الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

دماء وصلح في القريا

دمـــاء وصلـــح
في القــــــــــريَّا

ندمت قبيلة “وِلْد علي” على عدوانها الغادر على القريّا
فأرسلت وفداً عظيماً لاسترحام إسماعيل الأطرش

“ذبحة القريّا” تزعزع سيطرة البدو التقليدية على السهل
وتعزّز أرجحية الموحدين الدروز وهيمنتهم على الجبل

صلح القريّا فرض على البدو أخذ الإذن من زعيم الجبل
إسماعيل الأطرش إذا أرادوا دخول المراعي السهلية

جوار-هذه-البركة-جرت-المصالحة-بين-بني-معروف-وقبيلة-ولد-علي-في-القريا-أيام-اسماعيل-الأطرش
جوار-هذه-البركة-جرت-المصالحة-بين-بني-معروف-وقبيلة-ولد-علي-في-القريا-أيام-اسماعيل-الأطرش

تاريخ جبل العرب في سورية هو في جزء منه تاريخ العلاقة الصعبة والمتقلبة بين الموحدين الدروز الذين عمروا الجبل وبعثوا الحياة في ربوعه المقفرة وبين بدو السهل الذين سعوا للإحتفاظ بهيمنتهم القديمة وحقهم في أخذ الأتاوات أو حتى الإغارة والغزو كجزء من تقاليدهم.
مشكلة البدو كانت أنهم وجدوا في الموحدين الدروز خصماً شديداً كما أنهم وجدوا أن الفئات المستضعفة من المسيحيين وعشائر البدو الأقل شأناً دخلت في حمى الدروز وعزّزت صفوفهم، وأصبح الصراع بذلك حادّاً بين مصالح سكان الحضر الدروز ومن معهم الذين استقروا وأصبح اقتصادهم مستنداً إلى الزراعة وبين حياة البدو الرحل الذين لا يستقر لهم قرار والذين يعتبرون الغزو جزءاً من تقاليدهم بل أحد مصادر عيشهم.
في هذا السياق تعتبر الحرب القصيرة لكن الدامية التي قامت في منتصف القرن التاسع عشر بين الموحدين الدروز بقيادة إسماعيل الأطرش وبين قبيلة ولد علي الكبيرة منعطفاً مهماً في تاريخ العلاقة بين الجانبين لأنها شهدت ذروة المواجهات ثم انتقال الفريقين بعدها إلى مصالحة طويلة الأمد اعترف فيها البدو ضمناً بأرجحية الموحدين الدروز وقبلوا بسيطرتهم على المراعي السهلية. وأحد بنود تلك المصالحة أن أصبح على البدو طلب الأذن من زعيم الدروز إسماعيل الأطرش للتمكّن من دخول الأراضي السهلية لرعاية ماشيتهم.
فما الذي جرى في تلك المقتلة الدامية ؟وكيف أدت حكمة إسماعيل الأطرش والشيخ أبو علي قسّام الحِنّاوي إلى احتواء الخطر البدوي وتأمين مرحلة مديدة من السلام والأمان لسكان الجبل؟

كانت قبيلة عنزة، وهي من قبائل البدو الرحالة بين نجد وبلاد الشام، لها السطوة على أرض سهل حوران، إذ كانت ترتاده لغرض الماء والمرعى في الصيف وتأمين المؤونة من الحبوب في الشتاء، وكان ذلك يحدث كل عام من شهر أيار وحتى شهر أيلول، يذكر المستشرق السويسري بركهاردت في كتابه “رحلات في سوريا عام 1810ــ 1812م “ إن قبيلة عنزة التي تزور سهل حوران دائماً هي “ولد علي“ وزعيماها الطيار وابن سمير”، وفي تلك الفترة كان الفلاّحون في مناطق السهل الحوراني يُجبرون على دفع الخوّات لأولئك البدو.

الشرارة: البدو يعترضون قافلة تاجر لبناني
وذات يوم من عام 1842 كانت قافلة من الباعة البسطاء من جبل لبنان على رأسها حسين العوام وهو تاجر من بني معروف كان ينتقل بتجارته من الزيت والزبيب والتين المجفف وغير ذلك من جبل لبنان إلى جبل حوران، إذ لم يكن ليتيسّر لسكان الجبل آنذاك أن يزرعوا الكروم بسبب حياة عدم الاستقرار في مجتمع تغلب عليه حياة الرعي وتقاليد الغزو البدوية، وفي الطريق قرب قرية زيزون في سهل حوران مرّت قافلة العوّام بنجع من البدو يتبع لقبيلة ولد علي وهؤلاء فرع من عنزة، وكان في ذلك النجع عشرات من المسلّحين الذين تصدَّوْا لتلك القافلة، ويذكر زيد سلمان النجم مؤلّف كتاب “أبو علي قسام الحناوي” أن عدد البدو الذين اعتدوا على العوام وصحبه كانوا نحو أربعين فارساً، وأن العوّام أبلغهم أنه يسير بتجارته في حماية بني معروف وفي وجههم،( كان هذا التعبيرــ في وجه فلان ــ بمثابة جواز سفر بالنسبة لمن ينتقل من منطقة لأخرى في ذلك الزمن، حيث لا وجود ثابتاً للدولة في تلك المناطق الريفية البعيدة عن المدن آنذاك)، فهزأوا به قائلين: “إفطن يا رجل، وجه بني معروف في ديارهم فقط، أخبرهم أننا قطعنا وجههم ونحن لا نخافهم”، وما كان منهم إلاّ أن نهبوا تجارة العوّام ومن معه، لكن ابنه الشاب قاومهم، فقتلوه، وقتلوا اثنين من الرجال الذين شاركوه ضدهم .

الشيخ الحمداني يتهرَّب
هرب من بقي سالماً من رجال القافلة باتجاه جبل الدروز ( كما كان يُدعى آنذاك)، ولما وصلوا إلى السويداء، وكانت مركز الشيخ الحمداني، شيخ مشايخ بني معروف حينذاك، شكوا له حالهم، فقال لهم:” أنا مالي طَوْل على أولئك القوم البعيدين، روحوا إلى اسماعيل الأطرش، هو من يزعم أنه ابن عم الدروز وحاميهم”.
وصل العوام إلى القريا حاملاً بؤسه وخسرانه، وشكا حاله لإسماعيل الأطرش الذي هبّ لسماعه شكاية الرجل المنكوب، وانطلق على رأس نحو من ثلاثين فارساً من أبرزهم الشيخ أبوعلي قسام الحناوي، وسلامة الحمود الأطرش وعثمان أبو راس وأحمد البربور وغيرهم من فرسان بني معروف المُعلَمين في القريّا.
كان العوام دليل الفرسان في سرى ذلك الليل، وعندما وصلوا بعيد منتصفه إلى غربي زيزون، تربّصوا ينتظرون بزوغ الفجر، إذ تقدمت طليعة منهم مع أول تباشير ضوء الصباح، وهناك عثروا على نجع المعتدين، حيث تعرّف العوام على دواب القافلة المنهوبة، هنا عاد أحدهم ليبلّغ أصحابه في الكمين أن الهدف المطلوب قيد التناول، فبعثوا ثلاثة من فرسانهم الأشداء يعدون بخيولهم ويتقدمونهم نُذًراً يصيحون في حي المعتدين “ الذيب بالجليب” أي ( الخطر كامن في البئر الذي تشربون منه يا قوم)، وبعد قليل تبعهم الفرسان غائرين على النجع الهاجع الذي لم يتوقع رجاله سرعة رد بني معروف على الغدر الذي كان من قبلهم أمس، فقتل منهم من قاوم المغيرين، واستعاد الفرسان الدواب وما وجدوه من بقايا المسلوبات، وساقوا ما صادفوه من إبل ومواشٍ عقاباً لهم على غدرهم بمن استجار ببني معروف.
لم يلبث محمد بن سمير شيخ قبيلة ولد علي أن علم بما حدث لجماعته، فقرر أن يثأر لهم، ونسي أنهم هم الذين اعتدوا أوّلاً. إنها تقاليد البداوة التي لا ترحم، والتي لم تزل تتوراثها الأجيال من عصور الجاهلية!!.

يوم ذبحة القريّا
أرسل ابن سمير أعوانه متنكّرين إلى القريّا ليستطلع أخبار البلدة، وشيخها اسماعيل الأطرش، وفي تلك الأيام السود من عام 1842 كان اسماعيل الأطرش غائباً عن القريّا في مهمة بعيدة إلى لبنان، إذ كان عُمَر باشا النمساوي الحاكم العثماني على جبل لبنان آنذاك، قد احتال على عدد من زعماء بني معروف بدعوتهم إلى بيت الدين وألقى القبض عليهم، وكان من أبرز هؤلاء سعيد جنبلاط وناصيف نكد وحسين تلحوق وخطار العماد وبعث بهم إلى صيدا، ومن ثم نُقلوا إلى بيروت حيث تمّ وضعهم في محرس خاص بهم ( ورد هذا في كتاب معجم حكام لبنان والرؤساء، سيرة عمر باشا النمساوي، ص 16)، ولما احتج بنو معروف على اعتقال زعمائهم بهذه المكيدة الغادرة، وطالبوا بإطلاق سراحهم، ولم يُلبَّ طلبهم ثاروا على عمر باشا وطالبوا بإسقاطه وحاصروا بيت الدين…ومن الطبيعي ألاّ يتخلّف اسماعيل الأطرش عن نجدة أبناء عمومته في لبنان، وكان هذا الغياب عن الحمى هو ما استغلّه عليه شيخ قبيلة وِلد علي، محمد بن سُمَير الذي لطالما عُرف عنه عداؤه لبني معروف، وتعاونه مع جيش محمد علي باشا ضد بني معروف الموحدين.
كان اسماعيل الأطرش قد ترك بعضاً من الرجال الأشداء في القريّا منهم: أخواه طرودي ومنصور، وآخرون من آل (الزغيّر) وهؤلاء أصلاً من آل أبو الحسن المتنيين، وغيرهم من الفرسان… وكان اسماعيل شديد الثقة بهم، لدرجة أنه عندما حذّره أحد المقرّبين منه من خطر ابن سمير في غيابه قال له :“إن بيضات حصان طرودي وحدها كفيلة برد ابن سمير عن القريّا”!.
جمع ابن سمير نحواً من خمسمائة فارس بقيادة الفحيلي، وباغت القريّا بدون نذير من جهة الجنوب، ودارت معركة دامية في الأزقة، وعلى أبواب البيوت، كانت حصيلة تلك المباغتة الغادرة اثنين وسبعين شهيداً من بينهم أخوا اسماعيل منصور وطرودي، وخمسة وعشرون زوجاً من الأخوة، وفي أحد أزقة القريّا الذي لم يزل إلى يومنا هذا يحمل إسم “ زقاق العشرة” استشهد عشرة رجال من آل الزّغيّر، وذبح البدو قاسم العبدالله ابن عم اسماعيل وأحد أشد رجاله صلابة إلاّ أنهم في عجلتهم لم يتمكّنوا من فصل رأسه عن جسده، وقد خاط المعالجون في ما بعد ذلك اليوم ما احتُزّ من لحم عنقه، وعاش قاسم بعدها وقاتل وأنجب أبناء وبنات بينما قتل من البدو المهاجمين عشرون رجلاً.
كان يوم “ذبحة القريا” يوماً كارثياً على بني معروف، ولا بد أن الشيخ الحمداني كان يدرك عندما بعث بإسماعيل الأطرش للسكن في القريّا مدى خطورة إقامة رجل قوي منافس له فيها، وهو يريد بذلك أن يتخلّص منه، إذ وضعه في مواجهة بيئة بدوية جاهلة، تعوّدت قبض الخوّات من أهل الحضر، تلك الخوّات التي كان الحمدانيّ يدفعها، لكن اسماعيل الأطرش لم يعوّد البدو عليها. وفي ما يخص يوم ذبحة القريّا لم يذكر أحد ممن روَوْا أخبار الحادثة في تلك الأيام أن الشيخ الحمداني في السويداء هبّ لنجدة القريّا، أو عمد للثأر لها في غياب رجلها القوي، اسماعيل الأطرش ومن معه من فرسان بني معروف في حملتهم لنجدة ذويهم في لبنان.

أحد-شيوخ-قبيلة-عنزة-في-مطلع-القرن-الماضي
أحد-شيوخ-قبيلة-عنزة-في-مطلع-القرن-الماضي

الثأر من ابن سمير وملاحقته
بعد العودة من مهمة لبنان عمد اسماعيل الأطرش ومن معه من الرجال، وفي طليعتهم الشيخ أبو علي قسام الحناوي إلى الثأر من ابن سمير، الذي هرب بعشيرته جنوباً باتجاه بادية شرق الأردن، فلاحقوه عبرها وثأروا منه وألحقوا به هزيمة يستحقها على عدوانه في موقعة القحاطي شمالي عمّان بنحو ثلاثين كيلو متراً، وظلّوا يطاردونه بعدها في كل مكان قريب من المعمورة ينزل به مع عشيرته، وهكذا بقي ابن سمير لا يجرؤ على الاقتراب من أطراف أراضي الجبل، وضاقت به وبعشيرته البادية التي توالت عليها سنوات الجفاف، ولم يعد ذلك البدوي الفظ يجد المراعي الكافية لمواشيه ومواشي قبيلته، فأشار أحد أعيان القبيلة عليه وعلى أمّه (وكانت الأم امرأة صاحبة رأي وقرار في القبيلة، وتدعى الخطيبة) أن يذهبا إلى الشيخ أبوعلي قسّام الحناوي، ويكلّفاه بالتوسط لدى الشيخ الأطرش (كان الشيخ الحناوي نسيباً لاسماعيل الأطرش الذي تزوج بأخته وسنداً قوياً له في سياسته ووقائعه).
تفكّرت” الخطيبة أم محمد بن سمير بالنصيحة مليّاً، ولم ترَ صواباً في ذهاب ابنها محمد إلى بني معروف في مساعي الوساطة تلك، وهو الذي سبق له أن غدرهم مراراً بتحالفه مع محمد علي باشا وبشير الشهابي الغدّار، الذي كان أميراً على جبل لبنان آنذاك، أو بقطع الطريق عليهم بين جبل حوران وجبل لبنان، أو بالاعتداء على مواشيهم ومزروعاتهم في جبل حوران كلّما آنس منهم غفلة أو رآهم منشغلين في مواجهة عدو خارجي.

السعي لطلب الصّلح
كان قد مضى على يوم “ذبحة القريّا” سنوات سبع، ففي عام 1849، اختارت الخطيبة (أم محمد) فارسين من نخبة فرسان القبيلة حكمةً وفروسيةً، واتجهت بهما إلى قرية سهوة البلاطة، إذ كان الشيخ الحناوي قد استقرّ بها بعد انتقاله من القريّا، وفي مضافة الشيخ الحناوي نزل الركب ومن يتبع لهم من عبيدهم، ولمّا كانت القهوة أول ما يقدّم للضيف الذي يصل إلى المضافة، فإن السيّدة الخطيبة أمسكت بالفنجان بيمناها ولم تشرب القهوة، بل وقفت مخاطبة الشيخ: “يا شيخ أبوعلي: أنا قاصدة حماك وحمى بني معروف، لي عندكم طلب، أوعدني به، واعطني الأمان أنا ومن معي”.
قال الشيخ:” اشربي قهوتك، وعليكِ أمان الله ومحمد رسول الله، وعهد بني معروف أنتِ ومن معك”.
شربت أم محمد قهوتها، بعد أن سمعت ما هدّأ من مخاوفها أن تُرَدّ خائبة في مسعاها، ثم أردفت: “يا شيخ، يا شيخ أنا الخطيبة، أم محمد بن السّمير، قاصدة حماك، عساك ترشدنا لحلّ بيننا وبين الشيخ الأطرش، والله من بعد يوم القريا ضاقت بنا ديار الله، حِنّا (أي نحن) بوجه الله وبوجهك”.
أطرق الحناوي يتفكّر برهة، ثم رفع رأسه وقال لها:” اذكري الله يا الخطيبة، ابنك خان بعادات العرب، قتل بالغدر والبوق 72 رجلاً من أهلنا في يوم القريّا، قتلهم ومن دون نذارة في بيوتهم، وعلى أبوابها، لو قتلهم بساحة الكون حسب تقاليد العشاير كان هيّناً علينا وعليكم، كنّا عقدنا رايات ودفنّا سايات
( أي: أعمال سيّئة)، لكن الغدر والبوق ما ينتسى يا أم محمد”.
كانت أم محمد تدرك طبيعة الموقف الحرج الذي وقع فيه ابنها، بل وأوقع فيه قبيلته ولم يكن أمامها إلاّ أن تعترف بجناية ابنها على بني معروف، وذلك لأن اعترافها، وغفران بني معروف لجريرة ابنها يمهّدان السبيل أمام قبيلتها للدخول بمواشيها إلى مراعي الجبل، ومحيطه، وما جاوره من سهل حوران وخصوصاً في موسم الحصاد، لقد كانت دماء الموحّدين التي سفكها ابن سمير في القريّا سبباً لمطاردته وحرمان قبيلته من المراعي الخصبة.
قالت الأم مستعطفة الرجل:”يا شيخ أبوعلي، جريمة وْلِدي كبيرة، لكن عفوكم أكبر، وأنتم بنو معروف مشهود لكم بالعفو عند المقدرة، وأنتم لها يا شيخ، وأنا واقعة في بيتك وعند حريمك”.
قال لها الشيخ: “أهلاً وسهلاً بكم يا أم محمد، بنو معروف كرام، وأهل تسامح، والشيخ اسماعيل الأطرش بيقدِّر إذا تَقَدَّر ( أي لديه رؤية حكيمة، ويحترم من يحترمه)”.
كان في كلام الحناوي ما يطمئن السيّدة بأن الشيخ اسماعيل الأطرش قد يصفح ويقبل بالصلح الذي تنشده أم محمد لقبيلتها، فتفاءلت خيراً، وشكرت له استقبالها ومن معها، وعادت إلى البادية التي قدمت منها، وهي عازمة على زيارة القريّا بعد موافقة الأطرش، ولا بدّ أن حديثاً أطول مما وصل إلينا قد دار بين الوافدين والشيخ الحناوي، فهم يدركون بحكم ما تيسّر لديهم من معلومات متداولة بين الناس في ذلك الزمن أن الحناوي هو أحد المفاتيح التي توصلهم إلى اسماعيل الأطرش بسبب العلاقات الوثقى بين آل الحناوي وعشيرة الأطارشة، والمصاهرة بين الرجلين.
قصد الشيخ الحناوي القريّا وأبلغ صديقه وصهره بزيارة أم محمد ومن رافقها إليه في سهوة البلاطة، وبما تمّ تداوله من وجهات نظر بشأن طبيعة المصالحة المرتجاة.
كان اسماعيل الأطرش يجمع الشجاعة إلى الحكمة في تصريف الأمور، وكان يدرك أن المسالمة مع عشائر البلاد والقبائل البدوية من جهة وبين الفئات الحضرية قوة تساعد الناس على العيش في حياة آمنة، وأن قومه بني معروف هم أشد الناس حاجة إلى السلام والأمن والأمان. بذلك قرر الرجلان الاجتماع في بيت سلامة الراشد، تكريماً لذلك الفارس المسيحي،”كاسب الرمحين”، كما لقّبه بنو معروف، فهو محرر الفتاة التي حاول البدويّان الهرب بها يوم الغارة على القرَيّا، وهناك تمّت استشارة ذوي الشهداء ضحايا “ذبحة القريّا” التي دبّرها ابن سمير، وبنتيجة ذلك الاجتماع أقرّ المجتمعون على القبول بالصلح الذي تقتضيه الظروف.

