام الذين وقعوا كتبهم في هذا الموسم، هم الوزير غازي العريضي والقاضي غسان رباح والدكتور ناصر زيدان وعائلة الدكتور عباس أبو صالح.
النائب غازي العريضي وقّع كتابه الأخير بعنوان «إسرائيل الى الأقصى» في جناح الدار العربية للعلوم في حضور العديد من الشخصيات السياسية والثقافية والعسكرية والإجتماعية، ويأتي هذا التوقيع بعد سلسلة من الكتب السياسية أهمها أخيراً «العرب بين التغيير والفوضى»، «عرب بلا قضية»، «فلسطين حق لن يموت»، و«ادارة الارهاب». كتاب «اسرائيل الى الأقصى» هو مجموعة مقالات في 278 صفحة من إصدار الدار العربية للعلوم -ناشرون.
الدكتور ناصر زيدان وقّع كتابه الجديد بعنوان «قضايا عربية ودولية ساخنة 2010- 2014 » في جناح الدار العربية للعلوم- ناشرون، في حضور شخصيات سياسية وثقافية واساتذة جامعيين ومُهتمين، يقع الكتاب في 320 صفحة، يتناول أهم الأحداث العربية والدولية ولاسيما منها الانتفاضات العربية، والصراع الدولي، خصوصاً حول أوكرانيا.
عائلة المغفور له الدكتور عباس بو صالح وقّعت كتاب «أبحاث في التاريخ السياسي والاجتماعي للموحدين الدروز»، قدّم الدكتور محمد شيا هذا العمل الأكاديمي الذي تدور أبحاثه حول دور الموحدين الدروز في حماية الثغور العربية والإسلامية في مواجهة الغزوات الخارجية ويوضح دورهم العربي والوطني في مجابهة مشاريع تجزئة المنطقة والسيطرة عليها، وتمسكهم بكيان لبنان المستقل من دون دمجه كلياً أو جزئياً، ومشاركة الدروز، خصوصاً في «معركة المالكية» التي أسفرت عن نصرٍ عسكريٍّ على الدولة الصهيونية «على الرغم من إمكانات الجيش المتواضعة»، وأهمية تمسك دروز فلسطين بأرضهم.
القاضي الدكتور غسان رباح، وفي حضور جمهور متنوع وقّع كتابه «في ثقافة القانون وقضايا المجتمع»، وهو مجموعة من ست وعشرين بحثاً ومشروع قانون في نحو 695 صفحة، تتناول قضايا حقوقية مختلفة كالمواطنة والأحداث والسجون والبيئة والمخدرات والنزاعات المسلحة والرشوة والتمييز العنصري والفساد وغيرها، منها ثلاثة أبحاث باللغة الإنكليزية.

محاورات أفلاطون

محاورة لاكيس
عن الشجاعة العاقلة

سقــــراط:
الشّجاعــة ليســت عنــد الفرســان بل هــي مجالــدة الفقــر
والألم والخوف ومجاهــدة شهوات النّفــس وأهوائهــا

الشجاعــــة يجــــب أن تقتـــرن بالحكمــــة
وإلا تحوّلــــت إلى طيــــش يــــورّد المهــــالك

تدور محاورة لاكيس حول تعريف الشجاعة ويطرح الموضوع بسبب اهتمام اثنين من قواد الجيش السابقين بتدريب ولديهما على المهارة في الحرب والإثنان يشعران بالتقصير لأن كليهما ابنين لمحاربين معروفين في الجيش ولهما إسم وشهرة، وهما بالتالي يريدان أن يستمر الإرث العسكري المرموق في الأسرة ويخشيان من أن يندفع الشابان ولديهما إلى اللهو وما لا طائلة تحته في حال عدم دفعهما إلى تعلم مهنة المبارزة والقتال بالدروع، وقد كانت هذه سمة الجيوش الإغريقية في تلك الفترة.
يقرر الرجلان الصديقان التوجّه إلى إثنين من معارفهما من الذين لهم خبرة في الأمر وهما لاكيس ونيسياس لاستشارتهما في الأمر لكن الأخيرين ينصحانهما على الفور بالتوجّه إلى سقراط الذي كان قريباً منهما باعتباره الشخص الأفضل ليقدم النصحية ولاسيما وأن سقراط كان قد أبلى البلاء الحسن في الحروب التي شارك فيها مع مواطني مدينته.
يبدأ سقراط بالإعتذار عن الخوض في الموضوع مباشرة فهو يريد أن يسمع رأي لاكيس ونيسياس وهو يعتبر انه من اللائق أن يعطيا الكلام أولاً، وهذا هو دوماً أسلوب سقراط أي الإصغاء باهتمام أولاً وترك المحاورة تأخذ مجراها وتكشف عن الثغرات في منطق المتحاورين، وهو لذلك يبقى خلال المحاورة في موقع الحكم أو الناصح الذي يساعد على استخلاص الأسئلة اللازمة للتقدّم بالحوار، وهو قد يدخل لمساعدة المتحاورين على تصويب نقطة أو فكرة ولا يتدخل إلا بعد أن يكون تدخله أصبح مفيداً لبلورة النتائج وبعد أن يكون المتحاورون قد حققوا فعلاً تقدماً وباتوا قاب قوسين أو أدنى من بلوغ النتيجة.
يترك سقراط السؤال المباشر لوالدي الشابين وهما ليسيماكوس ومليسياس حول الفائدة من الخدمة العسكرية والتدريب على الحرب ويقرر طرح سؤال حول الهدف المقصود من الاهتمام بالتدريب العسكري في أولاد الصديقين، لأنه يجب أن نعرف أولاً الغاية من اي شيء.
سقراط: إنّي، يا ليسيماكوس سوف أعطيك رأيي في الموضوع الذي سألتني فيه، ولكن أرى أنّ الأدب يلزمني أن أسمع أوّلاً لهؤلاء الرّجال وأن أتعلّم منهم، فهم أكبر منّي سنّاً، وأكمل خبرة بالأمور. فإن بدا لي أنّ هناك ما يُزَادُ على ما قالوا، فسوف أبسطه لكم.
يفتح نيسياس حواراً غير موفق مع لاكيس، إذ سيتبين أن لكل منهما وجهة نظر متعارضة تماماً مع الآخر: نيسياس يرى من جهته أن الخدمة العسكرية تربي قيم الجدية وتوفّر للشاب القوة البدنية ومهارة القتال كما إن الزي المدرع للمقاتلين الأشداء يعطي الشاب قيافة ومظهراً جميلاً ومهيباً على الجبهة، كما إنه يعطيه فرصة الدفاع عن نفسه في حال تضعضع الجيش. ويعتقد نيسياس أنه يجب أن يلام مع غيره من الآباء لتركهم أولادهم في حال من الفراغ الذي يقودهم إلى حياة وادعة وربما إلى ضعف التربية والقيم النبيلة.
بعد هذه المرافعة ينبري لاكيس ليدحض وجهة نظر نيسياس مقدماً أمثلة عديدة على أن التدريب العسكري والعدة الكافية ليسا هما من يقرر النتيجة بل المواهب الشخصة وهو يعطي أمثلة على قواد أو عسكريين كانوا يبدون بمظهر مهيب في الحياة العادية لكنهم عندما جد الجد خيبوا الآمال بسبب ما ظهر منهم من انعدام المهارة في استخدام السلاح أو حتى الفرار من وجه الخصوم عند اشتداد وطيس المعركة.

” «كأنّك تجهل أنّ كلّ امرئ عرف سقراط واقترب منه لأجل الحديث سيجد نفسه وقد ساقه الكلام معه إلى أن يبوح إليه بأسرار نفسه، وبأســرار حياته اليوم، وحياته الماضية»!! “

نموذج للجندي الإغريقي من المتطوعين وهو مسلج برمج ودروع
نموذج للجندي الإغريقي من المتطوعين وهو مسلج برمج ودروع

من أجل الهدف التعليمي المنهجي في محاورات أفلاطون والجدلية السقراطية يبدأ الموضوع بوجهتي نظر متعارضتين تماماً، وبذلك يكون المسرح قد هيّئ لدراما الحوار التي يلعب فيها سقراط دوماً دور الحكم الذي يقود المحاورة بالصبر والتسلسل المنطقي إلى نهاية إيجابية. أفلاطون يظهر هنا أمراً أساسياً في محاوراته بانياً على الدور السقراطي وهو أن الحكمة ضرورية لتوضيح الحقيقة وأن الناس إذا تركوا لأنفسهم فإنهم سيبقون في حالة انقسام لأنهم لا يمتلكون الحكمة ولأنهم غالباً ما ينطلقون من حقائق ذهنية جزئية تتأثر بأهواء كل منهم، وبهذا نكون غالباً أمام مشهد من الأفكار المتصارعة والتي لا توجد وسيلة للفصل بينها وإحلال التوافق إلا عبر نهج الحكمة لأن الحكيم يرى ما لا يراه عامة الناس فهو يعلم بحقيقة نفوسهم كما إنه يرى الصورة العامة للمسألة بحدسه وبما أوتي من بصيرة.
بعد ظهور الخلاف بين « نيسياس» و«لاكيس» يتوجه والد أحد الشابين وهو «ليسيماكوس» بالطلب بحرارة من سقراط أن يشارك الجميع في الفصل في الخلاف، موحياً أنه لو كان لاكيس ونيسياس قد اتفقا فإن الحاجة كانت أقل ربما إلى التحكيم. هنا يتدخل سقراط رامياً أول سهم له في ميدان النقاش مستغرباً كيف يعول ليسيماكوس على أكثرية الأصوات لتبين ما هو الخيار الأفضل لإبنه، فالأكثرية ليست ضمانة بل لا بدّ من أن يكون الخيار في حد ذاته عاقلاً.
سقراط: واعجبي يا ليسيماكوس، أفأنت تريد اتباع الرّأي الّذي يكون عليه أكثر النّاس!؟ فلو أنّ الكلام كان يدور مثلاً في الرّياضة وفي أمر تعليمها لابنك، أفكنت ستستفتي أكثر النّاس أم أنّك ستطلب النصيحة ممن كان قد تعلّم الرّياضة على يد معلّم بارع؟
لم يكن سقراط بريئاً لأنه عن هذا الطريق سيسأل الجميع البحث عن من هو أهل لتدريب الفتيين وما ينبغي أن تكون مؤهلاته ، وهو سيتوصل ببراعة إلى إعادة الكرة إلى ملعب نيسياس ولاكيس لأنه لا يريد أن يعطي جواباً بل يريد للمحاورة أن تسير في طريقها .

“سقـــــراط: عجباً يا ليسيماكوس! أتريد اتبــاع الــرّأي الّــذي يكــون عليه أكثر النّاس أم عليــــك طلــــب النصيحــــة ممــــن تعلّم علــى يد معلّم بارع؟”

مشهد للحرب في أيام الأغريق - هل الشجاعة في الإقدام أم هي أحيالنا بالاتسحاب
مشهد للحرب في أيام الأغريق – هل الشجاعة في الإقدام أم هي أحيالنا بالاتسحاب

سقراط: قبل قليل يا ليسيماكوس كان لاكيس قد حضّك على ألاّ تدعني حتّى تحصل مني على الجواب الشافي بشأن موضوعنا، أمّا الآن فأنا من يحضّك على ألاّ تدع أبداً لاكيس ولا نيسياس حتّى تسألهما، وقل لهما بأن سقراط يقسم بأنّه لا دراية له البتّة بهذا الأمر، وأنّه لعاجز على أنّ يتبيّن أيّاً منهما كان محقاً في رأيه، لأنّه لا هو معلّم في هذا الفن، ولا كان تلميذاً لأحد من المعلّمين البارعين في هذه الأمور.
على أثر ذلك يقتنع ليسيماكوس برأي سقراط فيعود ليطلب من لاكيس ونيسياس أن يستلما الحوار مجدداً علهما يتوصلان معاً إلى النتيجة المرجوة. هنا يفطن نيسياس إلى مناورة سقراط ويأخذ على لاكيس سذاجته فهو لا يعرف سقراط على حقيقته ولا يعرف عن طريقته وأسلوبه البارعين واللذين يصفهما في هذه السطور:
نيسياس: أراك (يا لاكيس) كأنّك تجهل أنّ كلّ امرئ عرف سقراط واقترب منه لأجل الحديث في أيّ موضوع قد اختاره هو، فلا مناص من أن يجد نفسه وقد ساقه الكلام معه إلى أن يبوح إليه بأسرار نفسه، وبأسرار حياته الحاضرة وحياته الماضية!! ومتى بلغ به الحديث هذا المقام، فإن سقراط لن يطلقه أبداً حتّى يمحِّص كلّ ما كان سيقوله. وأنا اعتدت على طريقته تلك وأعلم حقّ العلم أنه لا مفرّ لأحد ولا لي أيضاً من أن يوقع به في سياق الحديث. فأنا أخشى الدنوّ من سقراط يا ليسيماكوس، وأنا لا أستغرب أن يبلوني، وإنّي لأعلم حق العلم بأنّه لن يجعل الحوار ينحصر بأمر الشابّين، بل هو سيحوله ليصبح حواراً عن أنفسنا نحن، لكنني لا أرى حرجاً البتّة في أن يسلك سقراط بحوارنا هذا كما يشاء.
يمثّل هذا المقطع على لسان نيسياس وصفاً رائعاً من قبل أفلاطون للأسلوب السقراطي الشهير في الحوار والذي يعتبر خاصية اشتهر بها الحكيم وبرز فيها جميع أقرانه السابقين واللاحقين.
بدوره، سيقبل لاكيس تحكيم سقراط خصوصاً وأنه عرف شجاعته عندما كانا معاً في الظروف الصعبة لمعركة ديليون.
لاكيس: أمّا سقراط، فلا أعلم ما سيقوله، لكنّه، كما قلت آنفاً، كان قد ظهر لي فضله من فعَاله وثبت عندي أنّه أهل للكلام الصادق.. وبسبب هذه الخصلة فيه فإنني سأسلّم نفسي له حتّى يمتحنني، ولن أجد غضاضة أبداً في أن أتعلّم منه (…) فهلا رضيت إذاً، يا سقراط في أن تعلّمني وأن تمحِّص أقوالي، وسأدلي لك بكل ما أعلمه. فلقد صرت معظَّماً في نفسي منذ ذلك اليوم الّذي ثبتّ فيه معي في ساحة الموت، حيث ظهر فضلك بأجلى صورة. فلتتكلّم كما يبدو لك، ولا تنحرج أبداً من تقدمنا في السن.
ستؤدي مناورة سقراط إلى أمر مهم وهو أن الحوار سيعود ليتركز بين نيسياس ولاكيس حيث يمثل سقراط دور المحرك الخفي فهو يقود الحوار بعد ذلك حتى نهايته من دون أن يكون عليه إبداء رأي قاطع إلا في الفقرات الأخيرة.
يقود سقراط الأطراف المتحاورة للإتفاق اولاً على أن الهدف مما ينشدونه من فكرة الخدمة العسكرية هو الفضيلة، لكن الفضيلة تعريف واسع جداً والمطلوب هو أن نعرف جانب الفضيلة الخاص بإستخدام السلاح وهو -كما اتفق الجميع: الشجاعة. هنا يعتقد المتحاورون أنهم اقتربوا من الهدف عندما يثير سقراط سؤالاً جوهرياً وهو: ما هي الشجاعة؟
يقترح لاكيس أن الشجاعة هي أن يثبت المحارب في موقعه في المعركة وأن لا يركن إلى الفرار. لكن سقراط يلاحظ أن تعريف لاكيس ينطبق على مشاة المحاربين بالتحديد بينما المطلوب إيجاد تعريف للشجاعة يمكن أن ينطبق على العمل العسكري عموماً بل على كافة نواحي الحياة وليس الحربية فقط، كما يلاحظ أن الشجاعة في المعركة قد تقتضي أحياناً عدم الثبات في الموقع وهناك قادة عسكريون يتقنون فن الانسحاب كتمهيد للهجوم، ثم يتابع باقتراح مفهوم أوسع للشجاعة:

أثينا والأكروبوليس ف الزمن الإغريقي
أثينا والأكروبوليس ف الزمن الإغريقي

عند كلّ محارب، بل ليس فقط عند كلّ محارب، بل عند كلّ إنسان ركب خطر البحر، أو بقي رابط الجأش في الفقر، وفي مهالك السّياسة، ولي أن أزيد أيضاً، شجاعة الّذين يصبرون على الألم والخوف، أو الّذين يجاهدون شهوات النّفس وأهواءها، أفلا توافقني يا لاكيس أنّ هؤلاء هم أيضاً لَشجعان؟
لاكيس: بل هؤلاء هم غاية في الشّجاعة.
ثم يعترف لاكيس بأن تعريفه غير دقيق ويستدرك فيضيف تعريفاً آخر هو أن الشجاعة تقتضي الحزم، لكن سقراط يسارع إلى تحدي التعريف الجديد:
سقراط: لكن أفلا ترى أنّه ليس كلّ حزم شجاعة؟ وأنّ الحزم حين يقترن بالرّشد إنّما يكون محموداً وحسناً وإذا اقترن الحزم بالطيش، فسيكون ضارّاً ومهلكاً.
لاكيس: إنّه سيكون ضارّاً ومهلكاً.
سقراط: وإذا كانت الشّجاعة محمودة، وهذا الضّرب من الحزم مذموم، فأنت إذًا تنكر أن يكون الحزم تعريفاً صالحاً للشّجاعة.
لاكيس: نعم أنكر ذلك.
بعد هذه المحاولات غيرالموفقة لتعريف معنى الشجاعة يقدم نيسياس اقتراحاً جديداً. فقد تذكر أنه سمع من سقراط مراراً أن المرء إنما يكون جيّداً على الدوام في الأشياء الّتي له علم بها، وسيّئاً في الأشياء الّتي يكون جاهلاً بها.
نيسياس: حينئذ فإن صحّ أنّ الرّجل الشّجاع هو جيّد، فهذا الرّجل هو عالم لا محالة.
لكن لاكيس يظهر فوراً أنه لا ترابط حقيقياً بين الأمرين، ويزيد سقراط على ذلك ملاحظة مازحة مفادها أن الحيوانات مثل الأسود أو الغزلان أو القردة جيدة في ما تعمل فهل يعني ذلك أن لديها العلم؟
يستمر سقراط في محاولة رد الأمور إلى أصولها، وستسنح الفرصة عندما يأتي نيسياس باقتراح جديد يعتقد أنه يفي بالغرض:.
نيسياس: الرّأي عندي يا لاكيس أنّه لا يمكن وصف أيّ بهيمة بالشّجاعة، بل إنّ هذا الوصف لمرفوع عن كلّ إنسان يركب المهالك لسفاهته، بل هذا عندي لَرَجُلٌ مجنون وطائش، أو ربما حسبت أنني سوف أعدّ الأحداث الصّغار شجعانا لكونهم لا يرهبون شيئاً لجهلهم بعواقب الأمور؟ بل عندي أن يكون المرء غير هياب، وأن يكون شجاعاً لأمرين مختلفين. لذلك فإنني أرى بأنّ الشّجاعة والنّظر في العواقب خصلتان لا توجدان إلاّ في قلّة قليلة من البشر، أمّا التهوّر، والجسارة، وقلّة الخشية للجهل بعواقب الأمور، فإنّما هي من خصال أكثر المخلوقات، لذلك فإن الأفعال التي وصفتها أنت أو التي يشير إليها العامة على أنها أعمال شجاعة إنّما أسمّيها بالأفعال المتهوّرة، أمّا الأفعال المتروّيّة فتلك، لعمري، ما أسمّيها بالشّجاعة.
يستمر الجدل بين نيسياس ولاكيس الذي يتابع البحث عن تناقضات في منطق زميله لكن سقراط يشعر أن الجميع اقتربوا أكثر من محاولة تعريف «الشجاعة العاقلة» كما سمعا أي الشجاعة المقرونة بالحكمة والرشاد وليس الطيش. لكنه يعود فيسأل:

سقراط: لننظر ما هي الأشياء الّتي تُخْشَى، وما هي الّتي لا تُخْشَى، ولنبحث عنها معاً. من المعلوم أنّ الأشياء الّتي تُخْشَى إنّما هي الأشياء الّتي تبعث الخشية في النّفس، والأشياء الّتي لا تُخْشَى، فهي الأشياء الّتي لا تبعث الخوف في النّفس. وبلا ريب، فليست الشّرور الماضية، ولا الشّرور الحاضرة هي التّى تخشى، وإنّما الشّرور الّتي نترقّبها، إذ إن حدّ الخشية هو ترقّب شرّ نازل. فهل نسمي الشّجاعة العلم بهذه الأمور الّتي تُخْشَى والتي لا تُخْشَى؟
نيسياس: إنّ العلم بهذه الأمور هو الّذي أسمّيه شجاعة.
سقراط: الشّجاعة ليست علم ما يخشى ولا يخشى فحسب، فهي مثل سائر العلوم لا تشتمل فقط على المعرفة بالشرّ المتوقّع، بل وأيضاً على المعرفة بالشرّ القائم والشرّ المنصرم، أي على المعرفة بالشرّ في عمومه. حِينَئِذٍ، فإنّ كلّ رجل علم بالخير كلّه، وعلم كيف هو، وكيف كان، وكيف سيكون، وعلم بالشرّ أيضاً في جميع أحواله، سيكون الرّجل الّذي حوى الفضيلة كلّها. ولا جرم أنّ كلّ رجل أُوتِيَ الهمّة في أن يحتاط لنفسه ممّا يخشى ولا يخشى من الآلهة أو النّاس، وأوتي السّداد فسيكون هو الرّجل الوافر الحكمة، والعدل والتّقوى.
نيسياس: ليس لدي أي اعتراض على ما قلت ياسقراط.

