السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الجنيد البغدادي

تاج العارفين أبو القاسم الجنيد

قدوة العبادة والزهد والمعلم لأجيال من الصوفيين
دعا لكتم التوحيد عن غير أهله وحارب الشطح والغلوّ

طلب الحلاج صحبته فقال: أنا لا أصاحب المجانين
وإنني أرى في كلامك يا ابن منصور فضولاً كثيراً

أفتى في مجلس أبي ثور وهو في العشرين
وجلس في الثلاثين معلماً في أكبر جوامع بغداد

إعتبره الشيخ إبن تيمية من أئمة الهدى
ولقّبه إبن القيّم بـ «قطب العارفين بالله»

من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل
بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات

من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات
من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل
بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات

يحتل الجنيد البغدادي الذي لُقِّب بـ «تاج العارفين» مكانة خاصة في تاريخ التصوف بسبب ما اجتمع لديه من صفات الحكمة والبصيرة والوقار والزهد، وقد كان عارفاً بالله قطباً في التصوف عالماً مجاهداً من صغر سنه في طريق الترقي الروحي، وأهم ما تميّز به إعتداله ورجاحة عقله وحرصه الشديد على التوفيق بين التصوف وبين احترام عقائد العامة والتزام القرآن والسنة، وقد رفض الشطح وأهله وأدان كل أشكال الغلو بين الصوفية فحاز بذلك احترام الجميع واعترف له بالقطبية في عصره وامتد تأثيره من خلال أعلام التصوف الذين تخرجوا على يديه عدة قرون بعد وفاته.
قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي:«هو من أئمة القوم وسادتهم، مقبول على جميع الألسنة» وقال السبكي: «سيد الطائفة ومقدم الجماعة وإمام أهل الخرقة وشيخ طريقة التصوف وعَلَم الأولياء في زمانه».
وقال أبو القاسم الكعبي المعتزلي عنه : «رأيت لكم شيخاً في بغداد يقال له الجنيد بن محمد، ما رأت عيناي مثله، كان الكتبة يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم» . وقَالَ ابنُ المُنَادِي عنه: «سَمِعَ الكَثِيْرَ، وَشَاهَدَ الصَّالِحِيْنَ وَأَهْلَ المَعْرِفَةِ، وَرُزِقَ الذَّكَاءَ وَصَوَابَ الجَوَابِ. لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ فِي عِفَّةٍ وَعُزُوفٍ عَنِ الدُّنْيَا». وقال الحافظ الذهبي عنه: «كان شيخ العارفين وقُدْوة السّائرين وعَلَم الأولياء في زمانه رحمة الله عليه» وقال الشيخ إبن تيمية فيه «الْجُنَيْد مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» وقال أيضاً عنه «كَانَ الْجُنَيْد رحمه الله سَيِّدُ الطَّائِفَةِ ، إمَامَ هُدًى (..) وَكَانَ َمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيماً وَتَأْدِيباً وَتَقْوِيماً».(مجموع الفتاوى؛719/10).
وقال عنه الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»: «لقي العلماء ودرس الفقه عَلَى أَبِي ثور، وصحب جماعة من الصالحين، منهم الحارث المحاسبي، والسريّ السقطي، ثم اشتغل في العبادة ولازمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره فِي علم الأحوال والكلام عَلَى لسان الصوفية، وطريقة الوعظ وله أخبار مشهورة».
وقال الخلدي: «لم نر في شيوخنا من اجتمع له علمٌ وحال غير الجنيد. كانت له حالٌ خطيرة، وعلمٌ غزير، إذا رأيت حاله رجَّحته على عِلمه، وإذا تكّلم رجَّحت عِلمه على حاله».

وطفولته
يعود أصل أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري إلى نهاوند في همدان إلا أنه ولد في بغداد حوالي العام 215 هـ (830 م.) كما إنه ترعرع وعاش فيها طيلة حياته وتوفي فيها أيضاً في العام 297 هـ.
ولد في بغداد حوالي سنة 215هـ (830م) في زمن مضطرب تميز بمواجهات فكرية كثيرة بين الفرق وأهل الكلام والظاهرية والحركات الباطنية وأهل التصوف والمعتزلة، إلا أن أبرز ملامح تلك الفترة وبتأثير المذهب الظاهري كان بروز تيار قوي بين الفقهاء المعادين للتصوف الذين آل بعضهم على نفسه الحض على ملاحقتهم وإيقاع العقوبة بهم، وكان الحلاج إحدى ضحايا تلك الموجة التي كادت تطيح أيضاً بالشبلي بل هددت حياة الجنيد وآخرين ليس بسبب أفكارهم بل بسبب مكيدة ووشايات باطلة قدمت إلى القاضي وإلى الخليفة العباسي.

تقول المصادر إن والد الجنيد كان قواريريّاً، يمتهن بيع الزجاج، وأنه توفي والجنيد لايزال صغيراً، فتولى الاهتمام بالفتى الصغير خاله، المربي الصوفي الشهير السريّ السقطي، وقد لعب هذا الصوفي الكبير دوراً مهماً في تنشئة الجنيد الصغير على الزهد والتصوف وهو يعتبر ربما المرشد الأكثر تأثيراً في تطوره الروحي. وقد لمح السريّ كما يبدو علامات الولاية والنبوغ في ابن أخته الصغير فزاد من اهتمامه به والحرص عليه.
يلقي الجنيد ضوءاً على بدايات تلك العلاقة عندما يقول: «كنت بين يدي السريّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: «يا غلام! ما الشكر» قلت: «الشكر ألا تعصي الله بنعمه». فقال لي: «أخشى أن يكون حظك من الله لسانك!» قال الجنيد: «فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السريّ» وقد يكون السريّ تعمد إعطاء درس للغلام في التأني وامتحانه لكنه ولا شك لمح فيه علامات الرجال والتقوى فزاد اهتمامه به.

أساتذته
صحب الجنيد عدداً من أعلام التصوف في زمانه وكان أولهم خاله السريّ السقطي لكنه حضر أيضاً مجالس محمد بن إبراهيم البغدادي البزاز وبشر بن الحارث، ثم صحب بعد وفاة السريّ السقطي الحارث المحاسبي وتأثر به .

سلوكه على يد السريّ السقطي
سلك الجنيد على يد خاله السريّ ووجد فيه صورة المحب لله، وهو القائل إن المحبة لا تصلح بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر«يا أنا» وقد أثر تفاني السريّ السقطي في حب الله واستغراقه الدائم في التهجد والصلاة والذكر على بدنه، فيبس منه الجلد على العظم وأصابه النحول الشديد, وسأل أحدهم يوماً عن معنى المحبة فأجاب الجنيد : قال قوم هي الموافقة، وقال قوم هي الإيثار، وقال قوم كذا وكذا، فأخذ السريّ جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد، ثم قال : وعزته لو قلت إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت.
اشتهر عن السقطي مقاومته الشديدة لرغبات النفس وهوالقائل «ما زالت نفسي تطالبني منذ أكثر من ثلاثين سنة بجزرة مغموسة في دبس فما أطعتها» اجتهد السريّ ان لا يستعمل من آنية بيته إلا الطين، وكان يقول لا حساب عليه، وهو ذهب في الزهد حداً كان فيه خلو اليدين من أي متاع أو شيء. وكان يقول: «أعرف طريقاً مختصراً إلى الجنة، هو ألا تسأل أحداً شيئاً، ولا تأخذ من أحد شيئاً، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحداً».

صحبته للحارث المحاسبي
سأل السريّ السقطي الجنيد مرة « إذا فارقتني من تُجالس؟ فقال الجنيد : الحارث المحاسبي « ويدل جواب الجنيد على المكانة التي كانت للمحاسبي لديه، وقد صحبه خاصة بعد وفاة خاله السريّ ، وكان المحاسبي حتى في أيام السريّ يأتي منزل الجنيد ويقول له: اخرج معنا نصحر، والأرجح أن الجنيد كان لايزال دون العشرين من العمر، فيقول له الجنيد: تُخرجني من عُزلتي وأمني على نفسي إلى الطرق والآفات ورؤية الشهوات! فيقول الحارث: اخرج معي ولا خوف عليك . يتابع الجنيد الرواية فيخبر أنه كان يخرج معه فكأن الطريق فارغاً من كل شيء لا يرى شيئاً يكرهه، فإذا حصلوا المكان الذي يجلس فيه الحارث يقول للجنيد اسألني.
تفقه الجنيد على أبي ثور الكلبي، ابراهيم بن خالد بن اليمان، أحد الأئمة المجتهدين وهو صاحب الإمام الشافعي وراوي مذهبه القديم وأبو ثور معاصر لأحمد ابن حنبل الذي شهد له بالعلم والصلاح . ويقول ابن الملقن في طبقات الأولياء إن الجنيد كان يُفتي في حلقة أبي ثور وفي حضرته وهو ابن العشرين سنة.

حياؤه وتردده في الجلوس للتعليم
عندما بلغ الجنيد الثلاثين من العمر رأى السريّ السقطي أن الجنيد الشاب أصبح مؤهلاً للجلوس للتدريس وإدارة حلقة علم عامة، وقد كانت مجالس التدريس العامة حتى زمن الجنيد تُقام في المساجد، كما كان التدريس في المسجد وقفاً على الفقه والحديث وعلوم القرآن، أي لم تكن للصوفية مجالس في المساجد، بل كانت مجالسهم في حلقات خاصة أو يقصدهم طلابهم إلى منازلهم، لهذا فإن الجنيد قد يكون أول صوفي جلس للتدريس في حلقة عامة في مسجد يُعد من أهم مساجد بغداد وهو جامع المنصور .
قال السريّ السقطي للجنيد: «تكلم على الناس»، لكنه تردد في ذلك، بل تحشم ولم يجد في نفسه الأهلية. ثم يخبرنا أنه لم يتكلم على الناس حتى أشار إليه وعليه ثلاثون من البدلاء وأجمعوا أنه يصلح لأن يدعو إلى الله عز وجل، وعلى الرغم من حث الجميع له لأن يبدأ بالتعليم، إلا أنه ظل متحرجاً حتى رأى ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت جمعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: «تكلم على الناس» انتبه من نومه وأتى باب السريّ السقطي قبل أن يُصبح دق الباب فقال له السريّ من الداخل: لم تُصدقنا حتى قيل لك! فقعد الجنيد في غد للناس بالجامع، وعندما انتشر في الناس أن الجنيد قعد للكلام، أمَّ مجلسه حشود غفيرة من أهل العلم وطلابه. وممن حضر مجالسه الفقيه الشافعي أبو العباس بن سريح الذي كان بعد ذلك يقول إن علمه يأتي من بركة الشيخ الجنيد.
أخبر الجنيد في ما بعد أنه «إنتشر في الناس إنني قعدت أتكلم، فوقف عليَّ غلام نصراني متنكر وقال: «أيها الشيخ! ما معنى قوله: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: «أسلم! فقد حان وقت إسلامك!» فأسلم».واعتبر الناس تلك الحادثة التي حصلت أمام الملأ من كرامات الشيخ الجنيد مثل اطلاعه على عقيدة الغلام واطلاعه على أنه سيسلم في الحال بمجرد سؤاله من الشيخ.
كان للجنيد تأثير كبير على أجيال الصوفية التي توالت من بعده وقيل إن العديد من أهل التحقيق الذين جاءوا بعده إنما يعودون بالخرقة إليه أي أنهم تسلموا السر من مشيخ يعود في تسلسله إلى الجنيد ودرسوا عليه وأخذوا حقائق الطريق عنه.
ومن الصوفية الذين صحبوا الجنيد وسلكوا على يده: أبو بكر الشبلي، وأبو محمد الجريري، وإبن الأعرابي أبو العباس أحمد بن محمد بن زياد، وإسماعيل بن نجيد وعلي بن بندار أبو الحسن الصيرفي، وعبد الله بن محمد الشعراني وأبو الحسين علي بن هند القرشي الفارسي وهو من كبار مشايخ الفرس وعلمائهم وأبو بكر الواسطي وعمر بن عثمان المكي وغيرهم الكثير.

نبوغه
دخل الجنيد مرة على السريّ فوجد عنده رجلاً مغشياً عليه، سأل عن سبب غشيته، فأعلمه السريّ بأن الرجل سمع آية من كتاب الله تعالى، فقال الجنيد: تُقرأ عليه الآية مرة أخرى، وعندما قُرئت أفاق الرجل، عندها سأل السريّ الجنيد: من أين علمت هذا ؟ فقال الجنيد: «إن قميص يوسف -عليه السلام- ذهب بسببه بصر يعقوب -عليه السلام- ثم عاد بصره به» .
وفي حادثة ثانية دخل الجنيد يوماً على السريّ السقطي فرأى عليه هماً، فسأله عن سبب همّه، فقال: الساعة دقّ عليّ داقٌّ الباب، وسألني عن معنى التوبة وشروطها فأنبأته، فقال: هذا معنى التوبة وشروطها، فما حقيقتها ؟ فقلت: حقيقة التوبة ألا تنسى ما من أجله كانت التوبة (أي حقيقة التوبة ألا تنسى ذنبك)، فقال الرجل: حقيقة التوبة ألا تذكر ما من أجله كانت التوبة. وأنا أفكر في كلامه! فقال الجنيد: مؤيداً كلام السائل: ما أحسن ما قال . هنا سأل السريّ الجنيد: يا جنيد، وما عنى هذا الكلام؟ قال الجنيد: يا أستاذ، إذا كنتُ معك في حال الجفاء ونقلتني من حال الجفاء إلى حال الصفاء، فذكري للجفاء في حال الصفاء غفلة.

رسائله
وصل عدد رسائل الجنيد التي تمّ تحقيقها في السنوات الأخيرة إلى واحد وثلاثين رسالة منها كتاب «القصد إلى الله» و«كتاب الفناء» و«كتاب ادب المفتقر إلى الله» و«كتاب الميثاق»، و«كتاب السر في أنفاس الصوفية» ورسالة في المعرفة، ورسالة النظر الصحيح إلى الدنيا، ورسالة عن صفة الإيمان وأخرى عن صفة العاقل ورسالة في التوحيد ورسالة في الألوهية إضافة إلى عدد كبير من الرسائل التي كتبها إلى مريدين ومقربين.

قناطر متبقية من جامع المنصور الكبير في بغداد حيث جلس الجنيد للإرشاد
قناطر متبقية من جامع المنصور الكبير في بغداد حيث جلس الجنيد للإرشاد

أثر الجنيد في التصوف
كان الإمام الجنيد عارفاً حكيماً وكان حريصاً على الفصل بين تعليم الخاصة مبادئ التصوف والتحقق بالاختبار الروحي وبين علوم الشريعة وعقائد العامة وكان اعتقاده بعدم اجتماع الأمرين يجعله يحرص أشدّ الحرص على سترالتعليم الصوفي خوف أن يؤدي عدم فهمه من العامة إلى رميه بالإتهامات أو إلى زعزعة العقائد وبالتالي الفتنة. كان موقفه لذلك موقفاً عاقلاً مسؤولاً، بل نُقل في ما بعد أنه أمر مريديه أن يدفنوا الأوراق التي دوَّنوا فيها أقواله أو تعليمه، ولم ذلك لأنه كان يقول بأمور غير موافقة للشريعة أو للإيمان بل لأنه يعتقد أن حقائق التصوف لا تسعفها الكلمات والعبارات وأن اللغة مهما اتسمت بالبلاغة فإنها غير كافية لتوصيل الاختبارات اللدنية للعرفان الصوفي وتجربة التحقق الروحي.
ومما لا شك فيه أن العصر الذي عاش فيه أبو القاسم الجنيد أثر كثيراً على نهجه الحذر في كتم التعليم والحرص على أن يتم داخل الغرف المغلقة، إذ اتسمت تلك الفترة بانتشار المذهب الظاهري الذي كان يدين أي محاولة لتأوليل معاني التنزيل، وقوي نفوذ الفقهاء المعارضين للتصوف في بلاط الخلفاء، ونشأ عن ذلك جو من الحذر والتشكك في المتصوفة، وقد ساهمت الآراء الجريئة لبعض المتصوفة أو انحرافات بعض أدعياء التصوف في تعزيز المواقف السلبية من القوم، وكان الزمن أيضاً زمن الحلاج الذي أثار زوابع وعواصف لم تهدأ بسبب شطحاته ثم تصريحه بعقائد التصوف بل واستعراض كراماته في الأسواق وبين عامة الناس. كل ذلك أثار الكثير من النفوس تجاه المتصوفة، وكان ابو القاسم الجنيد ببصيرته الجليَّة مدركاً لتلك الظروف، وهو لجأ لذلك إلى أسلوب الكتم حتى اتهمه بعضهم بالتقية خصوصاً وأنه وقف بحزم ليدين أهل الشطح من المتصوفة، وليؤكد على أهمية التزام أهل الطريق لأحكام الدين ونواهيه مثل قوله:«الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول». وكذلك قوله «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة».
ودعا الجنيد إلى الفقر والجوع والسهر في الذكر وفطم النفس عن الاشتهاءات لكنه حرص في الوقت نفسه على نصح المريدين باجتناب التطرف ونقل عنه أبو محمد الجريري في هذا الشأن فقال: «سمعت الجنيد يقول: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات، ومراده تركُ فضول الدنيا وجوع بلا إفراط. أما من بالغ في الجوع ورفض سائر الدنيا، ومألوفات النفس، من الغذاء والنَّومِ والأهل، فقد عرّض نفسه لبلاء عريض، وربما خولط في عقله، وفاته بذلك كثير من الحنيفيّة السمحة، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والسعادة في متابعة السنن، فزن الأمور بالعدل، وصم وأفطر، ونم وقم، والزم الورع في القوت، وارض بما قسم الله لك، واصمت إلا من خير».
وبسبب اعتدال الجنيد في ما كان يدعو إليه وكذلك موقفه الحازم من أهل الشطح والبدع في التصوف فإنه استحق التقدير والاحترام الشديدين حتى من قبل شيخ الإسلام إبن تيمية الذي عرف عنه موقفه الحذر من المتصوفة الذين اعتبر أن بعضهم خرج على العقيدة وابتدع، لكن إبن تيمية وبسبب تقديره للجنيد وآخرين مثل السريّ السقطي وسهل التستري وعمر المكي قال بوجوب التمييز بين المتصوفة المقتصدين المراعين لأحكام القرآن والسنة وبين أهل الشطح والبدع وقال عن الفرقة الأولى «أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ» ملاحظاً «إن أَكْثَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ مِثْلُ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَغَيْرِهِ أنكروا الحلاج وَأَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي» (الفتاوى).
و قال إبن تيمية مادحاً الجنيد «وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ» (مجموع الفتاوى 5/126).
وقال إبن القيم عن الجنيد «وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق- (مدارج السالكين، الجزء الثاني، 259).
والواقع أن إبن تيمية يذكر الجنيد مراراً ويستشهد به ويعتبره من أئمة الهدى المتأخرين ويبجله ويرفق اسمه دوماً بعبارة «رضي الله عنه» بينما أطلق إبن القيم على الجنيد لقب «قطب العارفين بالله» وكان يستخدم عبارة «قدس الله روحه» في كل مرة كان يورد فيها اسمه.
هذا التكريم الشامل والإجماع على شخص الجنيد ومكانته ما هو في الحقيقة إلا ثمرة النهج السليم والعاقل الذي التزمه في التصوف والذي تعارض بقوة ليس فقط مع الحلاج، الذي اختلف معه وابتعد عنه، بل أيضاً مع تلميذه ومعاصره أبو بكر الشبلي الذي خاطبه الجنيد يوماً بالقول: «لا تُفش سرّ الله تعالى بين المحجوبين». ثم قال عنه في موضع آخر مؤاخذاً إياه على إشاعته علوم القوم بين عامة الناس:«نحن حَبَّرنا هذا العلم تحْبيراً، ثم خبّأناه في السّراديب، فجئتَ أنتَ فأظهرته على رؤوس الملأ». ووصف الجنيد شطح الشبلي أيضاً بالقول: «الشبلي سكران، ولو أفاق لجاء منه إمام ينتفع به».
وكان الكتم والستر عموماً نهجه في التعليم وكان يقول لمريديه: «لا ينبغي للفقير قراءة كتب التوحيد الخاص، إلا بين المُصدِّقين لأهل الطريق، أو المُسلِّمين لهم، وإلا يخاف حصول المقْت لمن كذّبهم».
وكان ينشد:
سأكتمُ من عِلمي به ما يصونـــــــــه وأبــــــــــــــــــــذلُ منه مــــــــــــــــا أَرى الحــــــــقَّ يُبـــــــذَلُ
وأُعطي عبادَ اللهِ منه حُقوقَهـم وأمنـــــــــــــــعُ منه ما أرى المـــــــــــــــــــــنـعَ أفضــــــــــــــلُ
أَلاَ إنَّ للرحـــــــــــــــــــــمـن ســـــــــــــــرّاً يَسُـــــــــــــــــــــــــرُّهُ إلى أهله في السِرِّ والسَــترُ أجمــــــــــــــلُ
وكان حسب ما جاء في الأثر لا يتكلم قط في علم التوحيد إلا في جوف بيته بعد أن يغلق أبواب داره ويأخذ مفاتيحها تحت وركه ويقول للمريدين: «أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى وخاصته ويرمونهم بالزندقة والكفر؟»
بنفس المعنى يجب أن نورد انزعاج الجنيد من نهج الصخب والشطح الذي أخذه الحلاج مما أدى إلى ابعاد الجنيد له بل وتنبوئه بأنه سيقتل مصلوباً، وقد روى الهجويري في كشف المحجوب حادثة ذات دلالة حصلت بين الرجلين على الشكل التالي، قال: «قرأت في الحكايات أن الحسين بن منصور الحلاج في حال غلبته ترك صحبة عمرو بن عثمان المكي، وأتى إلى الجنيد، فسأله: ما الذي أتى بك إليّ؟ فقال الحسين: طمعاً في صحبة الشيخ، فقال له الجنيد: أنا لا أجتمع بالمجانين، والصحبة تتطلب كمال العقل، فإذا لم يتوفر ذلك تصرفت معي كما تصرفت مع سهل بن عبد الله التستري وعمرا، فقال له الحسين: يا شيخ، الصحو والسكر صفتان للعبد، وما دام العبد محجوباً عن ربه تفنى صفاته، فقال له الجنيد: يا ابن منصور، أخطأت في الصحو والسكر، لأن الصحو بلا خلاف عبارة عن صحة حال العبد في الحق، وذلك لا يدخل تحت صفة العبد واكتساب الخلق، وأنا أرى يا ابن منصور في كلامك فضولاً كثيراً، وعبارات لا طائل تحتها».
وذكر الشيخ إبن تيمية قصة عن الجنيد جاء فيها: «قِيلَ للجنيد إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ وَتُبَاحَ لَهُمْ الْمَحَارِمُ -أَوْ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ- فَقَالَ:«الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا».

وفاته
توفي الجنيد رضي الله عنه سنة 297 هـ . وقد أخبر تلميذه أبو محمد الجريري عن ذلك وقال: «كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ، فقلت: «أرفق بنفسك!» فقال: «ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هوذا تطوى صحيفتي». وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: «ما هذا يا أبا القاسم!»، قال: «هذه نِعم!. الله أكبر». فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: «لو اضطجعت!»، قال: «يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر». فلم يزل ذلك حاله حتى مات».
وقال أبو بكر العطوي: «كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ في ختمة أخرى فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات وقال محمد بن إبراهيم رأيت الجنيد في النوم فقلت ما فعل الله بك فقال طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار». وتذاكر بعض أهل المعرفة بين يديه وذكروا ما استهانوا به من الأوراد والعبادات، فقال لهم الجنيد: «العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك».
وقال ابن عطاء: «دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم ردّ بعد ساعة، وقال: «اعذرني! فإني كنت في وِردي»، ثم حول وجهه إلى القبلة ومات».
وغسله أبو محمد الجريري، وصلى عليه ولده، وجرى دفنه في يوم السبت وكان ذلك اليوم على ما يذكر المؤرخون مشهوداً، فقد خرجت بغداد عن بكرة أبيها علماؤها وأمراؤها وعامتها في وداعه حتى قدر عدد المشيعين لجنازته بستين الف شخص، ودفن في مقبرة الشونيزيه، في تربة مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، عند خاله السريّ السقطي.

ضريحه
يتكون ضريح الجنيد من بناء بسيط ويعلو قبره نسبياً القبور المحيطة به حيث يقوم في مقبرة تحمل إسمه وهي ملاصقة لمنطقة وقوف القطارات ضمن المحطة العالمية وهي حافلة بالأشجار وأشجار النخيل، وهناك مسجد أقيم في المكان بإسم «مسجد الجنيد» وهو قديم العهد وفيه مصلى لا يسع سوى عدد يسير من المصلين، وقد أصابه الوهن وتخلخلت أرجاؤه في وقت مضى فأعاد عمارته وأصلحه سنة 1269 هجرية محمد نامق باشا. ويتميز مرقد الجنيد في هذا المسجد بوجود قبة صغيرة فوقه، ويضم المسجد رفاة الكثير من الصلحاء والعلماء كما تضم المقبرة مرقد النبي يوشع.

ابوالقاسم الجنيد : صِفَةُ الأَوليَاء

قال الإمام أبي القاسم الجنيد (ر):

إن لله عباداً صحبوا الدنيا بأبدانهم، وفارقوها بعقود إيمانهم، أشرف بهم علم اليقين على ما هم إليه صائرون، وفيه مقيمون، وإليه راجعون، فهربوا من مطالبة نفوسهم الأمارة بالسوء، والداعية إلى المهالك، والمعينة للأعداء، والمتبعة للهوى، والمغموسة في البلاء، والمتمكنة بأكناف الأسواء، إلى قبول داعي التنزيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل؛ إذ سمعوه يقول: }يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ{ (الأنفال:24)، فقرع أسماع فهومهم حلاوة الدعوة لتصفح التمييز، وتنسموا بروح ما أدته إليهم الفهوم الطاهرة من أدناس خفايا محبة البقاء في دار الغرور، فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب المراقبين معها، وهجموا بالنفوس على معانقة الأعمال، وتجرعوا مرارة المكابدة، وصدقوا الله في معاملته، وأحسنوا الأدب في ما توجهوا إليه، وهانت عليهم المصائب، وعرفوا قدر ما يطلبون، واغتنموا بالإجماع الأوقات وسلامة الجوارح، وأماتوا شهوات النفوس، وسجنوا همومهم عن التلفت إلى مذكور سوى وليهم، وحرسوا قلوبهم عن التطلع في مراقي الغفلة، وأقاموا عليها رقيباً من علم من لا يخفى عليه مثقال ذرة في بر ولا بحر، أرواح أنيسها الخلوة، وحديثها الفكرة، وشعارها الذكر، غذاؤها الجوع والظمأ، وراحتها التوكل، وكنزها الثقة بالله، ومعولها الإعتماد، ودواؤها الصبر، وقرينها الرضا.

من أقوال الجنيد البغدادي (ر)

أدب السر طهارة القلب من العيوب
وأدب العلانية حفظ الجوارح من الذنوب

ترك أهل التوحيد مالهم ووقفوا مع ما لله عز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم، فرد الله عز وجل كلاً إلى قيمتــــه

قال رحمه الله: «اطِّراح هذه الأمة من المروءة، والاستئناس بهم حجاب عن الله تعالى، والطمع فيهم فقر الدنيا والآخرة».

التوبة
سئل الجنيد عن التوبة فقال:
التوبة على ثلاثة معان : أولها ندم . والثاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه . والثالث السعي في أداء المظالم .

في المحبة
وصف الجنيد المحبة فقال: «المحبة إفراط الميل بلا نيل» .

قال الجنيد : الناس في محبة الله عز وجل عام وخاص . فالعوام أحبوه لكثرة نعمه ودوام إحسانه، إلا أن محبتهم تقل وتكثر، وأما الخواص فأحبوه لما عرفوا من صفاته وأسمائه الحسنى، واستحق المحبة عندهم، لأنه أهل لها ولو أزال عنهم جميع النعم.

قال أبو بكر الكتاني : جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا له: هات ماعندك يا عراقي . فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال : عبدٌ ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين .

علامة كمال الحب
سئل الجنيد عن علامة كمال الحب فأجاب: «دوام ذكره (أي ذكر المحبوب) في القلب بالفرح والسرور، والشوق إليه، والأنس به، وأثرة محبة نفسه، والرضا بكل ما يصنع، وعلامة أنسه بالله استلذاذ الخلوة، وحلاوة المناجاة، واستفراغ كله حتى لا يكاد يعقل الدنيا وما فيها».
سُئل الجنيد رحمه الله تعالى عن« الأنس بالله» فقال : «ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة».

في الأخوّة
قال رجلٌ للجنيد : قد عزّ في هذا الزمان أخ في الله تعالى. قال: فسكت عنه ثم أعاد ذلك، فقال له الجنيد : إذا أردت أخاً في الله عز وجل، يكفيك مؤنتك، ويتحمل أذاك، فهذا لعمري قليل . وإن أردت أخاً في الله، تتحمل أنت مؤنته، وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أدلّك عليهم إن أحببت.

الأدب
قال الجنيد : الأدب أدبان : أدب السر، وأدب العلانية. فالأول طهارة القلب من العيوب، والعلانية حفظ الجوارح من الذنوب.

التسليم
يقول الجنيد : من أشار إلى غير الله تعالى وسكن إلى غيره ابتلاه بالمحن، وحجب ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه، فإن انتبه وانقطع إلى الله وحده كشف الله عنه المحن، وإن دام على السكون إلى غيره نزع الله من قلوب الخلائق الرحمة عليه، وألبسه لباس الطمع فيهم، فتزداد مطالبته منهم مع فقدان الرحمة من قلوبهم، فتصير حياته عجزاً، وموته كمداً، وآخرته أسفاً ونحن نعوذ بالله من الركون إلى غير الله .

علامة الإيمان
سُئل الجنيد عن «علامة الإيمان» قال: الإيمان علامته طاعة من آمنت به، والعمل بما يحبه ويرضاه، وترك التشاغل عنه بشيء ينقضي عنده، حتى أكون عليه مقبلاً، ولموافقته مؤثراً، ولمرضاته متحرياً، لأن من صفة حقيقة علامة الإيمان ألا أوثر عليه شيئاً دونه، ولا أتشاغل عنه بسبب سواه، حتى يكون المالك لسرّي والحاثّ لجوارحي، بما أمرني من آمنت به وله عرفت، فعند ذلك تقع الطاعة لله على الاستواء، ومخالفة كل الأهواء، والمجانبة لما دعت إليه الأعداء، والمتاركة لما انتسب إلى الدنيا، والإقبال على من هو أولى، وهذه بعض الشواهد والعلامات في ما سألت عنه، وصفة الكل يطول شرحه .
أهل التوحيد
وصفهم الجنيد بأنهم «تركوا مالهم ووقفوا مع ما لله عز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم، فرد الله عز وجل كلاً إلى قيمته».

مقام الجنيد البغدادي إلى جانب مقام خاله ومرشده السري السقطي
مقام الجنيد البغدادي إلى جانب مقام خاله ومرشده السري السقطي

الإدعاء في العلم
فاحذر أيها الرجل الذي قد لبس من العلم ظاهر حليته، وأومأ المشيرون إليه بجميل لبسته وقَصَّر عن العلم بمحض حقيقته، ما وقعت به الإشارة إليك وانبسطت به الألسن بالثناء عليك، فإن ذلك حتفاً لمن هذه الصفة صفته وحجة من الله تعالى عليه في عاقبته».

فتوى الجنيد حول الذكر الخفي وفضل السر على العلانية
«الذكر الخفي هو الذكر الذي يستأثر الله بعلمه دون غيره: فهو ما اعتقدته القلوب، وطويت عليه الضمائر، مما لا تحرك به الألسنة والجوارح، وهو مثل الهيبة لله، والتعظيم لله، والإجلال لله، واعتقاد الخوف من الله؛ وذلك كله في ما بين العبد وربه، لا يعلمه إلا من يعلم الغيب. والدليل على ذلك: قوله عز وجل: }يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون {، وأشباه ذلك.
أما عن فضل عمل السر على عمل العلانية فلأن من عمل لله عملاً فأسره، فقد أحب أن ينفرد الله عز وجل بعلم ذلك العمل منه، ومعناه: أن يستغني بعلم الله في عمله عن علم غيره، وإذا استغنى القلب بعلم الله أخلص العمل فيه ولم يعرج على من دونه، فإذا علم جل ذكره بصدق قصد العبد إليه وحده وسقط عن ذكر من دونه، أثبت ذلك العمل في أعمال الخالصين الصالحين المؤثرين الله على من سواه، وجازاه الله بعلمه بصدقة من الثواب سبعين ضعفاً على ما عمل من لا يحل محله، والله أعلم.»

من مواعظه:
«اتق الله وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء، فلا تدخرن مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ولكن تزود لبعد الشقة، وأعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، صاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهداً فيها وحذراً منها فإن الصالحين كانوا كذلك».