وفد المصالحة بين بني معروف وقبيلة وِلْد علي
ما إن وصلت أم محمد إلى مضارب قبيلتها، حتّى جمعت أعيانها، وفي طليعتهم ابنها محمد والشيخ صالح الطيّار وهو الرجل الثاني في قبيلة وِلْد علي بعد محمد بن سمير، وأبلغتهم بالذي جرى في خطوتها باتجاه طلب المصالحة مع بني معروف، فعمدوا إلى تفويضها بترؤّس وفد لم يسبق له نظير في تقاليد القبائل العربية من قبل، إذ اختارت أن يكون في وفدها كل امرأة لها طفل رضيع، وكل أنثى من الخيل والأغنام والإبل والماعز لها مولود رضيع أيضاً، واصطحبت معها ما حواه بيت ابنها محمد من أثاث وأوانٍ وأدوات طبخ القهوة من أباريق ومحماص ومبرَدة ونجر ( وهو الجرن المصنوع من ساق شجر البطم، إذ يتم تجويفه، وفي داخل ذلك التجويف يتم سحق حبوب القهوة المحمّصة)، والمهباج (أي اليد الخشبية التي تسحق بالدّق حبوب القهوة المحمصة وهو مصنوع من نوع خشب النجر ذاته)، ورافقها الشيخ صالح الطيار وعدد من أعيان القبيلة.
كانت الأم حذرة في مسعاها للصلح مع بني معروف، فاستبعدت ابنها محمد من الوفد خوفاً منها على حياته من فلتة تتجاوز مساعي المصالحة المرتجاة، ففي عنقه دماء لإثنين وسبعين شهيداً بينهم اثنان من أخوة اسماعيل، وعدد من أقربائه.

مقاتل-من-الجبل
مقاتل-من-الجبل

” قال الشيخ الحناوي لوالدة ابن سمير: لو قاتلتمونا في ساحة الكون ولم تغدروا بنا على غير عادات العشائر لكان هيناً علينا عقد الصلح لكن الغدر لا يمكن أن ينســــى  “

مشهد درامي في خيمة والدة ابن سمير
وصل وفد الخطيبة أم محمد إلى القريّا قبيل الفجر، فحطت بالرحال على البيادر إلى الشرق منها، وأرسلت بالفارسين اللذين سبق لهما أن وفدا معها إلى الشيخ الحناوي في سهوة البلاطة ليبلغاه بموافاتها إلى القريّا لإنجاز ما سبق الاتفاق عليه.
كانت السيدة قد نصبت بيت الشَّعر الخاص بشيخ القبيلة ذي الثمانية أعمدة ( وقيل اثنا عشر عموداً) والمصنوع من شعر الماعز، أقامته على عمودين فقط، وطرحت بقية الأعمدة أرضاً بحيث يبدو البيت وكأن عاصفة أطاحت به أرضاً … ومعنى هذا التصرف يشير إلى أن السيدة ووفدها يطلبون الاستجارة بحمى الشيخ اسماعيل الأطرش وبني معروف.
مع إطلالة الصباح وُضعت كافة النساء من أمّهات الرّضَّع بجانب، وأطفالهن ومن يحملنهنّ من بنات القبيلة مقابل الأمّهات بحيث يرى الصغار أمّهاتهم عن بعد، وفي ذلك ما فيه من عويل وصراخ الصغار الذين يطلبون أمّهاتهم، وكذلك فعلت بإناث الخيل والإبل والأغنام والماعز وفصلتها عن مواليدها، وما بين بكاء الصغار يطلبون أمهاتهم، وحنين النوق إلى صغارها، وصهيل الأفراس وثغاء الأغنام وكلها تسترحم، الأمّهات، والأُمّات تطلب صغارها، والصغار يطلبون أمهاتهم وأُمّاتهم، هنا يحن الإنسان مهما قسا قلبه إلى إنسانيته الأولى التي فطره الله تعالى عليها، فيغفر ويصفح.
وتتمة لهذا الترتيب دخل الشيخ صالح الطيّار إلى بيت الشعر المكسوح، وربط حبلأً من المَذيع برقبته ( حبل المذيع شديد المتانة مصنوع من شعر الماعز ووبر الإبل)، وشدّه إلى يده اليمنى وربط نهايته بكاسر البيت (أي العمود الرئيسي الذي يرتفع عليه بيت الشعر الذي يتخذه البدو مسكناً)، وأخذ يدق القهوة بالمهباج وهو مشدود إلى الحبل.
إزاء هذا الاستعطاف المثير يكتسب الموقف الدرامي العجيب حالة تستدعي حلاً إنسانيّاً أرادته (الخطيبة)، أُمّ الشيخ البدوي، محمد بن سمير، مرتكب جريمة “ذبحة القريّا “ بحق بني معروف.

إسماعيل الأطرش يستطلع الأمر
لم يلبث أن وصل نبأ المستجيرين إلى اسماعيل الأطرش ولا شكّ أنه كان على علم بالبادرة من صديقه الحنّاوي، فأرسل رجالاً من قِبَلِه يستطلعون طبيعة الموقف، ويدعون القادمين إلى ضيافته، وكان الضجيج الذي أحدثته مسرحية الخطيبة قد علا بحيث وصلت أصداؤه إلى القرية القريبة.
دُهش رجال الشيخ اسماعيل للمشهد المثير الذي لم يسبق أن شوهد مثله في تقاليد البوادي العربية، دخل كبيرهم بيت الشّعر المكسوح، وفوجئ بالرجل المشدود إلى حبل المذيع وهو يدق القهوة بالمهباج بيده المربوطة بالحبل، وحوله الرجال القادمون بصحبة السيدة الخطيبة أم محمد، حيّره ذلك الترتيب غير المسبوق، لكنه لم ينسَ المهمة المكلّف بها من قبل من أوفده، الشيخ اسماعيل، فوجّه إليهم الدعوة لمضافته، فأجابه الطيّار “بعد ما تجهز قهوتي نلبّي دعوة شيخكم”.
فهم الرجال أن في الأمر استجارة وتدبيراً يريده الوافدون، لكن كلام المستجير كان ينطوي على قدر كبير من التدلّل الذي يتنافى مع طبيعة وضعه كطالب حماية، ولم يشأ رسل الشيخ تكدير المستجير، فعادوا إلى شيخهم، وأبلغوه بالذي جرى، فأرسل مجموعة من أقربائه للتيقّن مما يحدث، وليؤكّدوا على دعوته إليهم للقدوم إلى ضيافته، لكنه قام بنشر رجاله بأسلحتهم في مواقع متفرّقة على تخوم القرية وعلى أسطح المنازل، وأمرهم بالإكثار من المتاريس الفارغة على تلك السطوح ليوحوا بالكثرة أمام الوافدين، ولبعث الهيبة في النفوس، ورتّب مجموعة من الفرسان المسلّحين بالبنادق والسيوف والرماح على مدخل القريّا من جهة دخول الوفد إليها.
عندما وصل مبعوثو اسماعيل إلى وفد ولد علي، وكان المشهد على حاله الأولى من التوتر والانفعال، أكدوا للطيّار دعوة شيخهم لاستضافته، فقال لهم الرجل الذي لم يزل يضرب بمهباجه في النجر:” لو كان الشيخ الأطرش موجوداً كان جانا بذاته وسايل عن دخيله”، رجع الرجال إلى حيث أتَوْا، وأخبروا شيخهم بما قاله الرجل، فقال:” لا حول لا قوّة إلاّ بالله، وبه المستعان”، ثم انطلق وخلفه كوكبة من فرسان القريّا نحو خيمة الدخيل، وهناك كان حشد القادمين على حاله من الهيجان العاطفي من بكاء الصغار شوقاً لأمهاتهم، وحنين النوق وصهيل الأفراس وثغاء الأغنام طلباً لصغارها.
شعر الشيخ اسماعيل بجدّية الموقف، وأحس بأن واجبه الأخلاقي يدعوه لوضع حدٍّ لما يجري، دخل خيمة المستجيرين، وحيّاهم بتحية الإسلام فنهض الشيخ الطيار بوثاقه ورد بالسلام، وقال للشيخ الأطرش:” فكّ لي حبل المذيع يا شيخ أبو محمد، وابدأ بكاسر البيت”.
تقدّم الشيخ اسماعيل من كاسر البيت وفك الحبل، وتابع، ففك الحبل من عن يد الرجل وعنقه، وهنا علت زغاريد النساء وفي تلك اللحظات تقدّمت الخطيبة أم محمد وأمسكت بذيل عباءة الشيخ اسماعيل قائلة له:”عفّ عنّا يا شيخ أبو محمد، ترانا اليوم بحماك وجيرتك، وجيرة بني معروف، أنا الخطيبة أم محمد بن السّمير، وهذا الشيخ صالح الطيار، شيخنا وكبيرنا ومشيرنا”.
أجابها الشيخ اسماعيل:” أهلاً وسهلاً بكم جميعاً، وتفضلوا معنا إلى المضافة”.
هنا اجتمعت الأمهات بأطفالهن، والأمّات بصغارها، وفي حمأة هذا الخطاب كان قد وصل الشيخ أبو علي قسّام الحناوي وحوله مجموعة من فرسان السهوة، وشهد كلام الخطيبة ودعوة صهره الشيخ اسماعيل للوفد إلى ضيافته، ومن ثم انطلق الجميع إلى القريّا المتأهبة كما رتّبها رجلها الألمعي، بعد أن تركوا ما جلبوه من ماشية في عهدة رعاة منهم…
كان الشيخ اسماعيل قد أمر بنصب عدد من بيوت الشعر إلى الغرب من بركة القريا لاستقبال وفد المصالحة من ولد علي، فمضافة الشيخ لا تتسع لهذا الحشد من البشر الذي أعدّته الخطيبة.
لما وصل المدعوون توسطوا الساحة بين بيوت الشعر المنصوبة والعمد القديم. أمام أولى درجات المدرّج الروماني وقف الشيخ اسماعيل وإلى جانبه الشيخ الحناوي ومعهما أعيان القريّا، ولم تذكر الروايات أن الشيخ الحمداني الأكبر في السويداء كان حاضراً مما دلّ على تعمق الخصومة والمنافسة على الزعامة بين الرجلين القويين.

ابن-سمير-هاجم-القريا-غدراً-على-رأس-خمسمائة-فارس-وقتل-40-من-خيرة-أبنائها
ابن-سمير-هاجم-القريا-غدراً-على-رأس-خمسمائة-فارس-وقتل-40-من-خيرة-أبنائها

” تقدّم الشيخ إسماعيل الأطرش وفكّ الحبل من رقبة الشيخ الطيار وسط زغاريــــد النساء ثم دعا الجــميع إلى المضافة  “

والدة ابن سمير تعترف وتستجير
في مقابلهم وقف وفد “ كدّة وِلد علي،( الكدّة في لهجة البدو وجنوب سوريا تعني الوفد القادم بغرض ما)”، تقدّمت الخطيبة أم محمد خطوات باتجاه الشيخ اسماعيل ومن حوله، وخاطبته بصوت مرتفع أسمَعَ من المحفل، قالت:” يا شيخ أبو محمد، شينة وْلِدِي يتيمة بين العربان( تقصد أن ابنها محمد ارتكب فعلاً شائناً لا نظير له)، وحِنّا(أي نحن) اليوم سُقنا لك كَدّة يتيمة من نوعها، ولا صار مثلها لغيرك، ولا يستحقّها بين الناس إلاّ أنت، وها الحين صرنا بحماك وحمى بني معروف، جيناك بحالنا ومالنا وعيالنا، طامعين بعفوك وكرمك، واللي يَسَّر علينا طلب العفو منك نسيبك الشيخ الحناوي”.
كان الشيخ الأطرش لم يزل واقفاً مع من حوله يصغي لكلام السيدة، التي ما إن أنهت كلامها حتى أجابها:” نحمد الله يا الخطيبة، نحنا(نحن) جينا ها البلاد، وعمّرنا خرابها، وزرعنا أرضها، وحمينا حدودها، ونحنا بإذن الله ما نعتدي على أحد، والصلح سيّد الأحكام يا إخواننا”، ولوّح بيمناه وبكفّ مفتوح باتجاه الوفد من وِلد علي، وفي تلك اللحظة عَلَتْ زغاريد النساء، وانهالت الدعوات بطول العمر للشيخ اسماعيل وللشيخ الحناوي وتقدم المصوّت، وهو رجل بدوي من وفد الخطيبة يتبعه ثلاثة رجال من خلفه أحدهم يحمل رمحاً ثُبّتت تحت سنانه راية بيضاء كما يُثبّت العلم، وهي عبارة عن قطعة مستطيلة من قماش الشاش، بعرض متر وطول مناسب بحيث يتّسع للعديد من العقد على عدد الشهداء القتلى، وإذ يعقد وليُّ المقتول عقدة بيده، فإن هذا معناه في تقاليد العرب أن لا مطالبةة بعدها بثأر أو دِيَّة، لأن ذلك قد حسم أمره مع المصالحة وما سبقها من تسويات، ولا تراجع بعد ذلك. ونادى المصوّت بأعلى صوته:” أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، من عفا وأصلح فأجره على الله. اشهدوا يا أهل الحميّة، ضيوف ومحلّية، الراية البيضا المبنية للشيخ اسماعيل الأطرش وأهل القريا بيّض الله وجههم، وللشيخ أبوعلي قسام الحناوي وسيط الخير” وبعد عبارات من الثناء والإطراء على موقف الشيخ اسماعيل وأهل الشهداء من أهالي القريا وعلى موقف وسيط الخير الشيخ الحناوي، تقدم حامل الراية من الشيخ الأطرش الذي عقد الراية عن دم أخويه طرودي ومنصور وأبناء عمومته وأقاربه وكافة شهداء ذلك اليوم، إذ كان أعيان القريا قد فوّضوه بعقدها نيابة عن سائر أولياء دم الشهداء الضحايا في يوم “ذبحة القريّا”، فكانت عقدة واحدة عن دماء الاثنين والسبعين شهيداً، ثم أوعز لحامل الراية أن يناولها للشيخ الحناوي ليعقدها باعتباره كفيل المصالحة. وبعد أن عقد الشيخ الحناوي الراية أمر حاملها أن يذهب بها إلى الخطيبة والشيخ صالح الطيار باعتبارهما الممثلين الرئيسيين لقبيلة “ولد علي” وأولياء دم قتلاهم.
بعد هذا الصلح المشهود، وقد كانت الخطيبة أم محمد قد أمرت بإعداد وليمة عظيمة لأهل القريّا وللمدعوين من بني معروف من أنصار الشيخ الأطرش، ولمن هم في وفدها، قُدّم الطعام الذي شارك الجميع من الجانبين في تناوله كأسرة واحدة، وعلى أثر ذلك اليوم الذي ظل حديث الحضر والبوادي لسنين مديدة، ولم يزل ذكره إلى يومنا هذا، عادت الخطيبة ومن رافقها تحمل راية بالمصالحة عن دماء اثنين وسبعين شهيداً من بني معروف، وبذلك اليوم أصبحت الطريق مفتوحة أمام قبيلة ولد علي لدخول مراعي الجبل وما حوله على أن يكون ذلك الأمر بعد أخذ الإذن المسبق من الشيخ الأطرش، وهو الإذن الذي لم يعد عليه اعتراض، وقد استمر مفعول تلك المصالحة لفترة غير قصيرة بعد ذلك اليوم التاريخي.