خلاصة
ينتهي سقراط إلى خلاصة مهمة وهي أن السلوك القويم أو الفضيلة تحتاج إلى أمرين مختلفين: المعرفة، ومن ضمنها القدرة على تمييز الحق من الباطل (أي ما يخشى منه وما لا يخشى منه) أما الأمر الثاني فهو العزيمة والإرادة في عمل المرء بما يعلم من سبل الفضيلة وبالتالي مقاومة هوى النفس. هذه المقاومة بدأ سقراط الحوار بأن أدرجها ضمن قائمة أعمال الشجاعة مع أمور عديدة لا تتطلب بالضرورة القوة الجسدية أو المهارة في الحرب. وعدّ سقراط العزم أو الحزم في التزام جانب الصواب من مظاهر الشجاعة فأقام بذلك رابطاً بين المعرفة وبين العزيمة التي هي جانب من صفة الشجاعة. على العكس من ذلك، فإن من لا يتمتع بقوة الإرادة أو الذي تضعف عزيمته أمام المغريات أو الأهواء فإنه يفشل في التزام جانب الفضيلة أو التزام ما يعلم جيداً أنه جانب الحق أو الصواب. بهذا يكون قد فشل في امتحان الشجاعة كما يعرفها سقراط أي كجزء لا يتجزأ من المعرفة. من ناحية أخرى لفت سقراط إلى أهمية أن تقترن الشجاعة بالحكمة وتقدير عواقب الأمور وإلا تحولت إلى طيش مهلك فأعاد الشجاعة من طريق آخر إلى المعرفة أو البصيرة العاقلة.

الحكيم-سقراط
الحكيم-سقراط

سقراط الحكيم المحارب

في محاورة أفلاطون «لاكيس» يلعب سقراط دوراً مركزياً ويقود الحوار تقريباً من أوله إلى آخره. ولأن الموضوع يتعلق بأهمية الخدمة العسكرية وبمفهوم الشجاعة فقد كان سقراط مؤهلاً فعلاً ليس فقط لأنه كان حكيم أثينا المشهور، وكان مقصداً للشباب وكل من يرغب في طلب العلم، بل لأنه هو نفسه كان مقاتلاً شجاعاً وقد خاض مع الأثينيين على الأقل ثلاث حروب أظهر فيها قمة الجسارة ورباطة الجأش وهدوء الأعصاب الأمر الذي مكّنه من إنقاذ الألوف من الأثينيين أثناء هزيمتهم العسكرية الموجعة في معركة ديليون سنة 424 قبل الميلاد، إذ تعاون سقراط مع محارب آخر هو لاكيس (وهو الذي سيظهر في المحاورة التي أعطيت اسمه) لتجميع الأثينيين بعد الهزيمة وساعد بذلك على تأمين انسحاب منظم وفر المزيد من الضحايا على الحملة، واستحق سقراط تكريم الأثينيين وتعظيمهم بسبب دوره البارز في تلك المعركة. وبعد سنتين وفي العام 422 ق.م. شارك سقراط في معركة أنفيبوليس التي هُزِم فيها الأثينيون أيضاً وكان هدفهم مناجم الذهب الغنية في تراسيا، وقد شارك سقراط كمواطن مع القوات غير النظامية Hoplites التي كانت عادة أقل تدريباً من الجنود وكانت عدتها الرماح والدروع. وكان عمر سقراط يومها قارب الـ 50 عاماً مما يعطي فكرة عن قوة بنيته إذ يتطلب لبس الدروع الحديدية والقتال بالرماح وجهاً لوجه مهارة وشجاعة وفوق ذلك لياقة بدنية. ولا تتوافر معلومات عن دور سقراط في هذه المعركة لكن ما ذكرته كتب التاريخ هو أن المواجهة كانت شرسة وقد قتل فيها 600 مواطن أثيني منهم الديماغوجي الشهير كليون والاستراتيجي الأسبارطي براسيدس.
وكانت أول حملة عسكرية شارك فيها سقراط هي حصار مدينة يوتيدياس في شبه جزيرة كالسيديا وهي مستعمرة تابعة لكورنث وذلك في العام 432 عندما كان في سن الأربعين. وذكرالمؤرخون أن شجاعته ومهارته في المعركة الفاصلة التي جرت في حزيران 1932 لفتتا الأنظار وقد قاتل سقراط بلا كلل وأنقذ حياة صديقه ألسيبياديس واستمر حصار يوتيدياس أربع سنوات من سنة 432 ق.م. إلى سنة 429 ق.م. يذكر أن سقراط جرح مراراً في تلك المعارك.

الشيخ الفاضل عند أحمد كجك باشا

الشيخ الفاضل عند كجك أحمد
الشيخ الفاضل عند كجك أحمد

يروي مؤرخو الشيخ الفاضل محمد أبي هلال الذي عاصر الأمير فخر الدين الثاني ومنهم الشيخ أبو علي عبد الملك الشافعي الحلبي والمؤرخ عجاج نويهض في كتابه التنوخي هذه المأثرة عن هذا الشيخ الجليل الذي يحتل مكانة خاصة في ذاكرة الموحدين الدروز ومذكراتهم.
«عندما قَدِم كجك أحمد إلى بلادنا في حملته لمهاجمة الأمير فخر الدين المعني لم يفرّق هذا الطاغي بين الأمير وأتباعه المسالمين، بل عمد إلى إلحاق الضرر بالجميع ومن دون تفرقة. وبينما كان منشغلاً بحملة التنكيل بأبناء الجبل جاء من أخبره أنه يوجد شيخ ناسك متعبّد جليل الفضل والتقوى، يعيش في قرية شويا قرب حاصبيا ويُدعى الشيخ الفاضل وإذا اعتقلته فإن أتباعه يفدونه بالغالي والنفيس من مال وحلال فتحصل بذلك على المال الوفير.
كان الشيخ الفاضل في تلك الحقبة قد أصبح علماً روحياً وقدوة للأنام باعثاً لنهضة روحية حتى غدا المرجع الأول لشتى أبناء طائفة التوحيد، وأينما وجدوا من الجليل إلى الجولان إلى لبنان إلى جبل السماق مروراً بوادي التيم وصولاً إلى جبل لبنان كان توجههم إلى الشيخ الفاضل يعملون بوعظه وتعاليمه ويتناقلون الروايات والعبر عن زهده وتقواه ومسلكه الطاهر.
علم الشيخ الفاضل بنبأ الوشاية وبإحتمال القبض عليه من قبل قائد الحملة العثمانية فعمم حرماً على جميع أبناء التوحيد مفاده بالحرف الواحد «لو قدّر الله تعالى عليّ ووقعت بين يدي ذاك السفاح، فحرامٌ على من يدفع قرشاً أو مصريّة لأن الروح مقصّرٌ عنها أما الجسم فليفعل به ما يشاء وخلاصي بذلك».
أخذ كجك أحمد برأي الوشاة وأرسل عدداً من جنوده إلى قرية شويا لاعتقال الشيخ، وعند وصولهم إلى منزل شيخ القرية من عائلة انقرضت في ما بعد، أرسل هذا من أرشدهم إلى الكهف الذي يعيش فيه الشيخ وهو يقع جنوب البلدة لجهة بلدة الهبارية، ولتاريخه ما زال هذا الكهف مزاراً للموحدين.
وصل الجنود إلى الكهف الذي يقيم فيه الشيخ فوجدوه بمفرده مستغرقاً في صلاته وسكينته غير آبه بما يجري حوله، لم يبال هؤلاء الجنود بجلال الشيخ ولا بحرمة المكان وتوجهوا إليه بغطرسة القوي وأمروه أن يقدم لهم الطعام على اعتبار أنهم قادمون من مكان بعيد وقد بدأ الجوع ينهشهم. كان طلب الجنود على سبيل التعجيز لأن الشيخ كان وحيداً وقد افترضوا أنه لا يوجد لديه أي زاد يكفي لإطعام رهط من العساكر.
لكن الله عزّ وجل كان قد يسّر للشيخ الطاهر جماعة كبيرة من النحل اتخذت بيتها في سقف الكهف وكانت أقراص العسل التي بنتها كبيرة فعلاً وكانت تفيض عسلاً يقطر وينساب إلى أرض الكهف، وكان لدى الشيخ الفاضل قصعة يضعها على الأرض ليجمع فيها ما يتنزل من ذاك العسل وكان الشيخ يأكل منه أحياناً ويقول «لحلاله وليس للذته أو طيبه»، أي أن ما جعله يرغب في أكله هو أنه رزق حلال من الله تعالى وليس لإرضاء شهوة النفس بتناول العسل الشهي.
ردّ الشيخ على السلوك الفظ للجنود بأن وضع الصحن أمامهم وما تيسّر له من خبز كان يحتفظ به. استمر الجند في موقف الغطرسة وسخروا من ضيافة الشيخ وأمروه بأن يملأ الصحن بأكمله لأنهم كثر. لكن الشيخ أجابهم «كلوا يا أحبائي عندما يفرغ الصحن سنملؤه». بدأ الجند يأكلون من الصحن والصحن لا يفرغ من العسل كأن يداً لم تمتد إليه، بعد قليل تبدّلت حالهم وسيطر عليهم وجوم وأدركوا أنهم في حضرة أحد رجال الله فخاطبوه عندئذ قائلين: «يا شيخنا لا شك أنك ولي من أولياء الله، لكن الأوامر هي أن نأخذكم إلى الوالي في دمشق».
نهض الشيخ بتؤدة ومشى أمامهم من دون أن يبالي أو يعتريه أي وجل. أثناء الطريق طلب أحد الجنود من الشيخ أن يعظهم فاستجاب لطلبه وبدأ يشرح له «الفاتحة» ابتداءً بكلمة «الحمدُ» وبقي الشيخ الفاضل في شرح أول حرف من حروف سورة الفاتحة طيلة الطريق وكان لا يزال في شرح كلمة «الحمدُ» عند وصوله مع الجند إلى مجلس كجك أحمد في دمشق، علماً أن المسافة بين شويا ودمشق تستغرق أكثر من نصف نهار.
تقدّم أحد الجنود من الوالي ثم ركع وخفض رأسه وقال: «مولاي إقطع رأسي بدل رأس هذا الولي الطاهر لأنه في الحقيقة ليس رجلاً عادياً، فقد حصل معنا ما يشبه المعجزة فقد أكلنا جميعاً من صحن العسل ولم يفرغ من محتواه، كما إن الشيخ ابتدأ بشرح أول كلمة في سورة الفاتحة (الحمدُ) من بلدته شويا ولم يفرغ منها لتاريخ وصولنا إلى هنا».
إندهش الوالي أيّما اندهاش، ثم طلب من الشيخ الصفح والعفو عن سوقه بهذه الطريقة ثم أخلى سبيله وسمح له بالعودة إلى قريته.
ويكمّل المؤرخ عجاج نويهض سرده لتاريخ الشيخ فيقول: « إن الشيخ الفاضل ندم مرة في حياته، وذلك لبنائه مطحنة عند نهر الحاصباني، حيث اعتبر ذاك العمل تعلقاً بالدنيا وانشغالاً عن الآخرة. وهذه الطاحونة تقع في أرض قريتنا الفرديس عند مجرى نهر الحاصباني وتُعرف بإسم مطحنة الحسنة كون الشيخ الفاضل أوقف ريعها لخلوات وادي التيم، وقد روى أمامي صاحبها أنها كانت موقوفة من خلوة ينطا شمالاً إلى خلوة بلدة الماري جنوباً، وليس بزمن بعيد اشترى القسم الخاص بخلوات البياضة بعد أن كان والده قد اشترى الأقسام السابقة.
كما يروي عن لسان والده المرحوم الشيخ محمود سليقة أن القسم السفلي من البناء الداخلي للطاحونة حيث تصبّ المياه ليدار الدولاب الحديدي والذي بدوره يدير حجر الطاحونة أي ما يُعرف بلغة أصحاب المطاحن «بالبير» لم يزل لتاريخه من بناء ذلك الولي الطاهر.
ويكمل صاحب الطاحونة عن قدسيتها فيقول إن والده قد أوكل بها رجلاً من غير دينه كي يستغل مردودها ثم أوصاه أن لا يأكل لحم الخنزير أو يشرب الخمر أو يتعاطى المسكر في داخلها.
لكن الرجل المذكور وبعد مدة من الزمن خالف الوصية فذبح خنزيراً وتعاطى الخمر في المطحنة.
وذات يوم طلب الرجل إلى إبنه أن يصعد إلى أعلى المطحنة ويقطع الماء عن حجر الطاحونة كي يوقف دورانه، غير أن الصبي سقط في الماء من علو سبعة أمتار داخل الكوة التي يتساقط منها المياه على الدولاب الحديدي وعندما طافت المياه ودخلت إلى داخل المطحنة ركض البراك ونزل إلى داخل البير ليجد ولده متدلياً من الكوة، ثم أخرج الصبي وهو مغمى عليه. لكن بعد الاستغفار عادت الروح إلى الصبي وعاد الرجل إلى رشده ليرمي موبقاته في المياه متعظاً من كرامة صاحب المطحنة ثم أكمل توبته بوفاء النذر لخلوات البياضة وسواها من المزارات الروحية.

«أنت لا ظالم ولا عادل»

أنت لا ظالم ولا عادل
أنت لا ظالم ولا عادل

هذا ما أجاب به التقي النقي، العالم العابد، الناطق بالحق دفاعاً عن الكرامة والعرض والأرض صاحب السماحة شيخ عقل الموحدين في حينه الشيخ حسين ماضي الذي فاجأ جزار عكّا بإجاباته اليقينية وبصيرته وجرأته الفذّة. قبل تلك المواجهة بين الرجلين كان الأمير يوسف الشهابي قد تنصر سراً وهو أول من تنصر من أمراء السلالة الشهابية، وكان أن أراد الأمير إذلال الموحدين الدروز وعقالهم فقرر فرض ما سمي يومها «ضريبة الشاشية» على العقال الدروز. و«الشاشية» هي القماش الأبيض الذي يلفه العقال حول طربوش فينتج عن ذلك عمامة يتوجون بها رؤوسهم وهي العلامة المميزة للعقال الدروز عبر الأزمنة. وكان من خبث الأمير أو من أشار عليه بهذه المكيدة أنه لم يجرؤ على تسمية الضريبة بالضريبة على العمائم أو «اللفة» بلغة العقال فجعلها ضريبة على القماش الأبيض الذي يستخدم لإنتاج العمامة. وكان الأمير يعتقد أن الضريبة يمكن أن تحقق له أموالاً كثيرة لأن جميع الموحدين الرجال كانوا يعتمرونها ابتداءً من سن الخامس عشرة فكان يمكن أن تستحق بالتالي على معظم الرجال منهم.
ورداً على هذا السلوك الدنيء تداعى أعيان الدروز إلى اجتماع في نبع الصفا للبحث في كيفية مقاومة الضريبة وإسقاطها، وبعد التداول والتشاور قرّر المجتمعون رفع عريضة إلى الجزار وإرسالها مع وفد وفحواها يتضمن المطالبة بإلغاء تلك الضريبة المفروضة على المشايخ، وطرد الأمير يوسف من الإمارة لأسباب عديدة منها ارتداده عن الدين الحنيف وضعف شخصيته وقراراته أمام بعض أعوانه ومستشاريه والتلاعب بمصير البلاد والعباد.
وقبيل انفضاض ذاك الاجتماع حضر شيخ عقل الدروز آنذاك الشيخ حسين ماضي معتذراً عن التأخر لأسباب خارجة عن إرادته، وبعد أن عُرضت عليه مقررات الاجتماع، أبى إلا أن يكون هو الذي سيقابل الجزار ومهما تكون المحاذير.
عند وصوله إلى مقر الجزار في عكا، أذن له بالدخول على الوالي، فسلم عليه وقدّم له العريضة ثم أكمل شرح مضمونها بذاته مع تقديم الولاء والطاعة للباشا من قبل جميع الدروز وأعيانهم.
نظر الجزار مليّاً في العريضة ثم بادر الشيخ حسين ماضي قائلاً: طلباتكم مقضاة أيها الشيخ الجليل شرط أن تجيبني على سؤالي.
قال الشيخ: تفضل يا صاحب الأمر ما هو سؤالكم..؟
قال الجزار: ما رأيكم هل أنا ظالم أم عادل..؟ وهذا السؤال يُقال إنه كان يبادر به الداخلين عليه سواء كان احتجاجاً على بعض عمّاله أو لأي أسباب أخرى، وكان قراره المضمر التخلص منهم عبر إيجاد بعض الأسباب أو الحجج، بحيث يتم إيقاع القصاص بغض النظر عن جواب الرجل سلباً أم إيجاباً.
أجاب الشيخ حسين ماضي دون تردد وبكل رصانة ووقار: أيها الوالي الكريم. « أنت لا ظالم ولا عادل».
دُهش الجزار لهذه الإجابة ثم سأل الشيخ بعد إمعان طويل: كيف ذلك؟
قال الشيخ: حضرة الوالي، ما أنتم إلا عبدٌ بين يدي الخالق الديّان، وما هذه الجموع التي تأمرون بقتلها سوى أصحاب نفوس قد أشركت وكفرت بخالقها بعد أن ضلّت الطريق القويم وتعاليم الدين الحنيف، فاستحقت العقاب السماوي، وكان تنفيذ ذلك على أيديكم بأمر سريّ ذاتي من الخالق عزّ وجلّ.
زادت دهشة الجزار لبلاغة الجواب وحصافة الشيخ، ثم افترّ ثغره بعد أن هزّ برأسه مطولاً قائلاً:» يا شيخنا الجليل، لا شك أن إجابتكم هذه من عمق إيمانكم، فطلبكم مقضيّ ورغبتكم مطاعة… ثم أمر أحد غلمانه أن يقدّم هدية للشيخ عبارة عن كيس مليء بالنقود، أي ما يُعرف عند الملوك (بالسنيّة).
أجاب الشيخ بعد أن شكره على هذه الهدية القيّمة قائلاً: إنه لم يحمل المال طيلة حياته، وليس بحاجة إليه كونه لا يأكل إلا من كدّ ذراعه ومحصول رزقه وعرق جبينه. بعدها قدّم له عباءة صوفية.
شكر الشيخ البادرة الكريمة لكنه اعتذر عن قبولها بالقول: «لتاريخه لم أرتد فوق جسدي الفاني أي لباس إلا من حياكة نولي وربما أحد أتباعكم أحق بها منّي» .
ردّ الجزار بالقول: يا شيخنا لا أرضى إلا أن تقبل منّي هدية فهل تقبل هذا المصحف الكريم؟
سُرّ الشيخ لهذه الهدية الثمينة ثم قبّل المصحف ووضعه في صدره وقال: « ليس أثمن من هذه الهدية سوى العمل بموجبها» ثم انصرف حامداً شاكراً تصرف الجزار ومنته برفع ضريبة الشاشية، والشكر في قرارة نفسه لخالقه وعزّته. وقبل وصول الشيخ إلى الشوف عائداً عرف بخلع الأمير يوسف وتعيين الأمير بشير قاسم الشهابي مكانه مع إلغاء الضريبة وكأن شيئاً لم يكن من قبل.