ماذا تعلمنا فلسفة التاو

مــاذا تعلمنــا فلسفـة التــاو
والحكمــة الصينيـة القديمـة

من لاو تسه إلى تشوانغ زي

التاو (الله) أصل الوجود، مجرد عن الماهية
أزلي لا يحدّه شيء ولا تدركـه الأبصار والأفهام

رفض تشوانغ زي امتلاك شيء أو استخدام أداة
واعتبر التكنولوجيا فتنة وسبباً للتفاوت بين الناس

قال تشوانغ زي لرسول ملك طلبه لإستلام الوزارة
أُفضِّل أن أسلي نفسي في حفرة قذرة على دخول بلاط الملوك

تعتبر التاوية Taoism والحكمة الصينية القديمة أحد الفروع الكبرى للحكمة الإنسانية وإحدى أبرز مدارس الترقي الروحي والأخلاقي، وهي تندرج ضمن تيارات السلوك الروحي الرئيسية في آسيا إلى جانب البوذية والفيدانتا الهندية. لكنها تمايزت عبر الزمن وانطبعت بالحضارة الصينية (بما في ذلك لغة الماندارين الصينية) والبيئة الخاصة الإجتماعية والسياسية والثقافية للشعب الصيني، الذي عاش لآلاف السنين في عمق جغرافي منعزل نسبياً لم يطله التفاعل مع ثقافات الحضارات المحيطة وترعرعت وسط الحياة الريفية البعيدة لمجتمع زراعي بسيط وللطبيعة الأخّاذة للجبال الصينية البعيدة. في تلك الطبيعة وسكونها وجلالها وعلى ضفاف الأنهر المتدفقة أو البحيرات وجد الصينيون القدماء طمأنينة النفس وعرفوا عظمة الصانع وجعلت تلك الحياة لديهم روح البساطة المتناهية والجلد والميل إلى التأمل والبحث في أسرار ذلك الكون اللامتناهي، لكن التاوية نهلت أيضاً من البيئة الثقافية الغنية التي قامت في بلاط الأباطرة الصينيين الذين أسبغوا الرعاية والتكريم على الحكماء والفلاسفة وأخذوا هم أنفسهم بالتاوية وتأثروا بها وخصصوا لها أرفع مكانة في الإرث الروحي والثقافي الصيني. وقد تفاعلت التاوية مع فروع عدة للحضارة الصينية مثل الشعر يدخل فيها مدارس التاي تشي Tai Chi المختلفة والـ Kung Fu ومدرسة الشاولينغ وعدد من المهارات البدنية والقتالية تقوم كلها على السيطرة على الجسد وترويض الطاقة الداخلية، وهي تشبه في هذا بعض فروع اليوغا الهندية مثل الهاتا يوغا Hatha Yoga والتانتريك يوغا Tantric Yoga التي طوّرها الحكيم باتانجالي Patanjali والتي تبلغ بالمريد من خلال سيطرة الفكر التامة على الجسد حدود التحقق الروحي وانكشاف حقيقة الوجود، كما إن هذا النهج في الترويض التام لطاقة الجسد يعطي للسالك القدرة على تحقيق أمور بواسطة الجسد لا يقوى عليها الإنسان العادي وقد تبدو مثل الخوارق للكثيرين.
لا تختلف التاوية كما سنرى في مقاصدها أو ما تفرضه من شروط الزهد والفقر وترك الدنيا عن المسالك الروحية الأخرى في جميع الديانات لكنها بسبب الخصائص الفكرية والثقافية والنفسية للصينيين تمتاز بأنها لم تلجأ إلى الميثولوجيا الدينية التي لجأت إليها شعوب أخرى مثل الإغريق والهندوس ولم تنتج «ديانات شعبية» تعتمد على الرموز والآلهة أو التماثيل، والإرث الحضاري والديني الصيني وبسبب خصائص القابلية الروحية للصينيين وميلهم للتأمل العقلاني لم يكن بها حاجة لهذه الأمور، وهنا يظهر لنا درجة تفوق الصينيين وسبقهم الكبير في مجال التعبير العميق والمباشر عن الحقائق الميتافيزيقية والروحية الشديدة التجريد.
لكن التاوية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه ولم تكن في أي يوم،

في هذه البيئة الأخاذة والبعيدة عن الناس يمارس التاويون تأملهم الروحي
في هذه البيئة الأخاذة والبعيدة عن الناس يمارس التاويون تأملهم الروحي

“التاوية رغم قدمها المغرق هي من أقدم فلسفات «وحدة الربوبية» Monotheism على غرار ما تطور لاحقاً على شكل الديانات الســــــماوية الثلاث”

بل هي مسلك للتأمل والتحقق الروحي عبر الممارسة وترويض النفس، وحيث يعتمد التعليم ليس فقط على نصوص أو كتب مرجعية بل على مرشد كامل أو Master يتولى تسليك المريدين في مدارج الترقي والتقدّم في طريق تحقيق التاو، والأهم هو أن التاوية التي قد تمارسها نخبة من السالكين والباحثين عن الترقي الروحي والحقيقة ليست بعيدة عن الناس العاديين فحتى الشخص العادي أو الفلاح في أقاصي الريف يعرف التاو أولاً من التنشئة على السلوك القويم والبساطة والصدق وحياة الفقر والعمل في الأرض، ثم أن له ثانياً مرجعاً في القرية أو في قرية قريبة يذهب إليها للتعلم واكتساب الحكمة والتدرب على ترقية النفس أخلاقياً وسلوكياً وروحياً.
وهذا ما يجعل من الممكن القول إن المعتقد الروحي الصيني يمكن اعتباره من أقدم فلسفات «وحدة الربوبية» Monotheism على غرار ما تطور لاحقاً في الشرق الأدنى ثم في الجزيرة العربية على شكل الديانات السماوية الثلاث الموسوية والنصرانية والإسلام. وبالطبع تقدم التاوية الصينية مثالاً آخر على مدى الخطأ في حصر ديانات التوحيد بالرسالات الروحية الكبرى الثلاث كما يفعل بعض الجاهلين بالتنوع الروحي الهائل في الحضارة البشرية وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بالوحي المبَّلغ للرسول (ص) إذ جاء فيه في سورة غافر :
} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّهِ ..{(غافر: 78)
وبرغم أهمية الكونفوشيوسية في الإرث الفلسفي الصيني فإن هذه المدرسة صنّفت غالباً بين مدارس الأخلاقيات وتنظيم العلاقات الإجتماعية والإنسانية في خانة العقيدة الدينية وقد اهتمت الكونفوشيوسية في تكوين الشخصية الفاضلة أكثر من اهتمامها بالسلوك الروحي والتأملي، وأدخلت بصورة خاصة أهمية احترام الآباء والجدود والتي تطورت إلى ما اعتبره البعض «عبادة السلف» وهذه كلمة خاطئة لأن الصينيين يعتقدون بأن الروح خالدة وهم لذلك يقدمون الإحترام لمن سبقهم من أهلهم عبر محراب صغير يقوم في المنزل، وهذه الممارسة لا تنتمي إلى التاوية لكن إلى التقاليد الصينية التي تشبه زيارة القبور عندنا ولدى الكثير من الحضارات باستثناء الهندوسية التي لا تنشئ قبوراً بل تتبنى تقليد حرق أجداث الأموات وإلقاء رمادهم في نهر مقدس مثل نهر الغانج.
ومن الأمور التي يعتقدها المؤرخون هو أن مؤسس التاوية وهو الحكيم لاو تسه Lao Tse كان معاصراً لكونفوشيوس لكن من يطلع على أعمال الرجلين يجد بينهما تفاوتاً كبيراً في النهج والمقاصد والتعليم يكاد يشبه التفاوت أو الفارق بين المعتقد الديني الشعبي وبين التأويل الصوفي، وحيث يمكن النظر إلى تعليم كونفوشيوس باعتباره الشريعة التي سنت للصينيين لاتباعها من أجل تحقيق الحياة الفاضلة بينما تمثل تعاليم لاو تسه والحكماء التاويين وأخصهم تشوانغ زي إرث التأمل الصوفي الذي يهتم بالزهد والفضيلة والابتعاد عن الحياة العامة سعياً وراء الكمال العرفاني والروحي، وقد لعبت الكونفوشيوسية دوراً عظيماً وشاملاً في الحياة العامة الصينية لكن التاوية حققت موقعاً خاصاً لها في الإرث الفلسفي الصيني عندما أصبحت لعهود متقطعة ولكن طويلة المذهب الرسمي للأباطرة الصينيين وللمستويات العليا من الدولة.
ونبدأ بالقول إنه على الرغم من العدد الكبير من الحكماء والفلاسفة الذين ينتمون إلى التاوية وتولّوا تعليمها عبر العصور فإننا سنركّز في هذا المقال على إثنين من أكبر حكمائها وأشهرهم عبر التاريخ وهما الحكيم لاو تسه الذي ينسب إليه المؤلف المرجعي الشهير تاو ته كينغ Tao Te Ching ثم الحكيم تشوانغ زي Chuang Zi وتكتب أحياناً Zuwangzi وتعتبر أهمية تشوانغ زي بالنسبة للتاوية بمثابة أهمية أفلاطون للحكمة السقراطية، إذ إن سقراط لم يكتب شيئاً في حياته بينما وقع على تلميذه أفلاطون أن يشرح فلسفته ومبادئه في المحاورات التي ألف قسماً منها بعد وفاة المعلّم.. كذلك فإن لاو تسه لم ينسب إليه سوى كتاب «تاو ته كينغ» الموجز بينما ألف تشوانغ زي عشرات المؤلفات في عرض الفلسفة التاوية حتى أن بعض الدارسين يعتبرونه الأب الحقيقي للتاوية نظراً إلى الأثر الكبير الذي تركته كتاباته وسيرته على الإرث الفلسفي والحكمي الصيني.

“إهتمت الكونفوشيوسية بنظام الأخلاق والمجتمع وركّزت التاوية على حياة الزهد والكمال العرفاني عبر التأمـل وقطع العــــلائق والتعلم على يد مرشــــد كامل”

كونفوشيوس وضع للصين القدديمة قوانين سلوك لا زال تأثيرها قويا حتى اليوم
كونفوشيوس وضع للصين القدديمة قوانين سلوك لا زال تأثيرها قويا حتى اليوم

ما هو التاو؟
لا بدّ من أجل فهم التاوية البدء بالبحث عن ما يعنيه تعبير التاو في الإرث الشعبي الصيني وفي فلسفة التاو. والواقع أنه وبسبب صعوبة اللغة الصينية والوجوه المتعددة التي يمكن لكلمة واحدة أن توحي بها للقارئ فقد برز أكثر من شرح أو تعريف لتعبير التاو في الترجمات والأبحاث التي حاولت نقل النصوص الفلسفية الصينية القديمة إلى لغات العالم، وقد وجدنا بالإستناد إلى الترجمات الإنكليزية التي قام بها مختصون مجموعة تعريفات ركّز كل منها على معنى من معاني هذا المفهوم الأساسي فإذا بتعبير «التاو» يعني بناء على تلك التعريفات أو الوجود الإلهي أو الخالق أو الرب، والتاو هو المطلق المتخلل للوجود والذي يفعل فيه من دون أن يقوم بأي عمل فهو «مسبب الأسباب كلها» أو السبب الأصلي للحياة ونظامها والتي اتفق العابدون جميعاً على اعتباره مجرداً عن الماهية أزلياً لا يحدّه شيء ولا تدركه الأبصار أو الأفهام.
أما صلة «التاو» القوية بمفهوم «الطبيعة» فهي لا تعني أبداً أن التاوية تستند إلى عبادة الطبيعة كما في بعض الديانات البدائية بل هي شبيهة بإشارة الديانات السماوية إلى الطبيعة بإعتبارها مظهر وجود الخالق والقوانين التي تحكم الكون.
وبحسب أكثر الكتابات التاوية بدءاً من لاو تسه فإن التاو «لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ وكل ما نستطيع أن نصفه به في عبارات ضعيفة تقريبية مثل قولنا إنه وحدة الأشياء كلها وانسيابها الهادئ من نشأتها إلى كمالها، أو هو القانون أو النظام الكوني الخفي الذي يسيطر على هذا الانسياب، وهذا التاو موجود ثابت منذ الأزل وقبل أن توجد السماء والأرض» وفي هذه الوحدة الكونية تتلاشى كل المتناقضات، وتزول كل الفروق، وتتلاقى كل الأشياء المتعارضة.
للنظر في تعريف يقترحه الحكيم لاو تسه لـ «التاو» وهو يصفه على الشكل التالي:
أنظر إليه فلن تراه لأنه يتعدى الشكل
إستمع إليه فلن تسمعه لأنه يتعدى الصوت
حاول أن تدركه فلن تستطيع لأنه غير ملموس
هذه الثلاثة لا يمكن وصفها
لذلك هي كلها في الواحد
(تاو ته كينغ: 14)
ويتابع لاو تسه محاولة تعريف ما لا يمكن أن يعرف فيقول في النص نفسه:
حقيقة لا انقطاع فيها متعدية لكل وصف
وهي تعود إلى اللاشيء
إنها شكل ما ليس له شكل
صورة ما ليس له صورة
وهي تسمى ما لا يمكن وصفه
المتسامي فوق كل خاطر
(تاو ته كينغ: 14)
هذا الوصف يذكِّر بالتعبير القرآني } سبحان الله عما يصفون{(المؤمنون:91) وكذلك قوله جل من قائل } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ (الشورى: 11)
هذا الوصف لـ «التاو» يجعله قريباً جداً من وصف ما أسمته الديانات السماوية (الله) وهي تسمية لا تدل إطلاقاً على حقيقة الموجود الأولي والذي لو أنفقنا الدهور على محاولة وصفه فإننا لن نستطيع لأنه متعد لكل العبارات والأوهام. لكن الله أخبر عن نفسه بلغة تستهدف جعل طريق لعبيده إليه وتقريب حقيقته المغلقة على الأفهام إلى نفوسهم وتمكينهم من التصديق بما جاء به من أرسلهم من الأنبياء والأولياء واتباع ما أبلغه المولى من حقائق ومن هدي للناس بلسانهم وبما يلائم أفهامهم. (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

مراكز تأمل  بناها الزهاد التاويون معلقة في انكسارات صخرية يصعب الوصول إليها
مراكز تأمل بناها الزهاد التاويون معلقة في انكسارات صخرية يصعب الوصول إليها

الحكيم لاو تسه
ورد ذكر لاو تسه في كتابات المؤرخ الصيني الكبير تشيما كْيِن الذي مات في عام 85 قبل الميلاد وفي كتابه عن السير قدم المؤرخ أهم دليل على أن لاو تسه كان شخصاً حقيقياً، على عكس ما زعم الكثير من الغربيين وأن كتابه الشهير Tao Te Ching كتاب حقيقي كتب في ظروف محددة. وقد ذكر كيِن أن لاو تسه كان مشرفاً على المكتبة الملكية لسلالة «كاو» وبالنظر إلى تحلل الاسرة وهبوط شأنها فقد قرر الإعتكاف والإنسحاب من الحياة العامة وفي الطريق وعند أحد مداخل المدينة حيث كان يحاول الانسحاب خلسة إلى الطبيعة متخفياً بشخصية فلاح عرفه الشخص المولج بمراقبة المدخل، وكان هو الآخر من أتباع التاوية الدارسين، فألحّ عليه بأن يترك له أثراً مكتوباً قبل أن يدخل في مرحلة الإعتكاف والإنسحاب من العالم. عندها وبناء على طلبه قام لاو تسه بكتابة آرائه عن «التاو وخصائصه» في جزءين وأعطاه المخطوطة ودخل في الإعتكاف. ويقال إن لاو تسه مات بعد ذلك ولم يعرف أين ومتى ولم يسجل في زمانه تاريخ معروف لوفاته. ونحن نعرض إلى جانب هذا الكلام مختارات من أقوال الحكيم التي وردت في مؤلف «تاو ته كينغ»، وقد عرضنا في هذا المقال لمختارات من حكمة لاو تسه لكنه نزر يسير ونحن ننصح بالإطلاع على الترجمات الإنكليزية أو الفرنسية الرصينة لهذا السفرالنفيس، ونجد من أفضلها تلك التي وضعها بالانكليزية الكاتب الصيني جيا فو فنغ في العام 1989.
Gia-fu Feng and Jane English, Vintage Books, 1989

من أقوال الحكيم تشوانغ زي

أن تعرف أن المعرفة يمكن أن لا تَعرِف هو أعلى درجات المعرفة
* * * *
من السهل أن تمشي دون أن تترك أثراً
لكن أصعب كثيراً أن تمشي دون أن تلامس قدماك الأرض
* * * *

من لا يكون شريكاً
في التحول الكوني
كيف يمكنه أن يُحوِّل غيره من الناس
* * * *
في المياه الراكدة تنعكس الأشياء
والفكر المطمئن،
فكر الحكيم المطمئن
هو مرآة الكون وكل ما هو كائن
* * * *
أن تنسحب إلى داخلك لكن دون مبالغة
أن تطل على ما هو خارجك لكن بقدر
أن تعرف كيف تقف في الوسط تماماً
تلك ثلاثة عناصر لاكتساب الطاقة

تشوانغ زي
يعتبر تشوانغ زي أعظم حكماء التاوية بعد لاو تسه وأغزرهم إنتاجاً ويـُعتقد أنه عاش في فترتي حكم الملك هوي من ليانغ والملك شوان من تشي، في الفترة من 370 إلى 301 ق.م.. وقد تقلّد لبعض الوقت منصباً صغيراً في مدينة خيان. وزار قصور الملوك لكن يرجح أنه ابتعد بصورة مبكرة عن الحياة العامة وتحوّل إلى الزهد التام والعيش البسيط في الطبيعة، وهو رغم شهرته التي ذاعت في جل أنحاء الصين ورغم توسل الملوك له بتقلد الوزارات أو الحكم إلى جانبهم رفض وأصرّ على متابعة حياته البسيطة. وقد روي أنه لما عرض عليه دوق- ويه رئاسة الوزارة ردّ على رسول الأمير الذي حمل إليه العرض رداً مقتبضاً يدل على مدى حذره الشديد من السلطة وما يكتنفها من أهواء ومخاطر قال لرسول الملك: «اذهب من هنا لساعتك ولا تدنسني بوجودك، لخير لي أن أسلي نفسي وأمتعها في حفرة قذرة من أن أخضع لقواعد في بلاط ملك من الملوك».
وفي حادثة ثانية رفض تشوانغ زي منصب الوزير الأول في مملكة خو وأمر رسولين حملا له الطلب من الملك بالعودة من حيث أتيا وقد أوردنا القصة ضمن عرضنا لأقوال مختارة للحكيم تشوانغ زي.
وبصورة عامة فقد كانت نظرة تشوانغ زي للحكومات ولأهل السلطان مشوبة بنفس النظرة السلبية للحكيم لاو تسه وكان تشوانغ زي يقول إنه إذا وصل الطيش بأي من الفلاسفة الحقيقيين إلى وضع يصبح فيه متولياً لشؤون إحدى الممالك أو البلدان فإن الخطة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها هي أن لا يفعل شيئاً، وأن يترك الناس أحراراً يضعون ما يشاءون من نظم حكمهم وفي هذا يقول «لقد سمعت عن ترك العالم وشأنه والكف عن التدخل في أمره ولم أسمع عن حكم العالم». وعرف عن تشوانغ زي أنه كان لا يتكلم إلا قليلاً لأن الكلام في نظره يُضِل بقدر ما يهدي، ولأن التاو وهو جوهر الوجود ومحركه الواعي لا يمكن معرفته بالفكر ولا يمكن التعبير عنه بالألفاظ بل كل ما في الأمر أنه يمكن الشعور به «في الدم» أي بالإختبار الحدسي والكشف العرفاني.

تشوانغ زي والعصر الذهبي
هذه النظرة الرافضة للسلطة ولتقسيم الناس إلى طبقات ومنازل وحكمهم بوسيلة القوة ألهمت تشوانغ زي أن يكتب عن ما يعتقد أنه عصر ذهبي افتراضي حيث لم تكن هناك ثمة حكومات بل كان الناس أحراراً يديرون أمورهم ببساطة ومن دون تدخل حاكم.
يقول تشوانغ زي في وصف ذلك العصر:
«لقد كان الناس يعتقدون أن طعامهم البسيط لذيذ وكاف، وثيابهم البدائية جميلة، وكانوا سعداء بأساليبهم البسيطة ومطمئنين في مساكنهم المتواضعة وكان مرجحاً لأهل ذلك الزمان أن لا يموتوا حتى يشيخوا».
ويتابع تشوانغ زي وصف ملامح العصر الذهبي فيقول:«كان الناس يصنعون ثيابهم بأيديهم وكانوا يحرثون الأرض ويحصلون من ذلك على الطعام، كانت تلك مهاراتهم المشتركة، وكانوا جميعاً في ذلك مثل رجل واحد، فلم يفكروا في أن يقسموا بعضهم طبقات، فكان كل منهم يعيش وفق طبيعته ومهاراته. كان الرجل الفاضل في ذلك الزمن يمشي بتؤدة ومهابة كان نظرهم دوماً إلى الأمام، ولم تكن هناك مسالك مطروقة على التلال أو طرق مشقوقة، وعلى الأنهر لم تكن هناك زوارق أو سدود. كانت جميع المخلوقات تعيش مع بعضها بعضاً، وكانت أماكن عيشهم متجاورة. كانت الطيور والوحوش تتكاثر لتؤلف الأسراب والقطعان وكان العشب والأشجار تنمو بغزارة وكان يمكن أن تأخذ بزمام الطير أو الوحش دون أن يبديا مقاومة. نعم في عصر الفضيلة الأولى كان الناس والطيور والوحوش يعيشون معاً، وكانوا جميعاً متساوين مع بقية المخلوقات، وبما أنهم كانوا مثل عائلة واحدة فكيف كان لهم أن يميزوا من هو الأدنى بينهم ومن هو الأعلى؟ وبسبب كونهم مجردين من الرغائب فقد كانوا جميعاً في حال من البساطة المطلقة وكانت طبيعتهم كما ينبغي أن تكون».
يضيف في وصف «عصر الفضيلة» الذي سبق حضارتنا الحالية فيقول:

معبد السحاية البيضاء
معبد السحاية البيضاء
مركز للتأمل التاوي أقيم في منطقة نائية على رأس جبل
مركز للتأمل التاوي أقيم في منطقة نائية على رأس جبل

“من واجب الرجل العاقل أن يولي الأدبار من كل ما يتعلق بالحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاســـفة والملوك”

«في ذلك العصر، عصر الفضيلة التامة، لم يكن الناس ليعطوا أي أهمية لاتباع حكيم أو يستخدمون أشخاصاً ذوي مواهب. الأفضل مكانة فيهم كانوا مثل الأغصان العليا في شجرة، والناس على العموم كانوا مثل الغزلان البرية، كانوا على الاستقامة والصدق، وكانوا كذلك بالبداهة ودون أن يعرفوا أن هذا السلوك يسمى سلوكاً صحيحاً، كانوا يحبون بعضهم بعضاً دون أن يعلموا أن ذلك هو من قبيل المودة، كانت طبيعتهم الصدق والنزاهة من دون أن يعلموا أن تلك صفات محمودة، وكانوا يوفون بالعهود دون علم منهم بأن ذلك يسمى حسن النية، وكان كل منهم يسأل الآخر المساعدة دون أن يعلم أنهم بذلك يقدمون أي معروف أو منحة للآخر، لذلك فإن أعمالهم لم تكن تترك أي أثر، ولم يكن يبقى لذلك في الزمن أي سجل لتلك الأعمال..
من واجب الرجل العاقل أو الحكيم أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك وقد وضع الحكيم لاو تسه سجية البساطة في أعلى مقام معتبراً أن التاو يشبه لجهة البساطة الماء، ويعتبر أن عظمة الماء هي في أنه يفيد جميع الأشياء وفي كونه ينساب بإختياره نحو الأماكن الدنيا وهي التي يتجنب الناس الاستقرار فيها. من هنا فإن سلوك الماء هو أقرب ما يكون إلى التاو. لذلك تعتبر التاوية أن آلام البشرية بدأت عندما انتهى ذلك العصر وبدأت الفوارق بين الناس بالظهور، وهذه النظرة إلى مجتمع فاضل أصلي ملتصق بالطبيعة ويقوم على حسن الطوية والبراءة والمساواة البديهية ليس فقط بين الناس بل بين جميع المخلوقات، جعلت من التاوية فلسفة جاذبة للتيارات الليبرالية بل الأنارشية التي تدعو إلى مجتمع يقوم على العلاقات العفوية بين الناس من دون تدخل حاكم أو سلطة قامعة.

كره السلطة
رغم تسليم تشوانغ زي بأن زوال المجتمع الفاضل أمر مقدر في قانون التحول الدائم، فإنه اعتبر أن من واجب الرجل العاقل أو الحكيم أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك، ينشد السلام والسكون في الغابات، وأن يترك كل ما يملك وكل جاه أو منصب ويتكرس لاتباع التاو وهو الخلاق الأكبر والذي يمنّ بالحفظ على جميع الكائنات. (وذلك موضوع اجتهد آلاف المصورين الصينيين في وضع الرسوم الرائعة بالحبر الصيني لتصويره).
عندما طلب منه أحد الملوك أن يعلمه الحكمة تردد تشوانغ زي لكنه قبل أخيراً وخاطبه بهذه الكلمات: «يجب أن تكون ساكناً بلا حراك، أن تكون طاهراً، وان لا تعرّض جسدك لأي جهد، ولا أن تهيج طاقتك الحيوية، وعندما لا ترى عيناك أي شيء ولا تسمع أذناك شيء وعندما لا يعرف فكرك أي شيء فإن الروح ستعتني بالجسد وتحفظه وعندها فإنك ستعيش طويلاً. انتبه إلى ما هو في داخلك واغلق كل الطرق التي تصلك بما هو خارجك -أكثر العلوم ليس فيها أي خير- انتهى كلام تشوانغ زي.

“تخلص من جميع الرغائب ينكشف لك السر
إستمسك بالرغبة وكل ما ستراه هو مظهر السر”

موقفه من التملّك والتكنولوجيا
رفض تشوانغ زي أن يمتلك أي شيء وكان يعيش في الطبيعة على النزر اليسير من الغذاء يتخذ لنفسه مكاناً هادئاً للتأمل وسط الطبيعة الصينية الساحرة، وكان رغم توافر الأدوات الكثيرة في عصره يرفض الإستعانة بأي منها إذ كان يعتبر أنه من الأجدر به القيام بأمر عيشه البسيط بيده ودون استعانة بأي أداة، وكان وهو المؤمن بنهج المساواة بين الناس، يعتبر التكنولوجيا فتنة وسبباً للتفاوت بين الأفراد ولتفرقهم، وهذه النظرة السباقة منذ أكثر من 2400 سنة تجد صدى جاهزاً لها في التيارات الفكرية المتزايدة الإتساع التي ترى في التكنولوجيا الحديثة سبباً من أسباب أزمة البشر واتساع الفوارق بينهم سواء كأفراد أم كمجتمعات، فهناك الآن هوة شاسعة تفصل الشعوب المتقدمة عن الشعوب الفقيرة في العالم التي لا تستطيع الإستحواذ على التقنيات الحديثة في العمل والإنتاج فتجد نفسها بذلك في أسفل السلم الإنساني من حيث التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

نظرته إلى الموت
عندما ماتت زوجة الحكيم تشوانغ زي جاء أحد أصدقائه لمواساته فوجده جالساً على الأرض يضرب على وعاء نحاسي وينشد. قال له صديقه: عندما تكون الزوجة قد عاشت مع زوجها وأنجبت له الأولاد ثم تموت في كهولتها قد يكون مقبولاً أن لا ينوح الزوج عليها لكن أن يغني ويطبل أليس في ذلك مبالغة وغرابة؟ أجاب الحكيم: كلا الأمر ليس كذلك. هل تظن أنني عندما ماتت كنت مثل غريب ولم أتأثر ؟ لكنني فكرت في الوقت الذي لم تكن فيه قد ولدت بعد. عندها ليس فقط لم يكن لها جسد بل لم يكن فيها أي روح، ثم تبدّل الأمر وظهر الجسد ودخلت فيه الحياة، ثم طرأ تغيير آخر فإذا هي الآن ميتة. إن العلاقة بين كل هذه الحالات هي مثل توالي الفصول الأربعة: الربيع والصيف والخريف والشتاء. وها هي الآن تنام ووجهها إلى فوق في القاعة الكبرى. فلو بدأت النواح والبكاء عليها فإنني سأكون كمن لم يفهم ما قسم لها في الوجود، لذلك امتنعت وحافظت على طبيعتي.
يعطي تشوانغ زي مثالاً آخر عن شخصين يعانيان من عاهة ويمران بجانب القبور فيبدآن يشعران في جسديهما أن الموت يقترب منهما. سأل أحدهما الآخر: هل تخاف الموت؟ جاء الجواب: «لمَ يجب أن أخافه؟ الحياة هي شيء معار والجسد المستعار ليس سوى تراب. الحياة والموت هما أشبه بتوالي الليل والنهار».
بصورة أدق، ليس الموت في رأي تشوانع زي إلا تبدلاً في الصورة، بل إنه في نظره تغير من حال إلى حال أحسن منها، من هنا يورد الحكيم أكثر من قصة لينتهي منها بطرح السؤال حول هذا الخوف الذي يشعر به الناس تجاه موت الجسد وإذا ما كان في غير محله لأن الإنسان لا يعرف حقيقة الموت كما إنه لا يعرف حقيقة الوجود وحقيقة وجوده نفسه، وهذا الجهل بحقيقة وجودنا المفارق هو في أساس الخوف غير المبرر من الموت.
من أجل الدلالة على هذه النظرة الفلسفية العميقة إلى الموت يورد تشوانغ زي قصة عن مرض شخص حكيم يدعى تزه- لاي وكان قد أصبح طريح الفراش ينازع الموت، ووقف من حوله زوجته وأبناؤه يبكون. وذهب لي يسأل عنه فلما أقبل عليهم قال لهم: «اسكتوا وتنحوا عن الطريق! ولا تقلقوه في حركة تبدله»… ثم اتكأ على الباب وتحدث إلى الرجل المحتضر. فقال له تزه- لاي: «إن صلة الإنسان بالين واليانغ (قطبا الوجود) أقوى من صلته بأبويه. فإذا كانا يتعجلان موتي لكنني أعصي أمرهما فإنني أعدّ حينئذ عاقاً فظ الطباع. هنالك «كتلة الطبيعة العظمى» التي تجعلني أحمل هذا الجسم، وأكافح في هذه الحياة، وتهدّ قواي في سن الشيخوخة، ثم أستريح بالموت. إذاً فذلك الذي يعنى بمولدي هو الذي يعنى بوفاتي. فها هو ذو صاهر يصب المعادن، فإذاً كان المعدن الذي ينساب أثناء صبه يناديه. «يجب أن أكون سيفاً ثميناً» أو غير ذلك فإن الصاهر العظيم سيعتبر هذا المعدن خبيثاً بلا ريب لأنه يتجرأ على الصانع، وهذا أيضاً شأن الإنسان، الذي إذا ما أصرّ أن يكون إنساناً فقط، لأنه في يوم من الأيام تشكل في صورة الإنسان، فإن من بيده تصوير الأشياء وتشكيلها سيعده بلا ريب مخلوقاً خبيثاً لأنه يتجرأ على صانعه، بنفس المعنى فإن علينا أن ننظر إلى السماء والأرض نظرتنا إلى مصهر عظيم، وأن ننظر إلى مبدل الأشياء نظرتنا إلى صاهر عظيم، عندها سنكون في مكاننا الحق أينما ذهبنا.

المعرفة وقصور الفكر
يعتقد الحكيم تشوانغ زي أن مشكلة الإنسان تنبع من قصر تفكيره أكثر مما تعود إلى طبيعة الأشياء نفسها، وهو يستغرب كيف نسعى كبشر ونحن المخلوقين بعقولنا المحدودة أن نفهم لغز العالم الأكبر الذي لا نمثل نحن فيه سوى جزيئات صغيرة عابرة، ونحن بهذا المعنى نحاول تفسير الكل بمصطلحات الجزء وهو أمر يتضمن الكثير من الإسراف والاعتداد بالنفس. لهذا يرى تشوانغ زي أن تلك المحاولات أدت إلى نشوء ما لا يحصى من النظريات المتناقضة مما يؤكد أن أصحابها جميعاً بعيدون جداً عن إدراك لغز الوجود، وهو يقول إن العقل الإنساني لا يفيد في فهم الأشياء الغيبية لذلك، فإن التوصّل إلى معرفة سر التاو يقتضي من الإنسان أولاً أن يكبت معارفه العقلية وينسى نظرياته القياسية وأن يسعى لاستشعار الحقيقة بالحدس، أي بالاختبار المباشر وهذا هو النهج الذي تبنته الفيدانتا الهندية والبوذية والتصوف الإسلامي والذي يعتبر أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها بالتعلم أو التحصيل النظري بل بالمجاهدة وصقل النفس بالمجاهدات والطاعات حتى تصفو كالمرآة وتصبح قابلة لانطباع الحقائق اللدنية عليها. يقول لاو تسه في الفقرة الأولى من التاو ته كينغ .

حلم الفراشة ونسبية الفكر
من أجل إعطاء مثل على حجم الحيرة التي يمكن أن يقع فيها المرء إذا حاول فهم الوجود بالمقاييس العقلية كتب تشوانغ زي مرة ما سماه حلم الفراشة وهو حلم أصبح من أشهر النصوص الفلسفية وأكثرها انتشاراً في العالم. قال تشوانغ زي أنه رأى في منامه أنه كان فراشة ترفرف بجناحيها جذلة مسرورة هنا وهناك، ثم استيقظ ليجد نفسه مجدداً في شخصية تشوانغ زي. المشكلة التي واجهته عندها هو أنه لم يعد متأكدا إذا كان في الحقيقة رجلاً كان يحلم بأنه فراشة أم أنه الآن فراشة تحلم بأنها رجل يدعى تشوانغ زي. هذا المثال أراد منه الحكيم التأكيد على نسبية الحواس والفكر وأنه لا يمكن الركون إلى أي منهما في معرفة الحقيقة المطلقة.
في القسم التالي سنترك لأقوال الحكيمين لاو تسه وتشوانغ زي أن يقدما تعريفاً لفلسفة التاو والتي لا تختلف في الجوهر عن فلسفات التوحيد الكبرى لكنها تتميز بالأسلوب الرائع الذي يعبّر به الصينيون عن حقائق الروح وهو أسلوب مستوحى في أغلب الحالات من صور الحياة اليومية ومن الطبيعة الصينية الساحرة في غموضها وجلالها وأسرارها.

تمثال-ضخم-للحكيم-لاوتسه-أقيم-على-الجبل-المقدس-كينغ-يوان-أحد-أهم-مراكز-التأمل-الروحي-في-الصين
تمثال-ضخم-للحكيم-لاوتسه-أقيم-على-الجبل-المقدس-كينغ-يوان-أحد-أهم-مراكز-التأمل-الروحي-في-الصين

دفاع سقراط

دفاع سقراط أمام محكمة أثينا.

كيف خاطب الحكيم قضاته في أشهر مرافعة في التاريخ؟

لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه باعتباره الشرّ الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم

سقراط مخاطباً المحكمة:
مهما كان قراركم فعليكم أن تعلموا أنني لن أبدل نهجي على الإطلاق حتى ولو كان عليّ أن أموت مرّات عدة

رداً على اتهامه بالإلحاد
أن لديّ إيماناً عميقاً يفوق ما يدعيه
أي من الذين يقفون هنا ليتهمونني

يعتبر دفاع سقراط كما أورده أفلاطون في عمله الشهير Apology of Socrates من أعظم أعماله الفلسفية، ومن الصعب تسمية هذا العمل المهم بالمحاورة لأنه في الحقيقة يتركز على عرض الدفاع الذي قدمه سقراط أمام أهل أثينا الذين اجتمع منهم نحو 500 من الأعيان والناس العاديين لمحاكمته بتهمة إفساد الشبيبة وزعزعة عقائد العامة، ثم النظر في العقوبة التي يستحقها إذا ما تم التصويت بإدانته.
لا بدّ من التوضيح أن كلمة Apology لا تعني في اليونانية «الاعتذار» بل تعني «توضيحات» أو «شرح» بهذا المعنى فإن الترجمة المناسبة لهذا العمل المهم يجب أن تكون «مطالعة سقراط» أو «دفاع سقراط» وهذا مع العلم أن سقراط لم يحاول حقيقة أن يدافع عن نفسه بالمعنى المتعارف عليه، أي أن يوظف كل جهده وقوة الإقناع التي يملكها لدفع متهميه لتبرئته، فهو كما سيتضح لم يحاول ذلك ولو أنه حاول فإنه كان سيحقق ربما الحصول على تبرئته من التهم التي سيق إلى المحاكمة على أساسها، إذ إن محكمة أثينا أصدرت حكم الإدانة ضده بأكثرية بسيطة بلغت ثلاثين صوتاً وكان ممكناً لجهد أكثر تصميماً منه أن يحول تلك الأصوات لصالحه. أما لماذا لم يظهر سقراط اهتماماً كبيراً بإقناع المحلفين ببراءته فستبدو الحكمة منه في سياق هذا المقال. نلفت إلى أن مطالعة سقراط هي من أعلى أشكال التعليم الحكمي، إذ إن سقراط لم يعبأ بالرد على الحجج والاتهامات قدر سعيه لنصح متهميه وإرشادهم وقد تابع سقراط ذلك حتى بعد إصدار الحكم عليه بالموت بتجرع السم، وقد تضمّنت مداخلته الختامية عبارات عميقة دعت إلى عدم الخوف من الموت باعتباره انتقالاً من حال إلى حال كما تضمنت لغة في غاية الرقة حتى تجاه الذين أدانوه بما في ذلك قوله إنه يغفر لهم لأن ما يحصل له أمر مقدر وهو يحمل له الخير على عكس ما ظن محاكموه.
لقد اندثر محاكمو سقراط بل اندثرت من بعده أثينا نفسها التي جرّعته السم لكن سقراط بقي حياً خالداً على مر الدهور وتحولت مرافعته البليغة أمام متهميه إلى أشهر مرافعة فلسفية في التاريخ الإنساني، فهي في الحقيقة مجموعة دروس في الفضيلة وفي ما يجب أن يسعى إليه الناس وهي دعوة إلى عدم الخوف من الموت والتيقين بأن الصالحين لا يمكن أن ينالهم شر لا في هذه الدنيا ولا بعد موتهم.
لقد تمتّ محاكمة سقراط من قبل محكمة كانت أشبه باجتماع جماهيري لأنها ضمت ربما أكثر من 500 شخص تم اختيارهم بالقرعة من بين متطوعين من أهل أثينا وكان مسموحاً بحسب قانون أثينا أن تصدر تلك المحكمة أحكامها بالتصويت وبالأكثرية البسيطة أي انه كان ممكناً الحكم على شخص بالموت بفارق صوت واحد، بل إن محاكمة سقراط وإصدار الحكم عليه تمّا في جلسة واحدة وهو ما علق عليه الحكيم في مداخلته الأخيرة عندما لفت الى أن هذا الأمر غير قائم في مدن أخرى، وأنه لو أعطيت المحكمة وقتاً فإنه كان سيتمكن بصورة أفضل من إقناع المحاكمين ببراءته. أخيراً فإن الحكم بالعقوبة كان يصدر في أثينا كحكم مبرم لا يقبل الاعتراض أو الاستئناف كما هي الحال في الانظمة القضائية الحديثة.
كان ذلك نموذجاً سيئاً على ديمقراطية غير مقوننة كان سقراط من الناقدين البارزين لها بسبب ما تحمله من مخاطر الإنحياز بالعواطف أو الأحقاد السياسية أو التأثر بديماغوجيين يمكنهم دفع مواطنين لا يمتلكون النضج ولا الخبرة إلى إقرار أحكام جائرة ومتسرعة ولهذا السبب ربما فإن سقراط لم يتردد في مدح النظام السياسي الذي تبنته اسبارطة وهي العدو اللدود لأثينا والذي أوكل الحكم لنخبة مقتدرة ورفض الديمقراطية المباشرة التي تبنتها أثينا وكانت في نظر المؤرخين أحد أسباب سقوطها في النهاية.