قصة من جبل العرب

قصة بطولة من جبل العرب

نايـف العاقـل
ومعركـة مرصـد جبـل الشيـخ

اعتبرها المحللون أجرأ عملية عسكرية وأهم هزيمة للدولة العبرية في حرب تشرين

الخبراء الروس ساعدوا في تدريب كتيبة النخبة ودخلوا إلى المرصد لوضع اليد على تجهيزاته السرية

نايف العاقل: استذكرت في لحظات الهجوم بطولات أجدادنا في موقعة الكفر ضد الفرنسيين

على الرغم من أن إسرائيل تمكّنت في حرب تشرين 1973 من استيعاب صدمة الهجوم العربي المباغت، بل وتحسين مواقعها السابقة، فإن الحرب العربية نفسها مثلت جهداً هائلاً وأظهرت قدرة العرب على تطبيق استراتيجيات وتكتيكات بارعة في الهجوم. ومن بين الإنجازات الكبرى التي دخلت العلم العسكري اجتياح الجيش المصري لخط بارليف على الضفة المحتلة من قناة السويس والذي كان يعتبر سداً لا يمكن قهره أو اجتيازه من أي جيش بسبب الحاجز المائي المتمثل بقناة السويس نفسها والتحصينات الرملية والدفاعات الضخمة التي كانت تحميه.
على الجبهة السورية كان تحرير القوات السورية الخاصة وقوات المظليين من الفرقة 82 لمرصد جبل الشيخ أيضاً من أبرز منجزات تلك الحرب لأنها أسقطت موقعاً في غاية التحصين تدعمه خطوط خلفية إسرائيلية والقوة الهائلة للجيش الإسرائيلي، ولهذا السبب شكّل سقوط موقع جبل الشيخ صدمة كبيرة لإسرائيل وكان من بين الأحداث التي كتب فيها خبراء عسكريون إسرائيليون ودوليون تحليلاً لما اعتبر يومها تقصيراً وهزيمة مذلة.

الأهمية الاستراتيجية للمرصد
أحد أهم أسباب الصدمة الإسرائيلية لم تكن فقط السرعة التي تمت بها عملية السيطرة على قمة الجبل المحصنة بل الأهمية الاستراتيجية للموقع الذي يقع على إحدى القمم الاستراتيجية المشرفة على فلسطين المحتلّة والأردن وجنوب سوريا حتى بادية الشام، وقد استخدم المرصد من قبل إسرائيل بعد حرب 1967 كرادار رئيسي بسبب موقعه الاستراتيجي واستخدمت في المرصد أحدث التجهيزات الإلكترونية وتقنيات كانت تعتبر يومها أسراراً عسكرية بالغة الحساسية. وقد بنت إسرائيل طريقاً ضيقاً وحيداً إلى المرصد كما بنت مصعداً للتزلج يربط المرصد بموقع عسكري أكبر في سفح الجبل.
كان مجمع الرادار والمراقبة يعتبر حيوياً لإسرائيل لأنه يعمل كمحطة إنذار مبكر وكقاعدة لجمع معلومات فورية ويستخدم في عمليات التشويش الإلكتروني على اتصالات الجيش السوري كما أنه يستخدم كموقع لتوجيه المدفعية في عمليات قصف الهضبة السورية التي تمتد تحته إلى مسافات بعيدة وذلك دون حاجة لاستخدام الطائرات،. كما كان الجبل موقعاً مثالياً للقيام بعمليات التفاف على أي هجمات محتملة فضلاً عن أنه قاعدة حماية لأهم موارد إسرائيل المائية في بحيرة طبريا.
وكان المرصد يتألف من ثلاث طبقات: طبقتان فوق الأرض تحتويان على نقاط المراقبة والدفاع والتجهيزات الإلكترونية الحساسة وطبقة سفلى (تحت الأرض) تستخدم كمركز للقيادة وكمستودعات للذخائر ومؤن الغذاء والمياه، وكانت الأقبية تتصل بأنفاق سرّية بعضها مموه ويقود إلى خارج المجمع والبعض الآخر متصل تحت الأرض بمواقع الحراس ونقاط وأبراج المراقبة في المبنى.
لهذه الأسباب، وبسبب التحصينات الضخمة فإن المرصد كان عصياً على أي هجوم من الجو أو هجوم مدفعي وكان أي هجوم أرضي يسعى لاقتحامه بأسلوب الكوماندوس مغامرة شديدة الخطورة ومكلفة للغاية بسبب طوق الحماية وحقول الألغام والعوائق التي كانت تجعل من المستحيل احتلال المبنى العسكري الضخم إلا بإجتياز الساحة الأمامية المكشوفة واقتحامه عبر مداخله. رغم ذلك، فإن صعوبة المهمة أدت إلى تركيز القوات السورية والخبراء الروس الذين كانوا يعملون معها على تكوين قوة نخبة شديدة البأس وتدريبها تدريباً عالياً واتباع تكتيكات جديدة في شنّ الهجوم المنسق المروحي والأرضي، إضافة إلى عملية تمويه الهجوم حتى اللحظة الأخيرة نظراً إلى أن الإسرائيليين كانوا يشرفون من المرصد على السفوح التي تجمعت فيها قوة الهجوم وكان في إمكانهم أن يتابعوا ويقيّموا ما يحصل على الجانب السوري.
لكن على الرغم من حجم قوة الكوماندوس السورية التي نفذت الهجوم ومشاركة ضباطها وافرادها في الاقتحام فإن الملازم نايف العاقل تميّز في ذلك الهجوم بسلوك بطولي وبدرجة عالية من المبادرة والشجاعة ودقة الهجوم مع مجموعته على مداخل المرصد بما اعتبر بعد ذلك عاملاً أساسياً في نجاح المرحلة الأكثر دقة وخطورة من الهجوم وهي الاقتحام الأرضي للمرصد وتدمير الدفاعات وأعشاش الرشاشات التي كانت ترمي المهاجمين بكثافة وتمكّنت لبعض الوقت من وقف الهجوم. وقد اعترفت الدولة السورية يومها بهذا الدور عبر منح الملازم العاقل وسام بطل الجمهورية وترقيته إلى نقيب، وكان العاقل الضابط الوحيد من المشاركين في الهجوم الذي حاز على ذلك التكريم، علماً أن بطل اقتحام مرصد جبل الشيخ عاد وأنجز خدمات عسكرية مرموقة في صفوف القوات السورية حتى تقاعده كعميد وهو يقيم حالياً في قريته في أم الرمان.
ما هي قصة اقتحام مرصد جبل الشيخ واحتلاله من قبل القوات السورية الخاصّة والفرقة 82 في حرب تشرين؟ وما هو الدور الذي لعبه الملازم (يومها) في القوات الخاصة نايف العاقل في عملية الاقتحام ثم صدّ الهجمات المضادة الإسرائيلية وكيف عاش تلك التجربة المثيرة مع رفاقه من أبطال الهجوم؟

مع-الملازم-عزت-المشكاوي-أمام-المرصد-المحرر
مع-الملازم-عزت-المشكاوي-أمام-المرصد-المحرر

” إلتفت الملازم نايف العاقل إلى النقيب الخير قائلاً: «إمّا أن نموت أو نهجم» ورفع ذراعه إلى الجنــود المتحصـنين وأعطــــى الأمر بالهجــــوم  “

تحضير طويل للعملية
يذكر العميد نايف العاقل (المولود عام 1949) أنه وفي نهاية دراسته في الكلية الحربية جرت عملية تقييم لطلاب الضباط في الكلية وتمّ اختيار حوالي 100 طالب ضابط من بينهم نايف العاقل ليكونوا نواة لقوة نخبة يناط بها تنفيذ مهمات خاصة وصعبة في الحرب، وقد أخضع العاقل ورفاقه لتدريبات شاقة تناولت القفز بالمظلات والقتال الجبلي والليلي ثم نقلت الكتيبة إلى منطقة جبلية في شمال سوريا وأخضع العناصر هناك إلى تدريبات بالذخيرة الحيّة- لعدة شهور اشتملت على عمليات إقتحام أهداف جبليّة محصّنة، وكانت طبيعة التدريبات القاسية وإشراف الخبراء العسكريين الروس ودرجة القسوة وتركيز التدريبات على محاكاة هجوم شامل على مواقع محصنة وجبلية تشي بأن المجموعة يتم إعدادها لتنفيذ مهمة كوماندوس تحتاج إلى مستوى عال من التأهيل والشجاعة والمهارة العسكرية، لكن السرية التي أحيطت بها المهمة وكذلك قرار حرب أكتوبر أبقيا الغموض محيطاً بالهدف إلى أن أزفت ساعة الصفر أو ما قبلها بقليل.
تمويه الهجوم
وقد جاءت اللحظة المنتظرة عندما تمّ نقل مجموعة «المغاوير» العالية التدريب إلى القمة المقابلة للمرصد المحتل في أعالي جبل الشيخ –حرمون، بذلك أصبحت المجموعة أقرب ما يكون إلى العدو وعلى بعد نحو ستة كيلومترات من المرصد المحتل.وقد تمكّنت القوات المهاجمة من التمركّز واستكمال استعداداتها دون أحداث استنفار بين صفوف الإسرائيليين الذين كانوا يراقبون تلك التحركات لكنهم فشلوا في النظر إليها كمقدمة لعمل عسكري جريء وحاسم.
أيقن نايف العاقل أنه وفرقة النخبة التي كان ضابطاً فيها لا بدّ مقبلون بعد قليل على حدث كبير، وهو يذكر انه ذهب قبل أيام من الحرب برفقة جابر ديب، وهو ملازم صديق له، من محافظة طرطوس، إلى دمشق يخالجهما شعور أنهما قد لا يعودان إليها وقد حرص الرجلان على أخذ بعض الصور للذكرى، علّ من يبقى على قيد الحياة يذكر الآخر. كانت هذه هي الحالة المعنوية لدى المغاوير السوريين قبل ايام قليلة من بدء الهجوم الصاعق على الموقع الاستراتيجي الإسرائيلي.

ساعة الصفر
في مساء 5 تشرين الأول (أكتوبر) 1973 تلقت المجموعة أمر المهمة الموكولة إليها وهي اقتحام المرصد الإسرائيلي والقمم المرتفعة وأبلغ الجنود المترقبون بأن الحرب ستبدأ فعلاً في اليوم التالي (وكان يوم سبت كما أنه كان يصادف عيد الغفران اليهودي) لكن دون تحديد ساعة الصفر. كان أمر القتال مختصراً بالنسبة لمهمة غير عاديّة بنظر أولئك المقاتلين الشبّان، لكن الخطة بسيطة ومستوحاة من تكتيكات الحرب الفييتنامية التي تقضي عند الهجوم على أهداف شديدة التحصين بتمهيد مدفعي كثيف يتبعه تركيز مواقع حماية يتم إنزالها بالمروحيات لقطع طرق إمداد العدو ثم دفع موجات اقتحام متتالية من المقاتلين الشديدي البأس، بحيث إذا فشلت المجموعة المهاجمة أو أبيدت يتم زجّ مجموعة أُخرى، إلى أن يتم تحقيق الهدف. ويتميز ذلك التاكتيك بأنه يعتمد على المباغتة والسرعة والروح القتالية العالية وفعالية المهاجمين وليس على القوة التدميرية لأن الموقع كان شديد التحصين وقد جرى تنبيه المجموعة الى أنه توجد في المرصد الهدف أجهزة ومعدّات للعدو على غاية كبيرة من الأهمية، يجب الحفاظ عليها وعدم تدميرها.
طبقاً لأمر القتال انتقلت الكتيبة من خراج بلدة عرنة إلى موقع المرصد السوري الصديق وعلى مسافة نحو ثلاثة كيلو مترات من المرصد المحتل وكان المطلوب أن يتم الأمر قبل فجر اليوم التالي الذي كان قد حدّد للمعركة.

الوسام
الوسام

مسار القتال
بدأت معركة تحرير مرصد جبل الشيخ بقصف جوي مركّز للمرصد المعادي، وتلا ذلك رمي كثيف من قبل المدفعية على الموقع ذاته. وتحت ستار القصف العنيف قامت ثلاث مروحيات بالهبوط غرب المرصد من جهة العدو وأنزلت مجموعة مقاتلين بقيادة الملازم أول أحمد جوجو كانت مهمتها إطباق الحصار على القوات المعادية في المرصد وتأمين الحماية لقوة الاقتحام. وكان من المقرّر أن تقوم مروحية أُخرى بإنزال عناصر دعم على المرصد ذاته، غير أنّ هذا لم يتم بسبب النيران السورية الكثيفة على الموقع في نطاق التمهيد المدفعي.
كانت المجموعات المكلّفة بالاقتحام قد تقدّمت باتجاه الهدف تحت غطاء القصف الجوّي ونيران التمهيد المدفعي، إلا أن نقص الاوكسيجين على ارتفاع أكثر من 2600 م فوق سطح البحر مثّل صعوبة أساسية لأن الهجوم كان راجلاً ولأن المقاتلين كانوا يحملون عتاداً وكان عليهم التقدم والتحرك بسرعة، كذلك كانت التّحصينات الكثيفة التي شيّدها العدو حول المرصد والألغام المزروعة في محيطه بالإضافة إلى الأسلاك الشائكة تجعل من المستحيل دخول ذلك الموقع إلاّ عن طريق المدخل الرّئيسي المكشوف والمحمي جيداً من قبل العدو.
استغرق وصول المقاتلين إلى أمام ساحة المرصد بقيادة النقيب محمد الخيّر نحو ثلاث ساعات، ورغم التمهيد المدفعي المساند فقد كان الإسرائيليون قد أدركوا أنهم يتعرضون لهجوم مباشر فألقوا بكل قوتهم النارية في محاولة وقف الهجوم فسقط عدد من المهاجمين وأصيب آخرون، وكانت لحظات حرجة إذ أدركت القوة المهاجمة أن العدو متحصن بقوة وأنهم يمتلكون قوة نار كبيرة، وبات الأمر المهم هو اتخاذ قرار حاسم يساعد في حسم المعركة بسرعة لأن استمرار المناوشات سجالاً أي دون اختراق سريع سيسمح للإسرائيليين باستقدام تعزيزات تمكّنهم من إحباط الهجوم وربما تطويق القوات المهاجمة وتصفيتها أو أسرها.
التفت الملازم نايف العاقل إلى النقيب محمد قائلاً: «إمّا أن نموت أو نهجم» ورفع ذراعه إلى الجنود المتحصنين آمراً بالاقتحام، واندفع تحت رشق الرصاص المعادي عبر المدخل نحو ساحة المرصد باتّجاه المبنى والدشم المحصّنة التي تصبّ نيرانها على المقتحمين صائحاً : « الله أكبر، الحياة وقفة شرف! الشهادة أو النصر»، واندفع المقاتلون خلفه، نحو مئة وخمسين مقاتلاً اندفعوا بسرعة كبيرة يقتحمون بنيرانهم وأجسادهم الدشم المعادية التي تصليهم بنيرانها. وقد فوجئ الإسرائيليون بسرعة الاقتحام وبكثافة القصف المدفعي فتركوا نقاط المراقبة وهبطوا عبر الممرّات السريّة إلى الطابق السفلي تحت الأرض من مبنى المرصد، واحدة فقط من تلك الدشم بقيت صامدة، أوقعت في المقتحمين عدداً من الشهداء والجرحى، تناول نايف قاذف الآر بي جي من المقاتل شحاذه القاسم وسدّد على نافذتها التي تطلق النار ورماها فدمّرها تماماً، وبدا بعد قليل أن مقاومة المدافعين تراجعت رغم استمرار إطلاق النيران فركض الملازم نايف بإتجاه السارية التي يرفرف فوقها العلم الإسرائيلي، تسلّقها، قطع علم العدو بحربته وتناول العلم العربي السوري ورفعه مكانه، وانتقل المهاجمون فوراً إلى استكمال عملية الاقتحام وتطهير الموقع وكانت تلك عمليّة بطوليّة أُنجزت في وقت قصير وكانت من أشهر العمليات العسكرية التي حصلت في إطار حرب تشرين 1973. وما زال نايف العاقل يذكر كيف كان يسترجع في تلك اللحظات التاريخية بطولة الاجداد في معركة الكفر والمزرعة والبطولات الأسطورية التي سجلت فيها.
كان المقتحمون قد أسكتوا النار المعادية في المرصد، هذا من حيث ظاهر الأمر، لكنّ جنود العدو الذين لم يقتلوا في المجابهة اختبأوا خلف الأبواب الفولاذية من المبنى العميق وتوزّعوا في مجموعتين على عدد من الأنفاق والغرف السفلية المتصلة بالأنفاق، وأجرى الإسرائيليون في اليومين التاليين محاولات عدة للفرار نحو المواقع الإسرائيلية في أسفل التلة عبر مخارج سرية للأنفاق، لكن تلك المحاولات أفشلت عندما اكتشفت قوات الحماية السورية التي كانت قد أنزلت بواسطة المروحيات السورية في التلال المطلة على المرصد وقد قتل عدد من الجنود الفارين وجرح بعضهم كما تمّ أسر البعض الآخر. في صباح اليوم الثاني حاول العدو في الساعات المبكرة ارسال قوة من لواء جولاني المشهور بهدف استرجاع المرصد لكن يقظة المجموعة المتمركزة غرب المرصد بقيادة الملازم أول احمد الجوجو ساعدت في إفشال العملية والقضاء على المهاجمين بالكامل.