الذهب امتحان الرّجال

الذهب امتحان الرجالa
الذهب امتحان الرجالa

ما دامت الأموال للتّرك جميعها فما بالُ متروكٍ به المرء يبخل
الإمام الحسين (ر)

الرجال ُ الرجال هم دُرر الزمان ومهما تعاقبت العقود والأعوام، باقون ماثلون قدوة بين الأنام.
هكذا كان مثل الشيخ أبو يوسف حسن جمّاز بين مجتمعه وعشيرته، كرماً ورجولةً وإقداماً.
من بعض مآثره روى أمامنا الشيخ قاسم خير الدين، وكنّا نتجاذب الأحاديث في حانوته، قال: تشاءُ الصدف أن يزور الشيخ حسن جمّاز صديقه الحاج محمد أفندي العبد الله في بلدته الخيام أوائل الثلاثينات.
أثناء تواجده عند مضيفه طرق الباب مساءً شابٌ من آل أبو جبل من بلدة مجدل شمس وقصده الضيافة والمنامة.
بعد السهر والتسامر حديثاً وضيافة، فرش الحاج لضيفيه في غرفة الضيافة وتركهما يخلدان للنّوم.
مع الصباح نهض الشاب وقصده الخروج باكراً، لكنه عندما فتّش جيوبه لم يعثر على ثلاث ليرات ذهبية كان قد أحضرها لأمر خاص به.
تمتم وهمهم وقطّب الحواجب، وأخذ يغدو ويروح في أرض الغرفة، بعد أن تفوّه بكلامٍ مبطّن غير معهود، وكأنه يوجّه الاتهام للشيخ النائم شريكه في غرفة الضيافة.
استفاق الشيخ على همهمته مندهشاً مستغرباً لما سمعته أذناه، ثم استفسره بالقول، ماذا تقصد يا بنيّ؟
أقصد، أنه كان بحوزتي ثلاث ليرات ذهبية، فأين هي؟ لقد فتّشت ثيابي، وقلّبت الفراش الذي أنام عليه وحتى البساط المفروش ولم أجدها.
قال الشيخ: هل أنت متأكد أن الليرات كانت في جيبك عند مجيئك إلى هنا وإخلادك للنوم؟
نعم .وحتى انني تحسّست موضعهم في جيبي قبل النوم.
إذاً لربما تقصدني بالتهمة؟!
سكت الشاب بعد أن قلّب راحتيه وقال: لربما كان صاحب المنزل أو أحد أفراد عائلته.
كأن صاعقة سقطت على الشيخ الذي صرخ بالشاب: إلى هنا وصلت وقاحتك، فهل جُننت؟ وهذا جزاء الضيافة والمنامة؟؟ ثم سأل الشاب الأرعن:
كم فقدت .. أفصح .. كم فقدت ؟؟
أجاب: ثلاث ليرات عصملية «أي عثمانية».
انتظرني حتى آتيك بهم، فأنا السارق وكفى…
خرج الشيخ إلى صديقه الحاج الذي كان جالساً في الجناح الآخر من المنزل وانزوى به قائلاً : إنني بحاجة إلى ليرتين ذهبيتين لأمر مهم وقريباً سأعيدهم لك إذا قدّر الله.
غاب الحاج قليلاً ثم حمل إلى الشيخ عشر ليرات بدل اثنتين وقال: خذها فإنني بغنى عنها.
شكر الشيخ ضيفه وأجابه: إنني بحاجة إلى ليرتين لا غير ..
عاد إلى الشاب وناوله الليرتين الذهبيتين مع ليرة ذهبية كانت بحوزته وقال: أعتقد أن حقك قد وصلك ومع هذا إذا كنت عائداً لبلدتك فسلّم على صديقنا الشيخ كنج أبو صالح، ورجائي الوحيد أن لا تخبره بما حدث…
هذا السلام المستغرب أثار حيرة الشاب وأخذت الأفكار تتسارع في مخيلته بين التصديق والتكذيب لما حدث، وكيف تحدّث مع رجل بهذا القدر، لكنه بقي على شكوكه وكان يخاطب نفسه:: «إذا لم يكن الشيخ قد أخذ الليرات فمن أين جلبهم؟؟ المهم أنني استعدت مالي!!
في طريق عودته، تذكّر أنه بعد خروجه من منزل أقاربه في بلدة الماري استظل فيء إحدى الأشجار قرب نبع (القرشة) بعد ان رفع رجليه فوق صخرة متواجدة هناك قصد الاستراحة من عناء السير.
لذا، قرر المرور بالمكان الذي استرخى عنده لعلّه يكون قد أساء الظن فيجد هناك ما فقده. فكّر بذلك لـ «قطع الشك» كما يقال إذ إنه كان على يقين بأنه تحسس الليرات الذهبية في جيبه قبل أن يخلد إلى النوم في بيت مضيفه.
لكن حدث أن وجد الشاب ليراته الذهبية على الأرض في المكان الذي قصده للإسترخاء وبدا أن النقود انزلقت من جيبه عندما رفع رجليه ليريحهما.
صعق الشاب وتمنى عندها فعلاً لو أن الأرض تنشق وتبتلعه في ظلماتها.
أنّب نفسه كثيراً وأحس بالفضيحة تزلزله وأدرك حجم الإثم الذي ارتكبه بحق ذلك الشيخ الجليل وبحق ضيفه.
قرّ رأيه على أن يذهب فوراً إلى منزل الشيخ كنج أبو صالح قبل الوصول إلى بيته، ثم دخل عليه وحيّاه قائلاً : يا شيخنا، لا أعرف من أين تأتي المهابط.. وكيف يجلب الإنسان لنفسه الذلة والإهانة وقلة الكرامة …
خير إن شاء الله، ما بك يا بني ؟ أجاب الشيخ كنج أبو صالح.
تنهّد الشاب وقال:
أولاً أبلغك السلام من صديقك الشيخ أبو يوسف حسن جمّاز، وفي الحقيقة لا أعلم كيف سأقابله لأعتذر منه، وحتى إذا سمح لي بأن ألثم حذاءه.
قال الشيخ: أفصح يا بني ما الذي جرى لك؟؟
هزّ الشاب برأسه بأسى وأخبره بما حدث له من الألف حتى الياء كما يقولون.
هوّن عليك. قال الشيخ كنج وإن تكن فعلتك كبيرة ولا يماثلها في الحقيقة إثم حتى أنني لم أسمع بمثلها حتى هذه الساعة. إذ كيف سمحت لنفسك بتخوين شيخ وقور مؤمن صادق، كالشيخ أبو يوسف، وكيف قبلت النقود منه قبل أن تتحقق من أنك أضعتهم فعلاً؟؟ إنه سوء حظ وقلة توفيق حقاً.
صدقت .. صدقت .. يا شيخي الكريم، لكن ما العمل وكيف يمكنني أن أكفّر عن هذا الفعل الشنيع؟؟ كيف سأقابله وليس بإستطاعتي المثول أمامه أو النظر إليه، وطلب الصفح منه وردّ الدراهم؟؟
تفكر الشيخ كنج ثم قال: إذهب إلى بلدته شويا فستجده قد عاد ليأخذ ما استدانه كي يعيدهم إلى صديقه لاعتقادي الكامل أنه قد أخذهم منه. إذهب على الفور ولا تتأخر وبلّغه سلامنا، وأخبره مفصلاً بما حدث معك، وقُل الصدق ولو فيه المشقة، ثم اعتذر إليه وقبّل يديه وجبهته وقل له هكذا أوصاني صديقك أبو كمال.
واعلم يا بني أن الرجال الكبار أمثاله إنما كبر مقامهم في عشيرتهم بسبب رجاحة عقلهم وسعة حلمهم. ثم ذكر له أن الشيخ المظلوم تبرع يوماً بخمس ليرات ذهبية لنازحين من أبناء منطقته إلى بلاد الجليل بعد ثورة الـ 25 رغم كونه مهجّراً ووضعه المادي صعباً للغاية وأبلغه أيضاً أنه دفن ولده سليم وشقيقه قاسم بيديه في أرض المعركة قرب مرجعيون خلال ثورة الخمس والعشرين، وعندما عاد إلى بيته مع رفاقه الثوار طلب إلى زوجته إحضار الطعام كي يأكل الجميع، قبل أن يخبرها أنه فقد فلذة الكبد وعينه اليمين.
بعد سماع كل هذه الأنباء والمآثر عن الشيخ توجه الشاب إلى بلدة شويا وهو يضطرب خجلاً وعند وصوله رمى بنفسه على قدمي الرجل محاولا أن يقبّل رجليه لكن الشيخ أبو يوسف ردعه مستهجناً قائلاً له:
استغفر الله، استغفر الله، هذا لا يجوز.
ثم قصّ الشاب له ما حدث معه وكيف أوصاه صديقه الشيخ أبو صالح بالعودة فوراً وتقديم الإعتذار قبل الدراهم آنذاك.
تبسّم الشيخ أبو يوسف وقال: إجلس يا بني، إجلس. سامحك الله وأبرأ ذمتك. ولتكن فعلتك كما يقول المثل «لكل نفس غفلة، ولكل فرس كبوة.»

أقوال في المروءة
وعلو الهمّة

أربعة تؤدي إلى أربعة :
1. الصمت إلى السلامة.
2. البــــر إلى الكرامــة.
3. الجــود إلى الســـيادة.
4. الشـــكر إلى الزيــادة.
أربعة تعرف بأربعة:
1. الكاتب بكتابـــه.
2. العالم بجوابــــه.
3. الحكيم بأفعالـــه.
4. الحليم باحتمالـه.
أربعة لا يخلو منها جاهل:
1. قــــول بلا معنـــــى.
2. فعــــل بلا جــــدوى.
3. خصومة بلا طائــل.
4. مناظرة بلا حاصـل.
أربعة من علامات اللئيم:
1. إفشاء الســــر.
2. اعتقاد الغــدر.
3. غيبة الأحرار.
4. إساءة الجوار.

لغز الحلاج

لغــــز الحــــلّاج

هل كان متعجلاً في البوح بالأسرار
أم مشى بإرادته إلى التضحية الكبرى؟

كان مثالاً ساطعاً على ما يمكن للحب الإلهي أن يصنعه في العاشق
وقد ذاق من كشوفات العشق ما أحرق في قلبه كل تعلق بالحياة

دافع الغزالي عن شطحاته باعتبارها «سكراً صوفياً»
وحذره الجنيد من البوح بالأسرار وتنبأ بصلبه

من أقواله
ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة
وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشدّه

«بلغ الحلاّج قمّة الكمال والبطولة كالنســـــر في طرفـــــة عيــن»

جلال الدين الرومي

دخل الحسين بن منصور الحلاج التاريخ الإسلامي كأشهر الصوفيين الذين قتلوا على يد الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية، وقد تعرّض الحلاج لميتة شنيعة إذ قطعت أطرافه وحزّ رأسه وأنزل جثمانه عن منصة الصلب وأحرق وألقي رماده في نهر دجلة. وكان لميتة الحلاج بهذه الطريقة وقع عظيم في التاريخ الإسلامي بل الإرث الروحي العالمي، ثم أدى اكتشاف مفكر فرنسي يدعى لويس ماسينيون لشخصية الحلاّج في مطلع القرن العشرين الماضي، من ضمن اهتمامه بدراسة الإسلام، إلى افتتان تام من قبله بهذه الشخصية الغامضة والعبقرية، مما جعله يكرّس معظم حياته الأكاديمية للتنقيب في آثار الحلاج ومحاولة تكوين رواية دقيقة عن حياته وزمانه وتعاليمه مستعيناً ببحث حثيث في الآثار والمدونات الإسلامية، وساهم كتاب ماسينيون الذي أصدره بالفرنسية عام 1922 بعنوان «آلام الحلّاج» في اشتهار أمر هذا الصوفي بصورة غير مسبوقة وتحوّله إلى مادة غنية تلهم الشعراء والكتاب ومفكري الصوفية المعاصرين.
أظهر ماسينيون أن الحلاّج مات مظلوماً ونتيجة لبيئة الدسائس والصراعات الحادة للعقائد الإسلامية المختلفة في زمن الخليفة المقتدر. وقد دهش ماسينيون لحياة الحلاّج المضطربة وتعاليمه الجريئة ولمح فيها شبهاً كبيراً بحياة المسيح، إذ كان الحلاّج وعلى غير عادة الصوفية يخرج إلى الأسواق ملقياً دروسه بين العامة كما أنه الوحيد بين كبار الصوفية الذي استخدم القوى الخارقة والكرامات وأظهرها على الملأ، فكان حسب إبن الأثير يخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمدّ يده في الهواء فيجتمع فيها دراهم ضرب عليها «لا إله إلا الله» فينثرها على الناس -وكان يسميها «دراهم القدرة»- أو كان ينبئ الناس بأسرارهم ويخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون. وبنى ماسينيون هنا مقارنة أيضاً بين الحلاج وشخصية عيسى بن مريم وما كان يجري على يديه من خوارق بين الناس بإذن ربه.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن أوساط الصوفية في كل الثقافات تزخر بقصص الكرامات، لكن أحد أهم آداب الصوفية هو تحريم إظهار تلك الكرامات لأنها تورث العجب وتقطع الطريق، وقد ربط بعض خصوم الحلاّج بين القدرات التي كان يظهرها وبين رحلته الطويلة إلى الهند والتي اختلط خلالها بكهان الهندوس وفقرائهم.
لكن سواء جلب الحلاّج معه تلك القدرات من رحلته إلى الهند أم اكتسبها من باب المجاهدات فإنه اعتبر مخالفاً لقواعد الصوفية بعرض تلك القوى للعامة ولأنه هتك بذلك أستار الحقيقة وعرّضها لسوء الفهم، كما سبّب الحرج والضيق لمشايخ زمانه من اهل الكتم والرصانة والبعد عن فضول العامة والشهرة.
ثم زاد الحلاّج على تلك السابقة تركه لتقليد الصوفية بمراعاة عقائد العامة والكتم وعدم التصريح بحقائق الاختبار الصوفي وأحواله بما يتجاوز التلميح أو حتى تجاهل السؤال كما فعل أبو حامد الغزالي عندما سئل عن حقيقة اختباره الصوفي فأجاب باقتضاب: «ظن خيراً ولا تسأل عن الخبرِ».
أخيراً فإن صخب الحلاج وتحركه الواسع بين الناس وأسفاره وحتى دخوله في الاختلافات السياسية التي كانت تدور في كواليس الدولة وفي بعض أمصارها ساهمت في استثارة الحاكم وقيام تحالف واسع من الخصوم ضده وابتعاد حتى رفاق الصوفية المشهورين مثل الجنيد وأبو بكر الشبلي وعمر المكي عنه وتنصلهم من بعض أقواله.
السؤال الكبير في قصة الحلاّج هو لماذا قرّر هذا الصوفي الجليل ذو المواهب والرؤى العرفانية واللغة الساحرة في قوة تعبيرها ومشاعر الحب المتدفق، أن يخرج عن تقليد الصوفية بالكتم فيبوح بأسرار وأحوال كانت حتماً دون طاقة العامة أو حتى المؤسسة الدينية على الفهم أو الاحتمال؟ هل كان أخرق فعلاً بمعنى أنه لم يكن يدرك تبعات عمله (وهذا مستبعد من رجل برجاحة عقله ومكانته الروحية وذكائه) أم أنه سعى بعلمه وإرادته لأن يكون مشروع شهيد؟ وفي جميع الحالات كيف نفهم الحلاّج وكيف نفهم مأساته؟ وهل سعت تلك المأساة وما رافقها من عذابات إليه أم أنه على ما يرجح سعى إليها؟ وما هو السر الذي أخذه معه على خشبة الصلب؟
هناك لا شك في ذلك سرّ كبير في حياة هذا الصوفي، بل إن حياته كلها من بدايتها وحتى نهايتها لغز كبير، وقد أغرق الحلاّج الناس في حيرة كبيرة عندما كان حياً ودفع بهم إلى حيرة أكبر بل إلى اندهاش وذهول بموته، وأكبر دليل على حياته اللغز هو الانقسام الكبير الذي قام حوله بين تقديسه من قبل أتباعه والدفاع عنه بل تعظيمه من قبل أعلام كبار مثل الغزالي وجلال الدين الرومي وبين اعتباره زنديقاً مارقاً من الدين من قبل بعض أوساط المؤسسة الدينية وعلماء كبار مثل إبن تيمية.

بعض الإشارات التي قد تساعد في فهم لغز الحلاج:

لويس ماسينيون في مصر
لويس ماسينيون في مصر

• مجاهداته القاسية جداً
روى ابن الأثير أن الحجاج قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكّة فأقام فيها سنة في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء أو صيف وكان يصوم الدهر فإذا جاء العشاء أحضر له الخادم كوز ماء وقرص خبز فيشرب الماء ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبه ويترك الباقي، ولا يأكل شيئاً آخر النهار. وكان شيخ الصوفيين في مكة عبد الله المغربي يأخذ أصحابه إلى زيارة الحلاّج فلم يجده في الحجر وقيل قد صعد إلى جبل أبي قبيس، فصعد إليه فرآه على صخرة حافياً مكشوف الرأس والعرق يجري منه إلى الأرض. فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه وقال: هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله وسوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته. بعد ذلك روى أحد تلامذته أنه كان أحياناً لا ينام مضطجعاً بل واقفاً أو كان ينام القرفصاء لساعة واحدة.

• خصومته الشهيرة للنفس
اشتهر الحلاّج بخصومته الحادة لنفسه، وهو تقليد صوفي يعتبر النفس الأمارة أكبر قاطع للترقي الروحي لكن الحلاج ذهب في تلك الخصومة إلى شوط لم يبلغه أي من الصوفية لا من قبل ولا من بعد. فمن أقواله «إن النفس أخبث من سبعيني شيطان» وقد دخل بعد حجته الثالثة والأخيرة إلى مكة في مرحلة مختلفة تماماً عن مسيرته السابقة، إذ وصل بعدائه لأهواء النفس إلى دعوة الناس لقتلها -أي عملياً لقتله، ففي جواب على سؤال أحد المقربين منه قال إنه يسعى لـ «قتل هذه الملعونة» وقصد بذلك النفس الأمارة ثم أضاف:« ولكنني أغريهم على الحق، لأن عندي قتل هذه من الواجبات، وهم إذا تعصبوا لدينهم يؤجرون». وهذه المقولة سيعود إليها الحلاّج في ما بعد في أكثر من مناسبة وهي أنه من واجب الناس أن يقتلوه «تعصباً لدينهم» وأنهم بذلك يؤجرون. وكان في أوجّ تمرده وقبل فترة من سجنه تمهيداً لمحاكمته يمشي في أسواق بغداد صائحاً بالناس: «أيهــــا الـنـاس ، اعلموا أن الله قد أباح لكم دمي فاقتلوني، اقتلونــي تؤجروا وأسترح، اقتلوني تكتبوا عند الله مجاهدين وأكتب أنا شهيداً»
وتحدّث أحد تلامذته أنه جاء يوماً لرؤية الحلاّج في داره فرآه في حال من الغيبة يناجي الله، فلما فطن إلى وجوده اعتدل وجلس وقال له اقترب ولا تخف ثم قال: يا بني إن بعض الناس يشهدون عليَّ بالكفر وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون عليَّ بالكفر أحب إليَّ من الذين يقرون بالولاية.
سألته، كيف يكون ذلك؟ أجاب: لأن الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنهم بي، والذين يشهدون عليّ بالكفر يشهدون تعصُّباً لدينهم، ومن تعصب لدينه أحبُّ إلى الله ممن تعصب لأحد.
ثم قال لي: كيف أنت يا إبراهيم، حين تراني وقد صلبت وقتلت وأحرقت؟ وذلك أسعد يوم من عمري جميعه!

• استعداده وتقبله للبلاء
كان الحلاّج إذاً مطلعاً في سره على نهايته المرتقبة وكان مستعداً لها بل ومرتقباً لها كما لو كانت الخاتمة المحررة له من وهم وجوده. وبالطبع كثير من الدهريين يجدون صعوبة في فهم هذا القول لكن الحلاّج مثل الكثيرين من الصوفية كان يعتبر الموت خلاصاً من ربقة الجسد والنفس وبلوغ الأرب الأكمل، وفي أدبياته النثرية والشعرية أكثر من إشارة إلى أنه كان متألماً في بدنه وفي سجن الدنيا، وكان من شدة ولعه بالله تعالى يضيق صدره بأيامه ولا يقرّ له قرار فكان لذلك دائم الأسفار هائماً في الاقطار لا يكاد يحط رحاله في أرض حتى يعود فيوجه وجهه نحو أرض جديدة. أليس هو القائل:
«لو قطعتني بالبلاء إرباً إرباً ما ازددت إلا حباً حباً»
وفي إحدى مناجياته قوله:
«والخلق كلهم أحداث ينطقون عن حِدث، ثم إذا نطقتُ عن القِدم ينكرون عليّ ويشهدون بكفري، ويسعون إلى قتلي، وهم بذلك معذورون، وبكل ما يفعلون بي مأجورون».

” لم يتردد في إظهار الخوارق العجيبة كأن يرفع يده في الهواء ويعيدها وقد امتلأت دراهم ينثرها في الأسواق أو يخبر الناس بأسرارهم وأدق خواطرهم “

• توسّله لربّه
بل إن الحلاّج كان حتى في مناجياته يتوسل إلى ربه أن «أسألك أن لا تردني إليّ بعد أن اختطفتني مني، ولا تريني نفسك بعد أن حجبتها عني، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك» فهنا الحلاج يبتهل لربه العزيز أن يكثر من أعدائه القائمين على قتله، وهذا كلام مدهش لأنه يعكس شعور رجل موله بالله تعالى ويستعجل اللقاء ورفع الغطاء والبلاء المنجي وسقوط الحجاب الجسماني.
فاعلموا أني شهيد ..
وفي مقطع شعري جميل يتنبأ الحلاّج بموته المرتقب شهيداً للحب الإلهي فهو يقول:
لا تـَلمنّــــــــــــي فاللـــــــــــــــوم منــــــــــّي بـــعيـــــــــــــــــــــــــــــــد وأَجِـــــــــــــــــــرْ ســــــــــــــــــــــيـّدي فإنـــــــــــــّي وحيــــــــــــــــــــــــد
إنّ فـــــــي الوعد وَعْـــدك الحقّ حقاً إنّ فــــــــي البدء بدء أمـــــــري شـــديــــــــــــــــد
مَـــــن أراد الكتـــــــاب هذا خطـــــــابــــــي فـــــــاقـــــــرأوا وأعلمـــــــــوا بأنّـــــــــــــــــي شـــهيـــــــــــــد
ثم وقبل يوم من تنفيذ الحكم بصلبه وقتله، بعث الحلاج برسالة بليغة إلى صديق له أعرب فيها عن فرح كبير وصفه بهذه الكلمات:
«دنا ميقات الانبعاث، وكوشف أبو الغيب بالغياث، فعلام الحزن والأمر هُيّىء وفيم القلق والصراط سويٌّ، فالله الله إخوان الصفاء مِن شكٍّ يتداخل الجوانح، ومن غشٍّ يتمالك الجوارح، الحبيب استزار حبيبه، والمريض أمّ طبيبَه، وفي غد يكون العرس فانتقبوا، تناولت صفات الصفات، ودنا الأجل للميقات، وفي غد تسفر سافرة المكتوم، وتبرز مخبّآت الصدور، وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبِّه لهم.»