سقراط وديمقراطية العدد
كان رأي سقراط (وكذلك رأي أفلاطون) هو أن مفهوم أكثرية الشعب مفهوم سيىء للحكم لأن الناس في معظمهم جهلاء ولا يتمتعون بأي مهارات لذلك فإنهم في كل مرة يحكمون سيرتكبون أخطاء. في المقابل فإن الحكم في نظر سقراط هو حرفة متخصصة ويحتاج إلى ملكات وإلى مهارة كبيرة ويجب بالتالي إيكاله فقط إلى أشخاص أذكياء ومهرة، وهؤلاء هم بالضرورة أقلية بين الناس. وقد أنكر سقراط أن تكون المعرفة المتوافرة للناس العاديين أو ما يمكن تسميته «المعرفة الشعبية» تستحق أن تسمى معرفة وفي أفضل الحالات فإن الجمهور لديه «آراء» وليس معرفة وهو قابل للتأثر بأهوائه وأي إنطباعات من الخارج وهو في جميع الأحوال غير مطلع على حقيقة الحال وبالتالي فإنه عندما يطلب من جمهور الناس أو «الأكثرية» أن تحسم في شأن مصيري فإن الأرجح أن يؤدي ذلك إلى أخطاء توقع الضرر بالمجتمع.
بهذا المعنى، فإن حكم العديد من الأثينيين والقادة في اليونان هو أن الديمقراطية المباشرة أي الحكم برأي الأكثرية ليس سوى حكم الغوغاء على حساب النخبة، وهو ما يوازي قلب العالم رأساً على عقب.
وقد ارتكبت الديمقراطية اليونانية أخطاء فادحة أظهرت خطورة حكم الغوغاء عندما لجأ جمهور غاضب عمل كـ «محكمة شعبية» إلى الحكم بإعدام عشرة جنرالات من قادة الجيش بتهمة أنهم لم يهبّوا إلى مساعدة أثينيين خلال الحرب. واعتبرت تلك الحادثة مثالاً صريحاً على مخاطر الديمقراطية الشعبية وهي حادثة ساهمت بحسب المؤرخين في هزيمة أثينا في حرب البيلوبونيز في مواجهة إسبارطة وربما كانت أحد الأسباب وراء محاولتين لإنشاء حكم أقلية أو حكم نخبة في أثينا ، لعب دوراً أساسياً في إحداهما إثنان من تلامذة سقراط هما كريتياس (أحد أقارب أفلاطون) لكن هاتين المحاولتين فشلتا وتمت إعادة العمل بالديمقراطية الأثينية المعهودة على عِلاتها.
يعتبر مؤرخون أن محاكمة سقراط جاءت على هذه الخلفية أي وجود شكوك بأنه أيد التخلص من الديمقراطية الأثينية الهشة لصالح حكم نخبة قوي. ولا يوجد بالطبع دليل على ذلك لأن سقراط رغم قناعاته بمساوئ الديمقراطية المباشرة، فإنه اجتنب الدخول في السياسة بل كان يعتبرها خطراً مميتاً على طالب الحقيقة. وقد أثار الحكيم هذه النقطة في دفاعه أمام «محكمة الشعب» إذ قال :
«يا أهل أثينا، لو كان لي اهتمام بالسياسة فإن ذلك كان سيتسبب بفنائي منذ زمن طويل، ودون أن ينجم عن ذلك أي خير لي أو لكم. وأرجو أن لا تنزعجوا من تمسكي بصدق القول لأن الحقيقة هي أنه لا يمكن لأي رجل يفكر في الوقوف في وجهكم أو في وجه أي جمهور وأن يحاول إصلاح الظلم وأخطاء الحكم أن يفعل ذلك من دون أن يعرّض نفسه للموت، لذلك فإن من يريد أن يعمل للخير والحق ويضمن لنفسه سنوات من العمر ولو قليلة عليه أن يعمل ذلك كمجرد مواطن عادي وليس من أي موقع سياسي».
ولهذا فقد كان سقراط كارهاً للسياسة ناصحاً للسالك في درب الحقيقة بأن يبتعد عنها لأنها بيئة الهوى والشرور ومجلبة للنفاق ولأن الاقتراب من أهل السلطان عار كبير على طالب الحكمة.

ديمقراطية أثينة - سقراط انتقد إيكال الأمور للجمهور لأنه عرضة للأهواء ولأن الحكم يتطلب مهارة وحكمة 2
ديمقراطية أثينة – سقراط انتقد إيكال الأمور للجمهور لأنه عرضة للأهواء ولأن الحكم يتطلب مهارة وحكمة 2

” من أراد العمل للخير والحق وأن يضمن لنفسه سنوات من العمر ولو قليلة عليه أن يعمل ذلك كمجرد مواطن عادي وليس من أي موقع سيـــاسي  “

سقراط المزعج
حقيقة الأمر هو أن الدور المزعوم لسقراط في محاولة التخلص من الديمقراطية المباشرة لم يرد في أسباب المحاكمة وليس هو السبب الأهم بل السبب الأساسي هو أسلوب سقراط الفريد في محاولة دفع الناس للتركيز على الحقيقة والمثل العليا وإظهار ضعف السياسيين والمفكرين و«وجهاء» المجتمع الذين يدعون معرفة الحقيقة وهم بعيدون عنها. وهذا الأسلوب في دفع الناس لأن يدركوا جهلهم كان مرتكز المنهج السقراطي إذ كان هدف الحكيم وما يعتقد أنه الخدمة التي يقدمها لأهل زمانه وخصوصاً اللامعين منهم أو الشباب هو امتحان ادعائهم العلم أو الحكمة عبر حوار وأسلوب في السؤال والتدرج من مسألة إلى مسألة إلى أن يريهم في الحقيقة أن ما يعتقدونه من علمهم أو حكمتهم ليس في الحقيقة علماً ولا حكمة. وبالطبع فإن الكثيرين من هؤلاء كانوا يشعرون بالغيظ من سقراط بسبب ذلك لأنه أحرجهم، ويعترف سقراط في دفاعه أمام «المحكمة» أن أسلوبه في امتحان أدعياء المعرفة والحكمة جعل له أعداء كثيرين في المجتمع ولاسيما وأنه اعتاد أن يحاور في الأسواق وفي الأماكن العامة وليس في مجلس خاص يجمعه مع دعاة المعرفة.
واقع الأمر أن أكثر الذين اجتمعوا لمحاكمة سقراط كانوا يعرفونه أو يعرفون عنه وعن الشهرة التي اكتسبها في كل أنحاء أثينا، بعضهم كان معجباً به وبأسلوبه لكن قسماً منهم كانوا من الذين ربما حاججهم في السوق أو في الروتندا أو غيرها من الأماكن التي اعتاد اليونانيون ارتيادها على سبيل التواصل والتحدث في الأمور العامة. سأل سقراط الذين اجتمعوا لمحاكمته: «ربما تقولون إن سقراط لا بدّ استحق الاتهام بسبب ذيوع أمره وأسلوبه في المدينة وأنه لا بدّ أن يكون وراء تلك الشهرة ما يؤكد الاتهامات الموجهة إليه. وأنا أعتبر هذا الظن ربما له ما يبرره لذلك سأشرح لكم كيف بلغ بي الأمر أن أصبحت على تلك الشهرة ولماذا أدى أسلوبي في محاجة مدعي العلم والمعرفة إلى استياء كثيرين مني ومناصبتهم لي العداء».
يقدم سقراط للمحكمة ما يعتبره سبب انطلاقه في المدينة بأسلوبه الشهير في الحوار التدرُّجي. يقول:
« بدأ الأمر كله بتصرف طائش من شيريبون كما تعرفونه. فقد قرر يوماً الذهاب إلى معبد دلفي وسأل أهل الغيب فيها أن يخبروه إذا كان هناك من حكيم أو عارف يفوق سقراط، وقد جاءه الجواب بأنه لا يوجد من يفوق في المعرفة والحكمة سقراط. ورغم أن شيريبون مات الآن فإن شقيقه موجود في هذه المحكمة وفي إمكانه أن يؤكد لكم هذه القصة. والحقيقة أنني تعجبت لهذه القصة لأنني أعلم بأنني لست حكيماً، لكن بما أن أهل الغيب لا ينطقون إلا بوحي الحق فإنني قلت في نفسي إن الطريقة المثلى لكي أؤكد فيها أنني لست أحكم وأعقل أهل المدينة هو أن أجد من هو أكثر حكمة ومعرفة. وهكذا بدأت رحلة محاوراتي للناس في كل مكان لقد كنت أبحث وأدقق وأتوجه إلى من يدعون الحكمة وأبدأ بمحاورتهم للتأكد إذا كان أحدهم يفوق سقراط معرفة وحكمة، وعندها فإنني أكون قد أثبت صحة موقفي. لكن هالني أن كل من اجتمعت بهم كانوا لا يعلمون شيئاً لكنهم يظنون أنهم يعلمون، وتبين لي أنني نفسي لا أعلم شيئاً لكنني على الأقل أعلم أنني لا أعلم، وبهذا وجدت فعلاً أنني متفوق عليهم ليس بأنني أعلم بل بأنني أعلم أنني لا أعلم، بل إنني أقسم لكم يا أهل أثينا بأنني وجدت اكثر الناس ادعاء بالمعرفة هم أحمقهم بينما وجدت أناساً بسطاء يعتبرون من الجاهلين أكثر معرفة من أولئك الحمقى».
يتابع سقراط شرحه لهذه النقطة بالقول:
«إن محاولتي استقصاء هذا الأمر وبالتالي قيامي باختبار منطق كل من يدعي المعرفة جعل لي أعداء من أسوأ الأصناف وشجع الكثيرين بالطبع على نشر مختلف أنواع الأباطيل والوشايات ضدي . لقد أسموني بالحكيم لأن من يستمع إليَّ يعتقد أنني أمتلك الحكمة التي لا يجدونها في الآخرين. لكن الحقيقة يا أهل أثين هي أن الله وحده هو الحكيم، وإذا كانت قد شاعت تسميتي بالحكيم فما ذلك إلا لأن الله يريد أن يضرب بي مثلاً كأنه يقول: أيها الناس هل يعلم أحكمكم سقراط أن حكمته لا تساوي شيئاً؟ لقد أخذت هذه الحرفة مني كل وقتي حتى لم يعد لي متسع للقيام بأي عمل آخر وهذا فقري يشهد على ما أكابده جراء تكرسي لله».
وهنا يتنبأ سقراط عن معرفة بمجتمع أثينا الذي داخله الفساد أنه وبسبب تعلقه بالحقيقة فإنه ربما ينتهي إلى أن يدفع الثمن. ويقول : «لقد أصبح لي أعداء كثيرون وهذا ما سيؤدي إلى تدميري إذا ما تمّ لهم ذلك، بل انا على ثقة من ذلك لكنني لا أردُّه إلى مليتوس ولا إلى أنيتوس (وهما اثنان من المدعين الثلاثة) بل إلى حسد وروح الأذية في المجتمع، وقد جلبت هذه الخصال الموت لكثير من الرجال الأبرار من قبل وهي على الأرجح ستأتي بالموت لمزيد منهم ولن أكون ربما آخر الضحايا».

“الإنسان الصالح لا يحسب إذا كان عمله سينتح عنه حياة أو موت، بل فقط إذا كان ما يعمله حقاً أو باطــلاً”

قاعة تشبه المحكمة التي حوكم فيها سقراط في أثينة قبل 24 قرنا
قاعة تشبه المحكمة التي حوكم فيها سقراط في أثينة قبل 24 قرنا

يكمل سقراط فيقول: «البعض قد يقول: ألا تخجل يا سقراط من اتباعك طريقاً في الحياة سيؤدي على الأرجح إلى هلاكك؟ ولمثل هذا الشخص فإن جوابي البسيط سيكون: أنت في ضلال بعيد، لأن أي إنسان فيه قدر من الصلاح لا يجب أن يحسب الأمور بحسب ما قد يرتبه عمله من حياة أو موت، بل عليه أن يأخذ في الاعتبار فقط إذا كان ما يعمله خيراً أو شراً وهل ما يقوم به هو عمل رجل صالح أم رجل فاسد». على العكس من ذلك يضيف سقراط: « لقد أمرني ربي بأن أقوم بعمل الفيلسوف أو داعية الحق وأن أقوم بالبحث في داخلي وفي الآخرين ولو أنني فكرت بالفرار من موقعي على الجبهة (خلال الحرب التي شارك فيها) خوفاً من الموت أو أي خوف آخر سيكون ذلك مستهجناً بكل مقياس، كذلك فإنني لو خالفت أهل الغيب في دلفي لأنني أخاف الموت فإنه لن يصح لي عندها ادعاء الحكمة وأنا لست كذلك، لأن الخوف من الموت هو علامة ادعاء الحكمة وليس علامة الحكمة، لأن من يخاف الموت يزعم أنه يعلم ما ليس معلوماً، لأنه في الحقيقة لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه كما لو كان الشر الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم»!
هنا نأتي إلى أهم مقطع في مداخلة سقراط إذ يقول مخاطباً «محكمة الشعب»:
«لو قلتم لي إننا يا سقراط لن نعطي بالاً لاتهام أنيتوس وسنخلي سبيلك لكن بشرط واحد وهو أن تتوقف عن البحث والتنقيب بطريقتك، وإنه في هذه الحال لو تمّ ضبطك بعد ذلك تقوم بهذا الأمر مجدداً فإنك ستموت بالتأكيد. إذا كان ها هو شرطكم لإطلاق سراحي فإنني سأجيبكم: يا أهل أثينا إنني أكنّ أقصى الاحترام والحب لكم لكنني سأطيع في ذلك إرادة الله وليس إرادتكم. وطالما بقي فيّ رمق فإنني سأستمر في تشجيع أي شخص ألتقيه على الأخذ بطريقتي والاقتناع بقولي وسأقول له: كيف يمكن يا صديقي وأنت مواطن هذه الدولة العظيمة أثينا أن تركض خلف أكبر قدر من المال والجاه والسمعة بينما أنت لا تقوم بأي جهد مقابل من أجل اكتساب الحكمة والحقيقة والإرتقاء عالياً بالروح وهي أمور لا يبدو أنك تلقي بالاً إليها ابداً. ألا تخجل من ذلك؟ فإن أجابني الشخص المخاطب أن هذه الأمور تهمه حقاً فإنني لن أتركه يذهب قبل أن احاججه وأحاوره وأتفحص ما يعتقده، فإن رأيت فيه شخصاً مفتقداً إلى الفضيلة رغم ادعائه امتلاكها فإنني سأتركه لشأنه بعد أن أوجه إليه اللوم بأنه يقلل من شأن ما يستحق التعظيم ويعظم شأن ما هو أقل قيمة، وأنا أفعل ذلك مع كل إنسان ألتقيه شاباً كان أم كهلاً مواطناً كان أم أجنبياً زائراً، لكنني أهتم بصورة خاصة بمواطني أثينا لأنهم أخواني لأن هذا هو أمر الله لي، ودعوني أقول لكم إنه لم يحصل في أي وقت للدولة خير يوازي ما تحصل عليه من جراء هذه الخدمة التي أقدمها لوجه الله وأنا ليس لي عمل في الحقيقة سوى المشي في الأسواق أحاول أن أقنعكم جميعاً شيباً وشباناً على حد سواء أن لا تهتموا كثيراً بحاجات شخصكم وممتلكاتكم وأن تجعلوا همكم الأول العمل على ترقية الروح. أقول لكم إن الفضيلة لا تأتي من امتلاك المال وإنه من الفضيلة يأتي المال وأنواع الخير الكثيرة للإنسان وللمجتمع. هذا هو ما أعلمه فإن كان هذا النوع من التعليم فيه حسب زعمكم إفساداً للشباب فإن تأثيري عليهم ولا شك تأثير هدّام. لكن إن ادّعى أحد أن ليس هذا ما أعلمه فإنه يأتي ببهتان صرف. لذلك فإنني أقول لكم يا أهل أثينا إن في إمكانكم أن تأخذوا جانب أنيتوس أو أن لا تأخذوا جانبه. يمكنكم أن تدينوني أو أن تبرئوا ساحتي، لكن مهما كان موقفكم ومهما كان قراراكم فعليكم أن تعلموا أنني لن أبدّل نهجي على الإطلاق حتى ولو كان عليّ أن أموت مرات عدة!

“ليكن واضحاً أيها الأثينيون أنني لا أحاول هنا إنقاذ نفسي كما قد تعتقدون بل إنني أحاول إنقاذكم أنتم بحيث لا تقــعون في إثم كبير يخـــالف أمر الله “

من أجل تأكيد تمسكه بما يعتبره حقاً بغض النظر عن النتائج أوضح سقراط أمراً مهماً آخر لهيئة «المحكمة الشعبية » وهو أنه لم يعبأ باستدرار عطف الجمهور لعله يستميل أكثريتهم لتبرئته. قال لهم إن المتهم الخائف على حياته أو عقوبة شديدة غالباً ما يحضر أسرته وأولاده إلى المحكمة يبكون ويسترحمون لعل ذلك يؤثر على موقف الهيئة القاضية. أما بالنسبة إليه فهذا غير وارد البتة ويقول:« رغم أنني أمام خطر أن أفقد حياتي فإنه لا يمكن أن يخطر في بالي فعل مثل هذه الأشياء وقد يستثير امتناعي عن ذلك بعض أعضاء المحكمة فيميلون بسببه لأن يحكموا علي بصورة أقسى. أصدقائي إنني إنسان مثل غيري من البشر وأنا من لحم ودم ولست مصنوعاً من الخشب أو الحجر، كما يقول هوميروس، كما إن لي أسرة ، لكن رغم ذلك فإنني لن آتي بأي منهم للضغط عليكم من أجل تبرئتي. لم لا أفعل ذلك؟ ليس لأنني أظهر عناداً أو لأنني أستخف بهذه المحكمة، أما إن كنت بذلك خائفاً من الموت أو غير خائف فذلك أمر آخر لن أتحدث فيه الآن، لكن شعوري هو أن سلوكاً من هذا القبيل سيكون عاراً عليَّ وعلى دولة أثينا بأسرها».
لكن سقراط يحذر الأثينيين في الوقت نفسه من أن قتلهم له بغير حق سيتسبب بالأذى لهم أكثر مما سيلحقه به يقول:
«يا أهل أثينا كم أودّ منكم أن تدركوا بأنكم إن قتلتم شخصاً مثلي فإنكم ستؤذون أنفسكم أكثر من أذيتكم لي. إن مليتوس وأنيتوس لن يقدرا على إيقاع الأذى بي، لن يستطيعا ذلك لأنه ليس من طبيعة الأشياء أن يستطيع رجل وضيع أن يقود أو يؤذي رجلاً أفضل حالاً منه. وأنا لا أنكر أنه في إمكان أي منهما أن يتسبب بقتلي أو أن يرسل بي إلى منفى بعيد، أو يحرمني من حقوقي المدنية، وهو قد يعتقد وربما آخرون أيضاً قد يعتقدون أنهم بذلك يسببون أذى عظيماً لسقراط، لكنني لا أتفق معهم، لأن الشر في قيام شخص مثل أنيتوس بسلب شخص آخر حياته ظلماً وعدواناً هو أعظم بكثير مما يسببه للضحية».
«وليكن واضحاً أيها الأثينيون أنني لا أحاول هنا إنقاذ نفسي كما قد تعتقدون بل إنني أحاول إنقاذكم أنتم بحيث لا تقعون في إثم كبير يخالف أمر الله أو بحيث تستخفون بأنعامه عليكم من خلال إصراركم على إدانتي، أنكم إن قتلتوني فإنكم لن تجدوا بسهولة شخصاً آخر مثلي، إن شخصاً بلغ من العمر ما بلغته واشتهر عنه اتصافه بالحكمة (سواء أكان مستحقاً لهذا الوصف أم لا) لا ينبغي له أن يحطّ من قدر نفسه، لقد قرر الناس أن سقراط بصورة أم بأخرى يمتاز عن غيره من الرجال فلو أن من يعتبرون من كبار القوم يهبطون بقدرهم على هذا النحو فإنهم سيجلبون العار على أنفسهم. ولقد رأيت رجالاً مشهورين ورأيت كيف أنهم عندما حكم عليهم كانوا يتصرفون بطرق غريبة وبدا لي أنهم يتوهمون بأنهم سوف يتعرضون لتجربة رهيبة في ما لو ماتوا وأن في إمكانهم بالتالي أن يعيشوا إلى الأبد لو أنك أعطيتهم الفرصة لذلك، وأعتقد أن هؤلاء الرجال كانوا وصمة عار على جبين الدولة الأثينية، ولو أن غريباً رأى هذا المشهد فإنه كان سيقول إن عظماء أثينا ورجالاتها الذين حظوا باحترام وتبجيل العامة ليسوا في حقيقتهم أعلى درجة من النساء».
وسيضيف سقراط في مكان آخر من الدفاع أنه لم يتقاض في حياته أي مال على الخدمة التي يقدمها للمواطنين مشيراً إلى أنه رغم كل الإفتراءات التي بنيت عليها القضية فإن أحداً من الذين ساقوا الإتهامات ضده لم يجرؤ على مجرد الإدعاء بأن أياً من الدروس أو النصائح التي كان يقدمها لمن يطلب إنما تمت مقابل المال. ويعطي على ذلك دليلا قاطعا هو حالة الفقر التي يعيش فيها.

منظرعام لأثينة القديمة - هنا جرت المواجهة بين سقراط ومتهميه
منظرعام لأثينة القديمة – هنا جرت المواجهة بين سقراط ومتهميه

سقراط والإيمان
«لا يمكنكم أن تنتظروا مني أيها السادة أن أتصرف معكم (في موضوع الإيمان) بطريقة أعتبرها غير مشرفة ولا إخلاقية وغير منسجمة مع واجبي الديني. وبصورة خاصة لا يمكنكم أن تنتظروا مني ذلك وأنا المتهم أمامكم من قبل مليتوس بالإلحاد أو عدم التصديق بالألهة ومن البديهي أنني لو حاولت إقناعكم أو دفعكم بطروحاتي لكي تتنكروا لإيمانكم فإنني سأكون كمن يعلمكم أن تكفروا بعقيدتكم.إن (اتهام مليتوس ) هو أبعد ما يكون عن الحقيقة لأن لدي إيماناً عميقاً ومخلصاً يفوق ما يدعيه أي من الذين يقفون هنا ليتهمونني. وأنا أترك الأمر لكم ولله لكي تحكموا على ذلك».
في مقابل آلهة اليونان أظهر سقراط احتراماً ظاهرياً لعقائد العامة وقد ظهر ذلك أثناء محاكمته، إذ كان أحد المدعين وهو مليتوس قد اتهمه بالإلحاد وعدم الإيمان بأي من الآلهة التي تشكل مرتكزات العقيدة اليونانية، لكن قليلاً من المحللين الغربيين الذين سعوا لفهم معتقده الديني وفق ذلك لأنهم جميعاً انطلقوا من عباراته الظاهرة وبعض التصريحات المقتضبة التي تطرق فيها إلى موضوع الآلهة ولم يدخلوا في محاولة فهم سقراط العامل الأهم في تاريخه وهو أنه كان حكيماً ليس بالمعنى العقلاني الغربي بل بالمعنى الذي تأخذ به العقائد الشرقية من الهند إلى مصر القديمة مروراً بالحقبة الهيلينية التالية للفيثاغورسية وهو مفهوم الحكيم كرجل رباني مكشوف على الحقائق اللدنية، وهذا المفهوم للحكيم العارف بالله لا يختلف بين حضارة وأخرى وإن كانت تعبيراته تختلف لأنها تتبع لغة الجماعة واختيارها الروحي وأحياناً عقائدها الخاصة، وقد عرف عن الحكماء جميعاً في كل زمان أنهم يكتمون الكثير من اختبارهم الروحي خوفاً من زعزعة عقائد العامة وأنهم يتخذون دوماً موقف الاحترام للعقائد السائدة. ومن المستحيل أن تجد في التاريخ الطويل للحضارة حكيماً يفصح عن مكنونات الحكمة واختبار العرفان لأن هذا النوع من الاختبارات لا يمكن شرحه بالعبارات ولا بالإشارات، فكيف بمحاولة إفهام غوامضه للعامة؟ لذلك تبقى مضامين الاختبار الحكمي في صدر الحكيم يظهر منه ما يشاء من تلمحيات أو إشارات أو قد يكشف عن بعضه لمن يقبل باتخاذهم كمريدين، وحتى في هذه الحال فإنه لا يتحدث لمريديه كلهم بنفس اللغة بل يعطي لكلٍّ منهم على قدر استيعابه واستحقاقه. فالحكيم هو لغز وحقيقة محجوبة ويستحيل على الناس العاديين إدراك كنهه بملكات التفكير أو القياس أوالتحليل العقلاني.
لقد كان سقراط حكيماً كاملاً وقطباً للعرفان ومستودعاً للأسرار لكن الطريق التي اختارها تأثرت كثيراً بالمجتمع الأثيني الذي كان مجتمعاً وثنياً، فكان عليه بالتالي أن يكتم اختباره الروحي وأن يتخذ في الوقت نفسه موقف عدم الدخول في موضوع العقيدة الأثينية فهو لم يعارضها لكنه لم يتبناها أيضاً ووقف بذلك دوماً موقفاً ملتبساً. هذا الموقف الملتبس وتجاهل سقراط للعقيدة الأثينية في تعليمه كان بادياً لأخصامه رغم مسايرته الظاهرية للعقيدة الأثينية أو الهيليلنية القديمة وقد يكون هذا أحد الأسباب التي شجعت مليتوس ورفيقيه على الإدعاء على سقراط بتهمة الإلحاد أو عدم الإخلاص لآلهة المدينة. أبرز علامات التمايز التي أظهرها سقراط عن نظام العقائد اليوناني حديثه الدائم عن «الله» أي عن إله واحد كان يشير إليه بصورة لا تتضمن نفياً أو إنكاراً لعقيدة اليونانيين لكنه كان يتضمن تجاهلاً واضحاً لإعلان التصديق لها.

معبد البانتيون - الأكروبوليس في اثينا
معبد البانتيون – الأكروبوليس في اثينا

“انا في طريقي الى الموت وأنتــم إلى الحياة، فأيُّ الطريقين هو الأفضـــل؟ الله وحده يعلم الجواب”

الأمر الآخر المهم الذي تحدث فيه سقراط عن «إيمانه» المختلف والذي تسبب في استثارة شكوك جمهور المدينة حول إخلاصه للعقيدة الرسمية، كان إشارته في دفاعه أمام المحكمة وفي مناسبات أخرى لما كان يعتبره «الصوت» أو الملاك الحامي daimonion أو «الوحي» الذي كان يأتيه ويرشده، ومن أجل إبقاء الغموض،
فإن سقراط لم يرد أن يشرح حقيقة إلهام الحكيم وما يرده من كشوفات -فقد كانت البيئة الفكرية في أثينا غير مؤهلة لتقبل ذلك- لذلك ابتدع وصفاً فيه من التقية ومن الطرافة في آن عندما جعل الصوت أو الوحي مختصّاً بأن يهديه ليس لما ينبغي له القيام به من أعمال لكن فقط لما يجب أن يمتنع عنه، فإن هو أقبل على أمر ما ثم أتاه الصوت ليحذره من الإقدام على ما كان ينوي فعله فإنه يعمل على الفور بوحيه. إن فكرة وجود وحي خاص لحكيم مثل سقراط يستند إليه في تقرير أموره بدا لبعض أهل أثينا كأنه يحمل تشكيكاً بنظام العقائد الذي كانت تعمل به المدينة. وبصورة عامة فقد كانت حقيقة إيمان سقراط سراً خاصاً بقي في صدره ولم يطلع عليه -أو على بعضه على الأرجح- إلا بعض المريدين الأصفياء مثل أفلاطون وزينوفون.
في هذا السياق، وللرد على اتهامه بزعزعة عقائد العامة وإفساد عقول الشبيبة، نفى سقراط نفياً باتاً أنه كان يعلم بعض الناس سراً أي أنه يعلم في السر أموراً معارضة لما يقوله في العلن، وبالتالي معارضة لعقائد المدينة وهو يقول لهذه المحكمة التي لا تضم قضاة بل جمعاً كبيراً من الناس من شتى الأهواء: في الحقيقة إنني لم أتخذ مريدين، لكن لو رغب أي كان سواء كان شاباً أو كهلاً في أن يأتي ويستمع إليّ في الأوقات التي أتابع فيها مهمتي فإن له ذلك، لكنني لا أتحدث لأي كان لأنه يدفع مالاً ولا أحجب حديثي عن أي كان لأنه لا يدفع المال. فأي شخص سواء كان فقيراً أو غنياً يمكنه أن يسألني وأن يستمع إلى كلماتي وإذا تبين بعد ذلك أن الرجل كان صالحاً أو سيئاً فلا يمكن لأحد أن يحملني المسؤولية عنه لأنني لم أعلمه أي شيء. وإذا زعم أحد بأنني علمته سراً أشياء مختلفة عما يستمع إليه جميع الناس فإنني أود أن تعلموا أنه لا يتحدث بالحقيقة.

إدانة سقراط
عندما أصدرت المحكمة قرارها بإدانة سقراط باتت الخطوة التالية هي تحديد نوع العقوبة، وهذا الأمر كان يتطلب في المحاكمة الأثينية تصويتاً آخر مستقلاً عن الأول. وجرى بالتالي نوع من الترافع بين سقراط وبين متهميه الثلاثة أظهر بدوره جانباً من الشخصية الفذة للحكيم. بعد أن طلبت الجهة المدعية إنرال عقوبة الإعدام بسقراط، وقف الحكيم وخاطب المحكمة بالعبارات التالية، قال: لقد اقترح الإدعاء عقوبة الإعدام بعد إدانتي، فما الذي سأقترحه بدوري؟ وما هو الذي يجب علي أن أدفعه أو أن أحصل عليه؟ كيف يجب أن تتعاملوا مع رجل لم يخطر في باله السكون للراحة طيلة حياته؟ ولم يظهر أي اكتراث بما يحرص الكثيرون على ان يجروا وراءه- الثروة ومصالح العائلة أو المناصب العسكرية أو إلقاء الخطب في البرلمانات أو تولي المسؤوليات في الدولة وفي الزمر أو الأحزاب؟

“أيها الأثينيون إن العار سيلاحقكم لأن خصومكم سيقولون لقد قتلوا الحكيم سقراط، ولو انتظرتم قليلاً لكان أفضل لإننـــي رجل كهل وفي طريقي إلى المـــوت على أي حال”

يقول سقراط: «لقد فكرت بأنه من الصعب عليّ كرجل نزيه وصادق أن أتبع تلك المسالك من دون أن أتسبب لنفسي بالهلاك، لذلك فإنني لم أسر في أي طريق حيث لا يمكنني أن أقدم خيراً لنفسي أو لكم، بل حيث يمكنني أن أقدم أعظم الخير لكم ولنفسي، لقد سرت في طريقي وسعيت لأن أقنع كل شخص منكم بأن يهتم بالنظر في نفسه واتباع طريق الفضيلة والحكمة قبل النظر في مصالحه الخاصة، وأن يهتم بالدولة قبل الاهتمام بمصالح الدولة وأن يطبّق هذا النهج على كل أعماله، فما الذي يجب أن تفعلوه لرجل كهذا؟ بالتأكيد يجب أن تبادلوه الحسنى بالحسنى، يا أهل أثينا، لو أن هذا الرجل استحق مكافأة فإن المكافأة يجب أن تكون بما يلائمه، وأي مكافأة هي التي تناسب رجلاً فقيراً أحسن إليكم ويتمنى لو أن له المزيد من الوقت لكي يعلمكم؟ لا توجد مكافأة له أفضل من تأمين عيشه طيلة حياته في البيت المقدس لأثينا (البريتانيوم) وهي جائزة يستحقها أكثر بكثير من الذين حصلوا عليها بسبب فوزهم في سباق عربات الخيول في الأولمبيا، لأنني شخصياً في حاجة إلى تلك الجائزة بسبب فقري والذي فاز في السباق ليس فقيراً وهو لم يقدم إليكم سوى سعادة ظاهرة، بينما أنا أقدم لكم الحقيقة».

تعليق سقراط على حكم الموت
بعد الكلمات والمرافعات المتبادلة صوتت المحكمة فأصدرت حكماً بالموت على سقراط بتجرع السم. لم يرف جفن الحكيم الذي كان واقفاً في حالة من الحبور والطمأنينة ولم يظهر أي مفاجأة لأنه كان عملياً ينتظر تلك النتيجة، كل ما فعله أنه استمر في توجهه الأبوي للأثينيين يخاطبهم ويعظهم في ما هو خيرهم. وكان أول تعليق له أن قال:
«أيها الأثينيون إنكم لن تربحوا شيئاً (من إصدار الحكم) بل إن العار سيلحق بالمدينة لأن خصومها سيقولون أنكم قتلتم الرجل الحكيم سقراط، وهم سيطلقون عليَّ صفة الحكيم رغم أنني لست كذلك، لكن من أجل أن يدينوا أثينا. ولو أنكم انتظرتم قليلاً فإن رغبتم في موتي كانت ستتحقق بفعل قانون الطبيعة، ذلك أنني رجل تقدمت به السنون كما ترون ولم أعد بعيداً عن الموت، وأنا أتحدث الآن فقط لأولئك الذين أصدروا علي الحكم بالموت. وهناك شيء آخر أود أن أقوله لهم: أنتم تعتقدون بأن الحكم صدر ضدي بسبب إهمالي في تقديم الدفاع اللازم أي لو أنني لم أوفر أي وسيلة أو حجة لمحاولة إقناعكم فإنني كنت سأحصل على حكم بالبراءة. لكن الحقيقة هي غير ذلك! إذ إن ما أوصلني إلى الحكم بموتي ليس نقص في الكلمات أوالدفاع بل هو أنه ليس لدي الاستعداد لكي أخاطبكم بالطريقة التي كنتم تريدونني أن ألجأ إليها، وهي لغة البكاء والنحيب والتذلل وأن أسلك معكم السلوك الذي اعتدتم عليه من الآخرين فهذه الأعمال ليست من شيمي .
إنني أفضل أن أموت بسبب تمسكي بطريقتي على أن أعيش لأنني قبلت بطريقتكم، ومن غير المقبول في الحرب أو في القانون أن يلجأ المرء لكل الوسائل من أجل الفرار من الموت، ولو أن جندياً قام بإلقاء سلاحه أمام العدو ثم جثا على ركبتيه متذللاً فإن من الممكن له أن ينجو من الموت. كذلك وفي مواجهة أخطار أخرى فإن هناك طرقاً عدة مماثلة للفرار من الموت إذا كان المرء مستعداً ليقول أو يفعل أي شيء. لكن المشكلة يا أصدقائي ليست في تجنب الموت بل في تجنب الباطل لأن الباطل يجري أسرع من الموت. إنني رجل كهل وأتحرك ببطء لكن الذين يتهمونني متحمسون وعلى عجلة من أمرهم.، وقد تمكن الباطل وهو الأسرع جرياً من أن يتقدم عليهم.
والآن، ها أنا أغادر المكان وقد حكم علي من قبلكم بالموت، والذين حكموا علي أيضاً سيغادرون أيضاً وقد حكم عليهم من الحقيقة بأن يعذبوا بوزر الشر والظلم وسأتحمل أنا ما قسم لي وليتحملوا هم ما قسم لهم وربما ينظر البعض إلى مثل هذه الأمور باعتبارها مقدرة وأنا بالفعل اعتبرها كذلك بالتأكيد.
بعد ذلك توجه سقراط إلى أعضاء المحكمة الذين صوتوا ببراءته فخاطبهم قائلاً:

هنا سجن سقراط قبل إعدامه
هنا سجن سقراط قبل إعدامه

“أيها القضاة، أريدكم أن تحسنوا الظن بالموت واحفظوا جيداً هذه الحقيقة وهي أنه لا يمكن لأي شر أن يلحق برجل صالح سواء في حياته أو بعد الموت”

أنتم أصدقائي لذلك سأريكم ما اعتقد أنه العبرة مما حدث لي:
وسأحدثكم هنا عن أمر رائع يتعلق بالصوت الخفي الذي حدثتكم عنه وهو الوحي الذي غالباً ما يعارضني في كل مرة أهمّ فيها لعمل أمر معين تشوبه شائبة، هذا الصوت يعارضني أحياناً عندما أكون على وشك ارتكاب ولو هفوة صغيرة، الغريب في الأمر أن هذا الصوت لم يتدخل أبداً اليوم ولم يعارضني في أي أمر منذ أن خرجت من البيت متوجهاً إلى هذه المحكمة، وعندما صعدت درجات المبنى، وكم من مرة اعترضني فيها الصوت عندما أكون في حديث، لكنه اليوم لم أجد منه أي اعتراض. فما الذي أفهمه من ذلك؟ سأقول لكم إن ذلك برهان على أن ما حصل لي اليوم هو خير وأن اولئك الذين من بيننا يظنون بأن الموت شر هم مخطئون، إذ إنه لو كان الموت كذلك فإن الصوت المعتاد الذي يعارضني في كل أمر سيىء كان سيعترضني في ما وصلت إليه.
إن هناك سبباً رئيسياً يجعلنا نأمل بأن الموت فيه خير لأن الموت هو واحد من أمرين: إما أن يكون حالة من العدم وانعدام الشعور بأي شيء أو أنه كما يقول الكثيرون مجرد تحول من حال إلى حال وأنه بمثابة رحلة الروح من هذا العالم إلى عالم آخر. فإن كان البل عظيمموت عبارة عن نوم عميق لا تعكّره حتى الأحلام فإن ذلك سيكون امراً جيداً عظيماً، لأن الأزل سيكون عندها بمثابة ليلة نوم واحدة، وإذا كان الموت على العكس من ذلك هو انتقال الروح إلى مكان آخر فأي شيء سيكون أفضل من هذا أيها الأصدقاء.
ختم سقراط بالقول: أيها القضاة، أريدكم أن تحسنوا الظن بالموت واحفظوا جيداً هذه الحقيقة وهي أنه لا يمكن لأي شر أن يلحق برجل صالح سواء في حياته أو بعد الموت، فمثل هذا الشخص لا تتخلى عنه الآلهة، وأعلموا أيضاً أن نهايتي التي تقترب ليس في حدوثها أي مصادفة، وأنا أرى أن موتي وخلاصي من هذا الجسد هما أفضل لي ولهذا فإن الصوت الخفي داخلي لم يعارض ما حصل. ولهذا السبب أيضاً فإنني لست غاضباً من الذين اتهموني وحكموا علي ، فهم لم يتسببوا لي عملياً بأي ضرر وهذا رغم أن أياً منهم لم يرد بي خيراً، وعلى هذا فإنني ألومهم بشيء من اللطف.
لقد حان وقت الافتراق وكل منا يذهب في طريق:انا في طريقي الى الموت وأنتم إلى الحياة، يا ترى ما هو الطريق الأفضل؟ الله وحده يعلم الجواب.