مع-سلطان-باشا-الأطرش-الذي-هنأه-ورفاقه-على-إنجاز-جبل-الشيخ
مع-سلطان-باشا-الأطرش-الذي-هنأه-ورفاقه-على-إنجاز-جبل-الشيخ

وتمكّنت القوات المهاجمة في ما بعد وبالصدفة من اكتشاف عدد آخر من الجنود الإسرائيليين المختبئين في أقبية المرصد وتمّ أسرهم، كما تمّ أسر عدد آخر عندما خرجوا من مخابئهم الحصينة بسبب اعتقادهم خطأ أن قوات لواء جولاني قد وصلت إلى المكان لإنقاذهم ليفاجأوا بأن القوات المتمركزة حول المرصد وفي الجبل عموماً كانت سورية بالكامل. وتمت ملاحقة الجنود الهاربين في السراديب واستخدمت مكبرات الصوت لتوجيه نداءات تدعو الإسرائيليين إلى الإستسلام، وتمّ تفجير الأبواب الفولاذية كما استخدم الجيش السوري قنابل دخانية تسربت بكثافة إلى داخل السراديب في الطابقين السفليين للمرصد وقد ذعر الإسرائيليون بسبب الدخان الخانق وظنوا أن السوريين يستخدمون غازات سامة، فخرج البعض مضطرين وسلموا أنفسهم للقوات المهاجمة.
وبمجرد السيطرة على المرصد حضر ضباط وفنيون من الخبراء الروس واطلعوا على التجهيزات المتقدمة للموقع وبدأوا على وجه السرعة بتفكيكها ونقلها إلى الخارج وكانت المعدات الإسرائيلية غنيمة مهمة وضع الروس يدهم عليها واستفادوا منها كثيراً في معرفة تقنيات الرصد والإتصال والبنية العملياتية للجيش الإسرائيلي.

” عمليات تطهير ومطاردة للإسرائيليين في أقبية المرصد وممراته الســـــرية”

عدد-من-جنود-العدو-الذين-تم-أسرهم-خلال-العملية
عدد-من-جنود-العدو-الذين-تم-أسرهم-خلال-العملية

هجوم إسرائيلي مضاد
كان لسقوط موقع جبل الشيخ في يد القوات السورية وقع أليم جداً على القيادة الإسرائيلية لأنه افقدها ما كان القادة العسكريون يعتبرونه «عين إسرائيل» وهذا بسبب أهمية الموقع في المتابعة اليومية والاستخبارية لتحركات القوات السورية من الجولان وحتى ما بعد دمشق. وكتب المحلل الإسرائيلي أبراهام رابينوفينتش في كتاب أصدره عام 2005 عن حرب «يوم كيبور» أن خسارة إسرائيل لموقع جبل الشيخ كانت أكبر هزيمة عسكرية مذلّة تعرضت لها في حرب يوم الغفران، أو حرب اكتوبر كما يسميها العرب. وكتب والتر بوين قبل ذلك مستنكراً درجة الإهمال والضعف التي أظهرها الإسرائيليون في مواجهة الهجوم السوري المنسق وأشار بوين بصورة خاصة إلى أنها كانت المرة الأولى التي يفر فيها قائد وحدة مدافعة إسرائيلية من الجبهة بينما كانت قواته تخوض مواجهة يائسة للدفاع عن الموقع في وجه الهجوم السوري المباغت.
لهذه الأسباب، تحول استرداد موقع جبل الشيخ إلى مسألة حيوية وذات أولوية قصوى للإسرائيليين، وقد ساعدت انتكاسة الهجمة المصرية في قناة السويس وبدء مفاوضات الخيمة 101 للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار والتي نسقها اليهودي الأميركي هنري كيسنغر على توفير معظم القوة العسكرية الإسرائيلية التي كانت تقاتل على الجبهة المصرية وبالتالي تحويل طاقة نيرانها بالكامل إلى الجبهة السورية. لكن على الرغم تركيز القوة الإسرائيلية كل جهودها على جبهة جبل الشيخ فإن محاولاتها الأولى ما بين يومي 8 أكتوبر و20 منه باءت جميعها بالفشل، وتمكنت القوات السورية التي كان قد جرى تعزيزها بقوات جديدة وبقوات حليفة عراقية ومغربية بصورة خاصة من صدّ الهجمات المتكررة التي شنها جيش الدفاع الإسرائيلي لاسترجاع الموقع، واعترفت إسرائيل لاحقاً بأنها خسرت في محاولات الهجوم المضاد الأولى مئات القتلى والجرحى بسبب الكمائن السورية والعربية واستماتة القوات المدافعة في صدّ الهجمات.
إلا أن إسرائيل التي كانت تتمتع بتفوق جوي تام جرّاء التقنيات الأميركية التي تمّ تزويدها بها أعادت الكرّة يومي 21 و22 أكتوبر من العام 1973 ودفعت بقوات ضخمة من المشاة وقوات المظليين والمدرعات المدعومة بغطاء جوي كثيف لإنجاز المهمة خصوصاً بعد أن أبلغ كيسنغر تل أبيب بأن قراراً بوقف إطلاق النار بات وشيكاً، وهو ما جعل الإسرائيليين يلقون بكل قواهم في محاولة إحداث تغيير على الأرض قبل التوصّل إلى القرار المذكور.

حرب-6-أكتوبر-1973-على-جبل-الشيخ
حرب-6-أكتوبر-1973-على-جبل-الشيخ

 

 

أصابة الملازم العاقل
كانت القوة المدافعة بقيادة الملازم أول أحمد رفاعي الجوجو تتصدى للهجوم، لكنّ الوضع القتالي كان غير متكافئ إذ كانت القوات المدافعة وكذلك القوات القادمة للمساندة مكشوفة لضربات الطيران، وكان مقاتلو الوحدات الخاصة المشاة ورغم مستوى تدريبهم العالي يقاتلون بالأسلحة الفرديّة والأسلحة المحمولة المضادة للدروع والهاونات.
طلب الملازم نايف العاقل من قائد الكتيبة الإذن بأخذ مجموعة من المقاتلين لدعم مجموعة الملازم أول الجوجو التي تواجه الهجوم المعادي. وكانت المجموعتان أصبحتا القوة السورية الرئيسية في مواجهة العدو التي بدأت تتخذ طابع حرب شرسة من مسافات قريبة لا تزيد على عشرات الأمتار. وقد فعلت الآر بي جي فعلها في الدروع المعادية، وكان المقاتل سعيد بدّور يحمي ظهر الملازم نايف وهو يتصدّى مع رفاقه للدبابات المهاجمة، ويذكر الأخير أنه فوجئ بقائد فصيلة إسرائيلية يندفع أمام جنوده في هجوم على القوات المدافعة عن المرصد وقد قذفه نايف بقنبلة يدوية فقتله.

المنطقة-المنزوعة-السلاح-بين-سوريا-والجولان-المحتل
المنطقة-المنزوعة-السلاح-بين-سوريا-والجولان-المحتل

البطل ينزف واقفاً
حصلت تلك المعركة الكبيرة في اليوم الثالث عندما دفع العدو بقوات كبيرة من لواء جولاني في محاولة لاسترجاع المرصد وقد تمّ إفشال الهجوم إلا أن رصاصة أصابت بندقية الملازم نايف العاقل فعطلتها كما أصابت رصاصة يده فحطمت أصابعه واستقرت رصاصة أخرى في خاصرته، لكن رغم إصابته البليغة طلب العاقل من قائد الكتيبة (اللواء المتقاعد حالياً) سليمان الحسن على اللاسلكي أن يرسل له بندقية عوضاً عن تلك التي تعطلت، لكن الضباط الذين كانوا يشرفون على معارك صد الهجوم وجدوا أن حال الملازم العاقل لم تكن تسمح بمواصلة القتال، فتقرر العمل على نقله إلى أقرب مستشفى ميداني. وبالفعل تولى عنصران من رفاقه إخلاءه باتجاه قرية مزرعة بيت جن ثم إلى مستشفى بلدة حرستا التي تقع شرق دمشق على مسافة بضعة كيلومترات وكان قد أصيب في التاسعة صباحاً على سفح المرصد، وبلغ المشفى المذكور في التاسعة مساءً، أي أنه سار على نزفه نحو 12 ساعة. لذلك، وعندما خرج من المصعد في الطابق الثالث من المستشفى فَقَد وَعيَه إذ كان الإجهاد والنزف قد أنهكا جسده، ولم يستعد وعيه إلّا في اليوم الثالث، وقد عولج في غيبوبته.
بعد عدّة أيام من المعالجة في مستشفى حرستا نُقل الملازم نايف إلى إحدى المدارس التي أُعدّت كمستشفى إضافي، وذلك بسبب تزايد أعداد المصابين في صفوف الجيش السوري، وقد تمّ تجبير كسور يده وأُعطيَ إجازة استراحة في انتظار العودة إلى القتال. وزار العاقل قريته أم الرمّان وسط حفاوة كبيرة من الأهل والأصدقاء في قريته وفي قرى محافظة السويداء، الذين شعروا بالإعتزاز لما حققه في ميدان الشرف وكانت قصة احتلال المرصد قد ذاعت كما ذاع خبر نايف العاقل وإنزال العلم الإسرائيلي عن سارية المرصد ثم قتاله الباسل مع رفاقه لصدّ الهجمات الكبيرة لجيش العدوّ، وقد كافأته القيادة العامة للجيش والقوّات المسلّحة بترفيعه من رتبة ملازم إلى رتبة نقيب، وبمنحه وسام بطل الجمهوريّة العربيّة السوريّة.
يقول نايف: «عندما زارني اللواء علي حيدر وكانت جراحي لم تلتئم بعد، والرصاصة التي اخترقت جسمي تحت العمود الفقري لم تضرًّ بي بحمد الله، قال لي: « الحمد لله على سلامتك، لكن كيف سلمت؟» قلت له: «إنّها إرادة الله، وحسن دعاء الوالدين».

محمد ابو هدير

رجل الأعمال محمد أبو هدير لـ “الضحى”

ماذا يفيدني مال البنك الذي لا يستقر على حال
زراعتي ومواشيّ وتجارتي هي المال الحقيقي

محمد أبو هدير رجل أعمال من “القريا” بدأ من الصفر وتمكّن بفضل حسّه الإقتصادي ومثابرته واستعداده للمخاطرة والعمل الشاق من بناء مؤسسة كبرى متعددة النشاطات تمتد من البناء والمقاولات إلى الاستثمار الزراعي وتربية المواشي بما في ذلك الجمال والأبقار والأغنام والطيور.
بدأ أبو هدير المولود عام 1946 حياته بعد حصوله على الشهادة الثانوية العامة بالعمل في التعليم مدة خمس سنوات، ولكنه ضاق ذرعاً بالروتين الوظيفي، فاتّجه إلى العمل في مجال البناء والمقاولات والتعهّدات والاستثمار الإنتاجي في الزراعة، وفي عام 1977 سافر للعمل في المملكة العربية السعودية وعمل فيها مدة ثلاث سنوات، ثم لم يلبث أن عاد منها ليتابع أعماله الحرّة…وذات سنة وفيرة المطر والغلال تجمعت لديه 208 أطنان من التبن لم يتيسر له بيعها، فكسدت، ولم يجد من يشتريها، فما كان منه إلاّ أن اشترى أبقاراً وعمل على تربيتها، ثم دخل مجال تربية الحيوان إلى جانب عمله في زراعة أرض تبلغ مساحتها نحو 1500 دونم، ثم دخل مجال التجارة فافتتح محالاًّ تجارية يعمل فيها أولاده الشبان بمعونة عمال مساعدين لهم، وفوق هذا حقق نجاحاً بتوجهه إلى الاستثمار الحر كمقاول في البناء بالإضافة إلى عمله في مجال الاستثمار في الزراعة وتربية الحيوان، والعمل التجاري.
بدأ أبو هدير اهتمامه بالزراعة بإنشائه مزرعة للأبقار المحسّنة من 20 رأساً، حقق فيها نجاحاً ملموساً ومن ثم اتجه إلى تربية الجمال، وأصبح مشغّلاً لـ30 شخصاً يعملون لديه في مصالحه التي يديرها. “الضحى” التقت السيد أبو هدير في حديث تناول تجربته والدروس المستقاة منها وهنا نص الحوار:

> “الضحى”: ما الذي حفزكم على تربية الجمال؟
تربية الجمل مجزية جداً لأن لحمه يباع بسعر مجز وكذلك جلده وحليبه دواء للمرض، كما أن أمراض الجمل أقل مما هي لدى الحيوانات الأخرى، أضف إلى ذلك أن الجمل أقل احتياجاً للأعلاف المصنعة والمستوردة، وطعامه متوفّر في بيئتنا الجبلية الوعرة وأهمها النباتات الشوكية المفضلة لديه ، وهكذا فإن تكلفة تربيته ومصاريف الإنفاق عليه قليلتان وأمراضه أقل، وحليبه دواء، ومئة دونم من المرعى الطبيعي تكفي لـ 50 جملاً إذا أخذنا بالاعتبار ما نقدمه له من علف تكميلي إذ لا يصحّ الاعتماد على المرعى الطبيعي وحده، ولدي حالياً قطيع من 50 جملاً وناقة.

> “الضحى”: هل أنتم من يقومون بالعمل على تربية جمالكم؟
أنا من يقوم بالإشراف على العمل، ويعمل لديّ في المزرعة ثلاثون شخصاً، والبدوي هو من يقوم برعي جمالي في براري “القريا”، فهو الأعرف بالرعي بحكم الخبرة الموروثة، ونحن في المزرعة نربي أيضاً البقر والحمام والبط والدجاج والحبش كما نربي أغناماً يبلغ عددها 300 رأس، وتتأرجح أعدادها أحياناً تبعاً لحركة البيع والتصريف.

> “الضحى”: من السهل تسويق إنتاج مزرعتكم من الأبقار والأغنام وسواها، ولكن كيف تسوّقون إنتاجكم من الجمال؟
يأتيني إلى القريا تجار الجمال من دمشق وجيرود وحمص ودرعا وتدمر وحتى من البوكمال، بل وأبعد من ذلك أيضاً، من محافظات سوريا الأخرى، وعلى الهاتف تتم المحادثات بهذا الأمر والتمهيد للصفقات، ويتراوح سعر الجمل الواحد ما بين 200,000 إلى 500,000 ( نصف مليون) ليرة سورية، وقد شاركت ببعض جمالي المختارة في ثلاثة سباقات للهجن في تدمر. لقد أحببت جمالي، فعندما أذهب إلى مرعاها وأشاهدها وأمشي وراءها أشفى إذا كنت مريضاً، ماذا يفيدني مال البنك الذي لا يستقرّ على حال، هذا هو المال الحقيقي!!.

> “الضحى”: كم يبلغ إنتاجكم من المحاصيل؟
عام 2013 بلغ إنتاجي من محاصيل الحبوب 80 طنّاً من الحمّص و150 طناً من القمح و50 طنّاً من الشعير ونحن نزرع ما مساحته 36 دونماً من العنب و20 دونماً من الزيتون و10 دونمات من اللوز والفستق الحلبي.

> كيف تتولون إدارة هذه الأعمال المتعددة؟
قمت بتوزيع مجالات العمل بين أولادي كل واحد منهم مسؤول عن جانب من عمل الشركة.

> “الضحى”: كيف ترون فرص التطور الزراعي في القريا؟
الزراعة مهنة شريفة وهي لا تخسّر من يقوم بها، وفي أسوأ المواسم لم تخسّرني بل هي تردّ تكاليفها وأكثر، وأنا أرى أن مستقبل المنطقة يستند إلى تطوير زراعة المحاصيل الحقلية وتحسين تربية المواشي لكن مع الأسف الجيل المتعلم في “القريا” بل في سائر محافظة السويداء أقل اهتماماً من جيل الآباء والأجداد بالزراعة وتربية الحيوان. أكثرهم مهتم بالوظيفة.