• نبوءة الجنيد
ذكر أن الحلاج افترق أخيراً على خلاف مع الجنيد الذي حاول نصحه بالإعتكاف والإعتدال في تعبيراته الشعرية التي باتت تميل نحو الشطح حاملة دعاوى جريئة لا يقبلها الشرع. ويبدو أن الجنيد ختم الجلسة بسؤال غريب للحلاّج قال فيه: أتدري أي خشبة ستفسدها؟ في ما بدا أنه نبوءة من مرشده بنهايته المرتقبة على منصة الصلب. وقد أجاب الحلاّج على ذلك بالقول: «عندما سأكون أنا على الخشبة ستكون أنت بين مشايخ الرسوم» أي أن الحلاّج تنبأ أيضاً أن أستاذه الجنيد سيأخذ في النهاية جانب الشرع ويتركه يواجه مصيره لا من قبيل الإساءة بل من قبيل الغيرة على طريق الصوفية بعد أن قرر الحلاّج التفرد بمواقف لا سبيل للتصوفية بمجاراتها.
في كل ما سبق نستنتج أن الحلاّج كان يتبع مصيراً مرسوماً وقد أنبأ هو به كما أنبأه به أستاذه، لكن ما لا يمكن لأحد أن يعلمه -وهذا هو أحد جوانب اللغز الحلاجي- هو هل كان الحلاّج يسعى بنفسه إلى ما حصل أم أنه كان ببساطة ينبئ بما قد كتب ويقبل به كتضحية كبرى في طريق العشق الإلهي والفناء التام بالله.
وقد أجاب شاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي على هذا السؤال بأسلوب التورية الرائع الذي اشتهر به إذ قال:
«بلغ الحلاّج قمّة الكمال والبطولة كالنســـــر في طرفـــــة عيــن ».

• خطاب لا ينسى
أما الحلاج نفسه فقد أجاب على السؤال بمشهده الذي لا ينسى على خشبة الصلب في مناجاة فريدة طلب فيها الصفح لقاتليه بكلمات فيها من الجلال والعظمة بقدر ما حملت من جمال التعبير والطهارة ورقة الشعور. من ما قاله:
«وهَؤَلاءَ عِبَادُكَ قَدْ اجْتَمَعُوا لِقَتْلِى
تَعَصُّباً لدِينكَ وتَقَرُّباً إليْكَ فاغْفرْ لَهُمْ !
فإنكَ لَوْ كَشَفْتَ لَهُمْ مَا كَشَفْتَ لِي لما فَعَلُوا ما فَعلُوا
ولَوْ سَتَرْتَ عَنِّي مَا سَترْتَ عَنْهُمْ لما لَقِيتُ مَا لَقِيتُ
فَلَكَ التَّقْديرُ فِيما تَفْعَلُ ولَكَ التَّقْدِيرُ فيِما تُرِيدُ»
ثم وجه الحلاج كلامه إلى جلاديه وإلى الجمهور الذي اجتمع على مشهد الصلب وتلا عليهم فعل الفرح بنبذ الوجود الشحماني والفناء السعيد بالله. ومما جاء في شعره:
اقــــتــــــــــلــونـي يــــــــــــــــا ثـــقـــــــــــاتــــــــــــــــي إنّ فــــــي قتــــْلـــــــــي حياتــــــــــي
وممـــــــــــــــــــاتـي فــــــــــي حياتـــــــــــــــي وحيــــاتـــــــــــي فـــــــــي ممـــــــاتــــــــــــــي
أنّ عندي محْو ذاتــــي مــــــــــــن أجّـــــــــــل المكــــــرمـــــــــات
وبقائــــــــــــــي في صفــاتـــــــــــــــي مـــــــــــــــن قبيــــــــــــــح السيّئـــــــــــــــات
سَئِمَتْ نفسـي حياتــــي فــــــــي الــــــرســوم البـــــاليـــــــــات
فاقتلـــونـــــــــي واحــرقــونــــــــــــي بــــــعظـــــــامـــــــــــــــــــي الفـــــــــانيــــــــــــــــات
ثـــــــــــــم مــــــــــــــــــــــــــــرّوا بـــــــرفـــــــــــــــــاتـــــــــــي فــــي القبـــــــور الدارسـات
تجـــــــــــــــــدوا ســـــــــرّ حبيبـــــــــــــــــي فــــــي طـــوايـــــــــــــــــا البـــــــاقيـــــــات
إننـــــــــــــــــــــــي شيـــــــــــــــــــــــــخ كبيــــــــــــــــــــــــر فـــــــــــي علـــــــــــوّ الدارجـــــــــــات
ثــــــــــــــــم إنـّي صـــــــرتُ طفــــلا في حجور المرضعــات
كان الحسين إبن منصور الحلاج مثالاً ساطعاً على ما يمكن للحب الإلهي أن يصنعه في العاشق، وقد ذاق من كشوفات العشق، حسب ما عبّر في شعره، ما أحرق في قلبه كل ذرة تعلق بالحياة الفانية، بل أدى ما ذاقه من أنوار الكشف والغيبة في الحقيقة إلى حال بات معها متضايقاً من وجوده المادي، وقد بات يرى فيه سجناً وعذاباً هان عنده عذاب الخلاص العنيف من الأسر الشحماني. وكان الحلاج في ذلك ولا شك فريداً وغريباً بل وصادماً. لقد كان طريق التصوف على الدوام شاقاً لا قبل بالثبات عليه إلا لأولي العزم من الصفوة المختارين، وقد شرح الحلاج مدى وعورة هذا الطريق بالقول في رسالة كتبها إلى أحدهم قال:
«عزّ من يقصد هذا الطريق، وقلّ ثم عزّ من القاصدين من يسلكه، ثم عزّ من السالكين من يصل إلى المقصود، ويظفر بالمطلوب، وهم الذين اصطفاهم الله معرفة ومحبّة، ومدّهم بتوفيقه وعظمته، ثم أوصلهم بفضله ورضوانه إلى جنته».

جلس في الحرم لسنة كاملة لا يبرح مكانه إلا لحاجة صائما قائما في الشمس الحارقة أو في برد الليل القارس
جلس في الحرم لسنة كاملة لا يبرح مكانه إلا لحاجة صائما قائما في الشمس الحارقة أو في برد الليل القارس

لكن الحلاج ليس وحيداً في هذا الطريق، فقد سار عليه من قبله كثيرون من أهل الصفوة وبلغوا ما بلغوه من ذرى العرفان عبر صنوف المجاهدات والمكابدات، لكن ما انفرد به الحلاج هو ولا شك إندفاعه في معراج الفناء بالله إلى حد القبول بالتضحية الكبرى وهي قتل النفس. لكن لا يضعه ذلك بالضرورة في منزلة أعلى من الجنيد أوالشبلي أو الرومي أو البسطامي أو غيرهم، فهو افترق عن صفوة القوم ليس بأسرار العرفان أو كشوفات الحقيقة بل بمنزلة البلاء وبما نفذ فيه من أمر القدرة لحكمة خفية، وهذه الحكمة جاهد كثيرون في محاولة فك لغزها لكنها ستبقى أمراً خفياً وجزءاً من سر الحلاج الذي سيبقى عند ربه على مرّ الدهور.
يجب القول أيضاً أن الحلاج رغم كل ما أثاره بعض الغلاة والمتعصبين ضده من اتهامات لا يختلف في تعليمه واختباره الصوفي عن عموم مشايخ الصوفية من حيث ورعهم وتقواهم والتزامهم القرآن والسنة وقيامهم بالفرائض والسنن وهذا المبدأ مقر في جميع الطرق وفي كل تعاليم الشيوخ. وها هو الحلاج نفسه يخبر:
«ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة، وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشدّه، وأنا الآن على ذلك، وما صلّيت صلاة فرض قط إلا اغتسلت أولاً، ثم توضأت لها، وها أنا ابن سبعين سنة وفي خمسين سنة صليت صلاة ألفي سنة كل صلاة قضاء لما قبلها»
أما الشطحات التي نطق بها في بعض تعابيره الشعرية أو بعض ما نقل عنه فإنها لم تكن مختلفة كثيراً عن بعض ما قاله أبو بكر الشبلي أو أبو يزيد البسطامي وغيرهما لكن الفارق أن الشبلي الذي تعرّض لخطر اتهامه بالزندقة تراجع عما نسب إليه وادعى الجنون بل إنه ذهب إلى المارستان (دارحفظ المجانين) لبعض الوقت للتأكيد على أنه قال ما قال في حال من فقدان الإدراك، بينما رفض الحلاج الاعتذار عن تلك الشطحات أو تبريرها. لهذا السبب قال الشبلي بعد مقتل الحلاج :أنا والحلاج أمر واحد لكن جنوني أنقذني وعقله قتله».
وقد دافع المتصوفة الذين جاءوا بعد الحلاج، بل وبعض علماء الدين عنه وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حامد الغزالي الذي لم يتردد في أخذ جانب الحلاج فكتب في كتابه «مشكاة الأنوار» أن شطحاته مثل قوله «أنا الحق» أو «ليس في الجبة إلا الله» وإن كانت تعابير ينبو السع عنها وعن ذكرها إلى أنها انبعثت من حال سكر سببه فرط الوجد والمحبة كمثل قول الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنـــــا نحــــن روحان حللنــــا جسدا
فــــــــــــــــإذا أبصــــــــــــرتنــــــــــــي أبصــــــرتــــــــــــــــــــه وإذا ابصــــــــــــرتـــــــــــــــــــه أبصــــــــــرتنـــــــــــــــــــــــــــــا
وفي الحقيقة فإن أكثر الذين دافعوا عن شطحات الصوفية ردّوها غالباً إلى حال السكر التي قد تعتري الصوفي فينطق خلالها بأقوال هي من وارد عالم غيبي قد لا يمكن شرحها أو تفسيرها بعنصر المنطق أو العقل.
• الصحو والسكر
وقد شرح الحلاج بنفسه منابع تلك الشطحات عندما قال: «من أسكرته أنوار التوحيد حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار التوحيد نطق عن حقائق التوحيد، لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم» لكن ما هو المكتوم؟ إنه أنوار الحقائق اللدنية التي تنجلي للصدور لكن لا يكون لأي تعبير أو لغة القدرة على وصفها أو شرحها. وهذا ما قصده الحديث القدسي الذي حمل وعد الله جل وعلا لعباده الصالحين بـ «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» لأن الحقيقة ليس من صنف الخاطر البشري ولا يمكن تصورها أو وصفها، وهذا أصل ورطة الصوفي المنخطف بأنوار التحقيق والتوحيد عندما يسعى للتعبير عن اختبار لا ينتمي إلى عالم اللغة أو قاموس الأحاسيس البشرية.
لكن الحلاج كان شديد الوضوح في رفضه للحلولية إذ جاء في قول له:
«من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية، أو البشرية تمتزج بالألوهية فقد كفر، فإن الله تفرّد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، فلا يشبههم بوجه من الوجوه، ولا يشـــبهونه بشـــــيء من الأشــــياء، وكيف يُتصور الشبه بين القديــــم والمحدث؟»
وليس هناك أوضح من هذا التأكيد على أنه لم يدع هذه الأمور وإن من الضروري بالتالي التفريق بين آرائه الصوفية في حال الصحو وبين بعض التعبيرات التي صدرت عنه في حال الغيبة عن نفسه والسكر الصوفي.
وهو في مكان آخر يصف التحقق الصوفي بأنه «الاستهلاك في حقائق الحق، والفناء عن جميع صفات الحق» وهذا الوصف يشترك فيه جميع الصوفية ومفاده أن العبد عبد والرب رب وأنه لا امتزاج ممكن بين القديم والمحدث. وللحلاج أدعية ومناجيات في غاية العذوبة يخاطب فيها ربه جل وعلا ويشكو تباريح الشوق التي تلهب كيانه فهو بكل بساطة عبد ثمل في الله.
وهناك عبارة جميلة يصف بها الفناء في الله (وليس الحلول المزعوم) يقول:
إذا اراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب الذكر، ثم فتح عليه باب القرب، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم يرفعه عن الحجب، فيرى الفردانية بالمشاهدة، ثم أدخله دار الفردانية، ثم كشف عن الكبرياء والجمال، فإذ رفع بصره على الجمال بقي بلا هو، فحينئذٍ صار العبد فانياً، وبالحق باقياً، فوقع في حفظه سبحانه، وبُرِّئ من دعوى نفسه».
هذه مقدمة موجزة ليس الهدف منها تقديم تحليل شامل للشخصية الملغزة والفريدة للحسين بن منصور الحلاج، فهذا الأمر يتطلب الكثير وهو موضوع واسع، لكن الهدف هو تقديم صورة حقيقية عن شخصيته بما يساعد على تذوق الأقوال والتعبيرات الشعرية الرائعة -التي سنورد مقتطفات وأمثلة منها- وفهمها في إطارها وسياقها، وربما أيضاً محاولة التأمل في بحورها العميقة. وهذه المقتطفات نعرضها في الجزء التالي.

مقام الحلاج
مقام الحلاج

الحسين بن منصور الحلاّج

الحلاّج هو الحسين بن منصور المولود عام 858 م. في قرية طور في الشمال الشرقي لمدينة البيضاء من مدن مقاطعة فارس بإيران ومن أبنائها العلامة النحوي سيبويه.
بعد ولادته انتقل والده بالأسرة من بلدته وتوجه إلى واسط في العراق، وهي مدينة بناها الحجاج الثقفي، وكانت تلك الناحية من العراق مشهورة بزراعة القطن وتصنيعه، وعمل والده في حلج القطن فسمي الحلاج وانتقلت الكنية إلى الحسين.
وروى ابن خلكان في وفيات الأعيان ان الحسين ابن منصور ساعد رجلاً من واسط – وهو قطان- في حلج قطنه وغاب الرجل عن محله لبعض الوقت وعندما عاد وجد كل قطنه محلوجاً وكان 24 ألف رطل فذهل وأطلق على الحسين، لقب الحلاّج فلازمته الكنية بعد ذلك.
وروى ابن كثير أن أهل الأهواز أطلقوا عليه هذه التسمية لأنه كان يكاشفهم بما في قلوبهم فسموه «حلاج الأسرار».
لفت الحسين ابن منصور إليه الأنظار منذ طفولته بذكائه المتوثب وروحه المنطلقة وحبه للعلم والمعرفة وقد حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره وتعمّق في معانيه واشتهر بعزيمة هائلة في ممارسة الرياضات والمجاهدات الروحية ولم يعرف اللهو في حياته وكان كثير الصلاة والتأمل والخلوة.
أمضى الحلاّج صباه متنقلاً بين كتاتيب واسط في العراق، ثم انتقل إلى تستر حيث درس على يد سهل ابن عبد الله التستريّ، ثم إلى البصرة لينشئ علاقة طيبة مع عمرو بن عثمان المكّي الصوفي. ثم ترك البصرة قاصداً بغداد حيث طلب صحبة الشيخ الجنيد. تعرف أيضاً على أبي بكر الشبلي فيكون قد درس على يد أربعة من كبار متصوفة الإسلام.
كان ظاهرة غريبة لفتت الناس وأصبح اسمه على كل شفة ولسان بسبب هيبته وأقواله وكراماته وقد كان يعاشر الأمراء والقواد كما كان يلبس أحياناً لباس الفقراء وينزل داعياً في الأسواق. أرتحل الى خراسان ومعه العشرات من الاتباع يدعو الناس الى حب الله عز وجل وقضى خمس سنوات من التجوال قبل ان يعود الى الاحواز، ثم عاد الى مكة المكرمة مرة اخرى مع 400 من اتباعه وعاود الاختلاء بنفسه معتصماً بقمة جبل ابي قبيس. بعد حجته الثانية خرج الى رحلته الكبرى في سبيل الدعوة الى تركستان والهند واعتنق الاسلام على يديه خلق كبير جداً. وصل السند وكشمير الى طرفان وعظم امره في بلاد ما وراء النهر والهند والصين فكانوا يكاتبونه من الهند ويلقبونه «المغيث « أما أهل الصين فقد أطلقوا عليه لقب «المعين».
كان جريئاً في مواقفه ومقالاته فقد انتقد بطانة الخليفة كما انتقد المعتزلة وأيد الحنابلة وهم أشد خصوم المعتزلة وانتقد دور بعض كبار الموظفين النصارى في قصر الخليفة ومنهم ابن النوبخت الذي سيلعب دوراً مهماً في الكيد له وترتيب قتله.
لكن اللاعب الأهم في قتل الحلاج كان الوزير حامد الذي تمكّن من حبسه لسبع سنوات في دار المقتدر وأمضى تلك المدة في محاولة ترتيب محاكة له تؤدي إلى اتهامه بالزندقة وتبرر قتله وقد فشل حامد معظم تلك المدة لأن عدداً من القضاة لم يجدوا دليل إدانة أو تحرجوا من ظلم الحجاج كما ثارت الناس في الشارع وحصل هرج ومرج. أخيراً تمكن الوزير حامد من تشكيل محكمة جديدة جمع فيها بعض ألد خصوم الحجاج واستصدر حكماً بالقتل بالاستناد إلى فتوى منسوبة إلى مذهبه بإمكان الاستعاضة عن الحج بالصوم وبإطعام وكسوة ثلاثين يتيماً ومنحهم صدقة، وتفرّق الناس.وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله ، وأبطأ المقتدر الجواب يومين فكتب له «إن ما جرى في المجلس قد شاع وانتشر ومتى لم يتبعه قتل الحلاج افتتن الناس به». وتدخل القائد مؤنس بنفوذه العسكري الكبير لدى الخليفة الذي رضخ وأعطى أخيراً الإشارة بقتل الحلاج. فسلّمه الوزير إلى صاحب الشّرطة، فضربه ألف سوط فما تأوّه، ثمّ قطع يده، ثم رجله ثم يده، ثمّ رجله، ثمّ قُتل وأُحرق بالنار، فلمّا صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل إلى خُراسان لأنّه كان له بها أصحاب.
وقتل الوزير حامد بن العباسي بعد ذلك أفظع قتلة وأوحشها بعد قتل الحلاج وقطعت يداه ورجلاه وأحرق داره .