جمال باشا

بمناسبة ذكرى شهداء 6 أيار

جمال باشا في سوريا ولبنان

.هزائم عسكرية وتهجير منظم ونهاية بائسة

كان أحمد جمال باشا (1873-1922) نموذجاً على العصبة التي استولت على السلطة في الدولة العثمانية بأساليب التآمر ثم الانقلاب العسكري على الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني. وقد كتب الكثيرون عن علاقة الماسونية الدولية بالإنقلاب وولع الإنقلابيين بنمط الحياة في الغرب وهم الذين حاولوا ردّ أزمة الدولة وإن بصورة غير علنية إلى وجود الخلافة وقوة الدين، وهذه النزعة الغربية المعادية في الجوهر للإسلام هي التي ستقود في ظل حكم كمال أتاتورك إلى إنهاء الخلافة وعلمنة تركيا وسلخها عن عالم الإسلام ثم عن اللغة العربية عبر تبني الحرف اللاتيني.
لقد أثبتت الأحداث أن الانقلاب على الخلافة أضعف موقف الدولة العثمانية كثيراً خلال الحرب العالمية الاولى لأنه وجّه ضربة قاصمة إلى شرعيتها ومعنويات الدولة وإلى علاقاتها بالعالم الإسلامي وأفقدها أهم عامل كان يعزز قوتها في الحروب وهو عامل الحمية الدينية والجهاد، أضف إلى ذلك أن قادة الانقلاب أظهروا أن موهبتهم في الاستيلاء على السلطة كانت أكبر من كفاءتهم في حكم ولايات الدولة أو شنّ الحروب ، كما يدل على ذلك الطريقة التي أدار بها أحمد جمال باشا حاكم سوريا ولبنان وفلسطين وقائد الجيش الرابع الحملة الفاشلة على مصر وقناة السويس. ارتأت «الضحى» ونحن على شفا الاحتفال بعيد الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا أن تعرض لصورة موجزة لفترة حكمه التي تميّزت بالتخبط والبطش والكراهية كما تميّزت بهزائم عسكرية أظهرت ضحالته كقائد ومخطط عسكري وفرضت على الحكومة التركية إقالته من مناصبه ومحاكمته. وقد رُوي عن طلعت بك زميل جمال باشا أنه خاطبه يوماً بقوله: «لو أنفقنا كل القروض التي أخذناها لستر شرورك وآثامك لما كفتنا».

بتاريـخ 6/12/1914، أوفـدت الـدولة العثمانيـة أحمد جمال باشـا وزير البحـرية، على رأس الجيـش الرابع إلى بـلادنا في مهـمّة عسكريـة.كان هدفها مهاجمة القـوات الإنكليزية المـرابطة على قنـاة السويس تمهيداً لطـرد الإنكليـز مـن مصـر وإعـادة مصر ولايـة عثمانيـة. كان الهدف عظيماً لكن الشخص الذي أوكل إليه الأمر كان أسوأ اختيار ممكن لتلك المهمة الخطيرة.
بدل التمهيد للحملة باستمالة الرأي العام في بلاد الشام والعراق، وباستثناء خطاب فارغ من المعاني ألقاه في دمشق عند وصوله، فقد أرسل جمال باشا، الكاره للعرب، فور وصوله إلى دمشق فـرقاً من الجيش العثماني، إجتاحت بيـروت وجـبـل لبنان، وتمركزت قيادتها في مدينة عاليه وألغى نـظام المتصرّفية، ووضع المتصرّف وموظفيه وعسكرييه بتصرف الجيش التركي، وأنشأ محكمة الديوان العـرفي، وكانت قـوات عثمانية قـد داهمت القنصليات الأوروبية في بيـروت،وأخرجت مـن القنصليـة الفرنسيـة لوائح بأسماء أشخاص من المـوظّفين الكبـار والوجهاء والأعيان والسياسيين، من اللبنانيين والسوريين الأكثـر نفـوذاً في بيـروت ودمشـق، كانـوا يترددون إلى هـذه القنصليات وخصوصاً قنصلية فـرنسـا، وسـلّمتها إلى جمال باشا. فبـدأ جمال باستدعائهم والتحقيق معهم ومحاكمتهم، وقـام بشـنق عـدد منهـم في بيـروت ودمشـق، ونـفي عـدد كبير إلى داخـل سوريا والقـدس وبلاد الأناضول، بسبب علاقاتهم المزعومة بتلك القنصليات، وفرض التجنيد الإجباري، ومنع نقل الحبوب إلى الجبل بهدف توفيرها للجيش التركي. وزاد المأساة، إقـدام الأتراك على استبدال العملة الذهبية بالعملة الورقية، فهبطت قيمة النقـد العثماني وارتفعت الأسعار، والتهم الغلاء مداخيل الناس، وانتشرت المجاعـة.

حملـة السويس الأولى
بـدأ جمـال باشا بالتحضير لتعبئة حملة عسكرية للهجـوم على قناة السويس، وأمـر بأن يجمـع من لبنان كل مـا يحتاجـه الجيـش في تنقّـلاته، مـن الخيـل والبغـال والحميـر وأكياس الجنفيص وصفائـح التنـك واستئجار كل مـن يـريـد العمـل مع الجيش مـن العمّـال في مختلـف المهـن بأجـور سخية، وتبيـن في ما بعـد، أن مـن عـاد منهم سالماً لـم ينـل أي أجـر. 2 وكان بكـر سامي بـك والي بيـروت، قـد طلـب مـن البطريـرك المـاروني، مبلـغ عشـرين ألـف قـرش صـاغ، ثمـن سـتة آلاف وخمسمائة /6,500/ ورقــة يانصيـب لمساعـدة الجيـش العثماني، وزعـت الأوراق على الأديـار والكهنـة والمـدارس،3 ثـمّ انتقـل جمـال باشا إلى مـدينة معـان في الأردن، مكان تجمـع كتائب الجيش العثماني، القـادمة مـن تـركيا والحجاز وسوريـا ولبـنان وفلسطين، وفـرق المتطوعيـن مـن أتـراك وعـرب وجـركس وصـرب وأرناؤوط وغيرهـم. وكان مجموع هـذه الحملة يـقـدّر بـ 12.642 رجـل، و986 حصاناً، و 12,000 جمـل، و 328 ثـوراً بالإضافة إلى العتاد والأسلحة الثقيلة والخفيفـة. وانطلـق جمـال باشا على رأس تلك القـوات الى صحراء سـيناء، لمهاجمـة القوات البريطانية المرابطة على قناة السويس. فتقـدّمت كتيبـة من البـدو المتطوعين استولت على العـريش، وكتيبـة أخـرى اسـتولت على قلعـة النخل في سـيناء.
وبتـاريخ 2 شباط 1915، شـنّ الجيش العثماني هجـوماً على القـوات الانكليزية المـرابطة على قنـاة السويس بمساعـدة ضبّاط ألمان، واجـتاز سـتمائـة (600) جنـدي القناة إلى الضفّـة الغـربية، بـعـد أن وضعـوا جسـوراً عـائمـة، فشـعـر بهم الجنود الانكليز، وهجموا على الموقـع وأخـذوا الجنود العثمانييـن أسـرى. وبـدأت المعركـة بيـن الجيشـين بالتراشق بالمدفعيّة، وقصفت الطائرات الانكليزية مـركـز قيادة الجيش العثماني، الذي يبعـد مسافة ثلاثـة كيلومترات عـن ضفّـة القناة ، كمـا أمطرته البوارج الانكليزية بالقنابـل، فانهـزم الجيش العثماني وتراجعت قـواتـه الى سيناء، ومنها الى بئـر السبع في فلسطين. أمّـا الجنـود العثمانيون الأسـرى، فقـد قـام الجيش الإنكليزي بعـرضهم في شوارع القاهـرة، وخرجت الصحف الإنكليزية تشيدوا بالنصر وتكيل القـدح والشتائم للجيش العثمـاني.
وحسب المصادر التاريخية فقد بلغت خسائر الجيش العثماني ( 178) قتيـلاً، و( 381)جـريحاً، و( 727) مفقـوداً، بالاضافة الى عـدد الأسـرى.4
وكي لا تتـرك هـذه الهزيمة أثـراً سيـّئاً في نفـوس الجنود الأتراك، أصـدر جمال باشا بياناً عسكرياً قال فيـه إن الجـنود أدّوا واجبهم بوطنية، إنّمـا هـذا الهجوم كان استطلاعاً هجومياً «اختبار بالنيران» لمعرفة القوى التي يمتلكها العـدو، ومـا يحتاجه الجيش العثماني لعبـور القناة.5 في الهجوم الفعلي.
بـعـد هـذه الهـزيمة، وسقـوط هـذا العـدد مـن الضباط والجنـود، قتلى وجرحى ومفقـودين وأسـرى، تبيـن أنّـه لا قيمـة لحيـاة هـؤلاء، لـدى القـادة الأتراك جمال وطلعت وأنـور، وإن مـا ذكره جمال باشا عـن هـذا الإستطلاع لمعـرفة قـوى العـدو، مـا هـو إلاّ تبـرير لفشلـه في قيادة العمليات الحـربية.

جنود أتراك في ساحة إعدام شهداء 6 أيار 1916 على يد المحاكم العرفية لجمال باشا
جنود أتراك في ساحة إعدام شهداء 6 أيار 1916 على يد المحاكم العرفية لجمال باشا

تهجيــر منظم للنخبة السورية واللبنانية
بـعـد فشـل الهجـوم على قنـاة السويس وهـزيمة الجيـش العثماني، شـعر جمـال باشـا بنقمـة المنطقة عـلى الاتـراك، فبـدأ يحـاول التقـرّب مـن العـرب، ويلـحّ على النـاحية الـدينية الإسلامية لإسـتثارة العـرب في الحـرب. لكنّـه بعـد أن سمح للمنفيين بالعـودة الى أوطانهم، عـاد وألقى القبض على معظمهم مجـدّداً، وعلى آخرين من لبنان وسوريا وفلسطين، وبـدأ بنفيهـم مع عائلاتهم الى الأناضول. وعمل على تأليف لجنة في دمشـق دعيت «قومسيون التهجير»، كانت مهمّتها سـوق المنفييـن مع عائلاتهم الى الأناضول، وتسجيل أملاكهم لإعطائهم بـدلاً عنها في أمكنـة نفيهم. وقـد تـمّ نفي حوالي ألفي شخص الى مـدن : أزميـر، مغنيسيا، أردمير، بورصة، أسكي شهر، قـره شهر، يني شهر، طوقات، سيوس، أدرنة، قونير على ان يستمر النفي ليبلغ عـدد المنفيين عشرات الآلاف، وقـد أراد جمال باشا ورجال الاتحاد و«الترقّي» من هذا الاجراء، اقتلاع العائلات ذات الوجاهة من جـذورها، واحضار عائلات أتراك وأرمن وعرب مكانهم، مـن أجـل تتـريك بلاد الشام وانتـزاع الفكرة العربية منها.
كان جمـال باشا قـد وجّـه بـلاغاً إلى اللبنانييـن، بإعـلان الأحكام العـرفية. وكل شـخص يظهر أياً مـن مظاهـر العطـف، أو المحبّـة نحـو الفرنسيين أو الإنكليـز أو الـروس، يحاكـم فـوراً أمـام ديـوان الحـرب ليلقى جـزاءه مـن العقـاب، وقـد بلـغ عـدد الذين نفّـذت بحقّهـم أحـكام الاعدام بتعليقهم على المشانـق 52 شخصاً، وعـدد الذين صدر بحقهم أحكام اعـدام غيابية 80 شخصاً، ولـم ينفـع وجـود فيصل في دمشق، والتماسـه العـفـو عن المحكومين مـن جمـال باشـا، وتـدخّل الشريف حسين بالذات لمنـع تنفيـذ الإعـدام في 6 أيّـار 1916، بأشخاص وطنيين في دمشق وبيروت، بتهمـة العمـل على فصل سـوريا وفلسطين والعـراق عـن الـدولة العثمانيّة6. وكان الشريف حسين «شـريف مكّـة»، يسعى لإقامـة حكم عربي بـرعايـة بـريطانية.
عمّـت المجاعـة في لبنان خلال العامين 1915 و 1916، بسبب الغلاء وفقـدان المـواد الغذائية، وانتشار الجراد الذي قضى على كل مـا هـو أخضر مـن الأشجار والنبات، وقـد حوكم العشرات أمام محكمة الديوان العرفي في عاليه، وعلّـق العـديد على المشانق في بيروت ودمشق، كمـا نفـي المئات إلى فلسطين وبلاد الأناضول، وقضي على نظام المتصرّفية وأصبح لبنان يـدار كأيّـة ولاية عثمانيّة.

القصف المدمّر للبوارج البريطانية أحبط هجوم الجيش العثماني على قناة السويس وأوقع به خسائر جسيمة
القصف المدمّر للبوارج البريطانية أحبط هجوم الجيش العثماني على قناة السويس وأوقع به خسائر جسيمة

حـمـلة السويس الـثانية
عمـل جمال باشا على تجهيـز حملة عسكرية ثانية للهجوم على قنـاة السويس، ونقـل مقـرّه العـام إلى القـدس، ليكون قـريباً مـن الجبهة وعلى إتصال بالعمليات الحـربية. قامت الحملة بهجومها على القنـاة في شهر تمّـوز سنة 1916، بمساعـدة فـرقة طيران ألمانية، وصلت مـن برلين إلى بئـر السبع في فلسطين، وبطاريات مـدافع ميدان ألمانية ونمساوية، وقطعـت صحـراء سـيناء، وبوصولها الى محلّتي قاطية والروماني في سيناء، على بعـد أربعين كيلومتراً مـن القنـاة للجهـة الشرقيّة، كانت القوات الإنكليزية بانتظارهـم، وبـدأت بقصف القوات العثمانية بـرّاً وبحـراً وجـوّاً، وحصلت معركة بين الجيشين، انهـزم بنتيجتها الجيش العثماني، وانسحبت قواتـه الى العريش، ومنها الى خـان يونس وغـزّة في فلسطين.
كانت خسائر الجيش الانكليزي في هذه المعركة 1200 قتيل، أمّـا خسائر الجيش العثماني كانت 9400 قتيل مـن أصل قـوة عـددها 18000 جنـدي ومتطـوّع، والفرقـة التي تلقّت النيران الانكليزية، كانت مـن خيـرة الضباط والجنود العـرب.7
في أواخـر شهر كانون الأول 1916، إحتـلت القـوات البريطانية العـريش وتقـدّمت إلى فلسطين. لكن في شهر حزيران 1917، تمكّـن الجيش العثماني مـن صـدّ هجـوم للقـوات البريطانية في غـزّة، وأنـزل بهـا خسائـر فادحـة، فتابعت القوات البريطانية تجهيزاتها بقيادة الجنرال اللنبي، وأعادت هجومها على القوات العثمانية في شهر تشرين الثاني، اضطرتها للجلاء عـن غـّزة وبئـر السبـع ويـافا، ودخـل الجنرال اللنبي القـدس في 10 كانون الأول 1917. أمّـا الجيش العربي المؤلّـف من المتطوعين ومـن التحق بهم من أسرى الجيش العثماني، فقـد قام بأعمال حربية بقيادة أحـد أنجال الشريف حسين، ومساعدة البريطانيين، أجبـرت الجيش التركي على الإنسحاب من فلسطين والبلاد العربية.8
بـعـد تقهـقـر الجيش العثماني وهـزيمته في مصـر وفلسـطين، عـاد المنفيـون إلى بـلادهـم، وتـزعزعت مكانة جمال باشا في تركيا، فأقيل من منصبه واستدعي الى اسطنبول للمثول أمام اللجنة العسكرية العليا، بسبب فشله في حملـتي القـناة الأولى والثانية، وفشله أيضاً في قيادة القوات أمام الشريف حسين، وبسبب علاقته السيئة مع الضباط الألمان ومعـارضته لهـم، وإعـاقـة مخططاطهم، وانكشافه كجاهل في التخطيط العسكري، فجـرى كـفّ يـده ليتحوّل الى دور آخـر.

العدد الجيش العثماني الرابع حاول اختراق قناة السويس بمساعدة الألمان

نـهايـة جـمال بـاشا
بعـد هـزيمة الدولة العثمانية، هـرب معظم أركانها الذين كانوا متحكمين بمقـدّرات الدولة، ومنهم جمال باشا الذي غـادر الى افغانستان بـدعوة من ملكها لتنظيم الجيش الأفغاني. فأوفـده الملك الى فرنسا لشراء معـدّات للجيش الأفغاني، واستقبله الفرنسيون بحفاوة. وعنـدما علمت الصحف اللبنانية الصادرة في باريس، قامت بشـنّ حملة إعلامية ضـد جمال باشا، وذُكـر أن محكمة في بيروت، أصـدرت حكماً بـوجـوب اعتقالـه وتسليمه إلى القضاء اللبناني لمحاكمتـه9. لكـن جمال باشا عـاد الى كابول، فمـرّ في مدينة تبيليسّي، أو تفليس القديمة عاصمة جمهورية جورجيا، وفيما هو يخرج من المقهى في شارع نقولاوسكي، أطلق شاب أرمني النار عليه من مسدسه وصرعه في الحال. أمّا أنور باشا فقد قتله مرافقه في طريق تركستان، وكان المرافق يزعم أنه تركي مسلم، وتبين أنه أرمني، وطلعت باشا وعزمي بك قتلا في برلين، وعزمي بك هذا كان وزيراً، وهو غير عزمي بك والي بيروت.10
في سنة 1916، أوفـدت الـدولة العثمانية وفـداً من الأستانة إلى سوريا ولبنان، ضم بضعة عشر شخصاً من أعيان الأتراك وأعضاء مجلس الأمـة، لتطييب خاطر العـرب بسبب ما فعله جمال باشا من أعمال القتـل والنفي والسجـن، وذلك لتحسين العلاقة بين العرب والأتراك، وتـرميم مـا خـرّبته سياسة جمال باشا.11

الأمير شكيب ونداء الجهاد

كان الأمير شكيب أرسلان من أشد المؤمنين بأهمية الخلافة العثمانية والسلطنة في الحفاظ على عالم الإسلام والجزء الأثمن منه وهو العالم العربي. لذلك ابتأس الأمير كثيراً بسبب انقلاب حزب تركيا الفتاة على السلطان عبد الحميد ، لكنه بسبب اقتناعه بفكرة وحدة العالم الإسلامي حافظ على ولائه للدولة العثمانية خصوصاً وأنه كان يرى تكالب الدول الأوروبية على ممتلكاتها وأراضيها. لذلك عندما قررت الدولة إرسال جمال باشا على رأس الجيش العثماني الرابع في حملة لتحرير قناة السويس من البريطانيين ومن ثم استعادة مصر لم يتردد الأمير شكيب في اعتبار نفسه معنياً كما كان شأنه عندما سافر مع ثلة من المقاتلين للجهاد في ليبيا ضد الإيطاليين.
هذه المرّة قـرّر الأمير شكيب أرسلان أن يذهب بمجموعة مـن المتطوعين، لمساعـدة الجيش العثماني والإشتراك في القتال. فبعـث بـرسائل إلى بعـض الوجهاء والأعيان في قرى وبلدات جبل لبنان، لحـث الـرجال على التطـوّع وجمـع مئـة وعشرين شـاباً متطوعـاً، من مناطق الشوف والجـرد والمتن والعرقـوب والمناصف، وسار بهم إلى دمشق، فـقـرّر ضباط الجيش العثماني تـدريبهم لمـدة شهـر في ميدان المـزّة، كي يحـسنوا الرمي بالسلاح، لكن من أوّل يوم في التدريب تبين أن رماياتهم جيّـدة. فقال ضباط العسكـر، إنّ هؤلاء رمـاة بالفطرة ولا يلزمهم تدريب. في اليوم التالي إنتقلوا بالسكة الحديد إلى معان في الأردن، مكان تجمّع الجيش العثماني والمتطوعين، مكثـوا في معان مـدة خمسة عشر يوماً وانتقلوا بعـدها إلى قلعة النخل في صحراء سيناء، على بعـد ثلاث مراحل من قنـاة السويس وكانت المسافة بين بلـدة معان في الأردن، وقلعة النخل في صحراء سيناء، إحدى عشرة مرحلـة 12.
مكـث الأمير شكيب مع المتطوعين في قلعة النخل في صحـراء سيناء، وطابورين من الجنـد العثماني، مـدّة خمسة عشر يـوماً. وبسبب هزيمة الجيش العثماني (في الحملة الأولى) لـم يشترك الأمير ورجاله المتطوعون بالقتال، علماً بأن الجنود الانكليز لـم يعبـروا قناة السويس حينذاك الى الضّفة الشرقية. ولمّـا أصبحت الأرزاق قليلة لمـؤونة الرجال، عـاد الأمير شكيب مع المتطوعين إلى معان في الأردن، فأقاموا مـدّة شهر انتقلـوا بعدها إلى القـدس بناء على تعليمات جمال باشا، أقاموا فيها عشرين يوماً، وفي القدس وجـد الأمير شكيب نحـو عشرين رجلاً من الأعيان اللبنانيين الذين نفاهم جمال باشا، منهـم: جرجس صفا، ابراهيم عقل، خليل عقل شديد، جرجس تامر، نمـر شمعون، مصطفى العماد، رشيد نخله، خليل الخوري، سليم المعوشي وغيرهم. وذكـر الأمير شكيب أنّـه توسط لهم مـع جمال باشا ليعودوا الى وطنهم.
وبـعـد مضي عشرين يوماً في القـدس، عـاد الأميـر شكيب ومتطوعيه إلى دمشق، ثـم إلى بيروت، حيث تجمّعـوا في حـرش الصنوبر، واستعرض جمال باشا جميع فـرق الجيش العثماني والمتطوعين، في حضور عـدد غـفيـر من أهالي بيروت والمناطق، وألقى خطبة.

محاورات افلاطون

آيُـــــون

الفنُّ احترافٌ أمْ إلهام؟

أكثر الفنَّ يعزِّزُ الانجذابَ إلى عالم الحَواسّ
ومعرفةَ النّفس هي الطّريقَ إلى معرفةِ الله

نظريّةُ الجماليّات الأفلاطونيّة تراوحت بين اعتبار الفنِّ تقليداً
وبين اعتباره إلهاماً من مصادرَ عُلْويّةٍ تستولي على الفنان

سقراط يحاول تفسير مفارقة: لماذا لا يهتمّ الفنّان آيون إلّا بشــِعر هوميروس دونَ غيره من شـــعراء اليونان؟

تُعْتَبر محاورة آيون من المحاورات القصيرة التي وضعها أفلاطون وهي تتركّز أيضا على حوار بين شخصين: المعلّم سقراط والفنّان المسرحيّ آيون. لكن رغم قِصَرِها فإنّ المحاورة تعتبرُ نصّاً مُهــمّاً من نصوص نظريّة الجماليّات الأفلاطونيّة إذ إنّ موضوعها يدور بالكامل حول محاولة تعريف الفنّ ومصدره في أعمال الفنان، كما أنّها تضيف إلى محاورات أخرى تناول فيها أفلاطون الموضوع ذاته كما في “سمبوزيوم” و”الجمهورية”
لكنْ رغم أهميّة المحاورة فإن موقف أفلاطون من الفنّ مثل الشّعر والتّمثيل المسرحي والموسيقى والغناء الشّعري يصعب تبسيطه بـ “مع” أو “ضد” لأنّ أفلاطون ينظر إلى الفن من منظار وحيد هو قدرته على تقريب الفنّان أو المستمع إليه من الحقيقة، وقارن أفلاطون بين التّأثير الذي يُحدثه الفنّ في الإنسان وبين تأثير الفلسفة أو علوم الحكمة عليه وعلى رُقْيه الثّقافي والرّوحي. ومن التفاصيل الملفتة في موقف أفلاطون أنَّه كان نفسُه قد أظهر اهتماما بالشّعر وموهبة شعريّة قبل أنْ يلتقي معلّمه سقراط ويتحوّل بصورة حاسمة نحو المعرفة وتحصيل الحكمة.
ومن زاوية الحكمة والتّرقّي بالنّفس من خلال المعرفة (شعار سقراط الشّهير: اِعرفْ نفسك) فإنّ الفنّ بدا في نظر أفلاطون نشاطاً ذاتياً يُغلِّب مظاهر العالم الخارجي ويعزّز الانجذاب لعالم الحواسّ والأشياء، ويدفع الوعي الإنسانيّ بالتالي نحو الخارج بدلاً من دفعه نحو الذات وأغوارها العميقة. ومعرفة النفس في نظر سقراط هي طريق المعرفة الشّاملة أو معرفة الله وفق الحديث النّبوي الشّريف “من عرف نفسه فقد عرف ربّه”
وبصورة عامة فإنّ التفكير الحِكَميّ الإغريقي، بدءاً من فيثاغوراس ووصولاً إلى أفلاطون، يَعتبر عالم الظّواهر الفاني غيرَ المستقرّ على حال مجرد انعكاس شاحب وضعيف للوجود المصدريّ الأزليّ الذي لا يتبدّل ولا يتغيّر. وقد بنى أفلاطون على هذه الرؤية الرّوحية ما يمكن اعتبارُه نظريتَه الخاصّة في الجماليات Aesthetics ونهجه في تقييم الفنون .وحسب تلك النظريّة فإن الجمال المترائي في زهرة أو في منظر الغروب أو في كائن من الكائنات ليس سوى مؤشّر تقريبي – في عالم الحواسّ- على الجمال المُطلــق الذي هو من صفات الحقّ، وهذا الأمر ينطبق على كافة الصّفات الجوهريّة للحقّ مثل العدل أو الجلال أو الحبّ، فالعدل المطلق هو للحقِّ وحده، ولا يمكن لأيٍّ كان أن يأمل بالحصول على أكثر من تعبير تقريبيٍّ ونسبي عن العدل في عالم الفساد الأرضي، وكذلك الحبّ الإلهيّ التّام هو تجلٍّ للحبّ المطلق يختلف تماما عن الحبّ الإنسانيّ المتقلّب والمختلط بالأهواء وصنوف الانفعالات. بصورة عامة فإنَّ عالم الصفات الجوهريّة (أو المثالات) هو عالم كمالات أزلية لا تتغيّر بينما عالم الظواهر الماديّة لا يستقرّ على حال وهو لذلك غير عقلانيّ وغير حقيقي.
ولأنّ الحياة الحقيقيّة هي التي يكون هدفها الارتقاء من عالم الفكر والفناء إلى عالم الروح والخلود، فإنّ هذا الهدف لا يمكن حسب أفلاطون أن يتمّ عن طريق الفنّ والشّعر أو غيره، بل عن طريق طلب المعرفة وطريق ذلك حسب أفلاطون هو التّحكّم بالنفس، ولاسيما ضبط الشّهوات والانفعالات واجتناب الجشع والإقبال على الدّنيا، باعتبار أن ذلك السلوك هو وسيلة الترقّي في طريق معرفة الوجود الحقيقيّ والأزليّ وهو وجود يتعدّى العالم الظاهر.
قبل الدخول في محاورة آيون والتي خصّصها أفلاطون للبحث في حقيقة الفن وشخصية الفنان تجبُ الإشارة إلى أنَّ الحكيم تحدّث في أكثر من محاورة عن الفن وعن الجماليات وأهمّ ما أورده في الموضوع جاء في محاورتي “سمبوزيوم” و”الجمهورية” وكذلك في محاورة آيون. وتشير هذه الحوارات إلى أنَّ رؤية أفلاطون تغيّرت خلال الفترات التي كتب فيها تلك المحاورات وهي تراوحت بين اعتباره الفنّ تقليداً Imitation وبين اعتباره الفنَّ نتيجة إلهام إلهيّ أو قُدُسيّ. Divine inspiration يستولي على الفنّان ويحوّله إلى مجرّد أداة تعبير أو “وسيط” بين مصدر الإلهام وبين الجمهور.
استندت نظريّة الفنّ كـ “تقليد” على مفهوم أفلاطون للمثالات واعتباره أنَّ كل ما هو موجود في حياتنا الأرضيّة إنَّما هو “نسخة” ضعيفة عن مثال تام كامل له من صنع خالق الموجودات أي الله. وبما أنَّ أيَّ شيء (شجرة مثلا) على الأرض هو نسخة عن مثاله العُلْوي السماوي الأكمل فإنَّ الفنّان عندما يرسم تلك الشجرة إنما ينتج “نسخة عن نسخة” A copy of a copy. بهذا التعريف اعتبر أفلاطون أنَّ الفنّ يبتعد بنا عن الحقيقة لأنه يبتعد بنا عن المثالات أو الحقائق قي جوهرها ليعطينا نسخة باهتة عنها، فهو لذلك لا يمكن أن يقود إلى الحقيقة والتي وحدها “الفيلوصوفيا” (وهي تعني باللغة الهلّينية: “محبّة الحكمة”) يمكن أن تقترب بنا منها أو تقود القِلــّة النادرة إليها.
إنَّ نظريّة الفنّ كمجرّد تقليد للتّقليد أو “نسخة عن نسخة” قد يكون منسجماً مع نظرية المثالات التي استند إليها أفلاطون في “الجمهوريّة” لكنّه بدا ربّما مع الوقت تبسيطاً يحتاج إلى مراجعة لأنّ تعريف الفنّ بكونه تقليداً بدا متعارضاً مع الكثير من الإنتاج الفنّي الذي حمل في طيّاته قوةً وسحراً يتجاوز أيَّ قوة لعمل نسخي أو تقليدي.
حقيقة الأمر أنَّ أفلاطون يبدو في محاورة آيون (كما في محاورة “سمبوزيوم”) وقد تخلَّى عن نظريّة الفنّ كتقليدٍ واتّجه لإعادة بعض الاعتبار للفنّان أو لصنف من الفنانين، فهو يورد في المحاورة على لسان سقراط أنَّ الحِرَفيَّ الماهرَ أو الفنان يمكنه بواسطة الإلهام السماويّ أن يجعل من النّسخة التي يصنعها “أفضل من النسخة التي ينقل عنها”، وبهذا المعنى فإنَّ الفنان هو كائن مُلْهَم يعمل بقوة الإلهامات التي يتلقّاها وليس مجرّد ناقل أو مُقلِّد لا يملك أن يخلق شيئاً يضيفه إلى النسخة التي ينقل عنها. وولَّدت فكرة الإلهام كمصدر للإبداع الفَنّي أيضا معاييرَ إضافية تجعل الفنّ أكثر صفاءً وقوّة كلّما اقترب الفنان من مصدر الحقيقة عن طريق السلوك والمجاهدة. لأنّه كلّما صفت النفس كلما أصبحت مثلَ المرآة الصّقيلة تعكس الحقائق وتستقبل الإلهامات، فيصبح الفنان بذلك “واسطة” أو “وسيطا” تستخدمه مصادر الإلهام العُلْوِيّة لبعث رسائل وعلامات وتعبيرات عن الجمال المُطلق تسرّ الناظرين وإنْ كان هؤلاء لا يفهمون دوماً سرّها وسرّ قوّتها التّعبيريّة.
هذه النظريّة عن الفنّان المُلْهَم تظهر بوضوح في محاورة آيون التي بين يدينا كما تظهر أيضاً في محاورة “سمبوزيوم” وهي نظريـّـة أكثر تفهّما للفنّ ولقوّته ممّا ساقه أفلاطون في محاورات أخرى (لاحقة على الأرجح) مثل “الجمهورية” فهل كان تأثير سقراط أوضح في آيون وهي كُتِبَت ربّما قبل وفاته؟ وهل عاد أفلاطون في كتاباته المتأخرة ليتّخذ موقفاً أكثر تشككاً من الفنّ باعتباره غوايةً ومُنزَلَقاً قد يُبعد طالب الحقيقة عن جادّة الصّواب، وهي جادة العقل والتأمّل المثابر في حقيقة الوجود؟ لو كان الأمر كذلك فإنَّ أفلاطون يكون قد اتّخذ منحىً فيثاغورسياً في تشديده على التّقشّف النّفسي والتزام سبيل السيطرة على الحواس والاستثارة الحسيّة. لكن أفلاطون لم يكن مناهضا للموسيقى بل على العكس كان يعتبر أن النّمط المناسب منها يمكنه أن يبعث السّلام والانسجام في النفس بدلاً من السّلبيّة أو الانقباض، لذلك لا بدّ للفنّ بكلّ أشكاله أن يَحُثَّ على فعل الخير وأن يُصوِّر الإنسان في أفضل وجوهه، والمطلوب هو أن يستخدم الفنّ كوسيلة تربية بسبب تأثيره على الناس لأنّ الأبطال الذين يتحدّث عنهم يمكن تقديمهم للجمهور كقدوة في السلوك والشجاعة والشّرف والأخلاق الكريمة.
لذلك دعا أفلاطون للاهتمام بنوع الموسيقى التي يتمّ الاستماع إليها وبالتالي إبعاد أنواع معيّنة من الموسيقى المثيرة للانفعالات أو “الماجنة” والتّشجيع على الموسيقى التي تساعد في ارتقاء الروح. وربّما قصد أفلاطون النوع الأخير من الموسيقى عندما ألمَحَ إلى إمكان إخراج الفنانين والكتّاب المسرحيين من جمهوريته الفاضلة، أو على الأقل مراقبة الفنون بحيث يتمّ القبول فقط بما يشدّد على الخير والجمال خصوصاً في الإنتاج الموجّه للشباب في سِنِّ يَفاعهم، على أنْ يسمح بتناول أمور أخرى مثل الشّرور وأمراض النفوس فقط عندما يبلغ الشبابّ سِنَّ النُّضج.

الله يأخذ من الشّعراء عقلهم - سقراط
الله يأخذ من الشّعراء عقلهم – سقراط

“أفلاطون دعا إلى إبعاد الموسيقى المثيرة للانفعالات أو “الماجنة” والتّشجيع على الموسيقى التي تساعد في ارتقاء الرّوح.”