القريا

آثارها الغنية شاهد على تاريخ وحضارات متعاقبة
“القريّــا” بلـدة الثـورة وسلطان
هـــذه أعمالنـــا تـــــدلّ علينـــــا

«القريـّا» شهدت عصرها الذهبـي في الفتــرة الإسلامية
في عهد الحاكم الأيوبي عز الدين أيبك (1216 – 1247)

مناخها المعتدل أغرى البشر منذ القدم بالتوطن فيها
فقامت حضارات وازدهرت الزراعة وتربية المواشي

سلطان باشا الأطرش أعاد كتابة تاريخ الجبل
وجعل إسم “القريّا” رمزاً للجهاد ضد الفرنسيين

آل شقير أول النازحين إليها من أرصون اللبنانية
بسبب اعتداءات الشهابيين وأحلافهم والفرنسيين

شارع-في-البلدة-القديمة
شارع-في-البلدة-القديمة

تعتبر بلدة “القريّا” من البلدات الكبيرة في محافظة السويداء وتعدّ رابع مركز مديني بعد صلخد وشهبا والسويداء وهي تستند إلى تاريخ عريق يعود إلى العصور المغرقة في القدم، كما تشهد عليها الآثار التي تمّ الكشف عنها عبر السنين وتعود إلى مختلف الحضارات التي توالت على المنطقة، لكن رغم أهميتها التاريخية فإن “القريّا” اكتسبت شهرة واسعة بسبب كونها مسقط رأس قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش وأصبحت أهميتها اليوم أنها تضم صرح الثورة السورية الكبرى ومتحفها وضريح سلطان باشا كما تضم مضافته الشهيرة التي شهدت قسماً مهماً من الأحداث التاريخية التي مرّت بها سورية.
تقع مدينة “القريّا” جنوب مدينة السويداء مركز المحافظة على مسافة 18 كيلومتراً، وعلى ارتفاع 1050 متراً فوق سطح البحر، يحدّ أراضيها من الشرق الأراضي الزراعية التابعة لقريتي حبران والمنيذرة، ومن الغرب أراضي مدينة بصرى التابعة لمحافظة درعا، وأراضي قرية المجيمر التابعة لمحافظة السويداء، ومن الشمال أراضي قرية العفينة وحبران ومن الجنوب أراضي قريتي حوط وبكّا. مناخياً تقع “القريّا” ضمن المنطقة نصف الجافة نصف البحرية ذات المناخ المتوسطي المعتدل وذي الأربعة فصول.
يبلغ عدد سكان القريّا نحو 17 الف نسمة وهي تعدّ من البلدات الكبيرة في المحافظة ورابع مركز بعد السويداء وشهبا وصلخد، وتضم المدينة سوقاً تجارية كبيرة تمتد عبر شارع يصل طوله إلى ثلاثة كيلومترات وعدداً كبيراً من المحلات التجارية لمختلف التخصصات والمهن يزيد على 350 محلاً تجارياً، إضافة إلى توفر كافة الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية ومراكز حكومية.
لعبت بلدة “القريّا” (التي تعني في اللغة جمع أقرية وهو مسيل الماء من الربوة إلى الروضة) دوراً هاماً منذ عصور ما قبل التاريخ وعصور البرونز وحتى العصر العربي الإسلامي وكانت مرتبطة بمدينة بصرى عاصمة الولاية العربية منذ بدايات القرن الثاني الميلادي بدليل وجود الكنائس التي مازالت معالمها باقية حتى يومنا هذا، كما تبوأت مكانة هامة في العصر الإسلامي لقربها أيضاً من مدينتي بصرى و صلخد.

“القريّا” في التاريخ
تعدّ آثار بلدة “القريّا” شواهد تاريخية حية على تعاقب الحضارات في منطقة جنوب سورية بدءاً من العصر الحجري الأول وصولاً إلى الحضارات النبطية واليونانية والرومانية والبيزنطية والغسانية والأيوبية الإسلامية.
وقد سكنت هذه الحضارات “القريّا” منذ أقدم الأزمنة مثلها مثل باقي قرى وبلدات المحافظة، إلا أن الفترة البشرية الأهم كانت في الفترة النبطية الرومانية ومن ثم البيزنطية، فالفترة الأيوبية وذلك نظراً لطبيعة المنطقة السهلية المنبسطة وجوّها المعتدل ومناخها شبه الرطب الذي أغرى البشر منذ فجر التاريخ بالتوطن فيها حيث ازدهرت في “القريّا” منذ القدم الزراعة وتربية المواشي.
ويقول حسين زين الدين رئيس دائرة آثار السويداء إن أهم المعالم الأثرية في بلدة “القريّا” التي مازالت باقية حتى اليوم أجزاء من قناة مياه بطول 50 كلم تعود إلى الفترتين الرومانية والإسلامية كانت تنقل مياه الشرب من نبع تل قليب في جبل العرب والواقع إلى الشرق من بلدة الكفر وصولاً إلى مدينة بصرى الشام في درعا حيث تمت الإستفادة من مياه القناة في مكان يبعد 15 كيلومتراً عن بصرى وأنشئت هناك بركة ماء تعود إلى الفترة الأموية. ويشير زين الدين إلى أن جملة الآثار والكتابات والنقوش التي تمّ اكتشافها في “القريّا” تشير بوضوح إلى ترابط ازدهار منطقة جنوب سورية بالعرب والأنباط حيث كانت بصرى مركز الأنباط الرئيسي في سورية، مشيراً إلى أن بركة جميلة ومسورة كانت موجودة في البلدة وتعود فترة بنائها إلى عام 295 ميلادية إلا أنها تعرضت للردم وطمست معالمها.
ويضيف زين الدين القول إن “القريّا” عرفت الازدهار الأهم في الفترة الإسلامية في زمن حاكم صلخد الأيوبي عز الدين أيبك ما بين العامين 1216-1247 ميلادية وقد تم العثور على العديد من اللقى الهامة التي تضم نقوداً وسرجاً وصحوناً فخارية وعدداً من قطع الخرز والفخار والزجاج العائدة إلى تلك الفترة، لكن هذا التاريخ الغني إنقطع كما يبدو وانقع معه التوطن الحضري في البلدة التي أقفرت من العمران ولم يتم التوطن فيها مجدداً إلا في بدايات القرن التاسع عشر.
ويذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه” جبل العرب”، صفحات من تاريخ الموحّدين الدروز (1685ــ 1927) أن المستشرق السويسري جان لويس بيركهاردت، وكان مكلّفاً من قبل بريطانيا باستطلاع بلاد العرب قد زار “القريّا” عام 1810، ووجد فيها أربعة بيوت مسكونة فقط من أصل خمسمائة، كان هذا في عهد شبلي الحمدان شيخ قرية عرى الذكي الذي أُعجب بيركهاردت بمؤهّلاته الشخصية، لكن لم يكن للقريا دور مميّز في تاريخ بني معروف في جبل العرب قبل أن ينزل فيها اسماعيل الأطرش وعشيرته في الفترة الواقعة بين نهاية العشرينيات من القرن التاسع عشر ومطلع الثلاثينيات منه.
واستناداً إلى ما يرويه المعمرون ومنهم المرحوم الأستاذ عطالله الزاقوت وما ذكره الكاتب سعيد الصغير في كتابه “ بنو معروف في التاريخ”، أن اسماعيل الأطرش نزل “القريّا” مع عشيرته بعد الإتفاق مع وكيل الشيخ الحمداني خطار عسقول على استيطانها وشيخها ابن زين الدين (ولعلّ الأصح ابن زين العابدين، المنتمي لأسرة سنية من سهل حوران)، مقابل دفع مائة تيس ماعز إلى الشيخ الحمداني، شيخ مشايخ بني معروف في الجبل آنذاك.
وحسب رواية الأستاذ الزاقوت فإن الشيخ اسماعيل الأطرش وَفَدَ مع رجال من عشيرته إلى الشيخ واكد الحمدان، وكان لدى الشيخ واكد ريبة وتوجس من سعة طموحات اسماعيل الأطرش وتطلّعاته، ولكنه كان يحذر من مواجهته، ويودّ إبعاده إلى قرية بعيدة عن السويداء، بحيث يكون في مواجهة الغزوات البدوية التي لا تنفك تهدد الزراعة والعمران في جبل حوران وسهلها فيستريح من مضايقاته له.
قال اسماعيل للشيخ الحمداني: أريد قرية مناسبة لي ولجماعتي، وأنا شيخ أباً عن جد.
قال الحمداني:” روح وشيخ آخر ماعمّر الله”.
ـ أين؟
ـ “القريّا”.
قَبِلَ اسماعيل بـ”القريّا” المَخوفة التي كانت آنذاك آخر القرى التي يصل إليها عمران الجبل من جهة الجنوب، وتتهددها الغزوات البدوية بإستمرار. ويُروى أن اسماعيل الأطرش دفع مائة تيس من الماعز إلى الشيخ خطار عسقول الذي كان وكيلاً للحمدان على “القريّا”، وهو الذي سمح لإسماعيل الأطرش وعشيرته بالسكن في “القريّا” بتفويض من موكّله الحمداني مقابل ذلك.

” بيرق “القريّا” بقي في حوزة آل أبي هدير مدة خمس وثلاثين سنة وانتقل إلى

يد الشيخ صالح طربيه خال ذوقـــــان الأطرش قبل أن يســـــــتقر بيد آل شقيــــــر “

كنيسة-الروم-الكاثوليك-في-القريا
كنيسة-الروم-الكاثوليك-في-القريا

آل الأطرش وبداية التغيير في الجبل
كان اسماعيل الأطرش يتمتع بشخصية قوية، وهو الذي وصفه البريطاني بورتر عندما زار “القريّا” في أواسط القرن التاسع عشر بأنه أشجع رجل في شعب شجاع، وكان إسماعيل بدوره يستند إلى عشيرة قوية من أبناء العم والأقارب تلتف حوله وتثق بصواب رأيه وسلامة سياسته، وأصالة إنتمائه لقومه بني معروف، كان الرجل يعتبر نفسه شريكاً في همّ أي فرد منهم، إذ يهبّ لنجدته مع سائر بني عمه وأفراد عشيرته إذا أصيب بمكروه مهما كان بعيد الديار.
ويذكر الباحث جميل شقير أن ابراهيم شقير وأخاً له هما أول من سكن “القريّا” من بني معروف الموحّدين، وآل شقير قدموا أصلاً من جبل لبنان من أرصون نحو عام 1810، بسبب مضايقات واعتداءات من قبل الشهابيين وأحلافهم المدعومين في فرنسا. وهكذا ارتحل فريق من آل شقير إلى حاصبيا، وارتحل فريق آخر في ما بعد إلى جبل حوران وتفرقوا في “القريّا” وعدة قرى أُخرى من الجبل. وعندما نزلوا في “القريّا” لم يكن فيها من السكان حينها غير آل الراشد المسيحيين، (والمسيحيون من قدامى السكان الأصليين في سهل حوران قبل الفتح العربي الإسلامي)، وآل زين العابدين السنّة. ولعلّ قدوم آل شقير إلى “القريّا” كان بُعَيْدَ زيارة بيركهاردت إليها عام 1810، وفي آل شقير متديّنون لم تزل إمامة مجلس الموحّدين متوارثة فيهم منذ العام 1890، ومن أشهرهم الشيخ المرحوم أبو علي سلّوم شقير المتوفّى عام 1976م وهو الذي تسلّم إمامة مجلس الموحّدين مدة خمسين عاماً.

عمران-قديم-بالأحجار-البركانية-المميزة
عمران-قديم-بالأحجار-البركانية-المميزة
قنطرة-غسانية
قنطرة-غسانية

تنامي قوة آل الاطرش
تنامى عدد سكان “القريّا” منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، إذ استقدم إليها اسماعيل الأطرش كل من وجد فيه فروسية من بني معروف وكان ذلك ضد مصلحة شيخ مشايخ الجبل في السويداء آنذاك، واكد الحمدان الذي كانت زعامته تؤول إلى الشيخوخة والضعف. ومن “القريّا” أدار الشيخ اسماعيل الأطرش سياسة جمعت بين اللين والحنكة السياسية، والقوة العاقلة التي أدت في نهاية الأمر إلى إعلاء شأن الموحّدين الدروز في جبل حوران الذي شاعت تسميته في تلك الفترة من القرن التاسع عشر
بـ “ جبل الدروز”، ومن ثمّ تمكن اسماعيل من إسقاط مشيخة آل الحمدان وإحلال آل الأطرش الذين يعتبرون أنفسهم من أصول معنية محلّهم.
ومن أبرز الذين استقدمهم اسماعيل الأطرش إلى “القريّا” آل الحجلي الذين يرتبط بهم بعلاقة نسب ومصاهرة، وآل الحناوي الذين أصهر إليهم في ما بعد، وأحمد البربور الذي كان أحد أبرز فرسان الشيخ الحمداني، وآل أبو هدير الذين منحهم أرضاً يزرعونها حسب رواية مختار “القريّا” الحالي السيد رياض أبو هدير، الذي يقول بأن جدّه محفوظ أبو هدير حمل بيرق “القريّا” بعد موقعة محجّة على أطراف اللجاة في موقعة دامية ضد قبيلة “ولد علي” التي كانت تعتدي على الزراعة وتنهب المواشي في سهل حوران والجبل، وكانت تتأرجح بتحالفاتها ضد الموحّدين في جبل حوران من العثمانيين إلى بشير الشهابي في زمن الشيخ اسماعيل.
وقد ظل بيرق “القريّا” في حوزة آل أبي هدير مدة خمس وثلاثين سنة، وبعد أن استشهد اثنان من الأسرة وخُشي عليها من الإنقراض انتقل البيرق إلى يد الشيخ صالح طربيه، وهو خال ذوقان الأطرش والد سلطان، البيرق ذاته الذي كان الشيخ صالح من بين الذين رفعوه على سرايا دمشق في سماء ساحة المرجة عام 1918 يوم خرج العثمانيون من الشام، وفي ما بعد انتقل ذلك البيرق إلى آل شقير.

معروف-شقير-في-غابة-منحوتاته

تنوع سكاني وديني
تنامى عدد سكان “القريّا” من نحو 6,700 نسمة في عام 1981 إلى نحو 17,000 نسمة حسب دفتر النفوس تقريباً ويمثل الموحدون الدروز 75 % من الإجمالي في مقابل 20 % للمسيحيين الأورثوذكس والكاثوليك ونحو 5 % يمثلون السكان من البدو المستقرين الذين تركوا حياة الترحّل. وتبلغ نسبة النمو السكاني في “القريّا” نحو 3 بالألف وهذا الرقم يقارب رقم النمو السكاني في محافظة السويداء وهو مرتفع نسبياً.
وفي ما يلي تعداد لأسماء العائلات المعروفية من أهالي “القريّا”، ومن هذا العرض نلاحظ أن معظم هذه العائلات تتحدّر جذورها من العائلات المعروفية في لبنان وهم: آل شقير ومطر وشلهوب (وشلهوب أصلاً آل الأحمدية ) والزاقوت(أصلاً أبو الحسن) وقرموشة (أصلاً آل الداود) وغبرة والبصّار(أصلاً آل شمس) والبلعوس والدبس وصربوخ، وأبو طي والصفدي والحمّود وأبو زهرة وأبو صعب (أصلاً آل صعب) وآل عامر ومفرّج وأبوصلاح والصالح، والشمعة، والنمر ومنذر والجغامي (أصلاً آل منذر) وقطيش وطربيه والملحم وعريج والأباظة والمرعي وعز الدين والقجّي
ومجموعة آل الأطرش والمعاز والنجم وأبو دقّة (وهم أصلاً معنيون) وحرب ومليح وشمس والحجلي (أصلاً آل صعب) ونصر وعلم الدين ونحلة والخطيب والعوّام ومعالي وشرّوف والعبد الله والحمدان وحديفة وغيرهم…

المسيحيون في “القريّا”
ينقسم المسيحيون في “القريّا” إلى مذهبين هما: الأورثوذكس الشرقيون، والكاثوليك الغربيون، ومن العائلات الأورثوذكسية:
آل العوابدة والحانوت والجبرائيل والسمّور، واليوسف. أما المسيحيون الغربيون فهم آل الرمحين، وآل شحيّد. وآل شحيّد وهم فرع من آل السهوي الذين نسبوا إلى بلدة سهوة الخضر التي كانوا يقطنونها، وهي بلدة قديمة في أعالي الجبل ولكن ظروف انعدام الأمان وتسلّط البداوة على الحياة الزراعية هجّرهم إلى قرى بصير وتبنى على أطراف سهل حوران الشمالية الشرقية، ولكنهم مع قدوم الموحّدين من بني معروف إلى الجبل عادوا من جديد ليستقرّوا في “القريّا”.
ويقول الأب عبدالله الشحيِّد كاهن الكنيسة الكاثوليكية في “القريّا” وهو الكاهن السوري الوحيد الذي شارك في مؤتمرات الحركة الكهنوتية المريمية في العامين 2005 و2006 ، بأن الروم الملكيين الكاثوليك يبلغ تعدادهم في “القريّا” حسب السجلاّت نحو 2000 نسمة، ولكن المقيمين فعلاً لا يزيد عددهم على 300.
أما آل الرمحين وكنيتهم أصلاً آل الراشد وكانوا يسكنون مع آل الريشان والكيال وهريرة في قرية عيون شمال شرقي مدينة صلخد وللأسباب نفسها التي كانت وراء تهجير السهاونة من سهوة الخضر فقد هُجّرت تلك العائلات المسيحية من عيون، واستقر آل الراشد في “القريّا” في حماية شيخ السويداء الحمداني، ويعتبر المسيحيون في بلاد حوران وهي البلاد التي تمتد جغرافياً من غباغب جنوب دمشق وحتى معان في الأردن ــ لكن “سايكس بيكو“ شطراها مابين سوريا وشرق الأردن ــ من السكان الأصليين الذين يقطنون البلاد منذ ما قبل الفتح العربي الإسلامي، وهم ينتمون إلى العرب الغساسنة الذين ناصروا الفتح آنذاك وقالوا “نقاتل مع أبناء عمومتنا العرب، ولا نقاتل إلى جانب البيزنطيين”، ويقول سعيد الصغير في ص 402 من كتابه “بنو معروف في التاريخ”: “وكان سكان حوران من مسلمين ومسيحيين يستثمرون السفح الغربي للجبل حينما يأمنون غزو العربان الذين كانوا يقيضون فيه صيفاً بمواشيهم فيهدمون قراه ويتلفون أشجاره ومنهم قبائل عنزة في الجنوب وقبيلة الفواعرة في المقرن الغربي وقبيلة الحسن في المقرن الشمالي وقبيلة الجوابرة في اللجاة إلى أن بدأ الدروز بالإستيلاء على المساكن العامرة ( لكنها خالية من السكان)، وترميم القرى واستثمار الأراضي الزراعية والمراعي والأشجار”.
لكن المسيحيين لم يستطيعوا التوطن والاستقرار بشكل دائم في حواضر الجبل قبل قدوم بني معروف إليه، وذلك بسبب غزوات البدو على المناطق الحضرية، وغياب هيبة الدولة وعجزها عن تثبيت الأمن في المناطق البعيدة عن عاصمة الولاية، وقلة عددهم يضاف إلى ذلك ما أشار إليه الرحّالة الذين زاروا البلاد منذ سنوات الجفاف والجراد الذي كان يجتاح المنطقة بين فترة وأخرى…
إلى أن لحق بهما، منهماً، ثم اشتبك معهما وتمكّن من قتلهما، وكسب رمحيهما

ولكن اعتباراً من أواخر القرن السابع عشر (1685)، وأوائل القرن الثامن عشر، ومع تكاثر أعداد بني معروف الذين قدموا بأغلبيتهم إلى البلاد من لبنان في بادئ الأمر، وفي ما بعد من شمال فلسطين وديار حلب (جبل السمّاق)، أخذ المسيحيون يلتحقون بالقرى الجبلية التي يعيد الموحّدون إعمارها، وأصبح وضعهم في الجبل أكثر ثباتاً.