التلبية
لبّيـــــــكَ لبّيـــــــــكَ يـــــــــــــا ســــــــــرّي و نجــــــــوائـــــــــــــــــــــــي لبّيــــك لبّيــــــك يــــــا قصــدي و معنائـــي
أدعــــــــــــوك بـــــلْ أنت تدعونـــي إليك فهـــــلْ نـــــــاديــــــــتُ إيّــــــــــاك أم ناجيــــــتَ إيّــــــــــــائـــــــــــــــي
يـــــا عين عين وجودي يـــا مدى هممي يــــــــــا منطقــــــــي و عباراتــــــي و إيمائــــــــــي
يـــا كـــــــــــلّ كـــلّي يــــا سمعــــــي و يـــــــا بصـــــــري يا جملتي و تباعيضي و أجزائي
يـــا كـــــــلّ كـلّـــــي و كـــــــــــلّ الكــــــــــــــــــــلّ مـــــــــلتبـــــــــــــــس و كــــــــــــــــل كـــــــلّــــــــك ملبـــــــوس بـمعنــــــــــــــائــــــــــــي
يـــا مــــــن به كـلفَــــتْ روحــــي فقد تلـــــفـــــت وجدا فصرتَ رهينا تحت أهوائـــــي
أبكي على شجني من فرقتي وطني طـــــوعاً و يسعدني بالنوح أعدائــــي
أدنــــــــــو فيبـــــعدنــــــــــــي خــــــــــــــوفــــــــي فــــــــيقـــلقــــــنــــــــــي شـــوق تمكّن في مكنون أحشائــي
فكيـــــــــــف أصنــــــع فـــــي حبّ كَــلِفْتُ بــــــــــــه مولاي قد ملّ من سقمي أطبّائـــــي
قـالـــــــــوا تـــــــــــــــداوَ بـــــــــــــــــــــــه منـــــــه فقــــلــــــــــت لـــــــــــهــــــــــــم يــــــــــا قوم هل يتداوى الداء بالداء؟!
حبّــــــــــــــي لمـــــــــــولاي أضنانـــــــي و أسقـمنـــــــي فكيف أشكــــــو إلى مولاي مولائـــــــــــــــــي

مجاهدة
إنــــــي ارتقيــــــــتُ إلــــــــى طودٍ بـــلا قـــــــــــــــــــــــــدمٍ له مــــــــــَراقٍ على غيري مصاعيــــــــــب
و خُضْتُ بحراً و لم يرسب به قدمي خاضَتْهُ روحي وقلبي منه مـــــرعـوب
حَصْبَــــــــــــاؤُه جـــــــوهرٌ لـــــــم تَدْنُ منـــــــــه يـــــدٌ لكـــــــــنــــــــــــه بِيَــــــــــدِ الأفــــهــــــــــام منهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــوب
شــــــــربـــــــــــــــــتُ مـــــــــــن مائــــــــــــه رَيــــــــــــاً بغيـــــــر فـــــــم و الماء قد كان بالأفواه مشـــــــــــروب
لأن روحي قديماً فيه قدْ عطشـــــتْ و الجسم ما مسّــــَهُ من قبل تركيـــــب
إنـــــــــــــــــــي يـــتــيــــــــــــــــــمٌ و لـــــــــــــــي أبٌ أَلــــــــــــــوُذ بــــــــــــــــــــــه قلبـي لِغيْبَتــه،ِ ما عشـْـتُ، مكروب
أعمــــــــــى بَصيــــــــــــرٌ و إنــــــــــي أبْلَــــــــــه فَـــطِـــــــــــــــــــــنٌ و لــي كـــلام -إذا ما شئتُ- مقلـــوب
وفتيــــة عرفــــوا مــــــــا قـــــــــد عــــرفــــــت فَهْــــــمُ صَحْبِيَ ومن يُحْظ بالخيرات مصحوب
تعارفَــــــتْ فــــــي قديـــــــــــم الـــــــــــذّر أَنْفُســـــهـــــم فأشرقَتْ شمســــهم و الدهــر غربيـب

منازل الطريق
سكـــــــــــوتٌ ثـــــــــــــم صمــــــــــــتٌ ثــــــم خَـــــــــــــــــرْسُ و عِــــــــــــــــلْــــــــــمٌ ثــــــم وَجــــــــْدٌ ثــــــم رَمْـــــــــــــــــــــــس
و طـــــــــــــــــــــــــــــــيــــــــــنٌ ثــــــــــــــــم نـــــــــــــــــــــــــارٌ ثـــــــــــــــــــــم نــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورٌ و بــــــــــــــــــــــــــــــــردٌ ثــــــم ظــــــــــــــــــــــــلّ ثــــــم شمـــــــــــــــس
و حَــــــــــــــــــــــــــــــــزْنٌ ثـــــــــــــــــــم سهـــل ثـــــــــــــــــــــم قَـــــــــــــــفْــــــــــــــــــــــــٌـر و نــــــــــــهــــــــــــــــــــــر ثــــــم بَــــــــــــــــحْـــــرٌ ثــــــم يَـــــبْـــــــــــــــــــــــــــــــس
و ســــــــــــــــــكر ثــــــــــــــــــم صَحْـــــــوٌ ثـــــــــــم شـــــــــــــــــوقٌ و قـــــــــــــــــرب ثــــــم وفــــــــــــــــــــــــــــــــر ثــــــم أُنْـــــــــــــــــــــــــــــــس
و قَبْــــــــــــــــــــضٌ ثــــــــــــــــــــم بـــــــــــــســــط ثــــــــــــم مَــحْـــــــــــــــــــــوٌ و فـــــــــــــــــــــرق ثــــــم جـــــــــــمـــــــــع ثــــــم طَـــمْــــــــــس
و أَخـــــــــــــــــــــــــْذٌ ثـــــــــــــــــــــم ردّ ثـــــــــــــــــــــــــم جــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذبٌ و وصـــــف ثــــــم كشـــــــف ثــــــم لبـــــــــس
عــــــــــــبـــــــــــــــارات لأقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوامٍ تـــــــــــــــــســــــــــــــــاوتْ لـــــــــــــديـــــــــــهـــم هــــــــــــــذه الــــــــــــــــدنـيـــــــا و فِـــــــلْــــــــس
آلام العاشقين
والــلــه لـــــــــــــو حـــــــــلــــــــف الـــــــعــــــــشـــــــــــاق أنـــــــهــــــــم موتى من الحب أو قتلى لما حنثوا
قوم إذا هُجــــروا من بعد ما وصلــوا ماتوا، وإن عاد وصل بعده بعِثـــــــوا
أسرى المحبين صرعى فــــي ديالرهــــــم كفتية الكهـــــف لا يدرون كم لبثــــوا

أهل الأسرار
مَـــــــــــــن ســــــــارروه فأبــــــدى كــــلّا ستـــــــــــروا و لــــم يـــــراع اتّصـالاً كـــان غَشَّاشـــــا
إذا النفوس أذاعت سرّ ما علمـت فكـــل مـــــا حملت مــــــن عقلـــها حـــــــــــــاشــــــــــا
مــــــــــن لـــــــــــــــــم يصــــــــن ســــرّ مولاه و سيّـــــده لـــــــــــــم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
و عــــــــــــــاقبـــــــــــوه على مـــــــا كــان مــــن زَلَـــــَل و أبدلــــــوه مـــــــن الإينـــــــــــاس إيـــــــــحاشــا
هم أهل السرِّ و للأسرار قــــد خُلقــــــــوا لا يصبرون على مــــــــــــــــا كـــــان فحَّاشا
لا يقبـــــــــــــــلــــــــــون مذيــعـــــــــــاً في مجـــــــالسهـــــــم و لا يـــــحبّون سِتْراً كـــــــــــان وَشْواشـــــا
لا يصـــــطفــــــــــــون مذيعـــــــــاً بعْــــض سـرّهـــم حـــــــاشا جلالهــــــــم مــــــن ذلِكم حاشـــــــا
فَكُـــــــــــــنْ لــــهـــــــم و بهــــــــم فــــــي كــــــــــــــلّ نــــــــــــائبــــــــــةٍ إليهم مــــــــــا بقيــــــت الدهـــر هشَّاشـــــــا

الحب المستور
أشـــــــــار لــــــــــــــــــــحـــــــــــــــــظــــــي بـــــــــعــــــــــــــــــيــــــــن عــــــــــــــــــــــــــلـــِــم بــــــــــــــــخـــــــــالـــصٍ مــــــــــــــن خِفّـــــــــي فــــــهـــــــم
و لائــــــــــــــــــــــحٌ لاح فــــــــــــــــــــــــــــــــــي ضــــــــــــــــــــمــيــــــــــــــــــــــــــــــــــري أدقّ مــــــــــــــــــــن فـــــــــهــــــــــم وهـــــم وهمـي
و خضــتُ فـــــــــــــــــي لــــــــــــــجّ بــــــــــــحر فكـــــــــري أمُـــــــــــــــــــــــــــــــــــرُّ فــــــــــــــــيــــــه كــــــــــــمـــــــرّ ســــهــــــــــــــم
و طــــــــــــار قــــــلبــــــــــي بـــــــــــــــريــــــــــــــــــــــــــش شــــــــــــــــــــــــــــوق مركّـــــــــــــــب فــــــــــــي ريــــــــــــــاح عـــزمــــــــــــــي
إلــــــــــــى الـــــــــــــــــــــــــذي إن سُــئــــــلــــــــــــــــــتُ عـــــــــــــــنــــــــــه رمــــــــــــــــــــــــزت رمـــــــــــــزاً و لــــــــــــم اســـــــــــــمّ
حــــتّــــــــــى إذا جُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــزْتُ كــــــــــــــــــــــــــــل حــــــــــــــــــــــــــدّ فـــــــــــــــــــــــي فـــــــــلــــــوات الــدنّـــــــــو أَهْمِـــــــــــي
نــــــــظــــــــــــــــــــــرت إذ ذاك فــــــــــــــــــــــــي سَــــــــــــــــــــجَــــــــــــــــــالٍ فمــــــــا تجـــــــــــاوزتُ حــــــــــدّ رَسْمـــــــــــــي
أتــــــــــــــــــــيـــــــــــــــــت مــســتـــســــــــــلـــمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا إلــــــــــيــــــــــه حبـــــــــــل قيــــــــادي بكــــــفّ ســـلْمــــــــي
قـــــــــــــــــــــــــــد وســـــــــــــــــــــــــــــم الحــــــــــــــــــــــــــــــــبّ فــــــــــــــــــــــــــــــــــؤادي بميــــــســـــــــــــم الشـــــــــــــــوق أي وشـــــــــــــــــــم
وغـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب عنّــــــــــــي شـــهـــــــــــــــــود ذاتــــــــــــــــــــــــــــي بـــــالقــــــــرب حتّى نسيــتُ اسمــــــــي

الدليل
لـــــــــم يبــــق بينـــي و بـــين الحـــــقّ تِـبْــيَــانــــــــــــــــــي و لا دلــــيــــــــــــــــــــــــــــل بــــــــــآيـــــــــات وبــــــــــــــــــــــرهــــــــان
هـــــــــــــــــــــــذا تجـــــــــلّـــــــــــى طـــلـــــــــــــوع الحــــــقّ ِنـــائــــــــــــــــرةً قد أَزْهَـــرَتْ في تلاليــــــــها بســــــلطـان
لا يــعــــــرف الحــــــــــــــــــــــق إلا مــــــــــــــن يُـــــعــــرَّفــــــــــــــــــــــــــع لا يعرف القدمي المحدث الفانـــــــــي
لا يستـــــــدلُّ علـــــى الــــبـــــاري بصــــــنعــــتـــــــــــه رأيْتــــــــُمُُ حَدَثٌــــــــــــــاً يــــــُنْــــبـــــــــــِي بـــــــــــأزمـــــــان؟
كــــــــــــــان الــــــدلـــــــــــــيــل لـــــــــــــــــــــه مــنــــــــــــــــــــه إلــــــــيــــه بـــــــــــــه مِــــــــــــــن شــــــاهدِ الحـــــــــقّ تنزيــــــــــل فرقان
كـــــــــــــــان الـــــــــــــــدليـــــــل لــــــــــــــــــــــه مــــــــنــــــــــــــــــــه بـــــه ولــــــــــــــه حـــــــــــــقــًّا وجدنـــــــــــــا بـــــــــه علمــــــــــا بتبيان
هــــــذا وجودي و تصريحــــي و معتقدي هـــــــــــذا تــــــــــــــــــَوَحــــــــُّدُ تـــــــــوحـــــــيدي و إيمانــــــــــــي
هـــــــــــــــــــــذا عبـــــــــــــارة أهـــــــــــل الانـــــفـــــــــــــــراد بــــــــــــــــــــه ذوي المعـــــــارف في ســـرّ و إعلان
هــــــــذا وجـــــــــــودُ وجودِ الواجديــــــنَ لـــــــــه بني التجانـُـــــس ِأصحــــابي وخُلَّاني
غفلة
و أيّ أرض تـــــــــــــــــخـــلو مـنـــــــــــك حتّى تعــــــالــــــَوا يطــــــلبــــــونك فـــــــــــــي الســــــــمــــــاء
تــــــــــــراهم ينــــظــــــــرون إليـــــــــــــــك جـــــهـــــــــــراً وهـــــــــــــــم لا يـــــبصــــــرون مــــــــن العمــــــــــــــــــــاء

شوق
عــــــــــــــــــجبـــــــــــــــــــــتُ مــــــــــــــــنــــــــــــــــــــــك و منـّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا مُــــــــــنــــــــْيـــــــــَةَ المــــــُتـَمَــــنّـِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
أدنـيــتـَنـــــــــــــــي مـــــــــــنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك حــــــــــــتـّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى ظــــــــنـــــــنـــــــــــــــتُ أنـــــــــــّــــــــــــــــك أنـــــّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وغـــــــبــــــــــــــــــــــــــــــــتُ فــــــــــــــــــــــــــــــــــــي الــــــوجـــــــــــــــــــــد حتـّى أفــــــــنـــــــــــيــــتـــــــــنـَـــــــــــــــــــــــــــــــي بــــــــــــــــك عـــنــّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا نعمتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي فـــــــــــــــــــــــــــــــــي حيــاتــــــــــــــــــــــــي و راحـــــــــــتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي بــــــعـــــــــــــــــــــــــــــد دفــــــنــــــــــــــــــــــــــي
مــــــــــــــــــا لـــــــــــــــــــــــــــي بـــــغيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرك أنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــسٌ إذا كــــــنــــــــــــت خــــــوفـــــي وأمنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
يــــــــــــــــــــــا مــــــــــــــــن ريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاض مـــعــــانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه قــــــــــــــــد حّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوت كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل فـــــــــــــــــــــــــــــنِّ
و إن تــــــــــــــمـــــــنــــــــــــــــــيــــــــــــــــــــــــــــْت شــــــــــــــــــــــــــيْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا فــــــــــــــــأنــــــــــــــــــــــــــــــت كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلُّ الــــــــتــــــــمــــــنـّـــــــــــــــــــــــــــــــي

توبة
إلــــــــــــى كـــــــــــــم أنـــــــــت فــــــي بــــــــحــر الخطـــايــــــــا تـــــــــــــبــــــــارز مـــــــــــن يـــــــــــــــــــــــــراك و لا تــــــــــــــــــــــــــــراه
وســـمتـــــــُك سمــــــــــت ذي ورع وديـــــــــــــــــن و فعْـــــــــلــــــــــــــك فــــــــعـــــــــــــل مـــتـّــــــبـــــــــع هــــــــــــــــــــــــــــواه
فـيــــــــــــــا مـــــــــــــن بــــــــــــــات يــــــخلـــــــــو بـــــالمعــاصــــي وعـــــــــــيــــــــــــــن الــــــــلــــــه شـــــــــــــــاهــــــــــــــــــدة تـــــــــــــــــــــــــــراه
أتـــــــــطمــــــــــــــع أن تــــنـــــــــــــــــال الـــــــــــعــفـــــــــو مــــــــمّــــــــــــــــــــــن عصيتَ و أنت لم تطلب رضا
أتـــــــــــفــــــــــرح بـــــــــــــــــالــــــــذنــــــــــــــــوب وبـــــــــــــــــــالخطــــــــايـــــــــــــــا و تــــــــــــــــــنـــســـــــــــــــاه و لا أحـــــــــــــــــــــد ســــــــــــــــــواه
فــــــَتـــــــُبْ قـــــبــــــــل المــــــمـــــــــــــات وقــــــــبــــــــل يـــــــــــــــــــــــــوم يـــــــــــلاقــــي الـــعبـــــد مــــــــا كسـبـــــــت يــــــداه

استغفار
إذا دهـــــــــمَــــتـْـــــــــــــك خـــــــــيــــــــــــــــــول الـــــــــــــبـــــــــعــــــــــــــــــــــاد ونـــــــــــــــــادى الايـــــــــــــــــــــــاس بــــــــقطــــــع الـــــرجـا
فـــخُـــــــذْ فــــــــي شمالــــــك تـــــرس الخضــوع و شـــــــــــــــــُدّ اليمــــــــــــين بســــــــــــيف البكـــــــــــا
و نَــــــــــفْـــسَــــــك نَــــــفْــــــسَـــــــك كُـــــــــــــــــــــنْ خــــــــــــائـــــــفـا علـــــــــــــى حـــــــــــــذر مـــــــــن كـــــــــــميـــن الجــــــــفـا
فـــــــــــــــــــــــإن جـــــــــــــــاء الــهـــجــــــــــــر فـــــــــــي ظـــــــــلــــــــمــــــــة فـــــــســـــِرْ فــــــــــي مـــشــاعــــــــــــــل نــور لصفا
وقــــــــــــُلْ لــــــــلــــحبـــــيــــــــــــــــــــب تــــــــــــــــــــــــــــرى ذلـّــــــــــــــــــــــــــــــــتي فـــــــــــجـــُدْ لــــــــــــــــي بعفـــــــــــــــوك قبـــــل الـــــلـــــــــــقـــــــا
فـــــــــــَوَ الـــــــحُــــــــــبِّ لا تـــــنثنِـــــــــــــــي راجــــــــــــــــــــــــــــــــعـــــــاً عــــــــــــــــــــــــــــــن الحِــــــــــــــبِّ إلّا بِعـــَوْض ِالمــــــــــــــــــنـــا

التجلي
ســــــبـــــــحـــــــــــــــــــــــــــان مــــــــــن اظهـــــــــــــــــــــــــــــــــر ناسوتـُـــــــــه ســــــّــــــــــــــــــــــــــــــــر سنــــــــــــــــــــــا لاهوتِه الثــــــاقـــــــــــب
ثـــــــــــم بــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا في خـــلـقــــــــــــــــــــــــــه ظــــــــاهـــــــــــــــــــــــــــــراً فــــــــــــــــــــــــــــي صـــــورة الآكل و الشــــــــارب
حتــــــــــــــــــــــــــــــّى لــــقــــــــــــــــــــــــــد عَــــــــــــــايـَنَـــــــــــــــــــــــــــهُ خَـــلْقـــــــــــــــــــــــُه كــــــــلحْظِـــــة الحــــــــــــــــــــــــاجب بالحــــــاجـب
كتاب
كتبـــتُ ولـــــــم أكــــــــُتبْ إليـــــك و إنـّمـــــا كتبتُ إلى روحي بغــــير كـــــتــابِ
و ذلـــــــــــك أنّ الـــــــــروح لا فرق بينــــهــــا و بيــــن مُحِبـيِّهــــا بِفَصْلِ خطــــــابِ
و كــــــــلّ كتـــــابٍ صادر منـــــــــك وارد إلـيــــــــك بــــــلا ردّ الجـــــواب جــواب

رأيت ربي
رأَيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتُ ربّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي بــــــــــــعـــــــــــــــــــــــــــين قــــلبـــــــــــــــــــِي فــــــقلـــتُ مـــــــن أنـــــــــــــــــــــــت؟ قال أنــــــــــــــــــــــــت
فــــــــليــــــــــــــــــــــــــس للأيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن مــنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك أيــــــــــــــــــــــن و لـيــــــــــــــــــــــــــــــــس أيــــــــــــــــــن بـــــــحيـــثُ أنــــــــــــــــــــــــــت
و لـــــــيــــــــــس لــــلوهـــــــــــــــــــــــــــــــم مـــنـــــــــــــــــــــــــــــك وهــــــــــــــــــــــمٌ فــــيعـــــــــــــــــــــــــــــــــــلـــــم الــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوهــم أيـــن أنـــــــــــــــــــــــــــــت
أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــت الــــــــــــــــــــــذي حُــــــــــــــــــــــــزْتَ كـــــــــــــل أيـــــــن بــنـــــــــــــــــــــــــــــــحو لا أيـــــــــــــــــــنَ فـــــــــــــــــــــــــــأيـــــنَ أنــــــــــــــــــــــت
فــــــــــفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي بـــــقــــــــائــــــــــــــــــــــــــــــــــي ولا بـــــــــــــقائـــــــــــــــــــــــــــــي و فــــــــــي فــــــنــــــائي وجــــــــــــــــــــــــدت أنــــــــــــــــــــــت
أشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار ســــــــــرِّي إلــــيـــــــــــــــــــــــــــــك حتـــــــــــــــــــــــــــــى فنيـــــــــت عـنـــــــــــــــــي ودمـــــــــــــــــــــــــــــت أنــــــــــــــــــــــــت
أنـــــــــــــــــــــــــــــــت حيـــــــــــــاتي وسِـــــــــــــــــــــــــــــرُ قـــــلبــــــــــــــــــــــــــــــــــــي فــــــحيثـــــمــــــــــــــــــــــــــــا كنــــــــــت كنـــــت أنــــــــــــــــــــــــــت
أحــطــــــــــــــــــــــــــت علمــــــــــــــا بكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــل شــــــــــــــــــــــــيء فــكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيء أراه أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
فـــمُــــــــــــــــــــــن بــــــــــــــالعفـــــــــــــــــــــــــــــــــو يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا إلـــــــــــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي فــــــليــــــــــــــــــــــــــــــــــس أرجــــــــو سواك أنــــــــــــــــــــــــــت

قريب بعيد
لـــــــــــــي حبيــــــــــــــــــــبٌ أزور فــــــــي الخـــــــــلـــــــــوات حــــــــاضر غائـــــــب عــــــن اللحــــــظــــات
مـــــــــــــــــــــــــــا تـــــــــــــــراني أصغــــــي إليه بسمــــــــــعــي كـــــي أعي مـــا يقــــول من كلمــات؟
كـــــلمــــــــــات مــــــــــــــــــن غــــــيـــــر شكـــــــــــل ولا نُـــــــقـ طٍ و لا مــــــــثـــــل نــــــــــغمــــــة الأصــــــــــــوات
فــــــــــكــــــــــــــأنّـــــــــي مــــــــــــــخاطــــــــــــــــب كنــــــت إيــــــــــــــــــــــــًّا ي علــــــــى خاطري بـــذاتي لــذاتــــــي
ظـــــــــــــــــــــــاهـــــــرٌ بـــــــاطــــــــــــــــنٌ قـــــــريـــــــــــــــــــب بــــــــــــعيـــــــــــــــــــــدٌ وهـــــــــو لـــــــــــم تحـــــــــوه رســــوم الصفـــــات
هــــــــــــــــو أدنـــــــــــــى مـــــــــن الضميــــر إلـــى الــوهـــــ ــــم ِو أخفى مـــــــن لائـــــــح الخطـــــــرات

سر السرائر
ســــــــــــــــرّ الســـــرائــــــــــــــــر مَطْـــــــــوِيٌّ بـــــــــــــــِاثـــــْبــــــــــــــــَات مـــــــن جـــــانب الأُفْق ِمن نور بـِطيَّات
فـــكيف والكــــيف معـــــــروف بظـــاهــره فـــــــالغيــــــب بـــــــاطنــــــه لـلذاتِ بـــالـــذات
تـــــَـــــــــــــاهَ الخــــــلائــــــــــــــقُ فــــي عميـــــاءَ مظـــــلمـــــة قصــــــــــــــــــــــدا و لـــــــــــــــــم يــــــــــــعرفـــــــــــــــــوا غيــــــــــــــــــــــر