موضوع المحاورة
تدور محاورة آيون بين سقراط الحكيم وبين شخص يدعى آيون وهو يعمل كمُمَثِّل وكمُغَنٍّ مسرحيٍّ لأشعار وملاحم الشاعر الإغريقي هوميروس، وفي هذه المحاورة يتناول سقراط من خلال أسلوبه في الحوار التّدرّجي موضوعاً دقيقاً يتعلّق بتعريف الفنّ والفنّان، وهو بصورة أكثر تحديداً سيسعى للخروج باستنتاج مُحَدّد حول فنّ آيون ذاته ليعلَمَ إذا كان أداؤه المُلفت والذي يثير مشاعر الجمهور هو نتيجة لمهارة ذاتيّة وخبرة طويلة بالفنّ أم أنَّ مصدره هو الإلهام الذي يتلقّاه دون جُهد منه، ويجعله قادراً على أن يلعب أدواراً مختلفة على المسرح وينشد الأغاني التي تحرّك مشاعر الحضور إبكاءً أو إضحاكا أو إخافة أو غير ذلك.
كان آيون قد ربح لتوِّهِ الجائزة الأولى في مهرجان الفنّ المسرحيّ الذي تنظّمه مدينة أبيداروس عندما التقاه سقراط، وكان الأوّل بطبيعة الأمر فخوراً بإنجازه عندما بادره الحكيم بسؤال حول ما إذا كان يعتبر نفسه متفوّقا في إنشاد شعر هوميروس وتمثيل قِصَصِه على المسرح أم أنّ تفوقَه يمتدّ إلى غيره من الشعراء والمسرحيّين. فوجئ سقراط بقول آيون: إنّ هوميروس فقط يُهِمّه، وأنَّ جميع من عداه من شعراء إغريق حتّى المشهورين منهم يوقعون في نفسه الضجر!.
مغالباً شعور التّعجّب، يلفت سقراط آيون إلى أنَّ نّقاد الفنّ وحُكّام الأعمال الفنّية مثل النّحت أو الرّسم عادة لا يحِدّون أنفسهم بتقييم عمل فنّان مُعيّن بل يمكنهم نقد وتقييم أيّ عمل فنّي بِغَضِّ النّظر عن شخص الفنّان الذي صنعه. لكنَّ آيون يعيد الكَرّة ويشرح لسقراط بشيء من الخُيَلاء كيف أنّه لا يوجد فنان في أثينا يمكنه أن يقدِّم شعر هوميروس كما يفعل هو، فلا أحدَ من فنّاني اليونان لديه ما لدى آيون من خبرة عميقة في الشّاعر وشخصيّاته.
سقراط: لكنْ كيف حدثَ أنّك طوّرت هذه المهارةَ بشأن فنّ هوميروس فقط وليس بشأن شعر هيسيود مثلاً أو غيره من الشّعراء؟ ألا يتحدّث جميع هؤلاء حول نفس الأمور مثل الحرب أو المجتمع الإنسانيّ أو علاقات البشر وخصوماتهم وعن الخير والشرّ وغير ذلك
أيون يوافق سقراط، لكنّه مستمرّ في اعتبار أنَّ هوميروس يتحدّث عن كافّة الأمور أفضل من غيره من الشّعراء.
قد يكون هوميروس عظيما حقاً، لكنّ سقراط لم يقتنع بعد لماذا لا يهتمّ أيون بشعر الآخرين وأعمالهم الكبيرة أيضاً. وهو يعود إلى المسألة البدهيّــة وهي أنّه عندما يوجد من يمكنه الحُكمُ في الفنّ الجميل أو الكلام أو الشعر وأفضلها فإنّ هذا الشخص نفسه يمكنه أن يحكمَ أيضاً على ما هو أقلّ قيمةً أو غير ذي قيمة في أيٍّ من تلك الفنون. يوافق آيون على هذه المقولة فيسأله سقراط على الفَور:
سقراط: إذنْ يا صديقي هل أكون مخطئاً في القول إن آيون يمتلك المهارة نفسها في شعر هوميروس وغيره من الشعراء، بما أنّه هو نفسه يقرّ بأنّ الشخص نفسه يمكنه أنْ يكون حَكَماً جيّداً بين الذين يتحدثون عن الشّيء نفسِه، وبما أنَّ جميعَ الشعراء يتحدثون بالفعل عن الأشياء نفسها.
آيون: لم إذن يا سقراط أشعر بعدم الاكتراث وأكاد أغطُّ في النّوم عندما يتحدث أحدهم عن شعر شاعر آخر، لكن ما أنْ يُــذكر هوميروس حتى تجدَني قد تنبّهت بكلّيتي وباتت لديّ الرّغبة في قول أيِّ شيء.
سقراط: السَّبب يا صديقي بديهيّ، وأيُّ شخص سيرى في هذه الحال أنك إنّما تنشد هوميروس وشعره دون أيِّ فنٍّ حقيقيٍّ أو معرفةٍ بالشعر. لأنّك لو تحدثتَ عنه بمقاييس الفنّ ومعاييره فيجب أن يكون في إمكانك أنْ تتحدثَ عن غيره من الشعراء بالمهارة ذاتها لأنَّ الشّعرَ كلٌّ لا يتجزّأ.
يُفاجأ آيون هنا بحكم سقراط، لكنّه لا يستطيع إلّا الإصغاء طالباً منه أن يشرح رأيه وأن يزيد.
يتبع ذلك حوار يُبيِّنُ فيه سقراط أنّ الفنّ كلٌّ متكامل وأنّه لا يوجد ناقد يقول إنّه يفهم في العمل الجميل فقط ولا يفهم أو يستطيع أنْ يُحكِّم في الأعمال غير الجميلة أو في عزف الناي أو الموسيقى الجميلة لكنّه لا يُحكِّم في أعمال العزف والموسيقى التي هي أقلُّ مستوًى من ذلك، أو أنه يوجد خبير في فنّ النّحت يتولى تقييم أعمال النحت المتميّزة لكنّه يغطّ في النوم ولا يُعطي رأيه عندما تُعرَض عليه أعمال نحت أقل شأناً. ويسأل سقراط آيون هل سمع بوجود مثل هؤلاء النّقاد؟
آيون: كــلّا أنا لم أسمع بوجود مثل هؤلاء الأشخاص.
لكنّ آيون، رغم اقتناعه بقول سقراط، يكرّر موقفَه السّابق في أنّه لا يُبدع إلّا عندما يقرأ شعر هوميروس.
آيون: لا يسعًنــي أنْ أنفي ما تقول يا سقراط، لكنْ على الرّغم من ذلك فإنني على أدراك تام، كما يوافقني الناس، بأنّني أعبّر بصورة أفضل وأُقدِّم أحسنَ ما لديّ فقط عندما أُحدِّث بشعر هوميروس بينما لا أوَفَّق عندما أحدِّث عن غيره. فهل يمكنك أنْ تقول لي ما هو السبب في ذلك؟

كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه
كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه

مطالعة سقراطية حول طبيعة الفنون
هنا يعرض أفلاطون، على لسان سقراط، لمطالعة طويلة حول طبيعة الفنّ وحقيقة الفنان، وهذه المطالعة في الموضوع صالحة لاعتبارها ملخّصاً أفلاطونياً وافياً في الموضوع.
سقراط: سأحاول يا آيون أنْ أشرح لك ما أعتقد أنّه سبب حالتك. إنَّ الموهبة التي تتمتع بها في الحديث المؤثّر عن هوميروس ليست فنّاً بل هي كما قلت من الإلهام. إن هناك كياناً عُلويا يـُحرِّكُك. مثل ذلك الذي يحتويه الصّخر الذي يسمّيه الشاعر يوروبيدس مغناطيســأً، والمعروف بين العامّة بـ “صخر هيراقليا” وهذا الصّخر ليس فقط يجتذب حلقات الحديد بل هو يجعل الحلقات نفسها مُمغنطة وقادرة على أن تجتذب بدورها حلقات حديدية أخرى. وفي بعض الأحيان يمكن أنْ نرى حلقات معلقة الواحدة بالأخرى بحيث يتشكل منها سلسلة طويلة وكل هذه الحلقات تستمدّ قوة الجذب فيها من الحجر الأصلي. بالطريقة ذاتها فإنَّ المَلاك المُلْهم Muse يمدُّ بإلهامه أشخاصا معيّنين وهؤلاء الأشخاص بدورهم يمدّون آخرين بإلهام ممّا أتاهم فتتكون سلسلة من الأشخاص الذين يُلْهِم كلٌّ منهم مَنْ يليه. بهذا المعنى فإنَّ جميع الشعراء المجلّين، سواء شعراء الملاحم أم مؤلّفي الشعر الغنائي إنّما يؤلفون موسيقاهم ليس بعامل الاحتراف الفنّي بل لأنهم مُلهَمون بل ومُسَيطر عليهم من مصدر إلهامهم. وهم لذلك ليسوا بكامل وعيهم العقلي عندما يؤلّفون موسيقاهم. وكما يقولون هم لنا فإنّهم يجلبون أغانيهم من ينابيعَ تتفجّر عسلا ويقطفون تلك الأشعار من حدائق ووديان ملائكة الإلهام، وهم مثل النّحل الذي يطير متنقّلاً من زهرة إلى زهرة، وهذا صحيح، لأنَّ الشاعر هو نور وهو شيء مقدس ومٌجنَّح أيضا. ولكن لا يمكنه ابتكار أو خلق أيِّ شيء من ذاته إلى أن يأتيه الإلهام ويخرج عن حواسِّه، عندها فإن عقله لن يكون في خدمته. وما لم يبلغ الشاعر تلك الحالة فإنّه سيكون عاجزاً تماما عن أن يُبَلِّغ إلهاماته.
وعندما يتلقّى الإلهام من ملاك الإلهام فإنّ الفنّان قد يصبح منشداً للشعر المسرحيّ، وبعضهم قد ينشد المدائح للآلهة، وبعضهم قد يغنّي الكورال والآخر قد ينشد شعر الملاحم، وهنا فإنّ من يكون متفوّقاً في لون من الفنّ فإنه على الغالب لن يكون متفوّقاً في لونٍ آخر . وهذا لأنّ إنشاد الشاعر لا يأتي من فنٍّ يملكه هو لكنه يأتي من إمداد السماء. ولو أنَّ الشاعر كان فعلا فناناً مُــلِمّــاً بنواميس الفنون كلِّها فإنّه كان سيُظهِر مهارتَه ليس في فنٍّ بعينِــهِ بل في الفنون جميعها. لهذا فإنّ الله “يأخذ من الشّعراء عقلهم” ويستعملهم كما يستعمل العرّافين وأهل النبوّة لكي نعلم عندما نستمع إليهم أنَّهم لا يأتون من تلقاء أنفسهم بتلك الآيات النّفيسة بوعيٍ منهم، إنَّما هو مصدر الإلهام السّماوي الذي يوحي عبرهم. وأنا أعطي على ذلك مثال الشاعر تينيشوس كالسيديان الذي لم يكتب من الشّعر ما استرعى انتباه أحد، إلا أن أنشودة التّسبيح التي كتبها أصبحت على كلِّ شَـفةٍ ولسان. وعن هذا الطّريق يبدو وكأنّ الله يريد أن يبيِّن لنا ولا يترك لنا أيَّ مجال للشَّكِّ في أنَّ هذه الأشعار الرائعة ليست كلاماً بشرياً أو عمل إنسان إنّما هي من وحيٍ سماوي. ألست على حق يا آيون؟.
يوافق آيون من فَوْره على رأي سقراط الذي وعلى سبيل الزيادة في الإيضاح يأخذ مثالاً من عمل آيون نفسه كمنشد وكممثّل لشّعر هوميروس وقصصه المَلْحَميّة فيسأله:
سقراط: أودُّ منكَ أن تجيبَني بصراحة يا آيون على سؤالي وهو: عندما تًثيرُ بتمثيلك أعمقَ الأثر في الجمهور عبر إنشادك لبعض الأبيات والمشاهد البليغة هل تكون مستحضراً فعلا لعقلك؟ أم أنّك تكون غائباً عن نفسك؟ ثم ألا تكون روحك في حالة من الانجذاب والغِبطة التامّة وأنت تتخيَّل نفسك بين أولئك الذين تتحدث عنهم سواء كانوا في إيثاكا أو في طروادة وبغض النّظر عن المشهد أو المقطع الشعري؟
يجيب آيون بالموافقة التامة شارحاً لسقراط أنّه في مشاهد الحزن لا يستطيع مغالبة انهمار الدموع من عينيه، وأنّه في مشاهد الرّعب مثلاً فإنّ “شَعر رأسه يقف من الرُّعب وقلبه يهلع وتتسارع نبضاته”.
بالطّبع في نظر سقراط فإنّ آيون قدّم مثالاً آخر على أنّ الممثل أو المُنشد الذي يمثّل قِصَص هوميروس لا يمكن أنْ يكون في حالة من “العقلانية” وهو يذرف الدموع أو يعبّر عن الخوف أو أيٍّ من المشاعر الحادّة على المسرح، بل لا بدّ وأن يكون “ممسوساً” وتحت السّيطرة التامّة لمصدر إلهام عُلْوِيّ.
ينتقل سقراط بعد ذلك ليضرِبَ مثلَ جمهور النظّارة في المسرح الذين أيضاً تنتقل إليهم كافّة المشاعر التي تُمثَّل على المسرح عبر منشدين وممثلين وهم جلوس في أماكنهم. فهم يَهلعون في مشاهد الخوف كما لو أنّها حقيقة وينْسَوْنَ أنّهم مشاهدون فقط لمشاهدَ تخيّليّةٍ، وأنَّهم في أمان تامٍّ ولا خوفَ عليهم من أيِّ تهديد. وقد يبكون في مشاهد الحزن ويهللون ويصخبون في مشاهد الانتصارات أو البطولة. وهذا في نظر سقراط مثالٌ على نظريّة الحلقات المِغناطيسية المترابطة والتي مصدرها إلهام أصليٌّ هو الذي يعطى من الوحي السماويَّ إلى الشاعر، ومنه إلى المنشد أو المُمَثّل المسرحيّ ومنه إلى جمهور الحضور في المسرح وهكذا.
ينتقل سقراط بعدها ليشرح لآيون لماذا يَبرع في إنشاد وتمثيل شعر هوميروس ولا يهتمُّ بإنشاد غيره. وهو يعود مجدّداً في شرحه إلى نظريّة الحلقات المُمَغْنطة التي يتعلّق كلٌّ منها بما يليه.
سقراط: أنت أيضاً حلقة من حلقات الإلهام، لكنّك مجذوبٌ بهوميروس، فإذا قرأ أحدهم قصائد شاعر آخر غيره فإنَّك تغطُّ في النّوم ولا تعرف ماذا تقول، لكنْ إذا قرأ آخرُ بيتاً من قصائد هوميروس فإنّك ستتنبَّه على الفوْر ويقفز قلبك داخل صدرك وتصبح مستعدّاً للإنشاد فوراً وقول الكثير! وأنت تسأل ما السبب في ذلك؟ إنّ سبب ذلك أنّ معرفتَك أو تميُّزَك في شعر هوميروس ليس من صُنْعك ولا يأتي من إحاطتك بالفنون ولكنَّه يأتي من مصدر إلهام عُلْوي.

الشاعر هوميروس
الشاعر هوميروس

“سقراط: الشّاعر نورٌ وشيءٌ مقدّس ومُجنَّح أيضاً. لكنْ لا يمكنه خلق أيّ شيء من ذاته إلى أن يأتيــه الإلهام ويخـــرج عن حواسِّه”

يستحسن آيون جواب سقراط لكنَّه لا يقتنع به تماماً.
آيون: كلُّ هذا جميل يا سقراط. لكنّني أشكُّ في أنَّ لديك من البلاغة وقوة الحجّة ما سيجعلني أقتنع بأنّني أبدع في التِّلاوة الشعرية لهوميروس فقط عندما أكون مجذوباً أو ممسوساً!! ولو سمحتَ لي أن أنشدَكَ الآنَ أبياتاً من شعر هوميروس فإنّني على ثقة بأنّك لن تبقى على رأيك.
يؤكِّد سقراط بأنّه يرغب جيّداً في الاستماع إلى فنِّ آيون، لكنّه يريد منه أولاً أن يجيبه على سؤال. وهدف سقراط هنا هو متابعة الحوار على النّسق السابق ودفع آيون إلى مكانٍ في الحِوار يكتشف فيه بنفسه أنّ موقفه غير منطقي وأنّ اقتراح سقراط في تعريف الفنّ والشعر كنتاج إلهام عُلْوي هو التفسير الصّحيح. وهو يفاجئ آيون بسؤال غيرِ متوقّع:
سقراط: أوَدُّ منك أنْ تجيبَني على سؤال وهو: ما هو الجزء من شعر هوميروس الذي تبرَعَ فيه أكثر من غيره؟ أكيد أنّك لست بارعاً في كلِّ شعره؟ وهنا يسقط آيون في فخّ الغرور ويجيب:
آيون: لا يوجد يا سقراط أيُّ جزء من أجزاء شِعر هوميروس لستَ فيه من أبرع الناس في فهمه وفي إنشاده.
سقراط: هذا بالتأكيد لا ينطبقُ على الأجزاء التي في شعر هوميروس ليست لك معرفة بها.
آيون: وما الذي في هوميروس لا أملك معرفة به؟
هنا يذكِّر سقراط آيون بأنَّ هوميروس يتحدّث في شعره سواء في الأوديسة أو الإلياذة عن مشاهد تتعلّق بفنون أو مهارات مثل قيادات العربات الحربيّة أو إعداد الطعام أو الطَّب أو النّجارة أو صيد الأسماك أو غيرها وهو يسأل آيون على سبيل المثال إن كان الشّخص الصّالح للحكم على شعر هوميروس في وصف عربات الخيل الحربيّة وعمل قائدها ومناوراته في المعركة مثلا هو قائد العربة الحربيّة أم مُغنّي شعر مثل آيون نفسه. وهنا يعترف آيون بأنّ قائد عربة الخيل الحربيّة هو أقدر على تقييم شعر هوميروس في هذه المهارة. سقراط يعقِّب من فَوْره بالسؤال عمّا إذا كانت أهليّة قائد العربة الحربيّة في تقييم شعر هوميروس بشأن عربات الخيل عائدة إلى فنِّ الشعر أم إلى فنّ قيادة العربات. يوافق آيون على أنّ الفنّ الذي يستند إليه قائد العربة الحربيّة في تقييم شعر هوميروس حول العربات ليس فنّ الشعر بل فنّه هو في قيادة العربات الحربيّة. هنا ينتقل سقراط إلى استنتاج مهمٍّ يقترب به من دحض نظريّة آيون حول الفنّ.
سقراط: كلُّ فنٍّ من الفنون عَيَّنَ الله له نوعاً من المعرفة بموضوع معيّن، ولهذا فإنَّ الذي يمكن أنْ نعلمَه من فنّ قيادة عربات الخيل يختلف تماماً عن الذي يمكن أنْ نتعلمه من فنّ الطِّب.
آيون: بالتأكيد

أفلاطون رفض موسيقى الإثارة ودعا إلى موسيقى ترتقي بالروح
أفلاطون رفض موسيقى الإثارة ودعا إلى موسيقى ترتقي بالروح

” سقراط: كلُّ فنٍّ من الفنون عّيَّن الله له نوعاً من المعرفة بموضوعه دون غيره  “

سقراط: كذلك فإنّ ما يمكنُ أن نتعلَّمَه من خلال فنِّ النّجارة يختلف عمّا يمكن أن نتعلّمه من خلال فنّ الطِّب؟
آيون: من دونِ شكٍّ
سقراط: وهذا ينطبق بالطبـــع على جميع الفنون
آيون: نعم
سقراط: وأنت ستوافقني على أنَّــه إذا كان لفنٍّ ما موضوعٌ محدّدٌ وكان لفنٍّ آخرَ موضوعٌ آخر مختلفٌ فهذا يعني أن الفنّيْن مختلفان؟
آيون: نعم
سقراط: وهذا يعني أنَّ أيَّ فنٍّ مُحَدّد يجب أن يكون له موضوع المعرفة نفسه وأنَّ الفنون الأخرى المختلفة سيكون لها مواضيع مختلفة للمعرفة تتعلّق بها؟
آيون: هذا هو رأيي
سقراط: إذنْ من ليس له معرفة بفنٍّ معيّن لن يكون له حقُّ الحُكم أو الحديث عن نصوص أو أعمال ذلك الفنّ الذي يجهله.
آيون: صحيح.
هنا يستخدم سقراط معرفته العميقة بشعر هوميروس وملاحمه ويفاجئ آيون في كونه حافظاً لكلِّ شعر هوميروس وهوَ لا يقلُّ عنه بل يفوقه فهما للشاعر وهو يختار سلسلة من الأمثلة التي تُظْهِر لآيون أنه لا يمكن أن يكون عارفا بكل جوانب شاعره المفضّل هوميروس. وهو يختار مقاطع يتحدث فيها الشاعر الإغريقيّ عن حالات معيّنة أو مِهَنٍ أو أعمال ثم يُظْهِر لآيون أنَّ أصحاب تلك الأعمال أو المهارات هم حتماً أفضل منه ومن أي شاعر في الحكم على أشعار هوميروس التي تتحدّث عن مِهَنهم ومهاراتهم لأنهم أخبر بها من الآخرين.

مسرح إغريقي كانت تتمثل فيه حكايات هوميروس وغيرها من الأعمال المسرحية
مسرح إغريقي كانت تتمثل فيه حكايات هوميروس وغيرها من الأعمال المسرحية

إن قصد سقراط في نهاية المطاف هو أنْ يُثبِتَ وجهة نظره وهي أنَّ عدم اكتراث آيون إلّا بشاعره المفضّل هوميروس وإهماله لغيره من كبار الشعراء يدلُّ على أنَّ فنَّه لا يعود إلى مهارة ذاتية أو موهبة لأنَّه لو كان كذلك لأمكنه تذوُّق شعراء آخرين كبار لا يقلُّون إبداعا مثل هيسيود وأورفيوس وغيرهما، وهو أراد أيضاً أن يُثبت أنَّ زعم آيون بأنّه محيط بالكامل بكلِّ ما جاء به هوميروس وأنَّه مرجع في الموضوع أيضا هو من الغرور ولا يصمد للفحص.
رغم ذلك فإنَّ آيون المغرور والذي كما يتَّضح من الحوار يفتد إلى النَّباهة يعود فيرتكب الخطأ ذاتَه مع سقراط فيزعُمُ مجدَّدا أنَّه مؤهَّل للحُكم على شعر هوميروس كلِّه دون استثناء، لكنَّ الحكيم هذه المرَّة سيكون صارماً فيذكِّره أنَّه اعترف قبل قليل بعكس ذلك عندما تناولا مثال قائد عربة الخيل الحربيَّة وغيرها من الأمثلة، وهو لذلك يعتبره مُنحازا لنفسه ومخادعاً يفتقد إلى الإخلاص في الحوار أو في الرغبة في التَّعلّم وبلوغ الحقيقة، لذلك ينهي سقراط الحوار باعتبار آيون من المخادعين، لكنَّه يعرض عليه “تبرِئَتـُـه” من ذلك الحكم القاسي إن هو وافق على الخَيار الآخر وهو القبول بأنه ليس فنّاناً بالسّليقة أو بقدرته الفنِّيَّة وإنَّما متلقٍّ لوحيٍ عُــلويّ يسيطر عليه عندما يكون على المسرح. وهذا الخيار الأخير يقبل به آيون لأنَّ البديل ليس مُشَرِّفاً له. وينهي سقراط الحوار بهذه الكلمات:
“إذن فإنني يا آيون سأنسب إليك الاحتمال الأكثر كرامة وهو أنك في تمثيلك لأشعار هوميروس إنما تعمل تحت تأثير الإلهام وليس الفن”.

يونس امره شاعر العشق

يونُـــس أمــــرِه

شاعر المحبة والأخوة الإنسانية

من أشهر أقواله: سامِح المخلوق إكراماً للخالِق !

طلب من الصوفي حاجي بكتاش بذوراً لحقله
فعرض إعطاءه «عشرة أنفاس» بدلاً منها

إعتبرته الأونسكو بين أعظم الشخصيات الثقافية
واختارت عام 1991 ليكون عام يونُس أمرِه

شعره العذب مزيج من الحب الصوفي والإنساني
الرافض بقوة للتعصب ولجمود المؤسسة الدينية

يعتبر الشاعر الصوفي يونُس أمرِه Younus Emre من أكثر شعراء الصوفية شهرة لكن في الوقت نفسه من أكثرهم غموضاً، وقد بلغت شهرته مختلف البلدان وترجمت أشعاره إلى لغات عديدة واعتبرته منظمة الأونسكو إحدى أهم الشخصيات الثقافية في العالم واختارت عام 1991 ليكون «عام يونُس أمرِه» ونظمت الندوات والملتقيات حول العالم بهدف التعريف بفكر هذا الشاعر الكبير ورسالته وتعليمه الروحي. لكن رغم مكانة الشاعر، فإن الروايات الكثيرة المتناقضة أحاطت دوماً بحقيقته وبحياته وعلى عكس شعراء الصوفية الذين توجد سير كاملة عن حياتهم، فإن تاريخ أمرِه هو مزيج من الوقائع والأساطير التي نسجت حوله في البيئة الثقافية والخيال الخصب لأهل الأناضول. يكفي للدلالة على ذلك أن مئات القرى التركية تدَّعي كلٌّ منها أنها مسقط رأس الشاعر كما أن مئات البلدات تدعي أنها تحتوي على مثواه الأخير. وهناك مصادر متضاربة حول تاريخ ميلاده وفي أي قرن عاش، إذ أن الكل يتنافس على شرف أن تكون له صلة زمان أو مكان بهذا الشاعر الذي جعل من الحب دينه وديدنه، حب الله والتحقق في أنواره وحب البشر وخلق الله من أجل الله وحُبّاً لله وهو صاحب القول الشهير «سامح المخلوق إكراماً للخالق».
حياته
رغم الغموض المحيط بحياة الشاعر، فإن المصادر الأكثر موثوقية تقدر أنه ولد في عام 1240 أو 1241 م، وأن وفاته كانت في العام 1320 أو العام 1321 مما يعني أنه عاش ما بين ثمانين واثنين وثمانين عاماً. ويبدو مؤكداً أن الشاعر عاش في مقاطعة كرمان، وأنه جاء من أسرة هاجرت من خراسان إلى قرية اسمها شيخ حاجي إسماعيل . ويعتقد أن القرية تأسست على يد شيخ العائلة التي ينتمي إليها يونُس وكان يدعى شيخ حاجي إسماعيل وسميت بالتالي بإسمه بعد أن أقام في الأناضول مع عدد من أتباعه.
في ما عدا ذلك، فإن الطريقة التي أمضى فيها يونُس أمرِه بقية حياته غير معروفة، فالبعض يعتقد أنه كان صوفياً سائحاً في الأرض، والبعض الآخر يعتقد أنه كان شيخ زاوية لكن لا يُعرف اي طريقة صوفية انتسب إليها، وكيف عاش حياته وكيف نظّم شعره وكيف مات فهذه كلها ما زالت من الأسرار التي تحيط بشخصيته الفريدة.
وبالنظر لغياب المصادر والمعلومات الموثوقة عن حياته فقد رأى مؤرخون كثر أن هذه التفاصيل ليست مهمة بقدر أهمية الرواية التي كوّنها أهل الأناضول عن شخصيته والحكايات التي تناقلوها عن حياته وشعره، بينما رأي مؤرخون آخرون في تلك القصص التي نسجت حول شخصية الشاعر دليلاً على أن يونُس أمرِه الشخص نما وتحوّل إلى أسطورة بفضل الإضافات والروايات الكثيرة التي ألصقت بإسمه مع السنين في ظل المناخ الفلسفي والروحي التسامحي والإنساني الذي كان منتشراً في بلاد الأناضول في تلك الفترة.

طريق التصوف
ربطت إحدى القصص الشعبية غير المثبتة أو ربما غير الحقيقية بين دخول يونُس أمرِه طريق التصوف وبين لقاء مفترض تمّ بينه وبين حاجي بكتاش وهو شيخ حكيم يعتبر مؤسس الطريقة الصوفية البكتاشية، وتروي تلك القصة أن يونُس كان يعيش عيش الكفاف وأنه في إحدى السنوات استهلك كل شيء ولم يعد عنده بذور يزرعها للموسم التالي، فجال البراري وجمع كمية من الثمار البرية ومضى بها إلى حاجي بكتاش يريد مقايضتها بالبذور. لكن الشيخ عرض عليه أن يعطيه مقابل تلك الثمار «نَفَس» والكلمة ترمز إلى الإمداد الروحي الذي يعطيه الشيخ لطالب الحكمة ومعه بركة الشيخ. لكن يونُس رفض تلك الصفقة وطلب الحصول على البذور. فعرض حاجي بكتاش أن يعطيه «عشرة أنفاس» لكن يونُس بقي على رغبته في الحصول على البذور، عندها أمر الشيخ بإعطائه كمية كبيرة من البذور عاد بها إلى منزله. لكن يونُس تعجب كثيراً من كرم الشيخ وأحسّ بأنه وليّ ورجل أسرار فعاد إليه بالبذور وقال له: إنني قررت أن أعيد إليك البذور وأريد منك أن تعطيني «عشرة أنفاس» بدلاً منها وفقاً لعرضك السابق. عندها أجابه الشيخ: لقد تأخرت لأنني أحلت وديعتك إلى «تبتوك أمرِه» فاذهب إليه.

بين البكتاشية والمولوية
لم يذكر أمرِه في شعره خبر لقائه بحاجي بكتاش غير أن شعره يتضمن مديحاً لـ «تبتوك أمرِه» مما يوحي أنه الشيخ الذي تعهده بالتعليم والإرشاد الروحي. لكن كثيرين اعتبروا قصة ما جرى بينه وبين حاجي بكتاش رمزية تحكي قصة انتقال يونُس من الغفلة إلى المعرفة والحقيقة وكيف بادل نفسه الجسمانية (الثمار البرية) بالحقيقة التي يُرمَز إليها في القصة بالبذور وهي ما يغرسه الشيخ في قلب المريد من العلم اللدني والكشوفات والأحوال. ونظراً إلى إنتشار الطريقة البكتاشية في تلك الأيام في منطقة الأناضول فقد كان طبيعياً أن يسعى أهل الطريقة وتابعوها إلى نسب يونُس إليها، بل إن البكتاشية التي كانت معاصرة للطريقة المولوية في منطقة الأناضول، وخصوصاً في قونيا سعت إلى إظهار تفوقها على المولوية أولاً من خلال تبني شاعر كبير يمكن مقابلته بجلال الدين الرومي ثم من خلال إظهار تفوق الشاعر أمرِه (الذي أصبح الآن حسب دعواهم بكتاشياً) على الرومي. وأدخلت لهذا الغرض حكاية عن لقاء مزعوم جرى بين الرجلين انتقد فيه يونُس ضخامة كتاب المثنوي (أبرز دواوين جلال الدين الرومي الصوفية) قائلاً له إنه كان سيختصر كتاب المثنوي كله ببيتين إثنين هما كالتالي:
اتخذت شكل اللحم والعظام
وظهرت إلى الوجود كـ «يونُس»
وتمضي القصة لتقول إن الرومي أقرّ لـ «يونُس أمرِه» بذلك وأضاف أنه لم يبلغ في شعره قمة جديدة إلا وجد أن يونُس سبقه إليها.
هذه القصة الملفقة تقدم مثلاً عن المدى الذي بلغه تعظيم أهل الأناضول في القرن الثالث عشر الميلادي لشخص يونُس أمرِه، لكنها تشير أيضاً إلى أن معاصري الشاعر لم يترددوا في تأليف القصص والروايات عنه وربما العديد من القصائد التي تحاكي أسلوبه وفلسفته وقد إتخذوا من شخصه وشهرته سبيلاً سهلاً لترويج تلك الفلسفة الإنسانية المتسامحة التي كانت تياراً فكرياً له تأثيره الكبير في تلك الحقبة وأصبح يونُس أمرِه الممثل الأهم له.

الحب-ديني
الحب-ديني

حكاية له مع مرشده تبتوك
وتضم الروايات والأساطير الشعبية عن يونُس أمرِه قصة مثيرة أخرى هي قصة لقائه بمرشده تبتوك أمرِه وتكرسه لخدمة زاويته والمريدين بقطع الحطب والعمل اليدوي لتوفير الأود للدراويش. وقد ظل على تلك الحال، حسب الرواية الشعبية، نحو أربعين سنة، إلا أنه في يوم شعر بالملل من الموسيقى التي كان يعزفها شيخه تبتوك فترك الزاوية وهام على وجهه. إلا أن معجزة حدثت له أكدت له مكانة مرشده فرجع نادماً يريد متابعة عمله في خدمة الدراويش في الزاوية. لكنه خاف أن يردّه الشيخ فذهب يستشير زوجته التي طلبت منه أن يلقي بنفسه على عتبة بيت الشيخ وينتظر خروجه إلى وضوء صلاة الفجر. ولما كان نظر تبتوك شحيحاً فقد توقعت المرأة أن يمر المرشد على جسد يونُس وعندها فإنه سيسأله من أنت؟: فيجيبه:يونُس؟ قالت له المرأة: إن أجابك بالقول: من يونُس؟ فهذا يعني أن عليك أن تغادر الزاوية ولا تعود إليها أبداً لأن سؤاله يرمز إلى أنه لم تعد لك أمانة لديه. أما إذا أجاب بالقول: «هل أنت يونُس صديقنا؟» فهذا يعني أنه غفر لك تركك الدراويش وأن في إمكانك أن تعود إليه. وقد عمل يونُس بنصيحة زوجة الشيخ وألقى بنفسه على عتبه دار شيخه، وبالفعل تعثر به الشيخ الشحيح النظر لدى خروجه إلى الوضوء فسأل: من أنت فقال له الشاعر: يونُس. أجاب الشيخ بالقول: «هل أنت صديقنا يونُس؟» عندها فرح الشاعر كثيراً وذرف دمع الشكر وعاد إلى الزاوية خادماً للدراويش متابعاً عمله في قطع الحطب والقيام بالأعمال الأخرى في خدمة الزاوية.
ويعتبر البعض أن قصة ترك يونُس للزاوية ثم توبته وعودته إليها قد تكون أيضاً موضوعة على سبيل الرمز لصعوبة الطريق والمنزلقات الكثيرة التي قد يسقط فيها المريد ومخاطر الملل وضعف العزيمة التي تواجه الكثيرين فتقطعهم عن المسار الطويل.

شعره وفلسفته
يعتبر شعر يونس أمرِه مزيجاً من روحانية الشعر الصوفي المتعارضة مع تشدد الاصولية الدينية والمؤسسة الدينية الرسمية ومن الروح الإنسانية التي شكلت ربما إحدى خصائص التسامح الديني في الأناضول في تلك الفترة من الزمن وانعكست في شعر متصوفة عظام مثل جلال الدين الرومي ويونُس أمرِه. وقد عظَّم هؤلاء الشعراء الصوفيَّة قدر الإنسان باعتبارها مظهر وجود الحق وعبروا عن رؤية إنسانية عميقة تقوم على المحبة الشاملة وعدم التمييز بين شعب وآخر والتسامح ورفض الظلم والعنف وإصدار الأحكام حتى على الخطائين داعين إلى خُلُق العفو والصفح من قبيل التخلق بأخلاق الله تعالى وأولها الغفران والرحمة.
ومثّل شعر أمرِه تحدياً لممثلي التفكير الديني المتزمت واعتبره العديد منهم خارجاً عن النهج الديني القويم واستغرب البعض الآخر جرأته في تعظيم الإنسان ووضعه المحبة والعدل والأخوة الإنسانية في مكانة أعلى من التدين الشكلي المفتقد إلى الرحمة والمحبة الإنسانية. لكن أمرِه لم يتزحزح عن رؤيته السباقة والواضحة التي جعل فيها الدين محبة وأخوة في الإنسانية وتخلقاً بالحلم والأدب الرفيع وتضحية من أجل الآخرين وإحساناً وبساطة وفقراً. بذلك استحق هذا الشاعر الذي لا نعرف سوى القليل عنه شهرة لم يبلغها إلا القليل من شعراء الصوفية في جميع الأزمان.
في القسم التالي من هذا المقال، نورد مقاطع من شعر يونُس أمرِه تظهر بوضوح معاني اختباره الروحي وتقدّم مثالاً عظيماً لزماننا الحاضر المبتلى بكل أشكال العنف والتوحش والعصبية الجاهلية. وقد قمنا بتعريب المقاطع الشعرية من الترجمة الإنكليزية لشعره الأصلي باللغة التركية وحرصنا كل الحرص على أن تحتفظ تلك التعابير الشعرية بمعناها ونبضها الأصلي.