مختار-القريا-السيد-رياض-أبو-هدير
مختار-القريا-السيد-رياض-أبو-
الخوري-الأرثوذكسي-الأب-محمود-العوابدة--شاهد-على-معاناة-الآثار-الغسانية-في-القريا
الخوري-الأرثوذكسي-الأب-محمود-العوابدة–شاهد-على-معاناة-الآثار-الغسانية-في-القريا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأب-عبدالله-الشحيّد-الكاهن-في-الكنيسة-الكاثوليكية-في-القريا
الأب-عبدالله-الشحيّد-الكاهن-في-الكنيسة-الكاثوليكية-في-القريا

“ا لفارس المسيحي سلامة الراشد طارد خاطفي الفتاة الدرزية على فرسه فضرب على شعرها بسيفه وخلّصها وقتلهما وغنم رمحيهما فأصبح اسم عائلة الراشد عائلة “أبو رمحين””

كيف اكتسب آل الراشد كنية “أبو رمحين”؟
آل الراشد من عائلات “القريّا” القديمة التي كانت تعيش في ظل حماية مشيخة آل الحمدان التي كان مركزها في السويداء قبل قدوم اسماعيل الأطرش وآله إليها، وفي عام 1842 استغل محمد الدوخي بن سمير شيخ قبيلة “ولد علي” غياب اسماعيل وغالبية فرسان “القريّا” في مهمة خارج الجبل بعيداً عن حماهم، لنجدة أبناء عمومتهم في جبل لبنان إذ كانوا يتعرضون آنذاك إلى فتنة تستهدف وجودهم من قبل الشهابيين وأحلافهم المدعومين من فرنسا، فباغت “القريّا” بخمسمائة خيّال من فرسان قبيلته بدون نذير، وفي ذلك غدر وإخلال بتقاليد القبائل العربية التي اعتادت الغزو، وقتل من أهالي “القريّا” 72شهيداً، وقد طمع اثنان من فرسان البدو بفتاة سحباها من شعرها الطويل وانطلقا بها وهما على فرسيهما، إلاّ أنّ الفارس المسيحي سلامة الراشد طاردهما على فرسه إلى أن لحق بهما، فضرب على شعر الفتاة بسيفه وخلّصها منهما، ثم اشتبك معهما وتمكّن من قتلهما، وكسب رمحيهما، وعاد بالفتاة إلى “القريّا”. ولما رجع اسماعيل من بعد غيابه مع فرسانه من مهمته أكبر بطولة سلامة الراشد، ولقبّه بـ “ أبو رمحين “، وهكذا اكتسب آل الراشد كنية جديدة تدل على بطولة جدّهم وفروسيّته التي سارت بها الركبان، وأحاديث المضافات والدواوين إلى يومنا هذا، أمّا ثأر اسماعيل و”القريّا” من غدر محمد الدوخي بن سمير وقبيلة ولد علي فلم يمت، وسنذكر قصته في وقت لاحق.

البدو في “القريّا”
البدو في “القريّا” بل وفي معظم ديار الجبل هم في الأصل من عشائر الشنابلة والمساعيد والجوابرة، الذين لم يعرفوا طيلة تاريخ وجودهم في الجبل حياة الاستقرار والزراعة بل كانوا يرعون بمواشيهم العشب والخصاب، أي: العشب اليابس، في أيام الربيع الجبلي المتأخر عن ربيع بادية الحماد ويمضون الصيف في الجبل، وفي الشتاء كانوا يفيضون ــ أي ينطلقون ــ إلى بادية الحماد هرباً من برد الجبل وثلوجه بحيث يستمرون إلى أن يرعوا بمواشيهم ربيع البادية ومن ثم ينتقلون إلى الجبل وهلمّ جرّاً… وكانوا من الضعف قبل مجيء بني معروف الموحّدين إلى الجبل أن كانت القبائل البدوية القوية القادمة من شبه الجزيرة العربية مثل قبيلة عنزة بفروعها من ولد علي والرّوّالة وغيرهما من القبائل كبني صخر والسردية من القبائل التي كانت تترحل بين شرق الأردن ونجد، تعتدي عليهم وعلى مواشيهم وأرزاقهم… كانت تلك القبائل الصحراوية تأتي في فصل الصيف إلى حوران لترعى بمواشيها من جمال وأغنام مخلّفات الحصاد، ومع قدوم طلائع الموحّدين إلى الجبل توطّدت علاقات طيبة في غالبية المواقف بين تلك العشائر البدوية وبينهم، ما أدى إلى تحييد منطقة الجبل من اجتياحات الغزو البدوية التي تأتي في أواخر الربيع وخلال فصل الصيف وباتجاه سهل حوران، والأدب الشعبي الموروث غني بالمساجلات التي كانت تدور بين الأطراف المتنازعة في تلك الأيام الخوالي.
كما شهدت العلاقات بين الموحدين وبين تلك العشائر المحلّية أحياناً علاقات تحالف في مواجهة جيوش العثمانيين وقوات محمد علي باشا عندما كان هؤلاء يفرضون الضرائب الباهظة والمطالب التعسّفية عليهم. ويقيم البدو في موقع من الجانب الغربي من “القريّا”، وغالبيتهم من عشيرة الشنابلة، بنسبة نحو 90 % ، ومنهم عائلات البريك والشلوح والدغيم، ومن عشيرة الجبور السعيد والمغيّر.

مضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهده
مضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهدهمضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهده

النشاط الاقتصادي في “القريّا”
يبلغ متوسّط الأمطار في “القريّا” 285 ملم سنوياً، ولكن السنوات الأخيرة شهدت تدنّياً عن هذا المعدّل بسبب الجفاف العام الذي تتأثر به منطقة الشرق الأوسط. أما إجمالي مساحة الأراضي التابعة لمدينة “القريّا” فيبلغ 68000 دونم، من ضمنها المخطط التنظيمي السكني للمدينة البالغة مساحته 6300 دونم. ولما كانت الزراعة في هذه المدينة تعتمد على مياه الأمطار فإنها بعمومها زراعة بعلية، وتبلغ مساحة الأراضي القابلة للزراعة في مجال هذه المدينة 48,758 دونم، المستثمر منها 33,465 دونم، أمّا غير المستثمر وهو في الوقت نفسه قابل للزراعة فتبلغ مساحته 15,293 دونم. وتبلغ مساحة الأحراج نحو 2450 دونماً تقع إلى الشرق والشمال الشرقي من المدينة وقد أُطلق عليها اسم غابة سلطان باشا الأطرش.
الزراعة وإنتاجها
تعتبر زراعة الحبوب من المحاصيل الغذائية الاستراتيجية في الظروف التي تواجهها سوريا منذ استقلالها وإلى يومنا هذا. واستناداً إلى أرقام عام 2013 فإن المساحات المزروعة حبوباً كانت في حدود 10,500 دونم بعلي بلغ إنتاجها 210 أطنان من القمح و70 طناً من الحمص و30 طناً من الشعير، وهذه الكميات تعتبر متواضعة بالنسبة لقرية تتمتع بأراض قابلة للزراعة مساحتها نحو 48,758 دونم. لكن في المقابل فإن “القريّا” تحتوي على 4,354 دونم من الكرمة أنتجت في العام 2013 نحو 877 طناً من العنب ونحو 3,569 دونم من الزيتون وهي تزرع مساحات واسعة بالتفاح والفستق الحلبي والتين والجوز واللوز والرمان.
وقد تراجعت زراعة الحبوب في “القريّا” بقوة منذ عدة عقود مع توجه مزارعي “القريّا” إلى زراعة الأشجار المثمرة التي تدرّ محاصيل غذائية ونقدية مجزية نسبياً.
وتعتمد الزراعة في “القريّا” على المكننة إلى حدّ كبير كما يشهد على ذلك العدد الكبير من الجرارات الزراعية التي يبلغ عددها نحو 131 جراراً من مختلف القدرات والحصادات والدراسات الآلية وغيرها من المعدات.
تمثل التربية الحيوانية مصدراً أساسياً من مصادر النشاط الاقتصادي في القريا وتتمثل بوجود مزارع الأبقار والمشاريع الصغيرة وكذلك تربية الأغنام والماعز والجمال والدواجن ويتفرع من التربية الحيوانية قطاع مهم للألبان والأجبان واللحوم.

نحو تحويل القريّا إلى مركز قضاء
تتمتع مدينة “القريّا” بحكم موقعها المتوسط بين القرى التابعة لها وكونها مركز ناحية بجملة من الخدمات الحضرية تديرها مجموعة من الدوائر الحكومية منها: محكمة الصلح، والمركز الثقافي ومديرية الناحية والبلدية والمختارين والجمعية التعاونية الزراعية والجمعية التعاونية الاستهلاكية (صالة البيع بالتجزئة) والمركز الصحّي ومركز الهلال الأحمر، ووحدة مياه “القريّا”، وفرع المصرف الزراعي ومصرف توفير البريد ومصلحة كهرباء “القريّا”، والنادي الرياضي. وبسبب ثقلها السكاني واتصالها بعدد من القرى التابعة، فإن مدينة “القريّا” مرشّحة لأن تصبح مركز قضاء (قائمّقامية) بحسب التقسيمات الإدارية لمحافظة السويداء.

صرح سلطان باشا الأطرش في “القريا”
خزانة تاريخ مجيد ومنارة للثقافة

ضريح-سلطان-باشا-محاطا-ببيارق-القرى-التي-شاركت-في-الثورة-على-الفرنسيين
ضريح-سلطان-باشا-محاطا-ببيارق-القرى-التي-شاركت-في-الثورة-على-الفرنسيين
جدرانيات-تخلد-أحداث-الثورة-السورية-الكبرى-وانتصاراتها
جدرانيات-تخلد-أحداث-الثورة-السورية-الكبرى-وانتصاراتها

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

واجهة-ضريح-سلطان-باشا-الأطرش
واجهة-ضريح-سلطان-باشا-الأطرش

أُنشئ صرح سلطان باشا الأطرش ومتحف الثورة السورية في وسط “القريا” بمساحة 2,000 م2 من البناء الفني المتقن، في وسط عقار مساحته 20,000 م2، ويحتوي البناء على ضريح المرحوم سلطان باشا الأطرش والمقتنيات الحربية للمتبرعين من المجاهدين أو أحفادهم، ويضم المبنى قاعة مركزية في وسطها ضريح القائد العام بالإضافة إلى أسماء المعارك والشهداء الذين شاركوا في الثورة. وتعلو هذه القاعة بانوراما تجسّد معارك الثورة منفّذة بالفسيفساء، مساحتها 130 م2 وهي عبارة عن عدة لوحات تمثل أحداث الثورة العربية الكبرى عام 1916 ورفع العلم العربي فوق سراي الحكومة في دمشق في ساحة المرجة من قبل مجاهدي بني معروف، ومعركة ميسلون في 24/7/1920 واستشهاد البطل يوسف العظمة. وهناك لوحتان تظهران الجواد العربي ولوحة ثلاثية الأبعاد تمثل معركة في المنطقة الجنوبية وأخرى تظهر أجزاء من معركة “الكفر” ومشاهد أخرى من معركة السويداء، وهناك لوحة ثلاثية الأبعاد تمثل المعارك التي جرت في مدينة دمشق واخرى تمثل معارك حماة، ونشاهد على الجهة اليسرى تمثيلاً لفترة المنفى التي استمرت عشر سنوات، سبع منها في وادي السرحان على أطراف نجد من أراضي المملكة العربية السعودية وثلاث في جنوب الأردن، وكذلك نشاهد الهرم الأبيض الذي يرفع في قمته العلم الوطني وما يشير إلى معاهدة عام 1936 التي أدت إلى استقلال سوريا.
يحتوي الصرح على المتحف الخاص بالمغفور له سلطان باشا الأطرش وعلى المتحف العام للثورة السورية الكبرى المحتوي على أسلحة استعملها الثوار في المعارك بالإضافة إلى بيارق الثورة التي حملها المقاتلون في الثورة ومدفع فرنسي كسبه الثوار في معركة الكفر …
كذلك يحتوي المتحف على الأسلحة والعتاد التي غنمها الثوار في المعارك من بنادق ومسدسات وسيوف وحراب ومدفع وأجزاء من طائرة كان الثوار قد أسقطوها وقنابل والعديد من الوثائق كالحوالات المالية والمراسلات التي كانت تتم بين الثوار، وبيارق الثورة… ومن بين الموجودات في هذا المتحف سيف القائد الفرنسي نورمان الذي غنمه أحد الثوار بعد قتله في معركة الكفر…ويضم المجمع مسرحاً وقاعة محاضرات تتسع
لـ 310 أشخاص، وقاعة شرف للإستقبالات الرسمية.

الشيخ ابو يوسف امين ابو حمزة

صوفي من الموحدين الدروز تفخر به الصوفية

سيـرة الفقيــر الناسك
السائـــــــح فـــي الأرض

الشيخ أبو يوسف أمين ابو حمزة

ولا يبالــــــــــــــون إن أغنــــــــــــــــــوا أو افتقـــــــــــــــــــروا على الرضا بالقضا نفوسهم جَبَلوا
وعندهم قد تساوى الأمن والخطرُ وليس فرقٌ إذا جاعوا وإن أكلــــــــــــــــوا

لم يسكـن منـــزلاً أو يتخـــذ زوجـــة أو يمـــسّ مـــالاً
ولـــم يمـــلك إلا الثـــوب الذي على جســـده
كـــان رفيقـــه الجـــوع والسهـــر الطويـــل في الذكـــر
وبـــرد الليـــل القـــارس والوحـــدة في كنـــف البريـــة
طعامـــه قطعــة خبــز بــأدام في الصبــاح
وقطعــة مغمســة بالمــاء فــي العشــاء
كــان إذا قدمــت له حبــة من الفاكهــة يتأملهــا

ثم يعيدها إلى مكانــها مع كلمة “سبحــان الخالــق”

تاريخ الموحدين الدروز حافل بسير الصالحين من أهل الزهد والتقوى بل يمكن القول إن هذا التاريخ يقوم في جانب منه على سلسلة تواصلت حلقاتها لقرون عديدة من الزهاد العابدين الذين توارثوا أمانة التوحيد ومناقبه وخصاله وآدابه وقد أنفق أهل الدين والورع حياتهم في جلسات الذكر والمؤانسة بالله وكانت مجالس العبادة والخلوات المنتشرة في بطاح الجبل وجنوبه وفي دساكر جبل العرب وقفاره عادة ملتقى السالكين في طريق الله وقد كرّس العديد منهم حياته لهذا الطريق وترك الدنيا وما فيها حتى لا يشغله شاغل عن السعي الحثيث إلى المولى لعلّ عين العطف ترمقه بلحظ يرفعه من التراب إلى أعلى عليين }يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ{ (الانشقاق:6)
في هذه البيئة من الورع غير المتكلف وبساطة المسلك وبراءة المقاصد وروابط التآخي والحفظ نشأ الزاهد الورع الفقير ذو الهمة والعزم أبو يوسف أمين أبو حمزة من بلدة الخريبة في الشوف، وقد كني أبو يوسف على عادة أهل التوحيد في أدب التخاطب والمناداة، إذ إنه عاش حياته متنسكاً فلم يتخذ زوجة ولم ينجب بالتالي خلفاً، وهذه حال العديد من أكابر مشايخ الموحدين الذين سلكوا حياة النسك فنذروا أنفسهم وحياتهم وكل وقتهم لله وخافوا أن تشغلهم الواجبات الزوجية والأسرة والتكسب عن مسلك أهل الحق فتفتر همتهم في المسير.
ولد الشيخ أبو يوسف أمين أبو حمزة في بيت تقوى وورع في بلدة الخريبة في العام 1888 وكان الولد البكر للشيخ يوسف أبو حمزة وكان له شقيقان هما نجيب وعبد الله (كلاهما اعتمرا العمامة المدورية أو المكولسة) وشقيقتان. كان والده يعمل ترزياً يخيط القنابيز والصداري لأهل الدين وقد تعلم الشيخ الشاب المهنة عن والده واشتغل بها، لكن ظروف الجبل في مطلع القرن العشرين كانت قد تميّزت بالشح وضنك العيش، وقد أثر ذلك على النشاطات الحرفية القليلة التي كانت قائمة، في الوقت نفسه كان عدد من المغتربين قد عادوا من أميركا الجنوبية وبنوا العمائر الحجرية وزينوا أسطحها بالقرميد وكان عم الشيخ الشاب من هؤلاء المهاجرين الذين استقروا في الارجنتين.