الإشارات
بـــــــــالظنّ و الوهم نحـــــو الحقّ مطلبهــــم نــــــــحــــوَ الهــواء يناجون السمــاوات
و الــــــربّ بيـــنهــــــم فــــــــــي كـــــــــــــــــــــل منقـــــلـــــــــــــب مُحـــِلَّ حالاتهــــــم في كـــل ساعــات
و ما خلوا منه طرف عين لو علمـوا و مـــــــــــــــــا خــــــــلا منهــــم فــــــي كـــــــل أوقــــــــــات

الشاعر القروي

رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)

شاعر الثورة السورية الكبرى

كان مجاهداً بالشعر اللاذع ضد الانتداب الفرنسي
وخلّد بقصائده الرائعة ملامح الموحدين الدروز

عاف التجارة والمال وكرّس حياته وشعره
لاستنهاض العرب للوحدة وقتال المستعمر

إعتبر نفسه مسيحياً ومسلماً وأوصى
بالصلاة على جثمانه من شيخ وكاهن

منع الفرنسيون قصائده فتداولها الناس سراً
وحرموه من جنسيته ومن حق العودة إلى الوطن

يعتبر رشيد سليم الخوري اللبناني المولد الشاعر الأول للقضية العربية وقد منحها كل حياته جهاداً وأدباً وشعراً سواء في وطنه سوريا ولبنان أم في المهجر البرازيلي،وقد كتب القروي بصورة خاصة في حب الأوطان وحب الأرض وأنشد الطبيعة وسحرها كما عبّر عن مواجده وحياته الصعبة وحنينه للوطن في أعذب شعر وأكثر القصائد استثارة للمشاعر ، لكن أكثر ما جعل اسم الشاعر القروي يطير في الآفاق ويصبح رمزاً لمرحلة بكاملها كان ولا شك شعره الوطني المناهض للإستعمار الفرنسي والداعي للوحدة العربية. وبسبب كرهه للإستعمار تلقف الشاعر أحداث الثورة السورية الكبرى في العام 1925 باعتزاز وحماس منقطع النظير، ورغم اغترابه في البرازيل فقد تمكن القروي دوماً من أن يلتقط مغازي تلك الثورة الرائدة ولحظاتها المصيرية وأن يعيش انتصاراتها وآلامها وأن يخلدها في قصائد هي غاية في البلاغة والقوة والحرارة حتى اعتبر رشيد سليم الخوري بحق شاعر الثورة السورية بلا منازع وراعيها وسندها وداعيتها في الوطن والمغتربات.
رغم دوره الكبير في تخليد الثورة السورية الكبرى وفي الكفاح الوطني ضد المستعمر الفرنسي، فإن أجيالاً بكاملها من الشباب اللبنانيين ربما لم يقرأوا عن الشاعر القروي ربما بسبب إهماله المقصود من البرامج المدرسية ولم يطلعوا بالتالي على قصائده الرائعة خصوصاً تلك التي سطّر فيها أعظم المدائح في المقاتلين الدروز الأبطال وفي قائدهم سلطان باشا الأطرش، وقد كتب القروي بحماس وإعجاب ومحبة عن الموحدين الدروز وأكبر تضحياتهم وكتب بدهشة واعتزاز عن بسالتهم واحتقارهم للموت وإنجازاتهم العظيمة في وجه فرنسا التي كانت ثاني أكبر قوة عظمى في العالم آنذاك. لذلك، ومن أجل سدّ هذا النقص تعرض مجلة «الضحى» في ما يلي سيرة موجزة للشاعر الكبير رشيد سليم الخوري وسنعرض بعدها لأهم القصائد التي نظّمها في الثورة السورية وأبطالها وقائدها سلطان.

سيرة نضالية حافلة
ولد رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) عام 1887 في قرية البربارة الواقعة بالقرب من مدينة جبيل التاريخية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في لبنان، وتلقى تعليمه في بيروت وطرابلس وزحلة وسوق الغرب، واشتغل بعدها في التدريس مدة سبع سنوات. عاش الشاعر الشاب أواخر القرن التاسع عشر ونظم الشعر وهو شاب، وبسبب ذلك كان من بين الألقاب التي أطلقت عليه لقب «شاعر القرنين»، لكن الشاعر القروي عاش في تلك الفترة الظروف الاقتصادية الصعبة في البلاد، وكانت حركة الهجرة إلى الأميركيتين قد تسارعت فكانت البواخر ترسو في ميناء بيروت لتنقل المهاجرين من فقراء لبنان وسورية إلى المغتربات في القارات البعيدة، ويبدو أن الشاعر اعتبر أن لا مستقبل له في وطنه فقرر الهجرة إلى البرازيل.
وفي ديوانه الشعري الكبير يصف الشاعر القروي تلك الفترة من حياته فيقول إنه أبحر برفقة أخيه قيصر (سمي في ما بعد «الشاعر المدني» في معارضة لتسمية أخيه)عام 1913 متجهاً إلى البرازيل، وذلك بعد تلقيه دعوة من عمه «اسكندر» القبطان في الجيش البرازيلي مرفق معها المال اللازم للرحلة وكان ذلك قبل سنة من اندلاع الحرب العالمية الأولى وما ستجره من مآس ومجاعات على شعب لبنان.
وصل رشيد سليم الخوري البرازيل سنة 1913 وبدأ كغيره من المهاجرين في تجارة «الكشّة» وهي صندوق يحوي بضائع مختلفة لأغراض المنازل وحاول التجارة في ريو دي جانيرو ثم انتقل إلى ساو باولو لكن التوفيق لم يحالفه فتنقل عندها بين مهن مختلفة منها التعليم في المدارس وفي البيوت ثم في تمثيل بعض المحلات والصناعات في الولايات المتحدة، لكن حياته بقيت عموماً حياة ضنك وعيش كفاف.
وقد يكون أحد أسباب فشل القروي في التجارة أنه شاعر مبدع ومثقف حساس ومتحمس جداً للقضية العربية، فكان لا يترك مناسبة أو تجمعاً للمغتربين دون أن ينبري مستخدماً شعره القوي في الدفاع عن القضية العربية. أخيراً استقر المقام به في مدينة «صنبول» التي كانت مركزاً للثقافة المهجرية في البرازيل، وقد صدرت فيها صحف عربية وأنشئت أندية وأقيمت الحفلات الخيرية والوطنية ومما لا شك فيه أن الشاعر القروي انشغل عن التجارة وجمع المال باعتلاء المنابر للدفاع عن القضية العربية وإلقاء القصائد وجمع التبرعات للمجاهدين في الوطن نتيجة تعلقه الشديد بالعروبة وكرهه للانتداب الفرنسي.
إتهمه بعض المغتربين اللبنانيين بالتنكر لوطنه بسبب ميوله العربية، وعندما اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش سنة 1925 وبدأت أنباء انتصارات المقاتلين الدروز تصل إلى المهاجر التهبت حماسة الشاعر القروي الذي نظم أجمل قصائده في مدحها ومدح أبطالها وفي هجاء المستعمر الفرنسي. وقد كان لشعره المتفجر كرامة وكرهاً للمستعمر أثر هائل بحيث أخاف سلطة الانتداب وكانت قصائده النارية تقرأ في السر ويتم تداولها نسخاً بين الناس في ظل الحكم الفرنسي لأن العثور على شعر القروي في يد أي مواطن لبناني أو سوري كان يعتبر جريمة عقوبتها السجن.
أخيراً وبعد أن تعاظمت شهرة الشاعر القروي وتأثيره قررت السلطة المنتدبة ربما بتحريض من بعض الجهات المحلية حرمانه من الجنسية السورية واللبنانية ومن الحق في العودة إلى وطنه، وقد سقطت تلك العقوبة مع استقلال سورية في العام 1943 لكن الشاعر القروي بقي في المهجر متابعاً نشاطه الثقافي في «العصبة الأندلسية» وإنتاجه الشعري إلى أن تحققت الوحدة بين مصر وسوريا في ظل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكان لذلك الحدث وقع كبير على الشاعر الذي شهد حلمه بالوحدة العربية يتحقق بين اثنتين من أكبر دول العالم العربي فقرر لذلك العودة إلى سورية ليعيش مرحلة الوحدة ويشارك فيها وكان عندها قد تجاوز السبعين من عمره، وتحققت للقروي أيضاً فرصة اللقاء بسلطان باشا الأطرش البطل العربي الذي طالما نظم القصائد الحماسية في مدحه ومدح رجاله المجاهدين من بني معروف.
عاد القروي الى وطنه بعد خمس وأربعين سنة في يوليو 1958 وأقام في قريته البربارة، ثم عاد أخيراً الى البرازيل وبقي يتردد بين المهجر وبلده لبنان الذي أحبه إلى أن توفاه الله عام 1984 عن عمر قارب
الـ 97 عاماً.
أصدر القروي سبعة دواوين شعرية منها الرشيديات والقرويات والأعاصير واللاميات الثلاث. ثم جمع شعره كله في ديوان كبير سماه «ديوان القروي» ظهر عام 1952م في 926 صفحة من القطع الكبير. وله كتاب بإسم «أدب اللامبالاة» أدب الشماتة والعقوق بـ 32 صفحة من الحجم الصغير، طبعه في سان باولو عام 1957.

الشاعر القروي
الشاعر القروي

وصيته الفريدة
تعتبر الوصية التي اختتم بها الشاعر القروي حياته الحافلة من أبرز الآثار التي تركها وعكست رؤيته الإنسانية الجامعة وتعريفه لنفسه باعتباره ليس مسيحياً فقط بل مسيحياً ومؤمناً بالإسلام وكان هذا في نظر الكثيرين موقف غير مسبوق خصوصاً في لبنان المنقسم طائفياً.
ومما جاء في وصية الشاعر القروي أنه طلب فيها أن يصلي على جثمانه شيخ وكاهن، وأن تقتصر مراسم الجنازة على تلاوة فاتحة القرآن الكريم والصلاة المسيحية، كما طلب أن ينصب على قبره شاهد خشبي متين في رأسه صليب وهلال متعانقان كرمز لتآخي الديانتين الإسلامية والمسيحية في المشرق العربي وعلى سبيل التأكيد من قبل الشاعر على أن المسيحية والإسلام في نظره كلاهما دين سماوي يدعو إلى رب واحد وإلى قيم الإيمان والمحبة والمعروف وأنه لا يجوز أبداً الفصل بينهما بالفرقة والتناحر.

آثار القصف الفرنسي للأحياء الشرقية القديمة في دمشق
آثار القصف الفرنسي للأحياء الشرقية القديمة في دمشق

الشاعر الناسك
اشتهر عن الشاعر القروي أنه رفض حب امرأة انكليزية تدعى مود وأجابها في بيت شعر جاء فيه:
«حــــرام علي هـــــــواك
وفي وطني صيحة للجهاد!
وقد أعجبه نضال المهاتما غاندي في الهند ودعوته إلى مقاطعة البضائع الانكليزية فقرر أن يحرّم على نفسه لبس الجوخ الانكليزي بعد أن غدرت بريطانيا بالعرب.
ورفض شراء منزل له في البرازيل وقال: إن أمنيتي بعد هذه السن التي بلغتها هي قبر في وطني لا مقر في غربتي.
وعندما اشتدت حاجته إلى المال باع أعز ما يملك: عوده وكتبه. واعتذر عن قبول حـوالة مالية بقيمة 200 جنيه مصري من الشيخ الباقـــوري، وزير الأوقاف المصري، ثم طبع كراساً يحتوي على ثلاث قصائد هي اللاميات الثلاث ورصد ريعها لنصرة فلسطين.

قصائد في مدح الثورة السورية وأبطالها

قضية أدهم خنجر
خرقت السلطة الفرنسية أهم الأعراف العربية في إجارة الملهوف واعتقلوا أدهم خنجر وهو ثائر لبناني جنوبي كان الفرنسيون يلاحقونه لاشتراكه في محاولة قتل الجنرال غورو. كان هذا الثائر قد أتى مستجيراً بسلطان في بلدته القريا عام 1922، وقبل أن يصل إلى دارة سلطان عرفه في شارع البلدة أحد الجنود اللبنانيين في القريا الذين كانوا مكلفين بمراقبة تحرّكات سلطان، وكان الأخير يومها غائباً عن القريّا في زيارة لقرية أم الرمان عند أحد رفاق جهاده حمد البربور.
تم اعتقال أدهم خنجر في غياب سلطان عن داره، ونقله الفرنسيون سريعاً إلى السويداء، ولما عاد سلطان إلى القريا وعلم بالأمر هبّ مع نفر من رجاله وزحفوا على السويداء لإنقاذ الضيف، ضيفه، ومما جاء في ديوان القروي ص 308، في وصف موقف سلطان من ذلك الحدث، أن الصحف الغربية وصفت بإعجاب عظيم زحف سلطان الأطرش برجاله إلى السويداء لإنقاذ الأسير الذي قبضت عليه السلطة الفرنسية خارقة حرمة الضيافة العربية المشهورة، وإلتقاء البطل العربي ( سلطان ) والتنك ( الدبابة) وهجومه عليها تحت وابل الرصاص وتعطيلها بعد قتل قبطانها ومعاونه بحد السيف. وهنا قصيدة الشاعر القروي حول تلك الحادثة»

تنفيذ جكم الإعدام بعدد من مجاهدي الثورة في ساحة المرجة في دمشق سنة 1926
تنفيذ جكم الإعدام بعدد من مجاهدي الثورة في ساحة المرجة في دمشق سنة 1926

سلطان والانتصار لأدهم خنجر
خففت لنجدة العــــــــاني سريعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا غضــــــــوبـــــــــــــــاً لـــــــــــــــو رآك الليـــــــــــــــث ريعــــــــــــــــــــا
وحولك من بني معروف جمــــــــــــــــــــــــــــــــعٌ بهـــــــــــــــم ــ وبدونهـــــــــــــــم ــ تفني الجموعــــــــــــــــــا
كأنـــــــــــك قـــائدٌ منــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم هضــــــــابـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً تَبِعْـــــــــــــــنَ إلـــــــــــــــى الـــــــــــــــوغى جبلاً منيعـــــــــــا
تَخِذتَهمـــــــــــو لــــــــــــــــدى الجُلّى سيوفــــــــــــــــــــــــــــــــا لهـــــــــــــــا لعـــــــــــــــنَ الـــفرنســـــــــــــــــيّ الـــــــــــــــدروعـــــــــــــــــــــا
وأيُّ دريئــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ تَعصــــــــــــــــــــــــــى حُسامــــــــاً تـــــــــــــــعـــــــــــــــوّدَ فـــــــــــــــي يمينــــــــــــــــــــكَ أن يطيعــــــــــــــــــــــــا
ألم يلبــــــــــــــــــــــــــس عــــــــــــــــِداك التنــكَ درعــــــــاً فَسَلْهـــــــــــــــم هـــــــــــــــل وقى لهـــــــــــــــمُ ضلوعــــــــــــــا
أغرت عليه تلقـــــــــــــــــى النـــــــــــــــــــارَ بــــــــــــــــــــــــرداً ويـــــــــــــــرميهـــــــــــــــــــا الـــــــــــــــذي يرمـــــــــــــــي هَلوعــــــــــــــا
فطاشت عنك جازعــــــــةً ولو لــــــــــــــــــــم تهـــــــــــــــشّ لهـــــــــــــــا لحاولـــــــــــــــــــت الـــــــــرجــوعـــــــــــــــا
ومُذْ هطَلَ الرصاص عليكَ سحّاً كـــــــــــــــوسمِـــــــــــــــيٍّ جليــــــــــــــــــتَ بــــــــــــــــــــــه ربيعــــــــــــــــــــــا
زعقتَ بمثل فرخِ النسر طِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرفٍ يُجَـــــــــــــــنّ إذا رأى سهــــــــــــــــــــلاً وسيعـــــــــــــــــــــــــــــــا
يحنّ إلـــــــــــى الوغـــــــــــــــــــــــــــــــــــى تحنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانَ أمٍّ بحضـــــــــــــــن غريبـــــــــــــــةٍ تركــــــــت رضيعـــــــــــــــا
فطــــــــــــــــار لهـــــــــــا كأنّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك مستـــــقـــــــــــــــــــــــــــلّ جوانـــــــــــــــحَ شاعـــــــــــــــرٍ ذكـــــــــــــــر الربوعــــــــــــــــــــــــــــا
ولما صرت من مُهَــــــــــــــــــــــــجِ الأعــــــــــــــــــــــــادي بحيـــــــــــــــث تذيـــــــــــــــقهـــــا السّـــــــــــــــمَ النقيعـــــــــــــــــــــــا
وثبتَ إلى سنــــــــــــــــــــــــــــــــام التنك وثبــــــــــــــــــــــــــــاً عجيبــــــــــــــــــاً علّـــــــــــــــمَ النســـــــــــــــر الوقوعــــــــــــــــــــــــا
وكهربت البطاحَ بحــــــــــــــــــــــــدّ عَضــــــــــــــــْب بهرتَ بــه العـــــــــــــــدى فهَـــــــــــــــوَوْا ركوعـــــــــــــــا
كــــــــأنّ به إلى الأفرنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك جوعــــــــــــــــــــــــــــاً وسيفُكَ مثلُ ضيفكَ لــــــن يجوعـــــــــــــــا
تكفّــــــــــــــــــــــــــــــــــل للثرى بــــــــــــــــالخصــــــــــــــــــــــــــــب لمّـــــــــــا هفـــــــــــــــا برقــــــــــــــــــاً فــــــــــــأمـــــــــــــــطرهـــــــــــــــم نجيعــــــــــــــــــــا
وفجّــــــر للدمــــــــــــــــــــــاء بهـــــــــــــــــــــــــــــــم عيونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً تجـــــــــــــــاري مـــــــــــــــن عيونهـــــــــــــــمُ الــــدموعــــــــــــــــــا
فخرّ الجند فوق التنــــــــــــــــــــــــك صرعى وخـــــــــــــــرّ التنـــــــــــــــكُ تحتهمــــــــو صريعـــــــــــــــــــــــــــــــــــا
فيالكِ غـــــارةٌ لـــــــــــــــو لـــــــــــــــــــــــــــــــــــــم تذعهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أعـــــــــــــــاديـــــــــــــــنـــــــــــــــــا لكـــــــــــــــذّبنــــــــــــــــــــا المذيـــــــعـــــــــــــــــــــــــــــــــا
ويا لكَ « أطرشــــاً» لمّا دُعينــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لثــــــــــــــــــــــأرٍ كـــــــــــــــانَ أسمعنــــــا جميعــــــــــــــــــا!!

هذا العنفوان الشعري لدى القروي هو انطباع لتلك البطولات التي سطّرها بنو معروف في جهادهم عام 1925م، من أجل الاستقلال في سوريا ولبنان، تلك الحقيقة التاريخية التي يشهد بها الدكتور عمر فروخ، وتلك المعارك التي ألهمت الشاعر القروي قصيدته المشهورة بعنوان«الاستقلال حق لاهبة» ومما جاء فيها:

إن ضاع حقّك لم يضع حقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــّان لـــــــــــــــك في نجاد السيف حقٌّ ثـــــــــــــــــانِ
ما مات حقّ فتىً له زَندٌ، لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه كـــــــــــــــفٌّ لهــــــــــــــــــا سيــــــــــــــــــفٌ لـــــــــــــــه حـــــــــــــــــــــدّان
فابعث سيوف الهند من أغمادها تبعث بهـــــــــــــــا الموتـــــــــــــــى مـــــــــن الأكفــــــــــــــان
مازال هذا العلـــــج يحسب أننــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بـــــــــــــــقـــــــــــــــــــرٌ تُـــــــــــــــدِرّ عـــــــــــــــليـــــــــــــــــــــــه بـــــــــــــــالألبـــــــــــــــــــــان
حتى استفاق على الزئير وجلدُهُ كالطِّمـــــــــــــــرِ تحت مخالـــــــــــــــب المُـــــــــــــــرّان
من قمح حورانَ أراد وليمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً فأتــــــــــاه ســــمُّ المـــــــــــــــــوت مـــــــــــــــن حـــــــــــــــوران
صاح: المروءة يافرنجُ» فليس لــــــــــــــي فـــــــــــــــي صـــــــــدّ غـــــــــارات الــــدروز يـدان
عهدي بهم في السلم حملانـــاً فَوا رُعبـــــــــــــــاهُ بـــــعدهمـــــــــــــــو مـــــــــــــــن الحُمــــــــــــــــــلان
لِله منظـرُهم إذا هزجـــــوا وقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد هـــــــــــــــزّوا الـــــــــــــــرمـــــاح لـــــــــــــــغارةٍ وطـــــــــــــــعـــــــــــــــــانِ
يلقَوْنَ« مِتْرَليوزَنا» بصدورهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ويكـــــــــــــــافحون «التنكَ» بــــــالأبــــــــــــــــــدانِ
متهافتين على الردى وشعارهـــــــــــــــــــــــم اليــــومَ أفضــــــــلُ مـــــــــــــــن غَـــــــــــــــدٍ يـــــــــــــــا فـــــــــــــــــانِ
ونساؤهم لو تشهدون نســــاءَهــــــــــــــــــــــم في الحرب حاملةً على الشجعـانِ
كالمـــــــاءِ أعذبُ ما يكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون وإنّهُ لَأشدُّ مـــــــــــــــا يسطو علـــــــــــــــى النيــــــــــــــــــرانِ
ينفخنَ في أشبالهـــــنّ حماســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً تَثِــــــــبُ الصـــــــــــدورُ لهـــــــــــا مـــــــــــن الغليــــــــــــان
فكأنّهم لبَســوا بهـــــــــــــــنّ جوانحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً طـــــــــــاروا بهـــــــــــا للحـــــــــــــــربِ كــــالعُقــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ

ولكن القروي وقد ذكر بطولات بني معروف الموحّدين فهو لن ينسى أن يشيد بقائدهم الذي يتركه للقارئ لُغزاً يفاجئنا به فيبوح بسرّ اسمه في آخر القصيدة حيث يقول:

ولئن نسيتُ فلستُ أنسى بينهــــــــــــــم رجلَ الرجـــــــــــــــــالِ وفارسَ الفرســــــــــــــــان
وحُلاحلَ الحربِ الذي يغشى الوغى ووراءَهُ نَـــــــــــــــفَـــــــــــــــــــرٌ مـــــــــــــــن الـــــــــــــــفتيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ
فكأنّهـــــم منـــــه مكـــــــــــــــانَ قنــــــاتِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وكـــــــــــــــأنـــــــــــــــه منهــــــــــــــــــــم مكـــــــــــــــانُ سِنـــــــــــــــــــــــــــــــــان
يرمي بهم قلب الوطيس كأنهـــــــــــــــــــــــــــــــــم حِمَمُ الحمـــــــام قُــــــــذفـــــــــــــــنَ مـــــــن بُركــــــــــــــــــانِ
يُفني الرّجالَ بأحدَبٍ ومُقَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوّمٍ ضدّيـــــــــــــــن فـــــــــــــــي اللبـــــــــــــــاتِ يـــــــــــــــلتقيـــــــــــــــــــــــــان
ويكادُ يفترسُ العدوَّ جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوادُه فكــــــــــأنّـــــــــــــــهُ أسَـــــــــــــــدٌ علـــــــــــــــى ســـــــــرحـــــــــــــــان

قد كُفيتُ به سؤالَ النـــــــــــــــــــــــــــــــــاسِ من تعني وهل أعني سوى سلطان؟!!