(رئيس التحرير)

من شعر يونس أمرِه

صورة-تخيلية-للشاعر
صورة-تخيلية-للشاعر

1. إذا كنت عاشقاً حقاً
كل أهل هذا الكون الواسع يعشقون هذا الذي نعشقه
إذا كنت عاشقاً حقاً فكن صديقاً لصديق الصديق1
وإلا فستكون ظالماً لصديقك إن بقيت على حالك

إذا كنت عاشقاً حقاً فابذل نفسك لجميع الخلق
لكي يقتنع أهل العشق بأنك مخلص في سعيك
وإن كنت حقا عاشقا لربك فإنه سيفتح لك الأبواب

اترك هذا الفخر الأجوف ومزِّق أناك الفظة حتى القلب
الحاكم والمحكوم المطيع والعاصي كلهم عبيد لله
لقد حفظ يونُس جيداً هذه الكلمة من الكنز المخفي:
عاشقو الحبيب لا يكترثون بهذا العالم ولا بالعالم الآخر

2. بحر العشق
أيها الصديق الحبيب دعني أغوص في بحر العشق
دعني أغرق في ذاك البحر وأسير على الماء
دع العالَميْن يصبحان ملعبي

دعني أصبح العندليب الذي يشدو
وروحاً منعتقة من رغائب ذلك الجسد الميت
دعني أدفن رأسي في يدي هاتين
دعني آخذ طريق الوحدانية وأسير فيه

3. رأيت وجه المحبوب
حمداً للسماء لقد رأيت الوجه العذب للمحبوب2
وشربت مدام لقاء الأحبة من يديك
يا لسوء حظي إذ أغادر هذه المدينة
وأمضي بعيداً

ها هو يونُس يتقلب في عذابات العشق
بين جميع العذابات أصعبها احتمالاً عذابه
لكن سقمي له دواء ودواؤه الوحيد لديك
وإني أحيل نفسي رماداً من أجل ذلك الدواء

إذهب وأخبر العاشقين في كل مكان
بأنني أنا الذي بذلت روحي في العشق
أصبحت مثل طير بري يحلق بنار الشوق
وأنا أسرع الطيور غوصاً في سماء المحبين

من أمواج البحر آخذ الماء
وأنثره في كل أنحاء السماء
بخشوع التسبيح ارتفع في الفضاء مثل غمامة
انا ذاك الذي يطير إلى السماوات العلى

4. أسمي يونُس وقد أضعت عقلي
كل من قال رأيت لم ير وإن أقسم أنه رأى
وذاك الرجل لا يعرف رغم زعمه أنه يعرف
وحده الواحد هو الذي يعلم ويظهر علمه
أما أنا فإني ذاك الذي أصبح عبداً للعشق

للعاشقين الصادقين هذه الأرض جنة
والذين يعرفون يجدون فيها صروحاً وقصوراً
يهيمون ذاهلين خاشعين مثل النبي موسى
أما أنا فأمكث بحبور فوق طور سيناء

إسمي يونُس وقد أضعت عقلي
العشق وحده أصبح دليلي حتى آخر الطريق
وحيداً في سبيلي إلى الصديق العظيم
أسير وأقبّل الأرض ثم أصل

5. إبحث عنه في داخلك
الله الحي القيوم في كل شيء
لكنه لا يكشف حقيقته لأحد
أفضل لك أن تبحث عنه في داخلك
أنت وهو لستما منفصلين بل أنتما واحد

العالم الآخر لا تدركه الحواس
أما هنا على الأرض فعلينا أن نعيش واقفين
المنفى حنين وعذاب واضطراب فكر
ولا أحد يعود بعد أن يغادر هذا العالم

تعال يا صاح فلنكن أصدقاء ولو لمرة
لنجعل الحياة سهلة وهنيئة لنا
لنكن عاشقين ومعشوقين
فهذه الأرض لن يرثها أحد

ما يقوله يونُس لك شديد الوضوح
ومعناه يصل إلى أذن قلبك:
علينا جميعاً أن نحيا حياة طيبة هنا
لأن لا أحد سيعيش إلى الابد

6. ما الذي ينبت في قلب من صخر؟
إسمعني جيداً أيها الصديق
العشق مثل شمس ساطعة
أما القلب الذي لا يحب
فهو مثل صخر أصم

ما الذي ينبت في قلب من صخر؟
رغم أن الحديث يبدأ ناعماً
فإن كلمات السم سرعان ما تثور
وتنقلب سريعاً إلى حرب

الروح المصابة بالعشق تحترق
وتذوب في احتراقها مثل الشمع
أما قلوب الصخر فإنها مثل الشتاء
مظلمة وقاسية لا دفء فيها

أهل الحقيقة رجال الله هم مثل المحيط
وعلى العاشقين أن يغوصوا في ذلك البحر
وحتى الحكماء عليهم أن يغطسوا فيه
لكي يخرجوا بأنفس الجواهر

لقد توجهنا إلى أولئك الحكماء ثانية
لكي نأتي بالجواهر من الأعماق
الصائغ وحده يعلم
كم هي نفيسة تلك الكنوز

لقد بحث محمد عن حقيقة الله
فوجد الله في حقيقة ذاته
الله موجود في كل مكان
لكن لا بدّ من عين مبصرة لكي تراه

حكماء الحقيقية يؤلفون الكتب
حبراً أسود على أوراق بيضاء
لكن جميع فصول كتابي مكتوبة
بمداد قلوب العاشقين

7. أنا هنا من أجل الحب
لم آت إلى هذا العالم لكي أقيم فيه
بل دخلته لكي أغادره
أنا تاجر ولدي الكثير من البضائع
أبيع لأي إنسان يرغب في الشراء

لم آت إلى هذا العالم لأثير المشاكل
أنا هنا من أجل الحب لا غير
القلب بيت مريح للصديق
أتيت لأشيد بعض القلوب
وأشعر بالثمالة من تلك الصداقة

أي عاشق حقيقي سيعرف أي حال انا فيه
جئت لكي أبادل إثنينيتي
ولكي أزول في الواحد
إنه مرشدي وأنا مريده

أنا العندليب في حديقته
وقد جئت إلى حديقة المرشد
لكي أفوز بالفرح وأموت شادياً

يقولون إن أرواح المحبين هنا
تعرف بعضها هناك
ولقد جئت لكي أكون محباً لأستاذ
وأعرض عليه نفسي كما هي

8. وحشة المنفى
أهيم على وجهي هل من أحد هنا؟
هل من غريب هنا تائه كحالي
بقلب جريح وأعين تذرف الدمع
غريباً مستوحداً كحالي؟

لا يكونن أحد غريباً وحيداً مثلي
فيذوي باكياً في وحشة المنفى مثلي
أيها المعلم آمل أن لا يكون أحد
غريباً مستوحداً كحالي

سيقولون يوماً : لقد مات ذاك الغريب المحزون
وسيعرفون ذلك بعد ثلاثة أيام
سيجدونني ويغسلون جدثي بماء بارد
غريباً مستوحداً كحالي

لا عون ليونُس ولا إشفاق
ولا دواء لمصيبته
هائماً من مدينة إلى مدينة
غريباً مستوحداً كحالي

9. كل ايامي ستصبح أعياداً
أمرغ وجهي في التراب
قمري3 الجديد سيرتفع في السماء
وسيصبح الشتاء والصيف ربيعاً
كل أيامي ستصبح أعياداً

لن تلقي أي غيمة بظلها
على الأنوار المشعة لقمري
إنه بدر مكتمل ولن يطاله الشحوب
وشهب أنواره صاعدة بين السماء والأرض

أرى قمري الآن أمامي على الأرض
فما الذي سأفعله بهذه السماوات
مطر الرحمة ينهمر علي
من هذه الأرض4 التي أسمر عليها ناظري

ماذا لو كان يونُس عاشقاً؟
كثيرون هم عاشقو الله
ويونُس أيضاً يطأطئ رأسه
لأن عاشقي الله تذيبهم نار العشق

10. إن أخبرتك عن أرض للحب
إن أخبرتك عن أرض للحب
هل ستتبعني يا صديقي وتأتي معي؟
في تلك الأرض توجد كروم عنب
تنتج خمراً قاتلاً
لا يمكن لكأس أن تحمله
هل ستتجرع ذلك الخمر كشفاء؟

في تلك الأرض على الناس أن يجاهدوا أنفسهم
هل ستقدم أحلى المشروبات للآخرين
وتبقي الشراب المر لنفسك؟

لا توجد في تلك الارض أقمار ولا شموس
لا كواكب هناك تنمو بدوراً ثم تضمحل
هل ستسلم هناك كل خططك
وتنسى فنون الغواية؟

هنا على هذه الأرض نحن جُبلنا
من الماء والتراب والنار والهواء
يونُس أخبرنا: هل هذا حقاً ما صنعت منه؟

إحدى-القرى-الجبلية-في-مقاطعة-كرمان-التي-ولد-فيها-الشاعر
إحدى-القرى-الجبلية-في-مقاطعة-كرمان-التي-ولد-فيها-الشاعر

11. لا تتباه بعلمك
أن تعرف يعني أن تعرف الكل
المعرفة هي أن تعرف نفسك القلب والروح
إن لم تفلح في أن تعرف نفسك
فإن كل ما تقرأه سيطيش بك عن الهدف

ما الهدف من قراءة كل تلك الكتب؟
هو أن يتوصل الإنسان إلى معرفة الواحد الجبّار
فإن قرأت لكنك أخفقت في أن تفهم
فإن كل تلك القراءات ستكون جهداً بلا فائدة

لا تتباه بقراءتك أو تبحرك في العلوم
أو بصَلاتِك أو بعباداتك الأخرى
إن لم يتحقق لك أن الإنسان هو وجه الحق
فإن كل ما تتعلمه لن تكون فيه أي فائدة لأحد

سر معنى الكتب السماوية الأربعة
تجده في أول حروف الأبجدية
أيها الواعظ أنت تتحدث عن ذلك الحرف الأول
هل يمكنك أن تقول لي ما هو معناه؟

يونُس أمره يقول لك أيها المتفقه
يمكنك إذا شئت أن تحج إلى مكة
مئات المرات لكن إن سألتني سأقول لك
إن زيارة أحد القلوب هي الأفضل بالنسبة لي

12. ثروة السالك هي الفقر
دع الأصم يستمع إلى الأبكم
لا بدّ من روح لكي تفهم كلامهما

لقد فهمنا كل شيء بلا استماع
وبلا فهم قمنا بكل ما هو مطلوب

ثروة السالك في هذا الطريق الفقر
عشقنا وأصبحنا عاشقين
ثم أصبحنا معشوقين أيضاً
عندما تكون الحياة في فناء لحظة بعد لحظة
من يملك الوقت الكافي ليشعر بالضجر؟

لقد قسم الله أمته إلى اثنين وسبعين لغة
فقامت الحدود بين الممالك
لكن الفقير يونُس يملأ الارض والفضاء
وتحت كل حجر يختبئ موسى

13. عندما يرفع الحجاب
لتذكر اسم الله في جميع الأوقات
ثم فلتنظر ما الله فاعله
لتأخذ الطريق على الدوام
فلتنظر ما الله فاعله

عندما يكون ذلك آخر ما تتوقعه
فإن الحجاب يُرفع فجأة
ويأتي الترياق في الوقت المطلوب
فلتنظر ما الله فاعله

ماذا فعل يونُس؟
ماذا فعل؟
لقد وجد صراطاً مستقيماً
وأمسك بيد مرشد كامل
فلتنظر ما الله فاعله

14. الروح ضيف الجسد
حياتي الآفلة جاءت ثم ها هي ذاهبة
مثل ريح يهب ّعليك ثم يمضي
الآن أشعر كم أنها كانت قصيرة
كأنها لم تكن أكثر من ومضة عين

لقد نطق الرب بالحق
إذ قال إن الروح هي ضيف الجسد
وإنها يوماً ما ستغادر الضلوع
وتحلق مثل عصافير حررت من أسر القفص

انظر إلى الحياة يا صديقي
كأنها حقل زرعه الفلاح
بذور ملقاة في كل زوايا التراب
بعضها سينبت وبعضها سيموت

لو تسنى لك أن تعطي الماء
لرجل سقيم يحتاج إلى العناية
فإنه بإذن الله سيلقاك بألف سلام

حلقة-للذكر-والتأمل-في-شعر-يونس-أمره
حلقة-للذكر-والتأمل-في-شعر-يونس-أمره

15. شريعتنا
شريعتنا ليست مثل بقية الشرائع
وعقيدتنا فريدة ولا مثيل لها
بين العقائد الإثنتين والسبعين
علامات مختلفة تقودنا في الطريق
في هذا العالم وفي العالم الآخر

دون تطهر بالماء الظاهر
بلا أي حركات من اليدين أو الرجلين أو الرأس
نعبد الله مخلصين له الدين

سواء وقف الناس في الكعبة أو الجامع او الصلاة الجامعة
فإن كلاً منهم يحمل أمراضه
في أي مقام أو منزلة يقف كل من هؤلاء
الله وحده يعلم
وفي الغد سيُعرَف من الذي ترك الدين
يونُس، جدد روحك وليتذكرك الناس كصديق
تمسك دوماً بهذه القوّة:
استمع دوماً بأذني القلب

16. ملاك الموت
لا علم لنا من منا الذي يأتي دوره
بينما الموت يسرح طليقاً بيننا
يقطف حياة الناس كما لو كانت بستانه
ينتقي ويقطع من شجرة الحياة من يريد

ها هو يسحق الناس
ويلوي ظهورهم من الحزن
ويجعل الألوف يذرفون دموع الفجيعة
وهو الذي يحيل الضياع والممالك قفاراً
ولا ينيبه من ذلك أي ندم
يضرب بقوة ويعتصر الحياة من هامات الرجال

قبل أن يهرم الأبطال وتنحني ظهورهم
يرميهم الموت بسهم ويرسلهم إلى القبر
يأتيهم بغتة فلا مبلِّغ ولا نذير
عيناه تلتمعان سروراً بفنون المكر

17. سكان القبور
اجتزت في سفري بلاد الله الواسعة
ورأيت أقواماً كثيرة في القبور
القوي والضعيف يرقدان هناك
ومن كانت ترتعد لمرآهم القلوب

بعضهم كانوا كهولاً
وبعضهم يافعين أبطالاً
بعضهم وزراء أو معلمين
كلهم ذهبوا
وقد لف الليل أيامهم المُنَّورة
ها هم هنا يرقدون أسياداً وعبيداً
كلهم سلكوا أخيرا الصراط المستقيم للموت
لقد حملوا القلم وخطوا بيدهم صحفاً
وأنشدت ألسنتهم مثل العندليب
لكنهم تحت التراب يرقدون الآن
حكماء وصناديد

القوي البطاش والضعيف كلهم يبكون
عندما قضى أولئك القادة الأبطال
إنكسر قوس القتال على قبر كل منهم
وسقط الشجعان مثل السهام الطائشة

كانت جيادهم تثير سحب الغبار الهوجاء
وقارعو الطبول يسيرون في أثرهم
وقد اعتزت البحار والبراري بعظمتهم
لكن هؤلاء الأمراء يبيتون الآن
في كهوف الموت المعتمة

18. مسلك الدراويش
من أنعم الله عليه بمسلك الدراويش
ليتوقف كل عمله وليسطع بالنور

فليصبح نَفَسُه مسكاً وعنبراً
ولتجمع القرى والدساكر
الثمار الطيبة من أغصانه

فلتصبح أوراقه عشباً شافياً لكل عِلَّة
وليحصد الناس نيل الأرب في ظلاله
لتصبح دموعه ينبوعاً رقراقاً
ولينبت قصب الناي بين أصابع قدميه

وبين جمهرة الشعراء وطيور العندليب
في حديقة الصديق الأعظم
سيكرج يونُس مثل طائر الحجل.

مآثر وعبر

مآثـــر وعبـــر
هل جميعكم بهذا الإيمان؟!
أنا أضعفهــــــــم

هل-جميعكم-بهذا-الإيمان
هل-جميعكم-بهذا-الإيمان

 

السؤال طرحه إبراهيم باشا المصري الذي كانت قواته تخوض قتالاً مريراً ضد الموحدين الدروز وتحاول إخضاعهم، والجواب هو ردّ به المرحوم المجاهد الشيخ حسن البيطار على قائد الحملة المصرية وابن محمد علي باشا. وقد حصلت المقابلة بين الرجلين بعد معركة وادي جنعم وموقعة البيرة بين الثوار الدروز بقيادة شبلي باشا العريان والقائد المصري. قبل ذلك كان الدروز قد تعرضوا لهزيمة مؤلمة على يد القوات المصرية في معركة وادي بكّا عام 1838 بقيادة الشيخين حسن جنبلاط ونصر الدين العماد الذي استشهد في المعركة. وقد هزم الموحدون الدروز بسبب خديعة مدبّرة ووشاية عن مكان تواجدهم من قبل أحد القرويين المتعاطفين مع المصريين، وكان ثمن تلك النكسة غالياً، إذ قتل في تلك المعركة نحو 640 ثائراً من بينهم 41 جوز أخوة ستة منهم من بلدة شوفية واحدة.
هذه المعركة الفاصلة كانت السبب في تراجع الثوار إلى منحدرات جبل الشيخ الوعرة، ومنها وادي جنعم السحيق والذي تحدّ به من الشرق قمم جبل الشيخ الشاهقة، ومن الغرب الجبل الوسطاني، وعند آخره لجهة الجنوب تقوم بلدة شبعا المختلطة آنذاك بسكانها من المذاهب السنية والدرزية والمسيحية الأورثوذوكسية وفي البلدة كما هو معروف بقايا من الجنود الصليبيين الذين فروا من الخدمة بعد معركة حطين واعتنقوا الدين الإسلامي ثم استقروا واندمجوا وتزاوجوا وخصوصاً مع العائلات السنية، ومنهم من لم يزل يحمل الإسم الأجنبي الغربي كآل مركيز وسواهم..
القائد إبراهيم باشا لم يكتف بانتصاره في معركة وادي بكّا، بل أراد أن يلحق بالثوار إلى أماكن تواجدهم في منطقة جنعم الحصينة. وكان الثوار الدروز يواجهون وضعاً صعباً بسبب تناقص أعداد المقاتلين وتضعضع الباقين منهم وانسحاب قادتهم إلى الجولان. لكن مع ذلك، فإنهم انتصروا على القوة الشهابية الآتية من حاصبيا المساندة لجيش إبراهيم باشا بأمر من الطاغية الحاقد الأمير بشير الشهابي الثاني وعلى رأسهم حفيده الأمير مسعود ابن الأمير خليل، فكان أن فاجأهم الثوار بمكمن صخري في منطقة في خراج بلدة شويا تُدعى البيرة، فقتل أحد قادتهم الشيخ فضل الخازن وسبعة عشر رجلاً وهرب الباقون وعادوا من حيث أتوا. وغنم الثوار أسلحتهم وأمتعتهم، كما يشير بذلك المؤرخان طانيوس الشدياق والدكتور أسد رستم 1.
بعد ذلك، وصلت قوات إبراهيم باشا بقيادة الضابط الأرناؤوطي مصطفى باشا لنجدة الشهابيين، ولما كان عدد الثوار قليلاً بالمقارنة مع الجيش المصري الجرّار، فقد انسحبوا إلى بلدة شبعا التي تقع جنوب وادي جنعم وهناك وقع قتال ضار طوال النهار والليل حتى انبلاج فجر اليوم التالي قبل أن يتمكن إبراهيم باشا وجنوده من دخول البلدة المذكورة في ما انسحب الثوار المقاتلون إلى إقليم البلّان بينما اختار آخرون الالتحاق بالثوار السوريين في جبل اللجاة من أعمال جبل الدروز.
ويروي المؤرخ فيليب عن هذه الموقعة في كتابه “ لبنان في التاريخ” قائلاً : “ هاجم إبراهيم باشا قرية شبعا التي تقع جنوب شرقي حاصبيا ونهب خلواتها والتي تعدّ من أقدم خلوات الدروز وأعظمها احتراماً وتكريماً، وحمل مخطوطاتها التي استقر بعضها في مكاتب مصر والبعض الآخر وصل إلى أوروبا على يد الجنرال الملقب سليمان باشا وهو جنرال فرنسي كان يقود الحملة المذكورة ويعرف بإسم الجنرال سيف الفرنسي” 2…
بعد دخول بلدة شبعا من قبل القائد إبراهيم باشا طلب مستشاره الشيخ جرجس الدبس الاتصال بالثوار ومفاوضتهم على الاستسلام مقابل السلام والأمان وذلك بقصد تصحيح الأخطاء التي ارتكبت من قبل ولاته في السابق وتحسين صورة الحكم المصري وغايته أن تبقى بلاد الشام جزءاً من مملكة والده محمد علي باشا بعد فصلها عن الإمبراطورية العثمانية. وفي هذا الصدد يقول الشيخ الدبس أنه بينما كان سائراً إلى الثوار شاهد في خراج بلدة شبعا اثنين من عساكر الأرناؤوطي ممسكين بإمرأة فرجع مسرعاً وأخبر الباشا الذي طلب من اليورجي أن يردعهما عنها فلم يمتثلا، فما كان من إبراهيم باشا أن قاد بغلته بنفسه نحوهما، وما إن وصل إليهما حتى أمر بقتلهما3.
أثناء إقامة العسكر في بلدة شبعا ، وبعد أن غادرها القائد ابراهيم باشا، أمر الضابط المسؤول عن الفرقة المتواجدة مختار البلدة السيد ابراهيم الخطيب والوجيه الأورثوذوكسي الشريف شاهين هدلا أن يجلبا إليه النساء القاطنات في البلدة كونهن في نظره سبايا حرب لأنهن من أتباع الثوار، غير أن السيدين المذكورين ردّا عليه قائلين: “يهون علينا تسليم نسائنا وبناتنا على أن نسلم من هم للشرف آياته وللعرض حماته”4.
وفي هذا الصدد أيضاً يقول المؤرخ ميخائيل مشاقة5 إن الدروز أرسلوا الشيخ حسن البيطار من بلدة راشيا، وهو من المقربين من شبلي باشا العريان، ليتفاوض مع القائد إبراهيم باشا حول التقارب وإنهاء النزاع، فذهب الشيخ المذكور وقابل الباشا، وبعد أن جلس وإيّاه طويلاً حيث استلطفه وانشرح لحديثه ولباقته. ويضيف مشاقة القول إن عباءة الشيخ حسن البيطار كانت بها خروق من البارود والرصاص فقال له إبراهيم باشا : هل كنت تشارك في الحرب؟؟” أجابه الشيخ :
– نعم..
– وهذه الخروق؟؟
– إنها بارود ورصاص جنودك
– ومع هذا لم تزل حياً !!
– إذا الله تعالى لم يأمر بالموت فلا قوة في الأرض تقدر على ذلك، وإذا شئت موتي فأنا بين يديك.
هزّ القائد إبراهيم باشا برأسه مطولاً ثم سأل الشيخ وقد امتلأ بالإعجاب لهؤلاء القوم الذين دوّخوا عسكره:
– هل جماعتك كلهم بهذا الإيمان؟
– ربما كنت أضعفهم يا سيدي القائد..
بعد هذا الحوار قال القائد للشيخ: أنا لا أريد الموت لأحد، ولكن جماعتك يسعون إلى قتل أنفسهم.
أجاب البيطار: هم الآن يلتمسون من جانبكم السلام والأمان.
قال الباشا: شرط تقديم السلاح..
قال الشيخ: إنهم ملتزمون بما تأمرون به، فليصدر أمرك بالسلام ووقف القتال وليذهب معي بعض جنودك كي يجمعوا السلاح وتسليمكم إياه. وهكذا حصل وسلّم الدروز أربعمائة بندقية فكرّم القائد إبراهيم باشا قائد الثوار شبلي باشا العريان الذي وُلّي على إمارة الرُّها في العراق.
بعد تلك المعارك لباس أضعفت قوى الموحدين الدروز وخصوصاً في بلدة شبعا، كان أن رحل معظمهم والتحقوا بأقاربهم وأنسبائهم في قرى وادي التيم، ومنهم من انتقل إلى بلاد الجولان وإقليم البلان وضواحي الشام وسواها من أماكن تواجد الموحدين الدروز.
ولتاريخه لم تزل تعرف ثلاث عائلات في حاصبيا بـ “دروز شبعا” وفي هذا الصدد لا نعلم طبيعة الصلة بين كثير من العائلات في بلدة شبعا حالياً والتي تحمل على سبيل المثال اسم آل ماضي وآل الخطيب وآل سرحان وآل حمدان وآل السعدي وآل وهبه وآل نصر الله وآل غانم وآل زهيري وآل برغشه وسواها.. ومع هذا نجد العديد من الصداقات والمودة التي تجمعهم، وهم ينادون بعضهم بعضاً بأبناء العم والله أعلم .

يللــــي بيخِفّــــو رجليــــه بيتعــــب راســــو

إحفــــظ لسانـــك
فهـــو حصانــــك

أيام الترام الكهربائي ركب أحدهم من ساحة البرج إلى الحرج لزيارة بعض الأصدقاء.في وطى المصيطبة، جاء عامل قطع التذاكر، وكانت قيمة تذكرة الركوب يومها خمسة غروش سورية حجر. أدخل الراكب يده في جيبه وأخرج ما اعتقد أنه قطعة الخمسة غروش المطلوبة، لكنه في الحقيقة أعطى الجابي خطأ ليرة ذهبية وكانت هذه تشبه بحجمها قطعة الخمسة غروش السورية بالشكل واللون. وبعد عودته إلى منزله تفقد دراهمه فإذا به يكتشف أنه قد أخطأ ودفع ليرة ذهبية لجابي التذاكر بدلاً من الخمسة غروش.
إحتار في أمره وبدأ يفكر بوسيلة تساعده على استرجاع القطعة الذهبية الثمينة، ولم يجد في نهاية الأمر سوى التوجه إلى مدير الترام وكان آنذاك السيد فيليب رزق الله ومركزه ساحة البرج. أخبره بما حدث معه. فأجابه المدير: هل تعلم رقم الترام والساعة التي ركبت بها؟ أجابه بلا حتى وأنني لا أعرف الرجل الذي قبض مني الأجرة.
إستمهله المدير وطلب منه أن يأتي بعد ساعتين إذ “ربما نكون قد اهتدينا إلى الموظف المذكور ونعيد الليرة”.
في نهاية الوقت المحدد رجع الرجل إلى المدير فنقده الليرة عينها فتعجب الرجل لهذه السرعة والتوقيت ثم تجرأ وسأل المدير : كيف وجدتم الليرة؟
أجاب المدير: الذي قبضها منك افتقد الدراهم المجموعة معه بعد انتهاء نوبته من العمل فرأى الليرة فأرجعها لي قائلاً إنها ليست له فهي بذمة الشركة إلى أن يظهر صاحبها.
سرّ الرجل بالطبع لأمانة الموظف ولهمة إدارة الترام لكنه سأل المدير قائلاً: عندما أتيت إليكم وقصصت عليكم الأمر طلبتم مني أن أغيب ساعتين ثم أرجع إليكم، فما الداعي إلى غيابي هذه المدة والليرة كانت بحوزتكم؟
أجاب المدير لربما لسانكم قد خانكم وسبب لكم ما أقلقكم. قال الرجل : بالله عليكم أخبروني كي أتعلم من أخطائي.
قال المدير: يبدو أنكم أخبرتم سواكم بما حصل معكم فأتى أحدهم فوراً إلينا وطالب بما طالبتم فأمهلناه الوقت ذاته لاعتقادنا أنه ربما لها صاحب آخر أحق منه فيأتي فيطالب بها. وكوننا اقتنعنا بإجابتكم وبأنكم صاحب الغرض المفقود لهذا أعطيناكم الليرة وإن كان بعد تأخير ساعتين من الزمن.
كان درساً ثميناً من المدير يذكّر بالحديث النبوي الشريف:”استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”. وكم من مرة ينزلق لساننا بأخبار أو أمور ثم نعود ونندم على ما قلناه. وفي أمور المال والتجارة فإن هذا المبدأ أساسي ومعروف وأكثر التجار الحصيفين يلتزمون به فأنت لا يمكنك أن تأخذ منهم لا حقاً ولا باطلاً في كل ما خص تجارتهم وهذه الحكمة يتوارثونها أبا عن جد.
أثناء الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة ما بين العامين 1976 – 1989 زار الدكتور هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية آنذاك بيروت عدة مرات، وكان معروفاً بخبثه ودهائه وطول باعه في السياسة الدولية كما أنه كان باعتباره يهودي الأصل متعاطفاً مع إسرائيل.
في إحدى زياراته إلى لبنان استقبله في مطار رياق العسكري رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك سليمان فرنجية، وبينما كان الرجلان يتباحثان في الوضع اللبناني وأوضاع المنطقة تشعب الحديث وإذا بالدكتور كيسنجر يطرح على الرئيس فرنجية سؤالاً مفاجئاً. قال له: “فخامة الرئيس، في رأيكم من أولى بحماية الأماكن المقدسة في إسرائيل: اليهود أم المسيحيون أم المسلمون؟”
أجاب الرئيس فرنجية دون تردد: المسلمون. تعجب كيسنجر وسأل عن السبب: فردّ الرئيس فرنجية بجواب مفحم فاجأ وزير الخارجية الأميركي إذ قال: السبب واضح وبسيط. اليهود لا يعترفون بالمسيحية ولا بالإسلام، والمسيحيون لا يعترفون بالإسلام، بينما المسلمون يعترفون بالديانتين الكريمتين ويقدسون أنبياءهما معاً فهم وليس غيرهم المؤهلون للحفاظ على القدس والمعالم التاريخية للأديان السماوية الثلاثة.

القاضي والنقاب

“القاضي والنقاب” للدكتورة عايدة الجوهري

عن قاض فذ وابنته المكافحة لعتـــق المـــرأة فـي السنـــوات الأخيرة لزمن الدولة العثمانية

يتأرجح كتاب الدكتورة عايدة الجوهري “القاضي والنقاب” بين كتابة السيرة وبين تحليل التاريخ الاجتماعي لمنطقة بلاد الشام في فترة انتقالية دقيقة شهدت آخر مراحل الدولة العثمانية واندلاع الحرب العالمية الأولى ثم التغييرات المزلزلة التي ضربت بلدان المنطقة بعد الحرب وإزالة الدولة العثمانية عملياً من الوجود.
أما السيرة فهي تتناول شخصية فريدة في تاريخ القضاء العثماني ثم اللبناني (فترتا الانتداب والاستقلال) هو القاضي سعيد زين الدين. لقد انكبّت المؤلفة على تدقيق وتحقيق الوقائع والتواريخ والوثائق فعادت إلى الصحافة اليومية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن وأضافت معارفها التاريخية والاجتماعية الواسعة بهدف تقديم وصف تفصيلي وجامع في آن واحد لتلك الشخصية الفذّة في إطارها الزمني والجغرافي السياسي. بسبب هذا المجهود قدّمت الدكتورة الجوهري مساهمة مهمة تعين على تتبع وفهم سيرة القاضي زين الدين ومواقفه والآثار التي تركها في كل بلد تسلّم فيه مناصب قضائية، وعرفنا من الكتاب قدر المثالية التي كان يتمتع بها والاعتزاز بعمله وبإستقلاليته واستقامته في أمور العدل وإحقاق الحقوق، إلى حدّ تحذيره لجمال باشا من التدخل في شؤون عمله والقضاء عموماً. ولا بدّ لمن يطلع على الكتاب أن يشعر فعلاً بالفخر لهذا التاريخ الناصع لرجل يكاد يقترب بصمت ودون ضوضاء من أبطال القصص الشعبية، وهو بالفعل عومل كبطل شعبي فتظاهر أهل القدس يتقدمهم المفتي ووجوه العائلات المقدسية احتجاجاً على قيام الآستانة بنقله من مدينتهم، وفي حلب تنصب أقواس النصر وتنشر المقالات في الصحف وتعلق اليافطات للترحيب بقدوم القاضي زين الدين الذي كانت سمعته تسبقه إلى أي مدينة يتم تعيينه فيها.
من ميزات الدكتورة الجوهري، إضافة إلى ذكائها ونضجها الفكري، نزاهة علمية وأمانة في عرض الوقائع دون تدخل من أفكارها هي أو ما تشتهي أن تراه. ونحن أمام مؤرخة وباحثة لا تبدو مهتمة بدفع أي أجندة مواقف أو قناعات بل التنقيب وعرض الوقائع، وفي هذا أظهرت الجوهري في كتاب “القاضي والنقاب” درجة كبيرة من جدية الباحث وصرفت على الأرجح وقتاً طويلاً في جمع مادتها وتحقيقها ثم كتابتها وترتيبها. لكن حماس الدكتورة الجوهري للتحقيق التاريخي جعلها في النهاية تراكم مادة ثرية فعلاً أكثرها جديد وغير منشور بهذا الاتساق والسلاسة والوضوح.
وبينما يتعلق الكثير من تلك المادة بخدمة الهدف الأصلي وهو عرض سيرة القاضي سعيد زين الدين وابنته نظيرة فإن الكثير من تلك المادة تناول الفترة الزمنية الواسعة التي عاش فيها القاضي بكل تفاصيلها وتحولاتها المثيرة. ولذلك نعتقد أن الدكتورة الجوهري انتهت من بحوثها وتنقيبها بمادة ضخمة يمكن أن تكون أساساً لعدة كتب لكن المؤلفة غلبت ميلها إلى تقديم مادة تاريخية غنية وممتعة على “الاستخدام الاقتصادي” لمادة البحث، فكان أن أصبحت لدينا في النهاية مجموعة كتب في كتاب. واحد عن سيرة القاضي زين الدين وآخر عن سيرة ابنته نظيرة التي خاضت، بدعم من والدها التقدمي التفكير، معركة الحجاب ورفع نير سوء الفهم والتحجر الفكري عن كاهل المرأة وقدراتها وإنسانيتها وهذا هو السبب في تسمية الكتاب “القاضي والحجاب”. وهناك مادة لأكثر من كتاب في شق البحث المتعلق بتداعي بنيان الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد أضاءت المؤلفة بدقة على تلك الفترة بما في ذلك الإصلاحات التي أدخلتها الدولة العثمانية في محاولات يائسة لرد شبح الزوال، واللافت هو اعتراف المؤلفة بشجاعة بفضل السلطان عبد الحميد في إدخال أكثر الإصلاحات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية جذرية في التاريخ الأخير للسلطنة وهي صورة تناقض تماماً الصورة النمطية المعادية التي لفقها بعض أدعياء الغرب والمفتونين بالإستعمار الأوروبي.
على سبيل الختام، نقول إن كتاب الدكتورة الجوهري جاد وممتع في آن ويفتح الأعين على حقائق جديدة في التاريخ المضطرب لمنطقتنا. إنه في نظرنا إضافة لا بدّ منها إلى مكتبة أي مثقف أو باحث في التاريخ الاجتماعي للبنان وبلاد الشام.

ر.ح.

حوارات افلاطون

محــــــاورة كــــــارميـــــديس

حُسْـــنُ الخُلُــــق

مَجْمَــــعُ الفضائــل وسَجِيَّــــةُ الحكمـــاء

سقراط: «كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول مداواة العين من دون الرأس أو الرأس من دون الجسد، وجبَ ألا تسعى لمعالجة الجسـد من دون الـرُّوح”

تدور محاورةُ “كارميديس” (Charmides) حول مفهوم حُسْن الخُلُق، والتعقُّل، والإتزان العقلي والنفسي، والتناغم الداخلي، والحكمة العمليّة، أو كما عرّفها أفلاطون في “الجمهورية” بأنّها “التناغم بين العناصر العليا والدنيا في الطبيعة البشرية” الذي يجعل الإنسان سيّداً لنفسه، قبل أن تتركّز هذه الكلمة حول معنى الفضيلة الأخلاقية في مراحل لاحقة من تطوُّر علم الأخلاقيات ولا سيّما عند أرسطو.
تُصنَّف محاورة “كارميديس” بكونها من بين المحاورات الأولى لأفلاطون التي وضعها في وقتٍ مبكر من حياته وذلك بإعتمادها نسبياً على الأسلوب السقراطي في التساؤل الفلسفي الإستقرائي والإنتهاء من دون نتيجة حتميّة، حيث انتقل أفلاطون في سلسلة محاوراته اللاحقة من هذا النهج إلى نظام فلسفي أكثر تعقيداً. إنّها نصّ فلسفي يتحدّ فيه صوتا سقراط وأفلاطون روايةً وتأليفاً، نهجاً وتعليماً.
واللافت أنّ محاورة “كارميديس” هي من بين المحاورات الأفلاطونية التي قلَّ تناولها بالدرس والتحليل. وهي تستعرض، كشأن باقي المحاورات، عدداً من الفرضيات الجدلية التي تستهدف الحث على التفكر وإعمال العقل ولا تهتم بإصدار أحكام قاطعة أو توكيدات جليّة قليلة في النهاية، وهذا ما يعطي المحاولات هذا الإثراء الفلسفي، إذ تبدو كل محاورة بمثابة عملية تطور في طرح الأسئلة ومحاولة الجواب عليها من أكثر من زاوية، لكن المحاورة ليست مع ذلك مجرد نقاش نظري عقيم بل هي عملية بناء حاذقة للوعي تستثير ملكة الإدراك والتمييز في المشاركين تحت إشراف المعلم الذي غالباً ما يكون سقراط وهو يقود النقاش بصورة بناءة حتى بلوغ درجة أعلى من الحقيقة أو الإقتراب منها على الأقل. ولا ننسى أن التعليم اليوناني مثله مثل التعليم الحكمي عموماً يأخذ في الاعتبار طبيعة المشاركين وظروف كل منهم وطاقته، وهناك درجة كبيرة من “خاطبوا الناس على قدر أفهامهم” وهذه إحدى أهم ميزات التعليم السقراطي الذي لا يكترث بمدى علم الشخص أو سعة إطلاعه بقدر ما يعتمد على الفطرة والكشف التدريجي لمعنى الحقائق عبر دور المعلم نفسه وقدرته على أخذ الحوار في سياق تدرجي بحيث لا يبقى التباين في مكانه. وفي محاورة كارميديس ينطلق سقراط من موضوع حسن الخلق لينتقل به بصورة تدريجية إلى المسألة الاهم في الفلسفة الإغريقية وهي “معرفة الذات” (Self Knowledge) وهو موضوع يبدو عند طرحه أكثر صعوبة من التعريفات الابتدائية لمفهوم بسيط مثل حسن الخلق.
يلاحظ مع ذلك أن محاورة كارميديس تحتوي على مقطع مهم حول تكامل الجسد والروح وهو مقطع يتحول خلال الحوار إلى بحث مهمة الطبيب وكيف أن عليه أن يعالج الجسد والروح وكيف أن علاج الروح يكاد يكون هو الأًولى والمنطلق. وفي هذا التحديد المدهش لتكامل وظائف الجسد والروح درس مهم لعلم الطب الحديث الذي انحرف إلى فصل مصطنع وجعل عمله التركيز على الجسد وأمراضه وهذه المثل الإغريقية تضرب جذورها عميقاً في التعاليم الفيثاغورسية، كالخير والجمال، ومثال الروح الجميلة في الجسم الجميل، التي يُجسِّدها كارميديس، والمفهوم الحقيقي للطب بكونه عِلماً للكل كما للأجزاء، وعلماً للعقل والنفس كما للجسد. ومن المدهش فعلاً أن نرى النظرة المتقدمة والريادية إلى الإنسان عند الإغريق وفي الحقيقة هي نفسها التي نراها في الحكمة الأيورفيدية الهندوسية وفي مختلف الفلسفات القديمة، وهذه النظرة هي التي بدأنا نرى انبعاثها الآن واتساع نطاقها على أثر إخفاق الطب الحديث المُجزئ للإنسان في تأمين صحة حقيقية للفرد وللجماعة.