هجرته إلى الارجنتين
كانت حرفة الخياطة التي تعلمها لا تحقق له ما يكفي أوده وما يعينه على تربية شقيقيه نجيب وعبد الله وشقيقتيه، وقد أصبح وهو كبير الأبناء مسؤولاً عن عيش أخوته بعد وفاة والدهم. أحس بمسؤولية كبيرة وشعر أن عليه أن يقوم بعمل يعينه على أداء حقوق الأخوة، وشجعه البعض على أن يسافر إلى عمه نسيب والد المرحومين سلمان وعارف أبو حمزة الذي كانت له أعمال في الأرجنتين. قبل بالفكرة وحزم أمتعته وتوجه مع الكثير من مهاجري تلك الفترة إلى المرفأ ليستقل الباخرة إلى تلك البلاد البعيدة.
وصل إلى دار عمه وتشاور معه في ما يمكن أن يساعده من عمل، وكان رأي العم أن عليه أولاً أن يتعلم لغة البلاد أي الإسبانية لكي يمكنه التعامل مع أهلها بيعاً وشراءً. وبعد أن لقنه أساسيات اللغة ووثق من قدرته على التخاطب، جاءه بحقيبة جعل فيها سلعاً مختلفة مما كان رائجاً التعامل به مثل الأقمشة ولوازم البيوت والحلي وغيرها، وكانت الشنطة وما تحويه من بضاعة تسمى في لغة المهاجرين «الكشّة» وقد حمل الـ«الكشّة» معظم الذين حطوا رحالهم في الأميركيتين وأصبحت هذه تقليداً يعرف به أهل بلاد الشام وحرفة الكثير منهم، لكن معظمهمم، بفضل ذكائهم وكدِّهم، ارتقوا بعملهم المتواضع وانتقلوا من البيع المتجول إلى فتح المتاجر وكثيراً منهم حققوا الثروات عن ذلك الطريق.

وسط عالم غريب
بالطبع الله وحده يعلم ماذا كان يدور في فكر هذا الشاب البسيط الشديد التأدّب الخافت الصوت الخاشع في داخله لله وهو يجد نفسه وسط عالم غريب في كل شيء وأغلب الظن أنه صدم لما رأى من اختلاف الظروف والقيم والعادات كما إنه وقبل مضي وقت طويل بدأ يشعر بحنين شديد إلى الوطن وإلى الخريبة وإلى قرى الجبل ومجتمع العقال الذي كان هو جزءاً منه منذ صغره. كان يحمل «الكشة» ويتجول بها ليبيع ما فيها لأن عمه اختار له أن يبدأ على هذا النحو، وكان ذلك أمراً مألوفاً في المهجر، لكن أبو يوسف أمين الشاب كان يحس بألم من جراء تلك الصنعة التي لم يألفها ولم تكن تلائم إباءه، وأدرك في قرارة نفسه أنه أخطأ بالسفر إلى تلك البلاد ، وكيف يمكن لفتى مثله يسكنه الشوق إلى الخالق والطريق القويم أن يجد نفسه في تلك البيئة المشوشة والمسكونة بالركض خلف الأعمال والمال والتجارة.

الخلوة
الخلوة

طريق الأحزان
ومن عِظــــــــــــــــم أسقــــــــام عليــــــــــــــــه تراكـمــــــــــــــــــــــــت يــــــــــــــــــــــــــــرقُّ له تاللـــــــــــه من كــــــــــــــــان قاسيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
وقد أخذ الأحــــــــــــــــــــــــــــــــزان والهمّ مذهبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا إلى أن غدا في شرعة الشجو قاضيــــــــا
وشرّعهــــــــــــــــــــــــا فرضـــــــــــــــــــــــــاً ونفـــــــــــــــــــــــــــلاً وسنــــــــــــــــــــــــــــــّةً على حسبِـــه إذ صـــار فيهــــــــــــــنّ فـــاتيــــــــــــــــــــــــا
إذا ما رآه الخلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــق رقّوا لحالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وقالــــوا سقيــــــــــم دواؤه صـــــــــــــار جافيــــــــــــا
(من شعر المرحوم الشيخ علي فارس)

حادثة تبدّل حياته
كما إن لكل وليّ موعداً يسمع فيه نداء الحق له يوقظه مما هو فيه ويدعوه إلى جنابه فإن اللحظة الفاصلة جاءت الشيخ في أحد الأيام عندما التقته امرأة في الطريق وسألته عن ما في «الكشة» التي يحملها، وإذ شرح لها قالت إنها لا تحب أن تشتري على الطريق وإنها تريد منه أن يأتي معها إلى منزلها القريب من المكان لكي ترى ماذا يحمل وتشتري منه ما تحتاج. وقد تبعها أبو يوسف أمين بحسن طوية إلى أن وصل بابها فأنزل «الكشة» وسألها عن مرادها. ألحت المرأة عليه بالدخول لكنه رفض بإصرار وقال لها وقد بدأ يتوجس مما ترمي إليه: ها أنا أمامك وهذه هي البضاعة فلك أن تختاري ما تحبين، لكنني لن أدخل المنزل. حاولت المرأة جهدها لإقناعه لكن عبثاً وفي محاولة أخيرة أخذت منه الشنطة وأدخلتها إلى المنزل على أمل أن يلحق بها، لكن الشاب على العكس اعترته الصدمة بسبب جرأتها وشعر لأول مرة بالخوف، فترك الشنطة عندها وقفل راجعاً بسرعة نحو بيت عمه. تعجب العم لعودته خاوي الوفاض، لكنه روى له القصة وأعرب له هذه المرّة عن رغبته في العودة إلى لبنان.

هذا البلد ليس لي
قال لعمه: هذا البلد ليس لي ولست له، وأنا ربما أخطأت بقطع كل تلك المسافات وترك بلدي وأهلي سعياً وراء الرزق، وكان الأجدر بي أن أسعى خلف الرزاق الذي لا يخلو مكان في الدنيا منه. لقد قررت أن أتكل على المولى وأن أعود إلى بلدي. حاول العم أن يثنيه ويقنعه بالبقاء موضحاً له أن الحادثة عارضة ويجب أن لا تثنيه عن الهدف الذي جاء من أجله وهو كسب الرزق والعودة إلى لبنان بمال يعينه على مشقة الحياة. لكن أبو يوسف أمين كان قد نزع كل رابط بتلك البلاد من قلبه وأصبح مثل أسد سجين في حنين شديد يرتقب اللحظة التي يعود فيها إلى أرض الوطن. وبالفعل حزم الشاب حقائبه وعاد إلى بلاده وهو مقتنع أن حادثة المرأة كانت إشارة إليه بأنه لم يخلق لخدمة الدنيا والبيع والشراء بل لحياة أجلّ وأعزّ هي مجاورة المولى عبادة وخدمة وتقرباً وهي التي وصفها سبحانه في كتابه العزيز بأنها «تجارة لن تبور» (فاطر:29).
أخذه التفكير العميق وهو على ظاهر باخرة العودة يقطع المحيطات نحو موطنه، لم يكن يحلم هذه المرة بالرزق ولا بعمل يجني منه بعض الدنانير بل باللحظة التي يبدأ فيها الحياة التي اختارها وهي حياة الفقر والعبودية الخالصة لله جلّ جلاله.

ثوبه-الطاهر-محفوظا-في-خزانة
ثوبه-الطاهر-محفوظا-في-خزانة

” من أقواله: هذه الطائفة قائمة ومستمرة بسر التوحيد وسر أنفاس السلف الصــالح

سائح في الأرض
وصل إلى بلدته الخريبة وكانت شقيقتاه قد تزوجتا أما شقيقاه اللذان يصغرانه فكانا قد شبا على الطوق وباتا في سن تسمح لهما بالعمل وكسب الرزق. قال لشقيقيه لقد اصبحتما في سن العمل ويمكنكما الاعتماد على نفسيكما في الحياة، فأرجو أن تسمحا لي بأن آخذ طريقي في الحياة. منذ اليوم الأول لرجوعه إلى لبنان وكان في مطلع شبابه انصرف الشيخ أبو يوسف أمين إلى حياة العبادة والخلوة ومجالس العقال وصحبة المشايخ الأعلام فكان يومه كله ولله كله لله، كما بدأ الشيخ أبو يوسف منذ شبابه تقليد السياحة في الارض والتنقل بين المجالس والخلوات ومنازل الأحباء والأصدقاء في طريقه لمصاحبة المشايخ والاستفادة من مجالسهم وسيرتهم ونصحهم وعلمهم الواسع، كأنما كان مستيقناً في قرارة نفسه أن هذه الدنيا كلها عقبة في الطريق، وأن الحياة أقصر من أن ينفق الإنسان قسطاً منها في بناء ما لا يدوم ولا بدّ لبناء منزل من حرفة وسعي في الدنيا وهو اعتزم التكرس لواجب الحكمة والتقرب من الله ومن أوليائه وكبار السادات الذين سبقونا في كل عصر، كما أنه اعتزم أن يكون مهاجراً إلى الله فلا يكون لمنزل أو مكان فائدة في عيشه المتنقل.
عرف أيضاً أن حياة النسك والسياحة في الأرض تعني أن يكون حراً وخفيف الزاد والعتاد والمسافر كلما ابتعد سفره كلما اقتصد كثيراً في متاعه حتى لا يعيقه عن السير.
لكن هذا العَلَم الزاهد العارف أضاف إلى إرث مشايخ الموحدين الروحي وتقليد الزهد والخلوة والتكرّس مسلكاً قلّ من سبقه إليه حسبما يذكر أهل الدين في الطائفة، وهو مسلك الفقر المطلق والسياحة في الأرض مقلداً في ذلك ربما سنة الصحابي الكبير سلمان الفارسي الذي قطع الفيافي والصحارى في الطريق إلى المولى وإلى ملاقاة رسول الإسلام ومصاحبته ونصرته، وربما استلهم هذا الشيخ الدرويش أسلوب الصوفية الكبار وهو الذي تأثر بهم كثيراً وكان تحول إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه من ملك عظيم إلى صوفي يهيم في الأرض شوقاً لله وتضرعاً مصدر إلهام كبير له وقد تعمق في سير بن أدهم والجنيد وغيرهما وتأثر كثيراً بمجاهدات الصوفية وبإقبالهم الكامل على الله وقد بلغ من حبه لهم أن قرر السير في خطاهم، وكان الشيخ في ما بعد يروي عنهم ويحكي سيرتهم تشويقاً للسالكين وموعظة للغافلين. وقد تفرّد الشيخ أبو يوسف أمين في أخذه بسنة الصوفية الجوالين فلم يبن لنفسه داراً ولو صغيراً ولم يحمل مالاً منذ أن قرر أخذ طريق الزهد بل كان لا يلمس المال وإذا قدم لهم من بعض المحبين يسألهم أن يضعوه في مكان ما من نافذة خلوة قدمت له ليقوم فيها بعباداته، وكان المال يجد دوماً طريقه إلى محتاج يزور الشيخ، وكان العابد الزاهد يسأله برفق أن ينظر «ماذا في النافذة» ويقول له دون أن يعرف حتى مقدار المال أو إذا وجدت هدايا من صنف آخر «خذّ ما تجده فهو لك لعله يكفيك حاجة».

جانب من بلدة الخريبة التي نشأ فيها الشيخ أبو يوسف أمين
جانب من بلدة الخريبة التي نشأ فيها الشيخ أبو يوسف أمين

طعامه خبز وماء
نذر الشيخ نفسه لله فلم يتخذ زوجة ولم يقبل أن يدخل النساء عليه والتزم طريق الجوع فكان طعامه في اليوم رغيف خبز يأكل نصفه في الصباح مغمساً بأدام ربما الزيت أو اللبن أو غيرهما ونصفه الآخر في العشاء كان يأكله مغمساً بماء، وكان دأبه العمل بمخالفة النفس ليس فقط بالجوع الذي اعتبره طريقاً أساسياً للانتقال من كثافة الجسد إلى لطائف الروح وبُروق المعرفة، بل بقضاء الليل البارد خارج الخلوة أو خارج المكان الذي يأوي إليه متأملاً ذاكراً مرتدياً ثياب النوم الرقيقة وكان مضيفوه يفتقدونه أحياناً ليجدوه جالساً في العراء ساهماً متأملاً وقد ذهل عن نفسه، ومن مظاهر زهده أنه رفض العناية بقيافته ولم يهتم بتسريح لحيته ولم يقبل ارتداء عمامة أنيقة بل كان يضعها على رأسه ويضغطها لكي تفقد شكلها الأصلي وتتجعد، وكان يفعل ذلك لشدة مراقبته وخوفه من أصغر الأمور التي قد تورد خاطر العجب في النفس الأمارة وكان يخشى أن يستجره محبوه إلى أمور يعتبرها من قواطع الطريق مهما كانت صغيرة أو ظنها البعض أموراً غير ذات شأن.
حبّه للجوع
لكن أكثر ما اشتهر عنه حبّه للجوع وترويض شهوة الطعام وقد بلغ في ذلك مبلغاً بعيداً، إذ أنه ليس فقط كان يكتفي برغيف خبز في اليوم بل كان لا يقبل ضيافة من فاكهة أو طعام أو حلوى أو غير ذلك، وكان إذا قدمت له الفاكهة يتناول حبة من الإناء ويرفعها ويتأملها ويسبِّح الخالق ثم يعيدها إلى مكانها.
أمضى الشيخ أمين قسماً من وقته في الخلوة التي تحمل اسمه اليوم في الخريبة وقد توفي ودفن فيها في العام 29 نيسان 1969 عن عمر ناهز الـ 81 عاماً، وأقيم له فيها مزار متواضع ويمكن للزائر أن يرى محفوظة في خزانة صغيرة على حائط الخلوة ثوبه وعباءته،و كان الشيخ أمين يقيم في الخلوة التي قدمت له من أقاربه عندما لا يكون على سفر، وكان يعتكف فيها ولا يخرج إلا نادراً وكان الطعام البسيط والماء يقدم له من بعض الأجاويد لكنه كان يدقق كثيراً في مطعمه وكان يطلب أن يكون الماء حلالاً من الينبوع. وكان غالباً ما يتفحص الخبز المقدم له ليرى إذا كان محبوه قد تعمدوا تكبير الرغيف طمعاً في أن يحصل على غذاء أفضل لجسده النحيل.

المشايخ يحثونه على الإعتدال
استلذّ الشيخ أبو يوسف أمين الجوع وقهر النفس فأخذ يقسو عليها ويخفف حتى من القليل الذي كان يدخل جوفه، وقيل إنه اكتفى لفترة بوجبة واحدة يتناول فيها نصف رغيف مغمس بالماء حتى أصابه النحول وانتبه المشايخ الكبار مثل المغفور له الشيخ أبو حسن عارف والشيخ أبو حسيب سليمان الصايغ إلى الأمر فاجتمعوا عليه وطلبوا منه أن يبقى على سيرته فلا ينقص طعامه عن رغيف لأن لجسمه حقاً عليه، ولأن في الطعام طاقة على العبادة والاستمرار وأن الجسد وديعة المولى جعل منه آلة العبودية وابدعه مع الروح لحكمة منه فلا يجوز التفريط بأمانته وبما أراده. واستعان المشايخ على النصيحة بسنة الأمير السيد (ق) الذي دعا إلى تناول وجبتين في اليوم، ما لم يكن المرء في صيام. وقد نزل الشيخ أبو يوسف أمين عند خاطر المشايخ فعاد إلى تناول وجبة الصباح خبزاً مع أدام واسترد بذلك بعض عافيته وطاقته. وكان الشيخ في حاجة ماسة إلى تلك الطاقة لأنه منذ شبابه وربما في مطلع العشرينات من عمره كان دائم الترحال والسياحة بين البلدان والمجالس والخلوات وكان من المألوف أن تشهده متجهاً سيراً على الأقدام من الشوف إلى خلوات البياضة في حاصبيا أو إلى قرى جبل العرب في سورية حيث كان له في كل مكان يحل فيه محبون كثر يتنافسون على استضافته وخدمته والتبرك بمجالسته.

قطعة قماش في النافذة
أحد المشايخ زاره في أحد الأيام فوجد أن قنبازه قد خَلُقَ ولم يعد في وضع مقبول، فغال قليلاً وعاد بقطعة من القماش قدمها له وأمل منه أن يفصّلها قنبازاً. وقد شكره الشيخ أمين وطلب منه كالعادة أن يضع الهدية على شباك في الخلوة كان يحول إليه ما يرده من صدقات. لكن في اليوم التالي زاره أحد المشايخ وعرف من حديثه أنه يعاني من ضائقة. وكالعادة أيضاً طلب من الزائر أن يرى ماذا في شباك الخلوة، وشرح له الرجل أن فيها بعض النقود وقطعة من القماش، قال له: خذ ما وجدته فهو لك. وبقي الشيخ بذلك على قنبازه القديم ولم تكن له كما يبدو أي نية في امتلاك آخر جديد.
أمضى الشيخ أبو يوسف أمين حياته كلها في صحبة مشايخ كبار مثل الشيخ أبو حسين محمود فرج والشيخ أبو حسن عارف حلاوي والشيخ أبو محمد جواد ولي الدين والشيخ ابو حسيب الصايغ والشيخ البتديني والشيخ محمود البعيني والشيخ البيطار والشيخ أبو حسين يوسف عبد الخال، وتميز عصره بنهضة روحية كبيرة لدى الموحدين الدروز فكان عدد كبير من كبار المشايخ من أصحاب المدوريات أي العمامات المكولسة وهي عادة عنوان لمنزلة رفيعة لا ينالها الشيخ إلى كثمرة لحياة طويلة من العبادة والزهد والتفقه في الدين.