ويعتب الشاعر القروي على لبنان ويهيب باللبنانيين أن يثوروا وهو يرى الجواب الشافي للاحتلال الفرنسي في تلك الثورة السورية الكبرى. يقول القروي:

لبنانُ يا لبنانُ بل ما ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرّنــــــي لـــــــــــــــو قلـــتُ يـــــــــــــــا بلـــــداً بـــــــــــــــلا ســـــــكـــــــــــــــانِ
خفَضَتْ جبالك شامخاتِ رؤوسها بــــــــــــــالعارِ واندكّـــــــــــــــت إلـــــــــــــــى الأركـــــــــــــــــــانِ
تشكــــــــــــــــــــــو من الأديانِ تتّهمُ السّــــوي ولَأنـــــــــــــــتَ أنـــــــــــــــتَ الـــــــــــــــعبـــــــــــــــدُ للأديـــــــــــــــــــــــانِ
إن كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان للدين الدروز تعصّبـــوا أرِنــــــــــــا التعصّـــــــــــــــبَ أنـــــــــــــــتَ للأوطـــــــــــــــــــان
حورانُ هبّ إلى الحسام كأنّمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا هو وحدَهُ العــــاني وأنــــــــتَ الـــــــهاني؟
أين التراثُ تراثُ أبطال الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــى أيـــــــــــــن البقيّــــــــــــــــةُ مـــــــــــــن بنـــــــــــــي غسّـــــــــــــانِ؟

الملك-فيصل-الأول-عند-إعلان-الحكومة-العربية-في-سورية
الملك-فيصل-الأول-عند-إعلان-الحكومة-العربية-في-سورية

بطل الصحراء
بطــــــــــــلَ الشـــــامِ عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودةً لبــــــــــــــــــــــــــــلادِكْ تَصلــــــــــــحُ الشــــــــــــامُ مَوْطِنــــــــــــاً لمــــــــــــعــــــــــــــــــــــادِك
عُطّلَت ساحَةُ الجهادِ من الآسادِ لمـــــــــــــــــــــّا انــــــــــــــــــــــزويــــــــــــــــــــــــتَ مــــــــــــــــــــــــع آســـــــــــــــــــــــــــــــادِكْ
وجلا العزّ عن رُبى جنّةِ الخُلـــــــــــــــــــــــــــدِ فــــــــــــآبــــــــــــت صحــــــــــــراء بعــــــــــــد بِـــــــــــــعــــــــــــــــادِك

بلبل الشعر خلّ عنك الخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالا تتمنّــــــــــــــــــــــــى عــــــــــــلــــــــــــى الــــــــــــزمــــــــــــان المحــــــــــــــــالا
أيَّ نصــــــــــــرٍ ترجـــــــــــــوهُ أيَّ فَخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارٍ لبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلادٍ تــــــــــــــــــــــــــــــــــــجــــــــــــــــــــوِّعُ الأبطـــــــــــــــــــــــــــــــــــالا
أوَ لــــــــــــم نبــــــــــــذلِ النفـــــوس فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداءً عــــــــــــن لئــــــــــــامٍ لا يبــــــــــــذلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون المــــــالا؟

صارِعِ التّنْكَ، سَرِّ عنكَ فخَلفَ البحرِ جُنْدٌ للحــــــــقِّ مــــــــــــن أجنـــــــــــــــادِكْ
لا يَضِركَ العُبدانُ ما دمتَ حُــــــــــــــــــــــرّاً قــد جعلْــــــــــــتَ الأحرارَ مــــــــــــن عُبّــادِك
قد أردتَ استقلالَ شعبِكَ لكــــــــــــــنَّ مُــــــــــــــــــــــــرادَ الأيّــــــــــــــــــــــــــــــــامِ غــــــــــــيـــــــــــــــــــــرُ مُــــــــــــــــــــــــــرادِكْ
أيُّهـــــــــــــــــــــا المُبعَــــــــــــدُ المُـــــــــــــــــــزَوّدُ عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــِـــــــــــــــزّاً أيــــــــــــن للمتـــــــــــــــرَفــــــــــــينَ فضــــلَــــــــــــــــــــــــــــــــــةُ زادِك؟
يــــــــا شريداً عن البـــــلادِ طريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداً أنــــــــــــــت فــــــــــــي كــــــــــــلّ معبــدٍ مــــــــــــن بــلادك
كـلّ مافي أقلامنا من مضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاءٍ مستــمــــــــــــدٌّ مــــــــــــن مرهَفــــــــــــــاتِ حِــــــدادك
كلّ سبقٍ في شعرِنا وانتصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارٌ هــــــــــــو مــــــــــــن ملهمـــــــــــــات خيــــــــــــلِ طرادكْ
كل ما في صدورنا من لهيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبٍ هــــــــــــو إضـــــــــــــــرامُ وَرْيُــــــــــــهُ مــــــــــــن زنــــــــــــــــــــــــادِك
كلُّ مـــــــــا في هُتافِنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من دَوِيٍّ هــــــــــــو تــــــــــــرجيـــــــــــــــعُ نبضـــةٍ مــــــــــــن فــــــــــــؤادِك
كلُّ مــــــــــــــــــــــــا في آثارنا من خلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودٍ هــــــــــــو تــــــــــــاريــــــــــــخُ ساعةٍ مــــــــــــن جــهـــادك
كــلُّ أمجادنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بناتُــــــــــــكَ يــــــــــــــــــــــــــــــــــا من قــــــــــــد أضفــــــــــــتَ المنفـى إلى أمجادِك
أيّهــــــــــــا المُنجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدُ المحاويــــــــــــجَ عارٌ أن نُصِــــــــــــمَّ الأسمــــــــــــاعَ عــــــــــــن إنجــــــــــادك
لو فرشنـــــــــــا لك الجفونَ مهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاداً وجعلنــــــــــــا الأهـدابَ حشوَ وِسادِك
ما جزيناكَ ساعةً مــــن ليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالٍ بِــــــــــــتَّ عنّــــــــــــا علــــــــــــى حِــــرابِ سُهـــادِك
كلُّ حُرٍّ فداكَ يا فاديَ الشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامِ وأولادُه فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدى أولادك

لمن المآدب
(عندما يصبح الخبز أغلى من الذهب)
لم ينس سلطان باشا الأطرش جميل الشاعر القروي، ولا جميل أولئك الوطنيين الغيورين الذين ساندوا الثوار في المنفى، وقد جاء في كتاب«أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش 1925 ــ 1927 (ص312»)، مايلي:«غير أن إخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسوا أثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرّت بنا، بل كانوا يتحمّلون المشاق في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا ( أي الخيام التي كان الثوّار يأوون إليها)، بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا … ولكن مع اهتمامهم الشديد بنا، وزيارة العديد منهم لنا، فقد كان شبح المجاعة يطل علينا بين حين وآخر، فنضطر إلى التهام أوراق النبات ريثما تصل الإعاشة إلينا من عمان وبعض المدن الأخرى. وفيما كنا نواجه أمثال هذه الأزمة الحادة، وإذا بالسادة: شكري القوّتلي والحاج عثمان الشرباتي والحاج أديب خير وعادل العظمة يصلون إلى منازلنا ويقدّمون إلينا الإعانات المجموعة بإسم الثورة «صُرّة» من الليرات الذهبية. فلم يتمالك الأمير عادل أرسلان نفسه من الانفعال، فتناول قبضة منها ونثرها أمامهم، وخاطبهم بحدّة قائلاً:
« إن هذا الذهب كلّه لايساوي رغيفاً واحداً ينقذ حياة الذين يتضوّرون جوعاً منذ أيام، وخصوصاً النسوة المرضعات والأطفال، أرجعوه معكم لأننا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء! ».

شاعر الثورة يلبّي النداء
في عام 1934 أقامت الجالية العربية في مدينة بيونس ايرس عاصمة الأرجنتين مأدبة سخية له ولرفيقه الياس فرحات، واغتنم الشاعر الفرصة لإلقاء قصيدة حماسية استنفر بها مشاعر المدعوّين لمساعدة أطفال الثوار الجياع والعطاشى في منافي نجد من أرض المملكة العربية السعودية، بعيداً عن أوطانهم. ولما انتهى من القصيدة ألقى بريال على المائدة وأتبعه رفيقه فرحات بمثله فهطلت الأوراق المالية من كل صوب واجتمع للمنكوبين مبلغ غير زهيد.
يقول القروي في تلك القصيدة التي حملت عنوان:

لمن المآدب
لِمَنِ المآدبُ حولها الأضيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافُ وعـــلامَ هــــــــــــذا البــــــــــــذلُ والإســــــــــــــــــــــــرافُ
وَمَنِ الملوكُ الفاتحون بأرضـــــــــــــــــــــــــــــــــكم يُسعــــــــــــى عليهــــــــــــم بــــــــــــالطّلا ويُطـــــــــــــــــــافُ
يا عُصبَةً الخُلُقِ الكريمِ وإنّهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لَشهــــــــــــادَةٌ يقضــــــــــــي بــــــــــــهــــــــــــا الإنصــــــــــــــافُ
عبَثاً تحاول كفَّ كفّكَ عن نـــــــــــــدىً إنّ الــــــــــــكـــــــــــــــريمَ مُبَــــــــــــــــــــــــذّرٌ مِـــــــــــــتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلافُ
القانعيــــــن مــــــــــــن الحيــــــــــــــاة ببُلغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــَةٍ هذي الجفــــــــــــانُ تحفُّهــــــــــــــــــــــــنَّ صِحــــــــــــافُ
ألطائـــــرَينِ غِناهمـــا بغِناهمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تــــــــــــلقــــــــــــى فــــــــــــراخٌ حــــــــــــتفُهــــــــــــا وخِـــــــــــــــرافُ
خَلُّوا المطـــاعِمَ للذينَ قلوبــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ورؤوسهــــــــــــم ونــــــــــــفوسهــــــــــــم أجـــــــــــــــوافُ
واللهِ ما ظفــــِرَتْ يدايَ بلقمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ إلاّ عــــــــــــــــرانــــــــــــيَ خاطــــــــــــرٌ رجّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافُ
وتمثّلت لي في المضارب صِبيَـــــــــــــةٌ خُمــــــــــــصُ البطــــــــــــونِ كــــــــــــأنّهــــــــــــم أطيــافُ
لهمُ الصّحارى والمجاعَةُ والصّدى ولنـــــــا النــــــــــــدى والخمــــــــــــرُ والأريــــــــــــــــــــــــافُ
أشبالُ من نثرَ الكتائبَ سيفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــُــهُ السباســــــــــــبَ رُمحُــــــــــــه الــــــــــــرّعّــــــــــــــــــــــــــــــافُ
أنجــالُ من كانت تروحُ وتغتــــــــــــــــــــــــــــــدي كالنمــلِ حــــــــــــولَ خِوانــــــــــــه الأضيــــــــــــافُ
أطفال سلطانٍ تجوعُ وطالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمــــــا شبعــــــــــــــــت بفضــــــــــــل فطــــــــــــــــــــورهِ الآلافُ
حَلِفٌ عليـــــكم لا يذاقُ طعامُكـــــــــم والحــــــــــــــــــــــــرُّ لــــــــــــم تُنقَـــــض لــــــــــــهُ أحـــــــــــــــــــــلافُ
وَقْـــــــــفٌ لأبطالِ الجهـــــــــادِ عشاؤكــــــــــــــــــم وأعيــــــــــــذكـــــم أن تؤكــــــــــــــــــــــــلَ الأوقـــــــــــــــــــــــافُ
نِعـــــــــمَ الزكـــــــــاة عــــــــــــــــــن الرفــــــــــــــــــاهِ ضـــــــــريبةٌ ليسَت تُحِــــــــــــسُّ بحملــهــــــــــــا الأكتــــــــــــــافُ
سلمانُ قم وافتحْ جرابَكَ للنّــــــــــــــدى فــــــــــــعلــــى يــــــــــــــــديــــــــــــكَ يُقَــــــــــــدَّمُ الإسعـــــــــــــــــافُ

في عيد الفطر
اغتنم الشاعر القروي بعد ذلك مناسبة مأدبة أقيمت احتفاء بعيد الفطر فذكّر الصائمين رمضان بصيام الزعيم الوطني الهندي، غاندي؛ ذلك الصيام الإحتجاجي الذي مارسه معترضاً على احتلال البريطانيين لبلاده، فأخاف الإنكليز، يقول القروي في قصيدته المعنونة بـ

عيد الفطر
صياماً إلى أن يفطرَ السيفُ بالدّمِ وصبراً إلى أن يصدح الحقّ يافمي
أفِطرٌ وأحرار الحمى في مجاعـــــــــــةٍ وعيدٌ وأبطــــــــــــال الجهــــــــــــادِ بمـــــــــأتمِ ؟!
بلادك قدّمــــــــــها على كلّ ملـــــــــّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ ومن أجلها أفطِر ومن أجلهــــا صُمِ
أُكَرّمُ هذا العيدَ تكـــريمَ شاعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٍ يتيــــــــــــهُ بــــــــــــآيــــــــــــاتِ النّبـــــــــيّ المــــــــــــُعظّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
ولكنّني أصبــــــو إلى عيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــدِ أُمّـــــــــــةٍ مُحرّرةِ الأعناقِ مـــــــــــن رِقِّ أعجمي
إلى عَلَمٍ من نسجِ عيسى وأحمدٍ و»آمنةٌ» في ظلّهِ أُختُ «مريــــمِ»
هَبوني َعيداً يجعلُ العُرْبَ أُمـــــــــــــــــــــــــــــــــــّةً وسيروا بجثماني على ديـــــــنِ بَرهمِ
فقد مَزّقت هذي المذاهبُ شملَنا وقد حَطّمتنا بــــــــــــــــــــــــين نـــــــــابٍ ومَنســــــمِ
سلامٌ على كُــــــفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــْرٍ يوَحّــــــــــــــــــــــدُ بيننا وأهلاً وسهــــلاً بعــــــــــــدهُ بــــــــــــجهنّــــــــــــــــمِ!!

وفي الحفلة التأبينية التي أُقيمت تكريماً للدكتور المجاهد خليل سعادة سنة 1934 أرّخ الشاعر الحدث بهذه الأبيات:
علـــــــــــــى جَــــدَثِ البطولــــــةِ قــــف حزينــــــــاً وحــــيِّ شهيـــــــــدهـــــــــــا والــــــــــــعيـــــنُ ثَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَّهْ
فـــــــــــكـــــــــــــم لِـــــــــــيَـــــــراعِـــــــــــــهِ زأراتِ لــــــــــــــــــــــيـــــــــــــــــــــــــــــثٍ صـــــــــــداهــــــــــــــــــــــا رنّ فــــــــــــــــــــــــــي أذن المــجــــــرّه
نـــــــــــطـــــــــــاســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيٌّ أديـــــــــــبٌ عــــــــــــــــــــــــاش حرّاً ومات لـــكـــــــي تـــــــــــعيــشَ الـــــــــــشــامُ حُــرّه
يمـــــــــــين الحــــــــــــــــــــــقّ فـــــــــــي ســـــــــــفر المعـــــــالـــــــــــــــــــــــــــــي بــــــــــــــــــــــدع مــــــــــــــــــــــؤرّخيه تــــــــــــــــــــــخـــــــــــــطّ ذكــــــــــره

وهاهو الشاعر في قصيدته أبا الأحرار التي يخاطب فيها الدكتور سعادة الذي توفّي على أثر صومٍ اختياري طويل، وهو يهدّد الفرنسيين المحتلّين للشام بفرسان الجبل، يقول:
ألا قـــــــــــل للّــــــــــذيــــــــــــــــن طــــــــــــــــــــــغـــوا رويـــــــــــــــــــــــــــــــــداً فــــــــــــــــــــــلِلْأيّــــــــامِ والـــــــــــدّوَلِ انــــــــــــــــــــــقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلابُ
سنـــــــــقـــــــــــتلـــــكــــــــــــــــــــــم ونحييــكـــــــــــــــــــــــــم إلــــــى أنْ يُــــــــــمَزّقَ عــــــــــــــــــــــن عيونِكــــــــــــــــــــــمُ الحجـــــــابُ
وكـــــــــــم كـــــــــــفٍّ يـــــــــــطيــــــرُ بـــــــــــهــــــــــــــــــــــــا صــــــــــوابٌ وأخرى يُستَــــــــــــــعادُ بـــــــــــهـــــــــــا الصــــــــــــــوابُ
غَــــــــــــــــــــــداةَ نــــــــــــــــــــــروّعُ الــــــــــــــــــــــدنيـــــــــــــــــا بِـــــــــــــــــــــــــــــــــجِـــــــــــنٍّ علــــــى صَــــــهَـــــــواتِـــــــــــهـــــــــــا شبــــّوا وشابـــــوا
إذ اهـــــــــــبّــــــــــــــــــــــوا إلــــــــــــــــــــــى الغـــــاراتِ غارت وِهاداً تحتَ زَحـــــــــــــفِهمُ الهضـــــــــــــــــــــابُ
وللتــــــــــــــــــــــاريــــــــــــــــــــــخِ رُجعـــــــــــى ثـــــــــــمّ يـــــــــــطـــــــــمــــــــــــو ويــــــــــــــــــــــجتـــــازُ العُبــــــابَ لنـــــــــــــــــــــــــــــــــا عُبــــــــــــــــــابُ
ويـــــــــــجرفـــــــــــكـــــــــــم مـــــــــــن الصـــــحـــــراء سَيْــلٌ لـه في شاطئ الشام» اضطرابُ»
لقـد طال الحســـــــــــابُ وعـــــــــــــــــــــــــــــن قريـــــــبٍ يُـــــــــــصَـــــــفّــــــــــــــــــَى بــــــــــــــــــــــالمـــــهـــــــــــنّــــــــــــــــــــــدةِ الحســـــــابُ

هذا هو رشيد سليم الخوري، الشاعر القروي، شاعر الثورة السورية الكبرى الوفي، والصوت الصادح بدور بني معروف في ميادينها…
وبعد هذا فليس غريباً أن يتلطّف الأمير شكيب أرسلان بعد أن تأثر بشعر القروي فقال مُقَرضاً إيّاه بقصيدة طويلة وردت على هامش ديوان القروي ص482، نقتطف منها:
قـــــــــــل للقصــــــــائـــــــــــــــــــــــد كــــــــــلّـــهـنّ تـــــــــــــــــــــــــــــــــذلّلــــــــــــــــــــــــي لــــــلشـــــــاعر القــــرويّ وســـــــــــــــــــــط المحــــــفلِ
وتَـــــــــــوَسّـــــــــــدي الغبــــــــــــــــــــــراءَ عنــــــــدَ قريضهِ وضعـــي جبــاهَكِ في مكـــــانِ الأرجُـلِ
مـــــــــــن قــــــــــــــــــــــالَ إنّي قــــــــــــد رأيــــــتُ نظيــــــــــــــــــــرَهُ بــــــــــــــــــــــجميـــع أمّـــــــــــةِ يــــــــــــــــــعـربٍ لــــم يــــــــــــــــــــــعـــدلِ
حِكَـــــــــــمٌ كمــــــــــــا انفلق الصبـــاح وحجّــةٌ أضحت تقول لطلعةِ الشمـــس اخجلي
مـــــــــــا زلتُ أنشدها وبي من سحرهــا مثــــل الغـــرامِ يهيجُ فـــي قلـــــــــــبِ الخـــــلي

ومما جاء في ديوانه (ص897) أنه رأى في المنام أنه التقى سلطان الأطرش ولم يخاطبه بلقبه (الباشا)، بل وقيل إنّ أحدهم نبّهه إلى ذلك أثناء لقاء الشاعر بسلطان القائد العام للثورة نفسه، فما كان من الشاعر إلاّ أن أنشده هذين البيتين،
سلطــــــــــــــــــــــانُ يــــــــــــــــــــــاسيــــــفَ الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــى المســـــــــــــــــــــــــــــــــلولِ والسّــــــــــــــــــــــهمِ المُراشـــــــــــــــــــــــــــــــــا
عِــــــــــــــــــــــش للـــــــــــجهـــــــــــادِ وذكـــــــــــرك الميمــــــــــــــــــــــونُ للتــــــــــــــــــــــــــــــــاريـــــــــــــــــــــــــــــــــخِ عـــــــــــــــــــــــــــــــــاشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
حاشــــــــــــــــــــــا لِمثلــــــــــــــــــــــي أن يُصَغّــــــــــــــــــــــرَ مــــــــــــــــــــــن مقــــــــــــــــــــــامــــــــــــــــــــــكَ ألــــــــــــــــــــــفُ حـــــــــــاشــــــــــــــــــــــا
إن كنــــــــــــــــــــــتَ سلطــــــــــــــــــــــانــــــــــــــــــــــاً فكيفَ يـــــــــــجـــــــــــوزُ أن أدعـــــــــــوكَ بـــــــــــاشــــــــــــــــــــــــا؟!