معلم-الطب-الإغريقي-أبوقراط،-أفلاطون-دعا-لعدم-الفصل-بين-معالجة-الجسد-ومعالجة-الروح
معلم-الطب-الإغريقي-أبوقراط،-أفلاطون-دعا-لعدم-الفصل-بين-معالجة-الجسد-ومعالجة-الروح

تعريف الفضيلة
يتدرّج تعريف هذه الفضيلة في المحاورة سواء كانت حُسْنَ خُلُقٍ، أم تعقُّلاً، أم اتّزاناً وحكمةً عملية في ترتيبٍ منتظم يبدأ من المفهوم الشائع وصولاً إلى التفسير الفلسفي. فالتعريفان الأولان، “الهدوء” و”الاعتدال”، بسيطان بما يكفي وهما حقيقيان إلى حدٍّ ما، ولا سيّما من وجهة نظر شاب في مغامرته الفكرية الأولى. أمّا التعريف الثالث، أي “قيام المرء بأعماله الخاصة”، فيُمثِّل إسهاماً فعلياً في الفلسفة الأخلاقية. في المقابل، ترنو التعريفات المتبقّية إلى هدفٍ أعلى يتمثَّل في طرح مفهوم المعرفة و”معرفة الذات”، أو توحيد الخير والمعرفة في علم واحد.
وهنا تكمن صعوبة محاورة “كارميديس” في المعنيين المتضمّنين في هذه السجيّة. فمن المنظور الأخلاقي، يتعدّى تعريفها من الهدوء إلى الاعتدال، إلى قيام المرء بعمله الخاص، والقيام بالأفعال الخيِّرة، ارتقاءً إلى المفهوم الفكري حول علم معرفة الذات، ومعرفة ما نعلمه وما لا نعلمه، ومعرفة الخير والشر، وحتى “معرفة المعرفة”.
رغم أن جميع التعريفات التي طرحت في سياق المحاورة رُفِضَت بشكل ما إلا أنها ألقت في النهاية ضوءاً يمكّننا من فهم حُسْن الخُلُق كفضيلة تقترن بالحكمة وسجيّة يتحلّى بها الحكماء.
يحتفظ سقراط بالحبكة الدرامية حتى النهاية، حيث يُقارب العديد من الحقائق الكبرى، التي سلّط الضوء عليها في محاورته من زوايا مختلفة، وهو إمّا أخضعها لاختبار الحس السليم، أو تطلّب الأمر منه دقة كبيرة في استخدام الكلمات، ليعود ويُنهي المحاورة من دون نتيجة حتميّة، تاركاً للمُريد والباحث والقارئ التوصُّل إليها بحسب مبلغه من الفهم الفلسفي، لكن بدا واضحاً التأكيد على كون هذه السجية تجمع بطريقة ما كل الفضائل التي اقترحت وأنها والحكمة صنوان.
المشهد: سقراط عائدٌ إلى أثينا بعد مشاركته مع الجيش الأثيني في معركة بوتيديا (Potidaea) في بداية “حرب البيلوبونيز”، يتّجه نحو “مدرسة المصارعة في تورياس” (Palaestra of Taureas) قبالة الهيكل قرب “رُواق الملك أركون” توقاً للأيام الخوالي مع الصحب ولاستطلاع مآل الحكمة بين مواطنيه بعد غيابه لمدة طويلة في خدمة الجيش.
فاجأ الجميع بحضوره فرحَّبوا به وسارع كايريفون (Chaerephon) الساذج إلى تقصِّي أخبار المعركة وأنباء سقوط بعض الأصحاب هناك. أخذ سقراط مكاناً إلى جانب كريتياس، ابن كالايسخروس (Callaeschrus) وأجاب على أسئلتهم وأنبأهم بما كانوا يتوقون لمعرفته عن معارك جيش أثينا. وبعد ذلك، شرَعَ سقراط بدوره يسأل الجميع عن الوضع الحالي للفلسفة في أثينا وعن حال الشباب فيها، وإذا ما تميّز وسطهم أحدٌ حكمةً أو جمالاً، أو في كلاهما.
تولّى كريتياس الإجابة على شق الجمال، وهو يتطلّع نحو بوّابة المدرسة حيث كان يدخل بعض الفتية، مُخبِراً سقراط بأنّه سيرى الآن مثالاً عنه. فأطلّ كارميديس المتمتع بجمال الهيئة محاطاً بصحبه، وأخذ مكانه، واسرّ كريتياس لسقراط بأنّ كارميديس يشكو صداعاً فلعلّ حجَّة استدعائه تكون أن يعالجه سقراط، الطبيبُ المُفترض، من صداعه. فسمِعَ كارميديس من ابن عمه وقدِمَ إلى سقراط ظناً منه أنّه طبيبُ أجسام ولم يعلم بعد أنّه طبيبُ أرواح.

جمال الرُّوح
وافقَ سقراطُ الجميعَ على مدى حُسْنِ مُحيَّا هذا الفتى وإطلالته، إلا أنّه استدرك إنبهارهم بجماله الخارجي متمنيّاً لو كان يتمتّع أيضاً بجمال الرُّوح، أي أنّ يكون جميلاً في الداخل كما هو في الخارج، آمِلاً لو يتبدّى الحُسْنُ في روحه كما يبدو الحُسْنُ في ظاهره، وكأنّ لسانَ حاله يُردّده قول الشاعرٌ العربي:
وما الحُسْنُ في وَجْهِ الفَتى شَرَفاً لهُ إذا لَمْ يَكُنْ في فِعْلهِ والخَلائقِ
وطمأن سقراط كريتياس بأنّه قد يكون كذلك، لأنّه يتحدّر من نسل صولون، وهذا ما سارع كريتياس إلى تأكيده، منوّهاً بأنّه يتمتّع بالحكمة أيضاً، وأشياء أخرى كالمقدرة على نظم الشعر.
لكن كيف يمكن علاج كارميديس من صداعه؟ إنّه دواءٌ أو “رُقْية”. الدواءُ لعلاج العلّة في الجسد والرُقْية لعلاج منشأها في الروح! ولا حاجة للرُقْية إذا كان المرء متحلياً بحُسْن الخُلُق والإتزان النفسي.
قال سقراط لكارميديس:
بمثل هؤلاء الأسلاف (يا كارميديس) حُقَّ لك أن تكون أولاً في كل شيء، ومظهرك يا نجل غلاكون ليُكرِمَهم أيضاً، لو أنّك أضفتَ إلى الجمال حُسْنَ خُلُقٍ، وإذا كنتَ كما أفصحَ كريتياس، يا عزيزي كارميديس، فمباركٌ أنتَ بكونك من هذا النسل. وهنا يكمن المغزى؛ فإذا كنتَ كما أفصَحَ تملك نعمة حُسْنِ الخُلُق بالفعل، وبالقدر الكافي، فعندها لا حاجة لكَ لأي رُقْية، لذا رجاءً أبلغني ما إذا كنتَ تعترف بحقيقة ما قاله كريتياس؛ هل تتحلَّى بسَجِيّة حُسْن الخُلُق أم لا؟
وهنا يُقنِع سقراط الفتى كارميديس بأنّ العلاج الناجح إنّما لا يُشفي الجسد فحسب بل الرُّوح أيضاً.
يحُدِّث سقراط الفتى عن الأطباء الألمعيين الذين يعالجون الجسم ككل قبل أن يعالجوا أي جزء منه. ويستشهد بالأطباء الترياقيين الذين يعالجون الرُّوح كما يعالجون الجسد. وينقل عن أحدهم قوله “كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول أن تُداوي العين من دون الرأس، أو الرأس من دون الجسد، وجبَ ألا تسعى لمعالجة الجسد من دون الرُّوح”. فبالنسبة إليه لا يمكن أن يتعافى الجزء ما لم يكن الكلُّ متعافياً، وكل خير وشر، سواء في الجسد أو الطبيعة البشرية، إنّما ينبع من النفس ويتدفّق منها إلى الخارج لذا، ينبغي البدء بمعالجة النفس أو الرُّوح بهذه “الرُقْية” لبَثّ الاعتدال والتوازن وحُسْن الخُلُق فيها، وحيث كانت هذه الفضائل تكون الصحة في كامل الجسد، فوجبَ ألَّا نُشفي الرأس قبل شفاء الرُّوح. والخطأ الأكبر الذي يقوم به أطباء عصره هو فصلهم علاج الجسد عن الرُّوح. وهنا يقول سقراط مجدداً لـ كارميديس إنّه إذا كان كما يؤكد كريتياس متحلّياً بحُسْن الخُلُق والإتزان فلا حاجة له
لـ “الرُقْية”، وطلب منه أن يُخبره ما إذا كان كريتياس صادقاً في اعتباره متحلّياً بهذه المزيّة.

سقراط: مرّةً أخرى يا كارميديس، تنبَّه جيداً، وانظرْ في داخلك، وتحر تأثير حُسْن الخُلُق فيك وطبيعة هذا التأثير. فكِّرْ في كل ذلك، وكشابٍ شُجاع أخبرني – ما هو حُسْن الخُلُق.

إرتسمت على مُحيّا كارميديس علاماتُ الخجل وقال إنّه إذا أنكر ثناء ابن عمه كريتياس فهذا تصرُّف غريب بحق نفسه وتكذيب لـ كريتياس والآخرين الذين يوافقونه الرأي، وإذا أقرَّ بذلك، فيكون قد أثنى على نفسه وهذا تصرُّف فيه غرور، لذا عجز عن الإجابة.
طمأنه سقراط بأنّ موقفه هذا طبيعي، وبالتالي يتعيّن عليهما أن يتقصّيا معاً ما إذا كان يتحلّى بحُسْن الخُلُق، والأفضل بدايةً أن يطرح عليه سؤال حول حُسْن الخُلُق، فإذا كانت سجيّة فيه، فلا بُدَّ أن تكون لديه وجهة نظر عن طبيعتها وفضائلها ولو ببساطة كلية.
كان السؤال الأول: ما هو حُسْن الخُلُق برأيك؟

” ما هو حسن الخلق؟ هل هو الهدوءأو الإعتدال أو حب الخير أو معرفة الذات؟  “

معبد-أبولو-في-دلفي-حيث-نقشت-العبارة-الشهيرة---أعرف-نفسك
معبد-أبولو-في-دلفي-حيث-نقشت-العبارة-الشهيرة—أعرف-نفسك

حُسْن الخُلُق هدوء؟
عند هذه اللحظة يبدأ النقاشُ الفعلي في المحاورة لمفهوم حُسْن الخُلُق، حيث يحاول كارميديس تعريف هذه السجيّة. بدا عليه التردُّد والإحجام عن الإجابة بداية، لكنّه بادر إلى اعتبار حُسْن الخُلُق هو نوع من الهدوء، إلا أنّ سقراط سرعان ما فنَّدَ هذا التعريف: فأيُّهما أفضل في الكتابة والقراءة وعزف القيثارة والتعلُّم والاستيعاب والتذكُّر والمصارعة والتمارين الرياضية، السرعة أم التباطؤ ؟ فوافق كارميديس مع سقراط بأنّ السرعة هي أفضل نشاطاً وحذاقةً وتعلُّماً وشحذاً للنفس، ولا سيّما في تقصّي النفس عن الحقائق والمعارف والإستكشاف. إذاً، حُسْن الخُلُق ليس هدوءاً.

حُسْن الخُلُق اعتدال؟
إلا أنّ سقراط لم يجعل كارميديس يُحبَط بل بثّ فيه الشجاعة على التأمُّل والخروج بإجابة أخرى، أطرق كارميديس هنيهةً باذلاً الجهد في تفكيره وجاء بإجابة أخرى: حُسْن الخُلُق هو اعتدال. وهنا يستشهد سقراط ببيت شعرٍ لـ هوميروس:
“الاعتدالُ ليس فضيلة لإنسانٍ محتاج”
وعنِيَ بذلك أنّ ثمة مواقفَ لا تتطلّب اعتدالاً كالدفاع عن النفس والمطالبة بالحقوق وما شابه ذلك ممّا يخشى فيه وقوع تفريط بحَقّ.
فوافَقه كارميديس أنّ للإعتدال وجهاً جيداً وآخر غير ذلك على عكس حُسْن الخُلُق.

حُسْن الخُلُق قيام المرء بأعماله الخاصة؟
هنا يلجأ كارميديس إلى تعريفٍ سَمِعَهُ من “أحدهم”، مُلمِّحاً إلى كريتياس، ومفاده أنّ “حُسْن الخُلُق هو قيام المرء بأعماله الخاصة”، فهل كان ذلك الشخصُ مُحِقّاً؟ وعمِلَ سقراط على دحض هذه الفكرة أيضاً، فالحِرَفي على سبيل المثال يحافظ على حُسْن خُلُقه حتى ولو كان يقوم بأعمال الآخرين، أو لأجلهم.
سقراط: إذاً، حُسْن الخُلُق ليس بقيام المرء بأعماله الخاصة؛ أو أقلّه القيام بأشياء من هذا القبيل.
كارميديس: حتماً لا.
إذاً، كما كنتُ أقول للتو، ذلك الذي جهَرَ بأنّ حُسْن الخُلُق هو قيام المرء بأعماله الخاصة إنّما يُخفي معنى آخر؛ إذ إنّني لا أعتقد أنّه على هذا القدر من الحماقة ليعني ذلك. هل كان مغفّلاً مَنْ أخبركَ بذلك يا كارميديس؟
كلا، (أجاب كارميديس)، أخاله بالتأكيد رجلاً حكيماً.
إذاً، أنا على يقين من أنّه وضع هذا التعريف كأُحجية، ظاناً أنّ أحداً لن يعلم معنى كلمات “قيام المرء بأعماله الخاصة”.
وتبيّن عندئذ أنّ كريتياس هو وراء هذا التعريف وسُرعان ما استُفِزّ هذا الأخير وانبرى يدافع عن مقولته، وليتولّى محاورة سقراط من هنا وحتى قبيل نهاية المحاورة بقليل. ودفاعُ كريتياس عن تعريفه هذا استند إلى تمييز بين “القيام بالأشياء”، و”صنعها”، و”العمل”. وحُسْن الخُلُق يكمن في عمل الخير. هنا يتوسّع سقراط في هذه المقولة لتشمل القيام بما هو خير للآخرين وللنفس، لكنّ الناس غالباً ما لا يعلمون أنّ أعمالهم ستكون ذات نفعٍ بهذا الشكل، وبالتالي من الممكن أن يكون المرء متمتّعاً بحُسْن الخُلُق من دون معرفة ذاتية بذلك.

حُسْن الخُلُق معرفة الذات؟
كريتياس يرفض بقوة افتراض أنّ يكون المرءُ حَسَنَ الخُلُقِ من دون أن يعرف ماهية حُسْنِ الخُلق، ويُعيد صياغة النقاش بأكمله ويجعل “معرفة الذات” التعريفَ الجديد لحُسْن الخُلُق، مستشهداً بذلك القول الشهير المنقوش على مدخل معبد “دلفي”: “اعرَفْ نفسَك” (باليونانية “غنوثي سيوتون”.
يقول كريتياس:
أكادُ أقول إنّ معرفة الذات هي جوهر حُسْن الخُلُق، وبذلك أوافق مع ذاك الذي كرّس نقش” إعرفْ نفسك” في دلفي.
يُعتبر اقتراحُ كريتياس هنا النقاشَ المحوري في محاورة كارميديس، لكن كيف لنا أن نفهم “معرفة الذات” كأساسٍ لحُسْن الخُلُق؟ بدأ هذا النقاشُ بوصيّة “نقش دلفي” المعتبرة لدى الإغريق ليتطوّر إلى فكرة فلسفية أكثر تعقيداً بكثير هي “معرفة الذات”. وهنا يستخدم أفلاطون النهج السقراطي في التساؤل الإستقرائي لإعادة صوغ أو دحض المفاهيم الإغريقية المُسلَّم بها والتي تعلّمها الإغريق من السوفسطائيين. واللافت أنّ نقاش “إعرفْ نفسك” ذو دلالة عميقة في المحاورة، إذ إنّ سقراط لا يحاول هنا إثبات خطأ هذه المقولة بل بالعكس يسعى إلى الحث على فهمها بنهجٍ عقلاني، وإلقاء الضوء على الحكمة الفيثاغورسية القديمة بصياغةٍ جديدة.
ووافق الاثنان على أنّ حُسْن الخُلُق إذا كان نوعاً من المعرفة فهو إذاً نوعٌ من العلوم. وكان اقتراح كريتياس الأوّلي أنّ حُسْن الخُلُق هو “علمُ ذات المرء” ولو لم يتّضح ما هو تأثير هذا “العلم”.

جملة-أعرف-نفسك-المنقوشة-على-مدخل-معبد-أبولو-في-دلف---اليونان
جملة-أعرف-نفسك-المنقوشة-على-مدخل-معبد-أبولو-في-دلف—اليونان

حُسْن الخُلُق معرفة المعرفة وعلم العلوم؟
التأكيد بأنّ حُسْن الخُلُق هو نوعٌ من علم معرفة الذات تطوّر إلى فرضية بأنّ حُسْن الخُلُق يتعيّن أن يكون علماً بحد ذاته وعلماً لجميع العلوم، بل “علم العلوم”. وذهب سقراط إلى حدّ القول إنّ مثل هذه المعرفة، لكي تكون معرفةً حقّة للذات، وجبَ أن “تعرف أيضاً ما لا تعرفه”. وبدا “علم” حُسْن الخُلُق عندئذ فكرة عصيّة على الفهم، بل لربّما مفارقة ، حيث أنّ سقراط غير متأكد من وجود مثل هذه المعرفة من حيث المبدأ وبالتالي غير متأكد ما إذا كانت مصدرَ خيرٍ في الأساس.
قال سقراط:
لستُ متأكداً ما إذا كان ثمة ما هو “علم العلوم”؛ وحتى لو كان موجوداً، فلا أعترفُ به بكونه حكمةً أو حُسْنَ خُلُقٍ، حتى يتسنّى لي رؤية ما إذا كان مثل هذا العلم قادراً أم لا على أن يؤتِينا بأيّ خيرٍ؛ إذ لديّ انطباعٌ بأنّ حُسْنَ الخُلُق هو منفعة وخير.
فثمة سؤال يطرح نفسه: لكلّ علمٍ موضوع، فالعددُ مثلاً هو موضوع الحساب، والصحة موضوع الطب، فما هو موضوع “حُسْن الخُلُق”؟ يأتي الجواب بأنّ حُسْن الخُلُق هو معرفة الإنسان لِمَا يعرفه ولِمَا لا يعرفه, لكن ثمة تناقضاً في هذا الكلام، فعلى سبيل المثال ما من رؤيةٍ للرؤية بل فقط أشياء مرئية، وهكذا دواليك من الأمثلة المشابِهة ليصلا إلى أنّ ليس هناك “معرفة للمعرفة” بحد ذاتها. فما هو أكبر أو أثقل أو أخف إنّما هو أكبر أو أثقل أو أخف من شيء آخر، لا من نفسه. فموضوع النسبية هو خارج الشيء لا متضمناً فيه.
والمعرفة هذه تجريد (abstraction) ولا تُنبئ عن موضوع متعيّن ملموس (concrete)، مثل الطب أو البناء أو ما شابه. وبالاعتراف أنّ هناك معرفة لِمَا نعرف ولِمَا نجهل، يبقى السؤال، أين الخير في ذلك؟ فلا بُدّ من أن تكون المعرفة التي يوفّرها حُسْن الخُلُق من النوع الذي يمنحنا الخير، فحُسْن الخُلُق هو خير، إلا أنّ هذه المعرفة الكلّية لا علاقة لها بالسعادة والخير، والنوع الوحيد من المعرفة الذي يجلب السعادة هو معرفة الخير والشر.
كريتياس يُجيب بأنّ علم أو معرفة الخير والشر، وجميع العلوم، إنّما تنتظم تحت العلم الأرقى أو “معرفة المعرفة”. لكنّ سقراط يُجيبه بالفصل مجدداً بين المجرّد والملموس، ويسأل كيف تبعث هذه المعرفة على السعادة بالطريقة ذاتها التي يبعث فيها الطبُّ على الصحة.
حينما يلجأ سقراط إلى التحدُّث عن “حُلُمه” حول الدولة المثالية التي تحكمها الحكمة (معرفة المعرفة)، تتبدّى الإشكالية في أنّه غير متأكد من أنّه حتى في مثل هذه الدولة المثالية، في حال وجودها، سيكون الجميع سعداء. هنا تكون الإشكالية في الربط بين حُسْن الخُلُق المثالي المحض، أو الحكمة المثالية المحض، والسعادة “المتعيّنة” في عالم الواقع. فما هي “معرفة المعرفة” التي تجعلنا سعداء فعلياً؟ هل هي معرفة الخير؟
الآن أوافق تماماً، بمقتضى ذلك، أنّ البشرية ستحيا وتعمل وفقاً للمعرفة، إذ إنّ الحكمة ستترقّب الجهل وتمنعه من اختراقنا. أمّا إذا ما كان العمل وفقاً للمعرفة ستترتّب عليه سعادة، فهذا يا عزيزي كريتياس ما ليس بمقدورنا بعد تحديده.
أجاب: أعتقدُ مع ذلك أنّنا إذا أهملنا المعرفة، فسيصعب علينا الظفر بتاج السعادة في أي شيء آخر.

” لا يمكن أن يتعافى الجزء ما لم يكن الكلُّ متعافياً، وكل خير وشر، سواء في الجسد أو الطبيعة البشرية، إنّما ينبــــــع
من النفس ويتدفــّق منها إلى الخـارج  “

جانب-من-أثينا-القديمة
جانب-من-أثينا-القديمة

تلميذٌ حَسُن الخِلْقة والخُلُق
عدم الخروج بجواب نهائي لتعريف حُسُن الخُلُق لم يُثبِّط عزيمة كارميديس، إذ بدا في الختام أنّ سقراط فازَ بتلميذٍ جديدٍ متعطِّشٍ للفلسفة، وتوّاقٍ “للإفتتان” يومياً بحكمته وتعاليمه. وبذلك أثبت كارميديس أنّه لا يتمتّع بحُسْنِ الخِلْقة فحسب بل أيضاً بحُسْنِ الخُلُق. فقد قرر مواصلة التعلُّم منه ومعرفة المعنى الحقيقي لحُسْن الخُلُق. لقد اكتشف بالفعل أنّه أكثر ما يكون مًتحلِّياً بحُسْن الخُلُق أشدّ ما يكون متمتّعاً بالسعادةً، بغض النظر عن الجدل الدائر حول هذه السجيّة والتعريفات الفلسفية لإستكشاف كُنهها.
وهذه التعريفات تمثّل النهج السقراطي وهو شكلٌ من أشكال البحث المعرفي لإستجلاء الحقائق، فعبر طرح الفرضيات ودحضها ورفضها يرتقي المُحاوِران إلى معرفة إيجابية، أو أقلّه إلى فهمٍ أفضل لما يعرفانه حقاً وما كانا يظنّان أنّهما يعرفانه. وتكشف هذه التعريفات إصرار سقراط على التثقيف الأخلاقي بالرُّوحيّة الفيثاغورسية، داعياً إلى التحلِّي بالفضائل الأخلاقية ومعرفة الذات والسعي وراء السعادة في المعرفة العقليّة والتأمُّل النفسي.
المغزى الرئيسي من وراء “محاورة كارميديس” هو أنّ آداب النفس البشرية تأتي أولاً حتى قبل الفلسفة وتعريفاتها، وكأنّ حُسْن الخُلُق هو كل تلك الصفات والمزايا الحميدة معاً بل هو مَجْمَعٌ لتلك الفضائل والسَجِيَّة الأولى لكلّ حكيمٍ مُحِبٍّ للحكمة والفلسفة.

لبنان يودّع العلامة السيّد هاني فحص

شيّع لبنان العلامة السيد هاني فحص في حضور سياسي وثقافي وديني وشعبي كبير ومتنوع، وشارك في تشييعه في مسقط رأسه جبشيت (النبطية) كل من عزام الأحمد ممثلاً الرئيس الفلسطيني ابو مازن، إضافة إلى النائب أكرم شهيِّب ممثلاً النائب وليد جنبلاط، والشيخ غاندي مكارم ممثلاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، والشيخ علي زين الدين بإسم مؤسسة العرفان التوحيدية، والدكتور حسن منيمنة على رأس وفد بإسم تيار المستقبل، والسيد محسن إبراهيم ووفد يمثل المرجع السيد علي السيستاني، إضافة إلى رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد، والنواب السادة: علاء الدين ترو، عبد المجيد صالح، عبد اللطيف الزين، ياسين جابر وكل من الشيخ نبيل قاووق عن حزب الله، إضافة إلى وفد يمثل القوات اللبنانية برئاسة النائب جوزيف معلوف، ووفد تجمع لبنان المدني، ووفد حركة التجدد الديمقراطي، ووفد كبير من حركة فتح، مع حضور بارز للشعراء والأدباء والصحافيين والمفكرين، إضافة إلى حضور شعبي إسلامي ومسيحي لافتين. وقد نعته المرجعيات الروحية الثلاث المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، دار الفتوى ومشيخة العقل .

السيد هاني فحص في سطور
رجل دين وأديب وكاتب ومؤلف وناشط في المجتمع المدني، وداعية حوار بين الأديان، ومن أبرز المفكرين الذين كتبوا في قضايا مقاربة الإسلام لتحديات الحداثة.
ولد في بلدة جبشيت (النبطية) عام 1946، وتلقى الدراسة الابتدائية في القرية والمتوسطة في مدينة النبطية. أنهى دراسته الثانوية ثم هاجر عام 1963 إلى النجف الأشرف في العراق ودرس في حوزته الدينية، ونال إجازة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه في النجف. وعاد من النجف عام 1972 ليستقر في بلدته جبشيت، وكان قد تزوج في سن التاسع عشرة من السيدة نادية علوه وله ثلاثة أبناء وابنتان هم: حسن، زيد، مصطفى، بادية وريا عقيلة المدير العام السابق لوزارة الإعلام محمد عبيد.

نضاله السياسي
إنتسب إلى حركة فتح أيام وجودها في لبنان، وهو عضو في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني، كذلك فهو عضو في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
ترشّح للإنتخابات الفرعية عام 1974 متحالفاً مع كمال جنبلاط، ولكن سرعان ما انسحب من المعركة بسبب اعتراض السيد موسى الصدر آنذاك. عاد وترشح للإنتخابات النيابية عام 1992 عن محافظة النبطية ولم يحالفه الحظ. شارك في قيادة انتفاضة مزارعي التبغ المطلبية عام 1972.

نشاطاته الثقافية
أشرف على مجلة النجف لمدة عام أيام إقامته فيها، ولدى عودته منها مارس عمله الديني إماماً وشارك في تأسيس وتفعيل منتدى أدباء جبل عامل مع عدد من الأدباء والشعراء الجنوبيين.
في العام 1982 سافر إلى إيران مع عائلته وأقام فيها حتى العام 1985، عمل خلالها مستشاراً في مكتب إعلام الحوزة في قم، ومشرفاً على مجلة (الفجر)، كما أقام علاقات مع بعض المراجع فيها مثل الشيخ منتظري وغيرهم. وكان في لبنان مقرباً من المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
تفرغ بعد انتخابات 1992 لشؤون الحوار الإسلامي والإسلامي المسيحي والكتابة والعمل الفكري والثقافي، فأسس مع النائب السابق سمير فرنجية (المؤتمر الدائم للحوار اللبناني)، ويعتبر من الأعضاء المؤسسين للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، وكذلك من المؤسسين (للقاء اللبناني للحوار) .
عضو في الهيئة الشرعية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وعضو في أكاديمية أهل البيت في عمان في الأردن، وكذلك في منتدى الوسطية في عمان أيضاً، وعضو مجلس إدارة وعضو مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات الخيرية الثقافية.

مؤلفاته
له ما يقارب من الثلاثة عشر كتاباً مطبوعاً منها: ماضي لا يمضي، ذكريات ومكونات عراقية، الإمامان الصدر وشمس الدين ذاكرة لغدنا، خطاب القلب، أوراق من دفتر الولد العاملي، في الوحدة والتجزئة، ملاحظات في المنهج، الشيعة والدولة في لبنان.

محاورة مينون

محـــاورة مينــــون

الفضيلـــــــــة هِبـــَة إلهيـــــــــة
فهــــــل يمكـــــــــن تعليمــــــــــها؟

محاورة مينون تكشف عن عمق الفوضى الفكرية
والفســـــاد القيمي للفكر السوفسطائي في أثينــــا

مينون يحاول إنكار المعرفة وإمكان تعلمها
فيرد سقراط بمثل العبد والمربع الهندسي

تدور محاورة مينون حول مفهوم الفضيلة، وإذا ما كانت قابلة للتعليم والتعلُّم، أو ما إذا أمكنَ تحصيلها بالتجربة أو أنّها ماثلة بالطبيعة في الإنسان. ويسعى أفلاطون إلى استجلاء حلٍّ لتلك المعضلات المنطقية التي تفرضها هذه الأسئلة بتسليطه الضوء، من خلال الفرضية والتحليل الهندسي، على نظرية أن «المعرفة تذكُّر» وتأصّل الحقائق والكلّيات في النفس، بما يعكس أبعاد التعاليم الفيثاغورية والأورفية، ويُمهِّد من خلال سياقها الفلسفي لمحاورة فيدون حول خلود النفس. وفيما تخلُص المحاورةُ إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، فإنّ طرحَها لنظرية «المعرفة تذكُّر» يبقى السِمة الأبرز للطرح الحكمي اليوناني منذ فيثاغوراس وحتى أفلاطون.

إن إحدى الفوائد التي تقدمها محاورة مينون هي أنها تلقي من طرف غير مباشر الضوء على الفوضى الفكرية وأزمة القيم التي خلقها انتشار الفكر التشككي السوفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي سيسهم إلى حد كبيير في انهيار مكانة أثينا وتدمير قيم مجتمعها.
وفي حنين إلى ماضي أثينا المجيد اختصر الكاتبُ الإغريقي التراجيدي يروبيديس (Euripides) في صرخته المريرة الحاضرَ المؤلمَ الذي عاشَه في تلك الفترة المضطربة:
الحيــــــــــاةُ تغيـــــــــَّرت، وقوانينُهـــــــــا أُهمِلَـــــــــت
الإنســــــــــــــــــانُ قــــــــــــــــــد نَســــــــــــــــــِيَ الإلـــــــــــه
كان تأثير السوفسطائيين المفسد وراء تقهقر المعايير الأخلاقية والدينية، والتشكيك بالفضائل الأساسية كالعدالة والأخلاق والمعرفة، واحترام القانون. كان علمُهم فناً ومهارة بلاغية وجدالية فحسب، كما يؤكد أفلاطون، وليس ثقافة حقيقية ولا تنويراً.
وبتأثير السوفسطائيين، أخذ التعليم في ساحات أثينا ينأى عن التشديد على الفضائل الأخلاقية والحكمية وقيم الفروسية السامية كالشرف والشجاعة والمروءة والولاء والشهامة والاعتدال لينصَبّ على مواهب بلاغية تفيد المرء في تحصيل أعراض الدنيا أو في الحصول على موقع سياسي أو وجاهة اجتماعية وفقاً للقِيَم الوضيعة الجديدة التي سوّقوا لها، والتي قادت في نهاية المطاف إلى محاكمة شبه صورية لسقراط الحكيم انتهت بالحكم عليه بالموت.
مع نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، كانت جميع نواحي الثقافة الأثينية، الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، قد تقهقرت بفعل نشر عقيدة التشكُّكِ السوفسطائي إزاء احتمال الحصول على المعرفة والحقيقة، وهو ما قاد إلى ازدراء الفلسفة الحقّة والحط من قدر الحكمة الأصيلة، وعززت تلك النزعة الميول الفردية الأنانية بذرائع واقعية تكاد تشبه كثيراً البرغماتية التي اتسع نفوذها في عالم اليوم! وقاد هذا التفكك الاجتماعي والتشكيك بالقيم إلى خسارة الحضارة الإغريقية لروحها الأصيلة فعلاً، والتي مكّنت أثينا، من أن تهزم امبراطورية عظيمة كفارس قبل أقل من قرن.
عارض بروتاغوراس (Protagoras)، أحد السوفسطائيين الأوائل، الإدراك العقلي الحقيقي بالإدراك الحسّي المادي، ملقياً ظلال الشك الثقيلة على كل حقيقة مُدرَكة بالعقل، وبالتالي على إمكانية المعرفة. فكل شيء نسبي وفقاً للإنسان الذي يتناوله بإدراك عقلي كان أو حسّي. فالإنسان برأيه هو «مقياس جميع الأشياء»، رافضاً بذلك جميع الحقائق الفلسفية والعلمية العامة، وهو ما تصدّى له أفلاطون وفنّده في أكثر من محاورة، مُبيّناً أنّ النفسَ مفطورةٌ على الحكمةِ والمعرفةِ التي تكتسبها بالتأمّل العقلي الفلسفي لا بالإدراك الحسّي، والمعرفةَ الحقّةَ هي معرفةُ الماهيات الكُلِّية أو المُثُل العليا لا الجزّئيات المتمثّلة في الأعراض المتغيّرة للوجود الظاهر.

“سقراط: حيازة الأشياء ليست فضيلة ما لم تتــــم وفق مبدأ العـــدل والحـقّ والتقوى”

المحـــــــــاورة

مينون يعلن موقفه المتشكك
المشهد: مينون محاطاً بحاشيته ومسحة من صلف السوفسطائيين تتبدّى على مُحيّاه. يبدأ الحوار سائلاً سقراط: «هلّا أخبرتني يا سقراط ما إذا كانت الفضيلة شيئاً ممكن تعليمُه؟ وفي حال لم تكن قابلة للتعليم، هل هي مما يُكْتَسَب بالممارسة؟ أو أنّها لا تُكْتَسَب بالممارسة ولا تُحصَّل بالتعلُّم بل تكون قائمة في الكائنات البشرية بالطبيعة أو بطريقة أخرى؟».
رغم الخيارات المتعددة التي طرحها مينون من أجل إرباك الحوار، فإن النقاش في المحاورة سيتركز على الاحتمال الأول، أي هل الفضيلة يمكن تعليمُها، ذلك السؤال الذي طغى على ما سواه، وتبدّت أبعاده مع تطوُّر المحاورة وقيام أفلاطون بتفنيد المفارقة التشكُّكية التي طرحها مينون وصولاً إلى طرح نظرية المعرفة تذكُّر وإثباتها بالتحليل الهندسي وصولاً إلى الجزم بأن الفضيلة «هِبَة إلهية».
وسنرى كيف سيسعى سقراط خلال الحوار إلى دحض تصوُّرات محاوره منذ البداية وإثبات فشل رؤيته المتأثرة بغورجياس حول الفضيلة. وهو سيقود مينون إلى الوقوع في قبضة الحيرة والإرباك مظهراً إفلاس مقولته.
بدل أن يقدم سقراط جواباً على فرضيات مينون معطياً إياه فرصة المضي في المماحكة، فإنه اتبع أسلوبه الخاص بالإجابة على السؤال بسؤال آخر يستهدف تصويب منهجية الحوار. قال موجهاً كلامه إلى مينون إنّه «لا يعرف ما هي الفضيلة». ردّ مينون بأنّه وفقاً لِمَا سمعه من معلّمه غورجياس فإنّ الفضيلة «تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والجنس والعمر»، إلا أنّ سقراط يرفض ذلك قائلاً لا بُدّ أن تكون ثمة فضيلة مشتركة لدى الجميع مهما كانوا، وأيّاً يكن جنسهم أو عمرهم، فحُسن الخُلق والعدالة على سبيل المثال هما فضيلتان موجودتان لدى الصغار كشأن الكبار.

سقراط: يبدو يا مينون أنّني حظيتُ بقسط وافرٍ من الحظ، إذ إنّني عندما بحثتُ عن فضيلةٍ واحدة اكتشفتُ أن لديكَ حشداً من الفضائل. وإذا ما سألتُكَ، تماشياً مع هذه الصورة، عن ماهية النحل وقلت إنّ هناك أنواعاً مختلفة منها، فكيف تُجيبني إذا ما سألتُك: هل تعني، من هذه الناحية، أنّ ثمة أجناساً مختلفة منها يختلف أحدها كلياً عن الآخر، أو أنّها لا تختلف اختلافاً اصلياً، بل في نواحٍ غير أصلية مثل الجمال أو الحجم أو أي شيء آخر من هذا القبيل؟ أخبرني كيف ستُجيب إذا ما سُئلتَ على هذا النحو؟
مينون: أقول في ذلك إنّها لا تختلف، من حيث كونها جماعات نحلٍ، الواحدة عن الأخرى.
سقراط: وإذا ما قلتَ بعد ذلك: أخبرني الآن يا مينون بأيِّ شيء لا تختلف بل تتشابه جميعاً، فما قولك في ذلك؟ أفترضُ أنّ لديك ما تقوله لي؟
مينون: نعم، هو كذلك.
سقراط: الأمر ذاته ينطبق على الفضائل أيضاً. فإذا كانت ثمة أنواعٌ مختلفة منها، فإنّها تتماثل جميعاً في هيئة واحدة، تُعرِّفها كفضيلة.
مينون: أظنّني أفهمك، ولو أنّني لم أستشفّ المقصدَ من سؤالك كما أودّ.
سقراط: هل يبدو لك على هذا النحو يا مينون، في ما يختص بالفضيلة فحسب، بأنّ ثمة فضيلة للرجل، وأخرى للمرأة، ونحو ذلك، أو أنّها الفضيلة ذاتها بالنسبة إلى الصحة والحجم والقوة أيضاً. فهل تظنّ أنّ هناك صحة للرجل وأخرى للمرأة؟ أو أنّها بالهيئة ذاتها في كِلتا الحالتين.
مينون: أظنُّ كذلك بالنسبة إلى الصحة على الأقل، فهي ذاتها لدى الرجل والمرأة على السواء.