الشاعر القروي في زيارة سلطان باشا الاطرش
الشاعر القروي في زيارة سلطان باشا الاطرش

 

مواجهة طريفة بين الشاعر القروي وسلطان باشا
من القصص التي دارت بين القروي وسلطان باشا الأطرش قبل وفاتهما بعدة شهور، وكان الإثنان قد تجاوزا التسعين…
قال القروي: يا سلطان أنا أرسلت لك قصيدة كذا عام 1925 وقصيدة كذا عام 26 وأرسلت لك مجموعة من القصائد وأنتم مع إخوانكم الثوار في صحراء نَجْد في المنفى ولم يردني أي جواب.
أجاب الباشا: كانت تصلني قصائد ويقرأها الشباب ومعظمها أصبح يدرس في مدارس الوطن، ما عدا تلك القصيدة التي كسرت بها خاطر الإنكليزية سامحك الله.
هنا تساءل الحضور عن القصة فكانت إشارة إلى لقاء الشاعر القروي مع الحسناء مود البريطانية التي أعجبت به، فتخلص منها معتذراً بسبب ما يفعله أهلها بأهله من مظالم . وقال يومها شعراً:
ولو لم تكوني فرنجيـــــة
لكنت سعادتي قبل ســـعاد
ولكن حرام علــي الهوى
وفي أمتي صيحة للجهـــاد
هنا علّق الباشا بتحبب وقال: «أما كان يمكن أن ترضيها بالتي هي أحسن ونحن هنا نكفيك واجب مقارعة أهلها المستعمرين في ديارنا» فضحك الجميع.

سهل عيحا

سهل الخيرات في عيحا

مهدّد بضعف الموارد وزحف الإسمنت

سهل عيحا التاريخي يفيض بالخيرات ويوفّر مصادر العيش لمئات العائلات من المزارعين، لكنه يكافح الآن للبقاء في مواجهة أكثر من خطر وأكثر من تحدٍ. هناك بالطبع تحدي الطبيعة التي تغرق السهل من حين إلى آخر فتأتي على المحاصيل وعلى جهد المزارعين، لكن ما يقلق السهل وأهله اليوم هو ضعف الموارد وتأجير الأرض بأسعار زهيدة، وأخيراً زحف الإسمنت على الرقعة الزراعية. فما الذي يجري في سهل عيحا وما هي آفاق تطوره كمنطقة زراعية رائدة ومن أخصب الأراضي في لبنان؟

الموقع
ينبسط سهل عيحا عند تخوم السفوح الغربية لجبل الشيخ، بين بلدتيّ عيحا وكفرقوق، حيث تبلغ مساحته الكلية 11 ألف دونم، تستغل منها مساحة تصل إلى 8 آلاف دونم في زراعة الحبوب خلال فصل الشتاء، كما يتم استغلال أراضيه صيفاً في زراعة الخضار والفواكهه. وتشكل إنتاجية السهل من المواسم الزراعية، مردوداً يعيل حوالي مئتي عائلة من أبناء قرى عيحا وراشيا وكفرقوق، إلى جانب عشرات العائلات التي تعمل في القطاع الزراعي، فضلاً عن أصحاب المشاريع الزراعية الذين يتولون ضمان الأراضي من مالكيها.

«المغراق» ظاهرة فريدة
يتسم سهل عيحا بظاهرة قلّ نظيرها في أي منبسط زراعي في مكان آخر وتتمثل بالفياضانات التي يتعرض لها خلال فصل الشتاء، إذ تغمر المياه هذا السهل فيتحول من منبسط زراعي الى بحيرة موسمية، وهذه الظاهرة تصيب السهل في معظم السنوات ولكن عمق مياه الفيضان واتساع رقعته يتوقفان على كمية المتساقطات ولاسيما الثلوج التي تغطي الجبال المجاورة به، وهذه الثلوج تعتبر مصدراً مباشراً لتفجرعشرات الينابيع المحيطة بالسهل والتي تصبّ فيه كما إنها مصدر أساسي للسيول الشتوية التي تنجم عن ذوبان الثلوج أو عن الأمطار التي تتدفق من المرتفعات المحيطة لتشكل بحيرة موسمية تغرق السهل لعدة أشهر ولاسيما شهري آذار ونيسان فتصيب المحاصيل الزراعية الشتوية بالهلاك حيث تتلف أطناناً من القمح والشعير، كما يمتد تأثير «المغراق» حتى فصل الصيف فتتأخر زراعة المواسم الصيفية أيضاً.
ويروي بعض المعمرين في البلدة أن المغراق كان يستمر من عام الى آخر وأن السمك ظهر في السهل عند جفاف البحيرة ربما بعد أن تسرب من بعض الأنهر المجاورة التي فاضت وأرسلت أسماكها في فترة الذروة، وقد شكّل استمرار المنسوب المرتفع للمياه في السهل لأكثر من سنة متوالية تأمين الظروف الملائمة لتكاثر تلك الأسماك إلى أن ظهرت بأعدادها عند انحسار المياه.
تجدر الإشارة إلى كميات المياه الهائلة التي تتجمع في السهل وتغرقه لأشهر تعود فتتسرب أو «تغور» في الأرض عندما يشارف فصل الربيع على نهايته في هوة عند طرفه الغربي حيث يروي الأهالي ان هذه المياه تصل الى نهر الحاصباني وربما تغذي الخزانات الجوفية الطبيعية التي تعود بدورها ينابيع المنخفضات الواقعة خارج نطاق القرى المحيطة بالسهل.

خصائص سهل عيحا
تشير الإحصاءات المتداولة في بلديات المنطقة الى أن ما يقارب المئتي عائلة تعتمد في عيشها على هذا السهل بشكل مباشر أو غير مباشر وهي تتوزع في معظمها على القرى والبلدات المتاخمة للسهل مثل قرى عيحا وكفرقوق وراشيا اضافة الى مزارعين من المنطقة يدخلون في عقود ضمان أو «استثمار» بعض هذه الاراضي من أصحابها. وتتوزّع ملكيات السهل بشكل متفاوت بين مزارعين صغار تتراوح حيازتهم بين دونمين أو ثلاثة للمزارع الواحد وبين مزارعين كبار قد تصل حيازة الواحد منهم إلى مئتي دونم (أي ما يعادل 200,000م2). ويحتوي السهل على ما يزيد على 15 بئراً ارتوازية، لكن عدداً من تلك الآبار قد يتعرض للجفاف خلال فصل الصيف بينما يستمر الباقي منها في ري المزروعات خلال فصل الجفاف ، لكن السهل رغم ذلك وبسبب موقعه يتميز بوفرة المياه، إذ ينتشر على تخومه وفي محيطه الجغرافي نحو 300 نبع للمياه منها ما هو موسمي (يجف في الصيف) ومنها ما يستمر على مدار العام، وهذه الينابيع تساهم بدورها في ري المزروعات مؤمنة بالتالي مورداً هاماً لاستمرار الدورة الزراعية في أشهر الصيف وبالتالي تعويض ما قد يكون وقع من أضرار بسبب فيضانات الشتاء.
وأبرز ما يميّز المزروعات في هذا السهل انها تروى بمياه نقية لا تقل شأناً عن مياه الشرب وهذا يعود الى غياب الصرف الصحي العشوائي في الجوار.

أنواع المزروعات في السهل
سهل عيحا شأنه شأن معظم السهول اللبنانية حيث يحاول المزارعون الإستفادة منه على مدار السنة من خلال اعتماد الروزنامة الزراعية حيث تتم زراعة السهل مرات عدة خلال العام الواحد ومن هذه المزروعات :
زراعة الحبوب المختلفة كالقمح والشعير والحمص والعدس والعديد من المزروعات الأخرى.
وكذلك هناك المزروعات الصيفية المتمثلة بالخضار على انواعها وبعض الفواكه التي يتم انتاجها بكميات محدودة لكنها تساهم الى حد ٍما في تلبية حاجات السوق المحلية، واللافت ان هذا الإنتاج يتفوق على غيره من خلال الجودة التي يتمتع بها حيث تعتبر المزروعات نصف بعلية والمياه التي يتم ريها هي مياه نقية وغير ملوثة.

هجوم الإسمنت
نتيجة غياب التخطيط المُدني الذي ينظم البناء ويمنع العشوائية من العبث في البيئة الطبيعية والأراضي الزراعية فقد كان لسهل عيحا نصيبه من هذه الظاهرة، إذ زحفت العديد من الأبنية على الرقعة المزروعة وبدأ ذلك يؤثر بصورة سلبية على اقتصاد السهل بسبب التشويه البيئي وتقطيع الملكيات الزراعية وتفتيتها، الأمر الذي يضعف إمكانية قيام زراعات اقتصادية وحديثة أو استثمارات تابعة في عمليات المعالجة وغيرها. على العكس من ذلك، فإن زحف الإسمنت سيؤدي إلى تقلص المساحات الزراعية وتزايد الكثافة السكانية وبالتالي إلى تلوث قد يذهب بسمعة السهل وطبيعته. المفارقة مع ذلك أن المنازل التي بنيت عشوائياً مهددة خلال الأشهر التي تغمر المياه السهل لأن غرق أسفلها أو أساساتها بالمياه لأشهر طويلة قد يؤثر على سلامة البنيان وقد ينتهي إلى زعزعته في نهاية المطاف، علماً أن العديد من الأشخاص قضوا غرقاً في السهل بسبب صعوبة التحرك في مواجهة الوحل من الإنزلاقات والسيول المختلطة بالأتربة والتي تشكل «بحيرات من الوحول» تغرق من يقع فيها.

من أجل المزيد من المعلومات عن تاريخ السهل وما يتعرّض له في زمننا الحاضر إلتقت «الضحى» الشيخ الثمانيني سليم ابو لطيف الذي عاصر اقتصاد السهل وشهد نعمه ونقمه منذ شبابه فكان هذا الحوار:

ما هي أبرز المحطات التي في ذاكرتكم حول سهل عيحا ؟
كان ارتباط الناس بالسهل قديماً ارتباطاً عضوياً، إذ كنا نمضي معظم ايام السنة في ربوعه بدءاً بموسم الحرث ثم الزرع وكان يمتد اشهراً وانتهاء بمتابعة المزروعات خلال فصل الشتاء إلى أن يحين موعد الحصاد. وكانت الأجواء الدائمة في السهل أشبه بأجواء عرس حتى شهر ايلول، عندما يتم حصاد المزروعات من دون مساعدة آلية أو تقنية، إذ كنا نقوم بذلك بأيدينا مستخدمين منجل الحصاد والشاعوب وكانت النخوة ركيزة العمل حيث كان جميع ابناء البلدة يجتمعون في السهل لمساعدة بعضهم بعضاً وكان الجميع يعملون مثل عائلة واحدة في جمع القمح و«رجيدته » والرجيدة هي تحميل القمح على ظهر الحيوانات بواسطة الشبك الخاص بنقل الغلال ليتم نقلها وتكديسها في مكان ٍ واحد يعرف بالبيدر ليصار الى درسها.

أبنية-الاسمنت-تزحف-على-السهل
أبنية-الاسمنت-تزحف-على-السهل

كيف كانت تتم عملية درس الحبوب في القديم ؟

بإبتسامة بسيطة يتابع الشيخ حديثه، عملية دراسة الحبوب كانت متقنة ومسلية في ذات الوقت حيث كان تتم بوضع «المورج « على جانب عرمة القمح ويتم ربط المورج بعنق احد الحيوانات الذي يبدأ بالدوران حول العرمة ويقف عليه أحد الرجال الذي يقود الحيوان ويوجهه وكان الأولاد يركبون على المورج بهدف التسلية ، كما كان هناك شخص يقف على عرمة القمح ويضع السبل تحت المورج بواسطة الشاعوب .
ويضيف: «كان الناس يمضون جل وقتهم في السهل حيث يتم الإحتفاظ بالمياه في «الكرزونة» ويتم سلق القمح وأكله أو طهي مشتقاته بأشكال مختلفة يقتات بها العمال في السهل .

كيف كانت الأراضي مقسمة قبل حصول المساحة ؟
كانت الأراضي مقسمة بطريقة عشائرية والملكيات موزّعة على الأفراد لكن الحصص الكبيرة يحظى بها النافذون في البلد والأراضي كانت توزع على الأرباع وكل ربع مقسم الى ست عشرة (16) مجرة والمجرة تساوي تقريباً الخمسة دونومات، اما الأماكن القصيرة والضيقة فكانت تقاس بالخرزة والتي تساوي ما يقارب الـ 1000 متر (أي دونم واحد) أو بالتراويس والتي تعتبر إحدى وحدات القياس القديمة للأراضي الزراعية أيضاً .

ما هي أبرز الذكريات التي ما زالت حية في وجدانكم؟
عندما تنحبس الأمطار فترة طويلة كان الناس يخشون على الموسم وعلى نتيجة تعبهم، وبالتالي عيشهم، في تلك الظروف كان الناس يجتمعون ويجوبون أرجاء البلدة والمناطق القريبة من السهل مرددين الإبتهالات متضرعين إلى الله ان يمنّ عليهم بالمياه ومن هذه العبارات التي كانوا يرددونها :
يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أم الــــــــــــــــــــــــــــــــغيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــث غــــــــــــــــــــــــــــــــيثيـنــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تــــــــــــــــــــــــــــــــلــــــــــــــــــــــــــــــــِّــــي الســـــــــــــــــــــــــهــــــــــــــــــــــــــــــــل وروينــــــــــــــــــــــــــــــــا
واسقــــــــــــــــــــــــــــــــي زرعنــــــــــــــــــــــــــــــــا العــــــــــــطشــــــــــــــــــــــــــــــــان ومــــــــــــــــــــــــــــــــن فيــــــــــــــــــــــض نعمـــــــــــــــــــــــــــــــــه تحيينــــــــــــــــــــــــــــــــا
المهندس الزراعي عماد محمود أمضى زمناً طويلاً في إرشاد المزارعين وتوجيههم وهو يختزن بالتالي خبرة واسعة في شؤون سهل عيحا وشؤون الزراعة في منطقة راشيا والبقاع، يقول:
دخول الأسمدة والأدوية الزراعية كان لها التأثير السلبي من خلال تفكيك المواد العضوية والحدّ من خصوبة التربة، والجدير بالذكر هنا أن سهل عيحا بسبب خصوبته وما يترسب به سنوياً من الطمي الغني بالعناصر الغذائية يتميز بالزراعة «المحيّرة» وبالمحاصيل الجيدة والتي كانت تفيض بالخيرات بعيداً عن استعمال الأدوية الزراعية .

ما هي الزراعة «المحيرة»؟
هي الزراعة التي كانت تزرع ما بين المرحلة المبكرة لزراعة الحبوب وتدعى «العفير» وهي قبل أن تروى الأرض جيداً بالمياه والزراعة المتأخرة والتي تدعى «اللقيس» وهذه الزراعة كانت تعطي مواسم جيدة وكانت تشكل عامل جذب لكبار المزارعين نظراً إلى المردود الوفير الذي تعطيه، لكن دخول المزارعين عالم التجارة والركض وراء محاولة زيادة الإنتاج بوسائل كيميائية وبصورة غير مدروسة غالباً قضى على هذه الزراعة .

كيف تتم عملية استثمار السهل حالياً ؟
تقلص الموارد المالية المتاحة للمزارعين في السهل حال دون استثمار الأرض مما حدا بهم الى تضمين أملاكهم لمزارعين من خارج المنطقة، لكن المفارقة هي أن الأرض يتم تضمينها بأسعار زهيدة حيث لا تتجاوز الـ 25 دولاراً للدونم بينما في سهل البقاع يصل تضمين الدونم الواحد الى ما يقارب الـ 180 دولاراً والغلال في سهل عيحا تفوق الغلال في سهل البقاع في الدونم الواحد كماً ونوعاً.
ومن الأسباب التي دفعت بالمزارعين الى تضمين الأرض، ارتفاع فاتورة الري في الفترة الأخيرة، حيث إن الآبار الإرتوازية هي مشاريع خاصة يملكها أشخاص أخذوا يتحكمون بأسعار المياه والمزارع غير قادر أحياناً على تأمين البديل.

سهل-عيحا-يمتد-حتى-أقدام-جبل-الشيخ-ويحمل-الخيرات-لمزارعي-المنطقة
سهل-عيحا-يمتد-حتى-أقدام-جبل-الشيخ-ويحمل-الخيرات-لمزارعي-المنطقة

ما هي الأماكن الأكثر خصوبة في السهل ؟
التربة في السهل متقاربة بالإجمال ولا توجد منطقة تفوق الأخرى لكن الأماكن التي تكون أكثر تأثراً بالمغراق تتجدّد التربة فيها بإستمرار بسبب ما يترسب فيها من طمي وتعتبر لذلك من المناطق الأكثر خصوبة، لذلك يتسابق المستثمرون في السهل للحصول عليها .

ما هو مستقبل الزراعة في السهل ؟
في الفترة الأخيرة أخذ الناس بالإبتعاد عن الزراعات التقليدية في السهل وعدم الإعتماد على الروزنامة الزراعية أو ما شابه ذلك وتحولوا الى زراعة الكرمة وهذا ما بدأ يظهر على اطراف السهل حيث اخذت بساتين التفاح بالإتساع، أضف الى ذلك أن بعض المزارعين بدأ يزرع مساحات واسعة بأشجار الحور التي تنمو بسرعة ويتم الإستفادة منها في الحطب حيث تحضى ولهذه التجارة سوق مربحة والحور سريع النموّ ويمكن ان يستفاد منه على فترات طويلة .

ثقافة و آداب

الإمام الحسن البصري إمام الزهد وسيّد التابعين قوّام صوّام كثير الحزن والبكاء شجاع في الحق عظيم الهيبة لكل أمة وثن، وصنم هذه …

معرض بيروت العربي الدولي للكتاب تظاهـرة للكتــاب المطبــوع في عصــر النشــر الإلكترونــي حفلات توقيع ولقاءات والسياسيون خطفوا الأضواء العالم العربي الأكثر تأخراً …

محاورة لاكيس عن الشجاعة العاقلة سقــــراط: الشّجاعــة ليســت عنــد الفرســان بل هــي مجالــدة الفقــر والألم والخوف ومجاهــدة شهوات النّفــس وأهوائهــا الشجاعــــة يجــــب …

يروي مؤرخو الشيخ الفاضل محمد أبي هلال الذي عاصر الأمير فخر الدين الثاني ومنهم الشيخ أبو علي عبد الملك الشافعي الحلبي والمؤرخ …

لغز الحلاج

لغــــز الحــــلّاج هل كان متعجلاً في البوح بالأسرار أم مشى بإرادته إلى التضحية الكبرى؟ كان مثالاً ساطعاً على ما يمكن للحب الإلهي …

رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) شاعر الثورة السورية الكبرى كان مجاهداً بالشعر اللاذع ضد الانتداب الفرنسي وخلّد بقصائده الرائعة ملامح الموحدين الدروز …

سهل الخيرات في عيحا مهدّد بضعف الموارد وزحف الإسمنت سهل عيحا التاريخي يفيض بالخيرات ويوفّر مصادر العيش لمئات العائلات من المزارعين، لكنه …

ماذا تعرف عن سدّ القرعون أكبر مشاريع لبنان المائية والكهرمائية؟ «لبنان هبة الليطاني» هذا ما قاله المهندس ابراهيم عبد العال في مقدمة …

إذا أردت شــــريـــــــــــــــــــف النــــــاس كلهـــــــــــــــــــم فانظر إلى عظيم في زي مسكين ذاك الذي عظمت فـــــــــــــــــي الله نعمته وذاك يصــــلــــــــــــح للدنيـــــــــــــــــــــا وللـــديـــــــــــــــــــن الشيخ …

غلاف الكتاب غلاف كتاب الدكتور البعيني ندوة تناقش كتاب المؤرخ حسن البعيني حول مشيخة عقل الموحدين الدروز د. رياض غنام: هل يمكن …

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها …

“كان عمر (ر) قبل إسلامه رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش ومفاخراً ومنافراً …