أدى أخذ سقراط للحوار في هذا المنحى إلى ارتباك مينون وفكره التشككي، لذا نراه مستاء بعض الشيء ويشبّه سقراط بالسمكة اللاسعة التي تصعق ضحيتها وتشلّها، (أي بأسئلته التي حيّرت عقل مينون وكشفت كم هو بعيد عن الحقيقة). انتقل مينون إلى محاولة تعريف الفضيلة بإعتبارها «القدرة على إحراز الأشياء القيِّمة مثل الذهب والفضة والمقتنيات الأخرى. إلا أنّ سقراط يُجبره على الإقرار بأنّ حيازة مثل هذه المقتنيات لا بُدّ من أن تتم وفق مبدأ العدل أو الفضائل أو التقوى إذا كان العمل لأجلها سيعتبر «فضيلة»، كما أن عدم إحراز تلك الأشياء سيكون هو الفضيلة بعينها إذا كان السبيل إلى إحرازها يحتوي على معارضة العدل أو الحق.
يبدي مينون في الثلث الأول من المحاورة طبعاً جدالياً وخصامياً، فبعد إخفاقه بداية في تعريف الفضيلة اقترح عليه سقراط أن يُعرِّف أولاً، من باب «التمرين» الشكل واللون، إلا أنّه بحُكم تعوِّده على الثقة المفرطة بالإجابة عن كل سؤال، كما عوَّده معلّمه غورجياس، رفض محاولة الإجابة وقال لسقراط «إفعَلْ أنت».
هنا يدعو سقراط مينون مجدداً إلى الانضمام إليه في بحث مشترك عن ماهية الفضيلة، إلا أنّ مينون يعود تهرّباً إلى طرح تساؤلاته الثلاثة الأولى، أي هل الفضيلة ممكن تعليمها، أم هي تُكْتَسَب بالممارسة، أم هي قائمة في الإنسان بالطبيعة؟

غورجياس-كان-أحد-أساطين-السوفسطائة-ومعلم-مينون
غورجياس-كان-أحد-أساطين-السوفسطائة-ومعلم-مينون

التعليم السقراطي
ما لم يفطن إليه مينون هو أنّ سقراط ببثه الحيرة لدى محاوره إنّما يُجديه نفعاً بأعمال التفكير واستجلاء أبعاد التساؤلات، وبالتالي يمنحه الفرصة لكي يصبح أكثر قابلية لاكتساب الفضيلة. وهنا يخضع مينون للتأديب السقراطي، لكن أنّى له أن يستفيد منه كما نشَدَ سقراط؟ فهو مشوب بالمثالب كما ألمح أفلاطون بين سطور بدايات الحوار، ومنها أنّه مفرط الثقة في النفس، وراغب في أن يُخْبَر لا أن يُخْبِر، وجدلي ومتعجرف ومتباهٍ ومتطلّب وغير آبه وغافل، هذا مع العلم أنّ نهاية الحوار تُنبئ بأنّ مينون لان في موقفه بعد بسط حجج سقراط ولو قليلاً، وهذا يعكس قوة التعليم الذي دأب عليه سقراط، بحيث يخرج محاورِه بدرس معرفي، وذلك بعد إثبات المعلم سقراط لإخفاق طروحاته.

مفارقة مينون
يحاول مينون السوفسطائي إرباك سقراط بقوله بأنّه لا يمكن معرفة شيء لا تعرفه بالفعل، أي أنّه يرفض مبدأ المعرفة من أساسه. ويمكن اختصار مفارقة أو مغالطة مينون(Meno Paradox)المنطقية في الظاهر لكن الخاطئة في الجوهر كما يلي:
إذا كنتَ تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي غير ضروري.
إذا كنتَ لا تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي مستحيل.
إذاً، البحث المعرفي هو إمّا غير ضروري أو مستحيل.

مينون: أنّى لكَ يا سقراط أن تتقصّى شيئاً لا تعلمه؟ وأي شيء سيكون موضوع هذا التقصِّي؟ وإذا ما تسنّى لك أن تجد ما تنشده، كيف لك أن تعلم أنّه ذلك الشيء الذي لا تحيط به علماً؟
سقراط: أعلمُ يا مينون ما هو قصدك، لكن أي جدلٍ ذاك الذي تُوقِعني فيه. فأنتَ ترى أنّ المرء لا يمكنه أن يتقصّى ما يعرفه، أو ما لا يعرفه. فإذا كان يعرفه، فما الحاجة إلى تقصّيه وهو يعرفه، وإذا كان يجهله، فأنّى له أن يتقصّى ما لا معرفة له فيه.

المعرفة تذكُّر
يحتوي سقراط هذه المفارقة السوفسطائية، التي بدا أنّ مينون قد تدرّب جيداً على يدي غورجياس في طرح أسئلتها والإيحاء بإجاباتها، وذلك باللجوء إلى نظرية التذكُّر، بأن ذكّر بداية بقصة شاعرية تتحدّث عن كون النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها، وقد تعلّمت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنسان، فبعد أن كانت مطلّعة على الأشياء الحقيقية قبل الولادة ليس عليها سوى أن تسترجعها أو تستذكرها في هذه الحياة. وربّما لا يتطلّب هذا التذكُّر سوى طريقة سقراط في طرح الأسئلة والاستجواب، وهي ليست بنظره تعليماً بل مساعدة على تحريك ملكة التذكر.
هنا تتبدّى تدريجياً الحبكة الحوارية التي انتهجها أفلاطون في إخراج مينون من ضبابية حيرته، بعد فشله في تعريف الفضيلة ثلاثاً. ومن ثم يحثّ سقراط مينون للعودة إلى منطق الحوار سعياً لأن يُثبت له أنّ التعلُّم هو تذكُّر وليس تلقيناً، فيطلب من مينون أن يختار واحداً من عبيده المرافقين له ويأخذ بطرح أسئلة عليه بشأن ما عرف في ما بعد بـ «مربّع سقراط».

” سقراط: النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها وقد تعلّمـــت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنســـان “

الأكروبوليس في أثينا
الأكروبوليس في أثينا

ختبار العبد
أجرى سقراط عندئذ حواراً ربما يُعتبر من بين الأكثر تأثيراً في مسار الفلسفة، سعياً إلى إثبات المعرفة المتأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً
a priori من غير تعلُّم ولا تعليم ولا استدلال تجريبي aposteriori فبعد أن رسم سقراط على الارض مربعاً هندسياً طول ضلعه قدمان، سأل العبد أن يُحدِّد مربعاً تكون مساحته ضعف مساحة ذاك الذي خطه. اندفع العبد ليضاعف طول كل من ضلعي المربع الأول، لكنه استدرك خطأه بسرعة عندما أثبت له سقراط أنّ المربع الناتج عن مضاعفة ضلع المربع الاول لا يساوي ضعف ذلك المربع، بل هو أكبر منه بأربع مرّات.
مينون الذي كان يشهد الاختبار زعم أن سقراط قام «بـتخدير» عقل العبد بهذا الإرباك. لكن سقراط أجابه بالقول إن إرباك العبد لم يُسبِّب له أذى بل أفاده. يعترف العبد بأنّه عاجز عن حلّ المسألة ولو أنّه ظنّ العكس بداية. ويسأل سقراط مينون عن رأيه في ما قد شاهده، وما إذا كان يُستحسن أن يترك العبد المحاولة بسبب حيرته، فتمنّى مينون عليه المتابعة بالطبع.
ومن ثم عمَدَ سقراط إلى رسم 4 خطوط قطرية(Diagonals)داخل كل من المربعات الأربعة، وأصبح المربع المرتسم من أربعة من أصل المثلثات الثمانية الداخلية طول ضلعه أربعة أقدام، أي ضعف طول ضلع المربع الأصلي، وهذا هو ما كان مطلوباً. وأقرّ العبد بأنّ المربّع الحاصل هو فعلاً ضعف حجم المربع الأصلي، وقال إنّه قد استعاد تلقائياً معرفة «اكتسبها في حياة سابقة» من دون أي تعليم. وأبدى سقراط رضاه عن أنّ ثمة «معارف جديدة» برزت حديثاً لدى العبد.
وهكذا أُظهِرَ للعبد السبيل لتذكُّر ما هو ماثل فيه بَدْهيّاً من حقائق هندسية، وهو لم يتعلّم الهندسة قط، أي أنّه يمكن أن يتعلّم بالتذكّر من دون تعليم. ويُنهي سقراط استجوابه هذا بالتأكيد على أنّ الحيرة تنفع الإنسان ليس فقط فكرياً بل أخلاقياً أيضاً، من حيث السعي إلى معرفة ما لا يعلمه وبعزيمة أكبر.
وهنا، بعد أن رأى مينون بأم عينه كيف تذكّر عبدُه معرفة متأصّلة فيه، أخبر سقراط أنّه يظنّه على حق في نظرية «المعرفة تذكُّر»، فأجابه سقراط أنّه ليس واثقاً كامل الثقة من قصته لكنّ ثمة شيئاً وحيداً متأكداً منه هو استعداده للنضال بقدر استطاعته، قولاً وفعلاً، للإثبات بأننا نكون أفضل وأكثر شجاعة وفعالية إذا ما أقدمنا على البحث في ما لا نعلمه. وأثبت سقراط لمينون أنّ العبد قادر على تعلُّم حقيقة هندسية لأنّه يملك معرفة عنها بالفعل في نفسه، وبالتالي يكون التعلُّمُ ممكناً من خلال التذكُّر، وأنّ مفارقة التعلّم (Learning Paradox) خاطئة لقولها باستحالة التعلّم، إذ إنّ اختبار العبد أثبت عكس ذلك. وأظهر الاختبار الهندسي الأفلاطوني أنّ الفضيلة، إلى جانب المعارف الأخرى، يمكن استكشافها حقاً من خلال استجلاء المعرفة المتأصِّلة في النفس، وليس السبيل إلى ذلك سوى «تذكُّرها» بالمنهج المناسب.

سقراط: يُقال إنّ النفسَ البشرية خالدة. وهي في وقتٍ ما ستصل إلى نهايتها وهو ما يدعوه الناسُ موتاً وفي وقتٍ آخر ستُولد من جديد، إلا أنّها لا تتلاشى أبداً، وبالتالي على المرء أن يحيا تقيّاً ما استطاع.
وإذا ما كانت النفسُ خالدة وقد وُلِدَت مرّات عديدة، وشاهدت الأشياءَ هنا وكذلك في «هادس» أي كلَّ شيء، في الواقع فما من شيء لم تتعلّمه. لذا، لا عجبَ أنّها قادرة على تذكُّر الفضيلة وأشياء أخرى عَرَفَتها من قبل. وبما أنّ كلَّ ما في الطبيعة هو من نوعٍ واحد والنفس قد تعلّمت كلَّ شيء، فما من شيء يمنع النفس التي قد تذكّرت شيئاً واحداً وهو ما يدعونه تعلُّماً من إعادة اكتشاف كلّ شيء، شرط أن تتحلّى بالشجاعة وعدم التواني في البحث، إذ إنّ البحثَ والتعلُّمَ هما جزء من عملية التذكُّر.
لذا، وجبَ ألا نقتنع بالكلام السوفسطائي، بما أنّه يجعلنا خاملين ويسرّ سماعه ضعفاء القلوب، في حين أنّ ما سبق من كلامٍ يجعلنا توّاقين للبحث. وإيماناً بصحة ذلك، أودُّ أن أبحث معك في ماهية الفضيلة.
مينون: نعم يا سقراط، لكن ماذا تعني بقولك بأنّ لا سبيل لنا للتعلُّم، وأنّ ما يُسمّى تعلُّماً إنّما هو عملية تذكُّر؟ فهلّا علّمتني حقيقة ذلك؟
سقراط: لقد أخبرتُكَ يا مينون للتو أنّك تُبدي مكراً، فأنتَ تسألني الآن ما إذا كان بوسعي أن أُعلّمك في حين أنّني أقول بأنّ لا سبيل للتعلُّم، بل للتذكُّر فحسب، وبذلك تتصوّر أنّك تُوقِعني في التناقض.
مينون: لا وحَقّ الإله، لم أقل ذلك لهذا السبب، بل بحُكم العادة.

مربع سقراط
مربع سقراط

“هل تتعرض النفس إلى البلى والتآكل بعد حلولها في أجساد عدة؟”

المعتقد الحقيقي والمعرفة
بعد مناقشة عابرة مع السياسي أنيتوس(Anytus)، الذي ظهر فجأة في سياق المحاورة، حول ما إذا كان الآباء الأفاضل يُورٍّثون فضيلتهم إلى أبنائهم، وهو ما طُرِحَ الشك حياله، سأل سقراط مينون إذا كان يعتبر السوفسطائيين معلِّمين للفضيلة، وهو سؤال أوقعه مجدداً في الحيرة. أما سقراط فسيُثبت له بأنّه مخطئ بقوله إنّ المعرفة مطلوبة لأجل الفضائل العملية، مظهراً له الفرق بين «المعتقد الحقيقي»True Belief وبين الرأي الصحيح والمعرفة، ويرى سقراط أنّ المعتقد الحقيقي ذو فائدة لنا كشأن المعرفة لكن لا بُدّ من تثبيته بالتبرير العقلي مُعتبراً أيضاً ذلك تذكُّراً.

سقراط: المعتقدات الحقيقية، أيضاً، طالما لازمتك، هي ممتلكات حَسَنة وتُثمر نتائج حَسَنة تماماً.ً إلا أنّها غير راغبة في الملازمة لوقتٍ طويل، وتنسلُّ من النفس، وليست بذلك ذات شأن، حتى يُرسِّخها المرء بالعقل.
وبالمقارنة يا مينون، ذلك هو التذكّر، كما اتّفقنا للتو. ما أن تترسَّخ (المعتقدات الحقيقية)، أولاً، حتى تصبح معرفةً، ومن ثم راسخة وطيدة. ولهذا السبب تُكرَّمُ المعرفةُ أكثر من المعتقد الحقيقي، لأن المعرفة تختلف عن المعتقد الحقيقي بكونها ترسَّخت بالعقل.
مينون: نعم بحَقّ الإله يا سقراط، إنّها كذلك.

مسرح-تخيلي-لمسرح-ديونيسيوس-في-أثينا-حيث-كانت-تعرض-المسرحيات-وكذلك-الاحتفالات-العامة
مسرح-تخيلي-لمسرح-ديونيسيوس-في-أثينا-حيث-كانت-تعرض-المسرحيات-وكذلك-الاحتفالات-العامة

المعرفة حكمة وهِبَة إلهية
وفي الأسطر الختامية للمحاورة يخلُص سقراط، بعد أنّ بدّد جميع خيارات مينون، إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، وإلى أنّ أولئك الذين تحلّوا بالأمس، أو يتحلّون اليوم بالفضيلة إنّما الفضيلة لديهم هي نتيجة لإلهامٍ مقدّسٍ، أشبه ما يكون بإلهام الشعراء، في حين أنّ المعرفة بها تتطلّب تقصّي ماهيتها بحد ذاتها.

سقراط: إذن، هل هؤلاء الرجال يستحقّون أن يُطلَق عليهم مُلهَمون مِن علٍّ، أولئك الذين يقومون بأشياء عظيمةٍ، فعلاً وقولاً، من دون أي تفكير؟
مينون: بالتأكيد.
سقراط: يمكننا على هذا النحو أن ندعو السياسيين مُلهَمينَ، ومُلقَى في سرِّهم، حينما يتحدّثون بنجاحٍ في العديدِ من المسائل الكبيرة من دون أنْ يُدركوا حقاً ما يتحدّثون عنه.
مينون: حتماً.
سقراط: إذا ما تقصينا وتحدّثنا على نحو صائبٍ في هذا الخصوص، نخلُص إلى أنّ الفضيلة لا تُكتَسب بالطبيعة ولا بالتعليم، بل تكون ماثلةً فيمَنْ يتحلَّى بها هِبَةً، طالما أنه لا يوجد بين رجال السياسة مَنْ يمكنه أن يجعل الآخرين كذلك.
مينون: أظنُكَ يا سقراط قد أجَدتَ في ذلك.
سقراط: إذن، تبيَّن منطقياً يا مينون أنّ الفضيلة إنّما هي «هِبَةٌ إلهيةٌ»، لكن لا يسعنا أن نتيقّن من ذلك إلا عندما نبدأ بتقصّي ماهية الفضيلة نفسها، وقبل أن نستبين كيف يمكن للمرء أن يتحلّى بها.
والآن إنّي مُفَارقٌ إلى مكانٍ آخر. فعليكَ يا مينون أن تُقنِع ضيفَكَ ها هنا أنيتوس بتلك الأشياء التي اهتديتَ إليها، فعساهُ أن يغدو أكثرَ رِفقاً واعتدالاً. فإذا ما أقنعتَهُ بذلك، لتَفِيدَنَّ أيضاً جميعَ الأثينيين.
وتتبدّى أيضاً رسالةٌ أخلاقيةٌ في الحبكةِ النهائيةِ، فثمة إلهامٌ عِلويٌّ أيضاً للفضيلة في الحُكْمِ لا تتأتَّى لأمثالِ أنيتوس، الذي سيظهر في محاورةٍ أخرى كأحد المُدَّعِين على سقراط في محاكمته.

مآثر وعبر

الأهرامات سرّ مغلق
يحيِّر عقـول البشــر

بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

ما من زائر أو سائح قصد مصر إلا وكانت بغيته الأولى زيارة الأهرامات قبل سواها، ليقف أمامها مستعظماً ومندهشاً وحتى مستغرباً قائلاً في ذاته: هل هي حقاً من بناء البشر العاديين أم من بناء الجن أو مخلوقات خارقة من خارج الأرض!!
يقول عالم الآثار الفرنسي الشهير “شامبليون”، الذي رافق نابليون في رحلته إلى مصر واكتشف “حجر رشيد”، الذي مهّد لفك رموز الكتابة الهيروغلوفية: “إن الأهرامات لم تكن من صنع كائنات بشرية مثلنا، بل من صنع طوائف حاملي الأسرار التي ما خلا منهم زمان ولا مكان، لقد تمكّنت هذه الطوائف المتفوقة أن تمتلك تكنولوجيات متقدمة اختفت مع الطوفان أو صينت وحفظت في أحرام خفية في مكان ما من العالم، وهذه الحضارة الخفية ما زالت ترشد المؤمنين وتقوي عزيمتهم وتشرق من عليائها بأنوار اليقين”.
ظهرت عظمة الأهرامات عبر التاريخ في ما تجسّده من أحجامها الهائلة، ودقة هندستها، وعجائب ما في جوفها وغموض رموزها، وصمودها وثباتها أمام عواتي الدهر كالزلازل والفيضانات والرياح وأطماع البشر بما في ذلك تخريب الفاتحين وعبث العابثين واللصوص المحترفين ليصح فيها قول الشاعر القديم:
بناءٌ يخاف الدهرُ منه وكل مـا علـى ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

داخل هرم خوفو
داخل هرم خوفو

قصة باني الأهرام
أجمع العديد من العلماء والمؤخرين الأقدمين أن هرمس الهرامسة هو باني أهرامات الجيزة، من ضواحي مصر، أي القاهرة حالياً، وقد عرف هرمس في اللغة اليونانية بـ”أرميس”، ومعنى أرميس عطارد. وآخرون قالوا إنه اسم سرياني واشتقاقه عن الهرمسة أي علم النجوم. وعُرف عند العرب بالنبي ادريس وأسموه بذلك لكثرة دراسته. وعند العبرانيين عرف بـ “أخنوخ أو أخناتون” التوحيدي، وقد وُلد بمدينة مناف في مصر القديمة، وعندما بلغ الأربعين من عمره أُنزل عليه ثلاثون صحيفة وورث صحف شئت وتابوت آدم. والصابئة الحاليون، وهم فرقة قديمة في التاريخ، لم تزل تقطن منطقة الأهواز في جنوب العراق يزعمون أنهم من أتباعه ومتمسكون بكتب النبي هرمس ويقدسونه ويعبدونه. كذلك تماثلهم فرق باطنية أخرى تقول عن بناء الأهرامات أنها بُنيت لأجل الحفاظ في داخلها على أسرار الكون ومواثيق البشر، وأن لكل فرد سجلاً في داخلها.
ومما يلفت النظر أن جماعة “الروز كروشن” أو الهالة الوردية، والتي يبلغ عدد أفرادها في العالم نحو 14 مليوناً، منتشرين في أوروبا وأميركا وآسيا، تؤمن بأن الأهرامات هي كعبة المؤمنين والموحدين عبر الأجيال.
كذلك ما أوردته حديثاً إحدى الدراسات الأميركية الصادرة عن جمعية “فيدرالية الأخوة العالمية ” IFB، إذ تقول عن الحضارة المصرية إنها حضارة روحانية تؤمن باليوم الآخر وجوهرها تقديس الحياة الآخرة للإنسان، لهذا كان أعظم رموزها هي الأهرامات وما تحويه من أسرار الكون وقبور الملوك، وكتابها المقدس هو “كتاب الموتى” وفحواه كيفية اجتياز يوم الحساب وبلوغ الآخرة.
وما يماثل هذا القول ما أورده العالم الإنكليزي الشهير “بول برنتون” PAUL BRUNTON، الذي أمضى بمفرده ليلة كاملة داخل حجرة الملك في الهرم الأكبر إذ أتاه الوحي قائلاً: “اعلموا يا أولادي أنه في هذا الأثر القديم تكمن الحقائق والمعارف المفقودة للأجيال السابقة من البشر، إذ تكمن أسرار المواثيق التي عقدها الانسان القديم مع الخالق من خلال الأنبياء والسابقين، واعلموا أيضاً أنه لم يطّـلع على هذه المواثيق سوى المختارين من أبناء البشر”.
والحقيقة أن الأهرامات هي من غرائب العبر، إذ أن لها آلافاً من السنين والحقب لم يعرف ما في داخلها أي مخلوق من البشر، كذلك عجز الملوك والجبابرة عن هدمها واستخراج ما في باطنها، ورجعوا عنها بعد بذل الأموال الطائلة خائبين، ومنهم الخليفة المأمون العباسي، والذي حشد لها أعداداً كبيرة من الفعلة والحجارين، وضاعف لهم النفقات حتى قيل أنه قدّم لذلك نحو ألف أوقية من الذهب الخالص ولم يحصل على طائل، وكفّ عنها خائباً، “حسب بعض المخطوطات القديمة”، وتكمل تلك المخطوطات فتقول: ” أمّا الهرمان في الجانب الغربي من فسطاط مصر وهما من عجائب برهان العالم مبنيّان بالحجم العظيم على الرياح الأربع، وما على وجه الأرض أعظم وأجل بناء، ولا أحسن هندسة ولا أطول بقاء ولا أرفع سناء من هذه الأهرامات، إذ بعضها مبني بحجارة الصوان الأحمر المنقط الشديد الصلابة والقسوة. ومن عجائب بنائها وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا تجد بينهما مدخل أبرة، ولا خلل شعرة، ووجد مكتوب عليها كتابة غريبة ترجمتها هي: “إن بين هذين الهرمين والنسر الواقع في السرطان” فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية فبلغ إثنين وسبعين ألف سنة شمسية (لا نعلم ما هو هذا الحساب).

باسم الله
وقيل أن هرمس الهرامسة لما عزم على بنائها أمر باستخراج الرصاص من بلاد المغرب، وقطع الأحجار الضخمة الهائلة من أماكن بعيدة جداً عنها، وكان عندهم صحائف مكتوب عليها إسم الله العظيم فيضعون الصحيفة على الحجر ويسمّون بإسم الله تعالى ويدفعونه بتلك الدفعة مقدار مائة سهم، ثم يعيدون عليها الصحائف ويدفعونها ثانيةًَ حتى تصل إلى الهرم بغير حملٍ ولا مشقة، فإذا وصل الحجر إلى الهرم يثقبونه ويجعلون في وسطه قطباً من حديد قائماً ثم يركّبون عليه حجراً آخر مثقوباً ويُدخلون القطب فيهما جميعاً ثم يُذاب الرصاص ويُصب في القطب وحول الحجر بهندام وإتقان.
وتناسباً مع هذا القول القديم ما أورده في دراسته المؤرخ الأوروبي في القرن التاسع عشر (Kings Land ) كنجزلاند، إذ ذكر أن قطع أحجار الغرانيت (الصوان)، والتي تزن الواحدة منها (70) طناً، والموجودة في مخدع الملك، قد أعدّت في مقالع تبعد (600) ميل قبل نقلها فوق النيل، ثم تابع يقول: “لا بدّ أن قوة غامضة قد استخدمت في نقل هذه الأحجار لا يعلمها سوى الله”.

شهادة نابليون
والقائد الفرنسي نابليون عندما احتل مصر سنة 1789، وبعد أن وقف مندهشاً أمام عظمة الأهرامات قال إن ما تحويه من حجارة ومواد بناء يكفي لإحاطة فرنسا بجدار تبلغ سماكته 92 سم، وارتفاعه نحو 3 أمتار. وكلام روحي آخر يقول: “إن في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب وتكوينها وما يحدث في أدوارها وقتاً وقتاً، وما تحمل لها من التواريخ والحوادث التي مضت والأحداث التي ينتظر حدوثها في مصر، وما يليها من أقطار العالم إلى آخر الزمان”.
“وكذلك زُبر على حيطانها أصناف العلوم العظيمة كعلم السيما وعلم الكيمياء والهيئة والحساب والأحكام الهندسية والمنطق والطب والفلسفة، ولم يترك علم من العلوم حتى تمّ زبره ورسمه”. ويضيف بعض المؤرخين القدماء إنه لا يوجد على وجه الأرض قاطبة بناء أعظم منها أو يضاهيها، وهي مع طول الأمد والدهور لم ترث ولم تبل، وهي العجيبة الوحيدة الباقية سالمة من عجائب الدنيا السبع القديمة.
إلى هنا انتهى ما ذكرته تلك المخطوطات القديمة، ونحن بدورنا لا يمكننا أن نذكر كل ما كتب عنها من المؤرخين والجغرافيين الحديثين من علماء ومفكرين ورحّالين، وقد أسهبوا في بيان أوصافها ومميزاتها وأهميتها التاريخية، وحتى تقديسها، ومنهم من أصابته لعنة الفراعنة والمعروفة عند الجميع إذ حلّت بهم بعد أن تطاولوا من قطع أو حفر أو إخفاء بعض حجارتها أو معالمها، ثم نقلها إلى بلدانهم أو بيوتهم فكان نصيبهم أن حلّت المصائب والأحزان في ديارهم، ومنهم العاِلم الاسكتلندي “Winston” ونستون، إذ فقد أولاً أولاده ولداً تلوَ الآخر، ثم فقد زوجته، كذلك أصابه الوسواس ولم يعد إلى صوابه إلا بعد أن أعاد إلى الأهرامات ما سرقه من أفيائها، وقصص كثيرة تُروى بين العامة من المصريين وسواهم ما جعل الجميع يهابون لمسها أو أخذ أي شيء منها بعد أن دفع العديد منهم الأثمان غالية.
خاتمة: ليس بالكثير أن يكون عدد الزائرين لتلك الأهرامات، وحسب إحصاء وزارة السياحة المصرية في أيام السلام والأمان، نحو (20) عشرين مليون زائر كل عام، وأن عدد زائريها من الأحياء على وجه الأرض ربما يزيد على نصف مليار زائر من البشر.

الأخوت اللّي بدو يقتل أمو
ويحتمي عند خالتو

لكل عالم هفوة ولكل صارم نبوّة ولكل جوادٍ كبـوة
( عمر بن الخطاب)

بعد أن تدفقت مياه نبع الصفا في أجران أحواض قصر بيت الدين، لتزيده روعة وجمالاً وتبعث الحياة في حدائقه، ازداد الجميع إحتراماً وتقديراً لأخوت شناي (حسن) صاحب فكرة إيصال المياه، وإن تكن تسميته بالمجنون فهو بالحقيقة ذو عقل أميز من عقول العديد من العقلاء، ورأيه كما تبيّن كان أصوب بكثير من آراء حاشية الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عمل بنصيحة “الأخوت” وجلب المياه إلى قصره العامر.
وحيث إن صفة الجنون كانت تلازمه، لذا كان يدلي بدلوه، وأينما وجد، من دون خوف أو حذر، بل باعثاً في محدثيه حس الطرافة وقوة الرأي العفوي الذي لا يخالطه أي رياء. فبعد أن وجد الأمير بشير الشهابي في حيرة من أمره، مرتبكاً متردداً كيف ستصل المياه إلى القصر، وكيف سيتمكن من جرها والمسافة بعيدة وتتخللها أودية ومنحدرات.
وبينما هو في هذه الحيرة تقدم منه أخوت شناي وحادثه قائلاً: لماذا هذا الإرتباك يا سيدي المير ورجالك إذا مددتهم على الأرض من الصفا إلى القصر، وأمرتهم أن يحفرَ كل واحد منهم على قدر طوله، فخلال يومين أو أكثر تصل المياه إلى بيت الدين.
وهكذا كان، فبعد أن أخذ الأمير برأي الأخوت، عظم شأن الأخير وازداد احترامه، وأصبح رأيه قبل رأي العديد من المقربين والمستشارين، يُلازم المير في حلّه وترحاله في قصره وشتى أحواله، متندراً وراوياً، متعرفاً ومصادقاً معظم زواره. يعلم بكل شاردة أو واردة ترد إلى القصر أو تخرج منه، وما أكثرها تلك الأيام، وخاصة الدسائس والمكائد، والتي كان صاحب القصر سيدها لإيجاد التفرقة والبغضاء بين الزعماء والوجهاء، الذين يأتون لزيارته، وقصده من خلالها إذلال الجميع وتفرقتهم عن بعضهم بعضاً، وإخلاء أي إعتراض من قبلهم، وهذا ما عرف به تاريخ ذلك المتسلط خبثاً ودهاء.
وأخطر تلك المكائد كانت على ولي نعمته، والعامل الأول لإيصاله إلى مكانته، الشيخ بشير جنيلاط، وكيف أوقع الفتنة بينه وبين أنسبائه من المشايخ النكدية أصحاب إقطاعية المناصف ودير القمر، ثم كيف استدار نحوه وتمكن من خلال والي عكا من قتله خنقاً ورمي جثته مع مرافقه على رمالها، إلى أن سمح لمشايخ آل معدي في بلدة يركا من الجليل الأعلى، بجلبهما ودفنهما في مدافنهم، ولتاريخه لم تزل في تلك الديار.

قصر بيت الدين
قصر بيت الدين

لكن ما سنرويه كيف أراد أن يوقع بين الشيخ علي العماد زعيم منطقة الباروك، وما يعرف بالعرقوب، وبين ربيبه ومستشاره الخواجة جرجس باز، بعد أن توجس الخوف والحذر من جانبه لما له من مكانة عالية وتقدير كبير بين أتباعه. لهذا حقد في ذاته ثم أخذ يتحين الفرص للتخلص من الإثنين معاً.
استدعى يوماً الشيخ علي العماد ثم أسرّ له في أذنه، أن جرجس باز يضمر لكم الحقد والإحتقار، ويعمل خفية على إبعادكم والإقتصاص منكم، وهذا ما ردّده مراراً وتكراراً.
في المقابل أيضاً كان المثل مع جرجس باز إذ أسر له الأمير الداهية بكلام استهدف منه أن يوغر صدره على الشيخ علي العماد، بحيث تكتمل أسباب العداوة بين الرجلين، وعندها فإن التخلص منهما معاً يصبح أسهل.
وفي يوم، كان علي العماد في طريقه عائداً من كفرحيم إلى بلدته كفرنبرخ، وقد توقف أمام دارة جرجس باز في دير القمر، ثم ناداه: يا خواجة جرجس “أنا شايف لازم نعيّر الرطل بيننا وعليك بملاقاتي إلى ميدان بتاتر، كي نقيم نزالاً ثم نعلم بعده لمن ستكون الوجاهة”.
استغرب جرجس باز ونفر لهذا التصرف من قبل الشيخ، ولاسيما أن عهده به أنهما صديقان، إلا أنه ورغم ذلك أجابه: “على رأيك يا شيخ علي ونحن لها”.
شاع الخبر وسرى بين القرى والبلدات كما تسري النار في الهشيم، وغدا الناس منقسمين بين الإثنين وكل يتبع وجيه طائفته.
أخوت شناي بحكم تواجده الدائم في القصر علم أن الأمير بشير، هو مدبر هذه المكيدة وقصده إيقاع الفتنة والخلاف بين النصارى والدروز على مبدأ فرّق تسد.
في اليوم المحدد للمبارزة توجه جرجس باز وبرفقته أنصاره إلى ميدان بتاتر، كذلك فعل الشيخ علي لكنه عرّج في طريقه على نبع الصفا فوجد أخوت شناي ينتظره هناك. وحال وصوله هاجمه شاهراً بيده سيفاً من الخشب قائلاً: “إنزل عن فرسك يا شيخ وإلا قتلتك بسيفي”، أجابه الشيخ: “حل عنا ولك يا أخوت”.
هزّ أخوت شناي برأسه، وقال: “أنا أخوت ولاّ إنت؟؟ أخوت إللي بده يقتل أمو ويروح يحتمي عند خالتو”!
وتابع: “شو بدك فيه لإبن باز تا تقتلو وساعتها بيغضبوا النصارى ويحملوك دمّو؟ بتعرفش العاقبة بعدها شو بتكون؟ غاية الأمير أنو يتخلص منك ومنو”.
أمعن الشيخ التفكير بعد سماعه قول الأخوت، ثم هزّ برأسه موافقاً، وقال لمن حوله: “فعلاً خذوا الحكمة من أفواه المجانين، والظاهر إنو أخوت شناي أعقل وأخبر منا”، ثم تابع طريقه وهو في حالة تأمل وحذر متذكراً مكائد الأمير وخبثه. وعند وصوله إلى ميدان بتاتر ترجل عن فرسه، ثم ربط لجامه برجل الكرسي الذي جلس عليه ووضع سيفه على ركبتيه ينتظر قدوم جرجس باز ورجاله.

الأمير بشير الثاني
الأمير بشير الثاني

أطل جرجس باز على الميدان فوجد الشيخ علي بوضع عادي أقله أنه بعيد عن المبارزة.
أومأ الشيخ إلى غريمه كي يترجل لوحده، ثمّ أسرّ في أذنه ما سمعه من أخوت شناي. وبعد تحقق الإثنين من نوايا الأمير وغدره، اتفقا على أن يجريا المبارزة باستحقاقها وبأن يسدد الشيخ علي ضربة لجرجس باز فيصرخ عندها مستغيثاً بالقول: العفو عند المقدرة يا شيخ علي!
وهكذا تمّت المبارزة كما رُسم لها، ثم عاد الفريقان كل إلى بلدته من دون أن يعلم أحد من الحاضرين بحقية ما اتفقا عليه.
في اليوم التالي، ذهب جرجس باز لزيارة الأمير، وكان من عادته أن يدخل عليه من دون إستئذان.. حملق الأمير في وجه زائره كأنه غير مصدق ما يشاهده، لاعتقاده أن جرجس أصبح في عداد الأموات وينتظر نعيه.
رحّب به بعد أن تمالك نفسه متجاهلاً ومتناسياً ما كان حضّر له لضيفه.
بعد مغادرة جرجس باز مجلس الأمير أرسل هذا وراء الشيخ علي يستخبره عمّا حدث. فأخبره الشيخ بما حدث قائلاً: “وأنت بتعرف يا مير ياللي بيستجيرنا منجيره”.
لكن رغم أن جرجس باز اكتفى شر الأمير وكظم على جرحه وابتعد عنه، إلا أن الأمير بقي حاقداً عليه متوجساً من وجاهته ومكانته، وقد تمكن أخيراً من أن يوقع به فقتله مع شقيقه عبدالأحد.

ثقافة و آداب

يونُـــس أمــــرِه شاعر المحبة والأخوة الإنسانية من أشهر أقواله: سامِح المخلوق إكراماً للخالِق ! طلب من الصوفي حاجي بكتاش بذوراً لحقله فعرض …

مآثر وعبر

مآثـــر وعبـــر هل جميعكم بهذا الإيمان؟! أنا أضعفهــــــــم   السؤال طرحه إبراهيم باشا المصري الذي كانت قواته تخوض قتالاً مريراً ضد الموحدين …

“القاضي والنقاب” للدكتورة عايدة الجوهري عن قاض فذ وابنته المكافحة لعتـــق المـــرأة فـي السنـــوات الأخيرة لزمن الدولة العثمانية يتأرجح كتاب الدكتورة عايدة …

محــــــاورة كــــــارميـــــديس حُسْـــنُ الخُلُــــق مَجْمَــــعُ الفضائــل وسَجِيَّــــةُ الحكمـــاء سقراط: «كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول مداواة العين من دون الرأس أو الرأس من …

شيّع لبنان العلامة السيد هاني فحص في حضور سياسي وثقافي وديني وشعبي كبير ومتنوع، وشارك في تشييعه في مسقط رأسه جبشيت (النبطية) …

محـــاورة مينــــون الفضيلـــــــــة هِبـــَة إلهيـــــــــة فهــــــل يمكـــــــــن تعليمــــــــــها؟ محاورة مينون تكشف عن عمق الفوضى الفكرية والفســـــاد القيمي للفكر السوفسطائي في أثينــــا مينون …

الأهرامات سرّ مغلق يحيِّر عقـول البشــر بناء يخاف الدهر منه وكل ما على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر ما من زائر أو …

كفرقوق جارة جبل الشيخ إزدهرت ولم يهجرها أبناؤها الشيخ يوسف الكفرقوقي درس على علماء دمشق وأصبح أبرز أعلام عصره في تقواه ومعارفه …

شجـرة القَطْلَب ‏‎المنسية ثمارها الطيبة متروكة للسمن والعصفور زهرها ربيعي وثمارها الغزيرة خريفية لكن موسمها لا يتجاوز الثلاثة أسابيع أبحاث علمية جادة …

حكايات منطق الطير إياك والسعي لعشق المحبوب إن لم تكن قادراً على بذل الروح لماذا اشتكى النبي سليمان من خاتمه واشترى إبراهيم …

“الست مي” علامة فارقة سياسيّاً وإجتماعيّاً وعائليّاً انتقدت بشدة “مذهبة” الأحزاب والصراعات السياسية وأسفت لإنزلاق العرب بإتجاه الإستهانة بكرامة الإنسان وقفت إلى …

بناء يخاف الدهر منه وكل ما على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر ما من زائر أو سائح قصد مصر إلا وكانت بغيته …