«لست أهلاً لها»
وبالنظر إلى المكانة التي كانت له بين الموحدين ولما عرف عن علمه الواسع وطهارته ومسلكه الزهدي استقر رأي المشايخ على أن يشرفوا رأس الشيخ أبو يوسف أمين أبو حمزة بالعمامة المدورية أو المكولسة وكان في نظرهم من أهلها وأكثر المشايخ استحقاقاً لها. وقد جاء الشيخ أبو حسين محمود فرج ورهط من المشايخ الكبار بالعمامة إلى خلوة الشيخ أمين وطلبوا منه أن يقبلها، لكن الشيخ الزاهد اعتذر عن قبولها وقال لزواره: لست أهلاً لها، وكان يقصد أن المدورية تحتاج إلى استقرار وإلى حياة مختلفة عن حياة التنقل والترحال التي حافظ عليها حتى آخر حياته، لكن اعتذار الشيخ أمين عن اعتمار العمامة المدورية بدا منسجماً أيضاً مع حياة التقشف والنسك والخلوة التي كان يرغب في المحافظة عليها.
كان الشيخ الزاهد قد أصبح مثالاً يضرب في الزهد والصبر والسلوك الإيماني الكامل وهو لذلك، حظي بإحترام المشايخ الذين كانوا يتباركون بوجوده معهم ويتسابقون للقاء به وحضور المجالس التي يزورها، كما كان المشايخ الشباب، وعندما أصبح الشيخ عاجزاً عن المشي، يتباركون بحمله على ظهورهم أو على أيديهم فكانوا يعقدون الأيدي ويتعاونون على السير به نحو مكان السهرة أو مجلس الذكر. وفي الرحلات البعيدة نسبياً كان البعض يستأجر دابة ويضعها في تصرف الشيخ أو كان يأتي بدابته فيسرجها ويدعو الشيخ لأن يركبها بينما يتابع هو سيره سيراً على الأقدام.

الشيخ-أبو-يوسف-أمبن-في-مرحلة-متقدمة-من-عمره
الشيخ-أبو-يوسف-أمبن-في-مرحلة-متقدمة-من-عمره

زهـــــــــــــــــــــــــــــد العاقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل
قـــــــــــــــــــــوم رضــــــــــــــــــــوا بيسيــــــــــــــــــــر من ملابســــهــــــــــم والقوت لا تخطر الدنيا بهاجسهــــــــــــــــــــــــــــم
صدورهم خاليــــــــــــــــــات من وساوسهــــــــــــــــــــم أسرارهــــــــــــــــــــم ناقيــــــــــــــــــــات ما بهـــا الدغــــــــــــــــــــــل
هجــــــــــروا المنــــــــــــــــــــازل والدنيــــــــــــــــــــا وزينتـــهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ومزقــــــــــــــــــــوا ثوب زهرتهــــــــــــــــــــــــــــــــا وبهجتــهــــــــــــــــــــــــــــا
ولا أرادوا سنـــــــــــــــاهـــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــل ونزهتهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ولا استمــــالــهــــــــــــــــــــم حلــــــــــــــــــــيٌّ ولا حِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــللُ
لبسوا ثياب التقى يــــــا حسن ملبسـهــــــــــم وداوموا الذِكر إجهـــــــــــــــاراً بمجلسِـهــــــــــــــــــــــــــــــم
غابوا عن الكون بل عن ذات أنفسهم إذ قد تجلّى لهم محبوبُهـــــــــــــــــم ذُهـِــلــــــــــــــــــــــــــــــوا
(من شعر المرحوم الشيخ علي فارس)

كراماته
كانت طريقة تزَهُّد الشيخ أبو يوسف أمين غير مسبوقة، لكن مجتمع العقال وأهل الدين لاقوها بترحاب كبير وقد اعترفوا للشيخ أبو يوسف أمين بالسبق وعلو الهمة وأفسحوا له في المجالس وأظهروا له توقيراً كبيراً وتسابقوا على خدمته والسعي إلى صحبته وحضور أي مجلس يكون حاضراً فيه وأي سفر يهم به في سياحته الدائمة التي كانت عنوان احتقاره للدنيا وسبيله لمداومة الذكر والإستفادة في مجالس إخوانه من أهل الرشد والنصيحة في مشارق الأرض ومغاربها.
جاهد الشيخ الزاهد وصبر على ترويض النفس ومجاهدتها حتى منّ الله عليه بالتكريم وخصه بالحفظ والعناية والكرامات فكان يسير في ظلمة الليل وطريقه منور بنور رآه الكثيرون فوجلت قلوبهم للمنظر وتأكدوا أن هذا الدرويش السائح كان من أهل الله. لقد اختبر جمهور قوة هذا الشيخ في حكاية موثوقة وردت عنه أنه كان مرة في طريقه من صوفر إلى بيروت قاصداً مجلس آل عبد الخالق الذين كانوا يحبونه ويحسنون وفادته، وقد وقف على الطريق في انتظار من يتكرم عليه وينقله إلى العاصمة بيروت. وكان أن رآه سائق باص ينقل ركاباً من البقاع إلى بيروت فتوقف أمامه، وبعد أن سأله عن وجهته طلب منه أن يصعد إلى الباص. جلس الشيخ مطمئناً إلى أن جاءه الجابي طالباً منه الأجرة فردّ الشيخ أبو يوسف أمين ببساطة قائلاً للسائل: يا بني ليس عندي مال أعطيكم، فإن تكرمتم بأخذي إلى بيروت معكم أكون شاكراً وإن لم ترغبوا فيمكنكم التوقف حتى أترجل وأتابع طريقي والله ييسرني. تشاور الجابي مع السائق وقرر الأخير رفض نقل الشيخ مجاملة فأوقف الحافلة وطلب من الشيخ مغادرتها. اعتذر الشيخ وترجل واستعد لمتابعة السير على مهل وكان يبحث عن بقعة ظليلة يقف فيها في انتظار أن يلمحه فاعل خير. في هذه الأثناء كانت الحافلة قد تعطلت وتوقفت في مكانها وقد جاهد السائق بكل وسيلة لكي يعيد إدارة المحرك لكن دون جدوى. أحد الركاب من ذوي البصيرة تعجب واتجه إلى السائق وسأله ما السبب في انك طلبت من الشيخ مغادرة الحافلة بعدما توقفت لكي تسمح له بالصعود؟ قال السائق: إنه لا يحمل الأجرة. قال الراكب بالله عليك اطلب منه العودة وأنا أتكفل بالأجرة عنه. وبالفعل نودي على الشيخ أبو يوسف أمين للعودة إلى الحافلة فعاد بطيبة خاطر ولم يكن منزعجاً. صعد، وما أن اتخذ مكانه حتى حاول السائق مجدداً فدار المحرك على الفور وانطلقت الحافلة في طريقها كأن شيئاً لم يكن. فوجئ الجميع بهذا المشهد وكان السائق أول الذين بُهِتوا وقد شعر بحرج وخجل شديدين فأصرّ على أن يقدم تلك الخدمة لوجه الله من كرامة لذلك الشيخ الغامض بعد أن فتح عينيه على حقيقته وما بدا أنه يستودعه من سر.

كان يحب بعقلين بسبب رفاقه المشايخ المقيمين فيها ومنهم الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين. وأين ما وجد الشيخ أبو يوسف أمين كان المشايخ يتوافدون للقاء به وقيام الليل معه. وقد كان واعظاً في السهر، وكان يقرأ من سيرة الشيخ الفاضل وشعره ويروي سير مشايخ الصوفية مثل إبراهيم بن أدهم والجنيد وذي النون المصري وسير الصالحين. كان يحب الاقتداء بالسلف الصالح، من أقواله هذه الطائفة قائمة ومستمرة بسر التوحيد وسر أنفاس السلف الصالح. كان شديد التقدير للسلف الصالح “حتى تبقى النفوس حية بسيرتهم”. كان يأتيه شباب طلباً للنصيحة وكان كريماً في الوعظ وفي الإرشاد علماً أن سيرته في حد ذاتها كانت موعظة وتعليماً. في المقابل فإنه لم يكن مكترثاً بالأمور العامة والدنيوية مهما بلغت جسامتها، وكانوا يأتون إليه ليخبروه عن أمر أو حدث ويسألوه رأيه وكان جوابه دوماً:”الله تعالى أخبر” وهذا سلوك المشايخ الأجلاء عندما يحولون إلى الله تعالى بالقول”لعله خير” معترفين بعجزهم وبضآلة علمهم مؤثرين الصمت على الكلام. قارن ذلك بما نراه اليوم من خوض الناس في كل أمر ومجادلتهم في كل شيء بغير علم أو دليل.
كان المشايخ يسهرون معه ويمضون شطراً طويلاً من الليل في الذكر والعبادة والتأمل. وكان الجميع حتى لو سهروا حتى الثانية صباحاً يحرصون على أن يستيقظوا قبل الفجر من أجل ذكر الله. وكان أحد المشايخ المعتبرين يقول في التشجيع على قيام الليل: “إن من يذكر الله في العشاء هو مثل من يقدم ديكاً أما من يذكر الله قبل الفجر فهو كمن يقدم خروفاً”.
كان نومه قليلاً لكنه كان مع ذلك ينام لكي يفسح للساهرين معه بالنوم ولا يثقل عليهم بالسهر معه، حتى إذا أخلد أهل الدار للنوم يقوم وينصرف إلى الصلاة والذكر مجدداً وقد كان حسب الذين رافقوا حياته من المجاهدين في قيام الليل حتى ما بعد الفجر.

شاهد-الضريح
شاهد-الضريح

على حبيبي سلامي
علــــــــــــــــــــى حبيبــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ســـــــــــــــــــــــــــــــــــلامي ونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور عيني وكســـبــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وروح روحــــــــــــــــــــــــي وقلبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
من زاد فيـــــــــــــــــــــــــــــــه هيامـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي وسحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت فيه بحبّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد تمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلّك لبّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
من عظم فرط غرامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي جسمـــــــــــــــــــــــــــــي ضني بالسقـــــــــــــــــــــــــــــــام
أنظــــــــر فحالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيَ يُنبــــــــــــــــــــــــــــــــي
فالحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبّ صــــــــــــــــار طعامــــــــــــــــــــــــي والشـــــــــــــــــــــــــــــــــــوق عين مدامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
دع يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا عذولــــــــــــــــي عتبــــــــــــــــي
ولا تزد لملامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي وانظـــــــــــــــــــــــــر لرســـــــــــــــــــــــــــــم عظامـــــــــــــــــــــــــــي
يكفيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك معظــــــــــــــــــــــــم سلبــــــــــــــــي
(من شعر المرحوم الشيخ علي فارس)

ضريح-الشيخ-أبو-يوسف-أمين-أقيم-في-الخلوة-التي-كان-يتعبد-فيها-في-أواخر-أيامه
ضريح-الشيخ-أبو-يوسف-أمين-أقيم-في-الخلوة-التي-كان-يتعبد-فيها-في-أواخر-أيامه

مرضه ووفاته
نالت سنوات الجوع وسهر الليل والسياحة في الأرض من صحة الشيخ تدريجياً حتى إذا ما بلغ عامه الواحد والثمانين أصابه مرض بدأ يؤلم جسمه لكنه لم يفصح عنه لأي كان بل صبر عليه. وقد عرف الأجاويد بمرضه عندما كانوا يغسلون جسده الشريف فأحسوا أنه تألم في موضع معين من جسمه وطلب منهم أن يحيدوا عن تلك الناحية. وكان الشيخ لا يظهر عورته لأحد ويغتسل ساتراً لها. وكما كانت حاله دائماً فقد أبى أن يراه طبيب أو يعطى دواء على اعتبار أن الطبيب هو الله تعالى. {وإذا مرضت فهو يشفين} (الشعراء:80) وقد بقي الألم معه واشتد مع الوقت إلى أن منحه المولى الفرج ففارقت روحه السعيدة جسده المتعب يوم 29 نيسان 1969 في الخلوة التي كان يبيت فيها ويتعبد في أواخر أيامه وقد دفن في محراب عبادته وأقيمت له حجرة متواضعة في الخلوة التي تحمل إسمه الآن وهي على مسافة قصيرة من ساحة الخريبة.

حوارات افلاطون

محــــــاورة كــــــارميـــــديس

حُسْـــنُ الخُلُــــق

مَجْمَــــعُ الفضائــل وسَجِيَّــــةُ الحكمـــاء

سقراط: «كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول مداواة العين من دون الرأس أو الرأس من دون الجسد، وجبَ ألا تسعى لمعالجة الجسـد من دون الـرُّوح”

تدور محاورةُ “كارميديس” (Charmides) حول مفهوم حُسْن الخُلُق، والتعقُّل، والإتزان العقلي والنفسي، والتناغم الداخلي، والحكمة العمليّة، أو كما عرّفها أفلاطون في “الجمهورية” بأنّها “التناغم بين العناصر العليا والدنيا في الطبيعة البشرية” الذي يجعل الإنسان سيّداً لنفسه، قبل أن تتركّز هذه الكلمة حول معنى الفضيلة الأخلاقية في مراحل لاحقة من تطوُّر علم الأخلاقيات ولا سيّما عند أرسطو.
تُصنَّف محاورة “كارميديس” بكونها من بين المحاورات الأولى لأفلاطون التي وضعها في وقتٍ مبكر من حياته وذلك بإعتمادها نسبياً على الأسلوب السقراطي في التساؤل الفلسفي الإستقرائي والإنتهاء من دون نتيجة حتميّة، حيث انتقل أفلاطون في سلسلة محاوراته اللاحقة من هذا النهج إلى نظام فلسفي أكثر تعقيداً. إنّها نصّ فلسفي يتحدّ فيه صوتا سقراط وأفلاطون روايةً وتأليفاً، نهجاً وتعليماً.
واللافت أنّ محاورة “كارميديس” هي من بين المحاورات الأفلاطونية التي قلَّ تناولها بالدرس والتحليل. وهي تستعرض، كشأن باقي المحاورات، عدداً من الفرضيات الجدلية التي تستهدف الحث على التفكر وإعمال العقل ولا تهتم بإصدار أحكام قاطعة أو توكيدات جليّة قليلة في النهاية، وهذا ما يعطي المحاولات هذا الإثراء الفلسفي، إذ تبدو كل محاورة بمثابة عملية تطور في طرح الأسئلة ومحاولة الجواب عليها من أكثر من زاوية، لكن المحاورة ليست مع ذلك مجرد نقاش نظري عقيم بل هي عملية بناء حاذقة للوعي تستثير ملكة الإدراك والتمييز في المشاركين تحت إشراف المعلم الذي غالباً ما يكون سقراط وهو يقود النقاش بصورة بناءة حتى بلوغ درجة أعلى من الحقيقة أو الإقتراب منها على الأقل. ولا ننسى أن التعليم اليوناني مثله مثل التعليم الحكمي عموماً يأخذ في الاعتبار طبيعة المشاركين وظروف كل منهم وطاقته، وهناك درجة كبيرة من “خاطبوا الناس على قدر أفهامهم” وهذه إحدى أهم ميزات التعليم السقراطي الذي لا يكترث بمدى علم الشخص أو سعة إطلاعه بقدر ما يعتمد على الفطرة والكشف التدريجي لمعنى الحقائق عبر دور المعلم نفسه وقدرته على أخذ الحوار في سياق تدرجي بحيث لا يبقى التباين في مكانه. وفي محاورة كارميديس ينطلق سقراط من موضوع حسن الخلق لينتقل به بصورة تدريجية إلى المسألة الاهم في الفلسفة الإغريقية وهي “معرفة الذات” (Self Knowledge) وهو موضوع يبدو عند طرحه أكثر صعوبة من التعريفات الابتدائية لمفهوم بسيط مثل حسن الخلق.
يلاحظ مع ذلك أن محاورة كارميديس تحتوي على مقطع مهم حول تكامل الجسد والروح وهو مقطع يتحول خلال الحوار إلى بحث مهمة الطبيب وكيف أن عليه أن يعالج الجسد والروح وكيف أن علاج الروح يكاد يكون هو الأًولى والمنطلق. وفي هذا التحديد المدهش لتكامل وظائف الجسد والروح درس مهم لعلم الطب الحديث الذي انحرف إلى فصل مصطنع وجعل عمله التركيز على الجسد وأمراضه وهذه المثل الإغريقية تضرب جذورها عميقاً في التعاليم الفيثاغورسية، كالخير والجمال، ومثال الروح الجميلة في الجسم الجميل، التي يُجسِّدها كارميديس، والمفهوم الحقيقي للطب بكونه عِلماً للكل كما للأجزاء، وعلماً للعقل والنفس كما للجسد. ومن المدهش فعلاً أن نرى النظرة المتقدمة والريادية إلى الإنسان عند الإغريق وفي الحقيقة هي نفسها التي نراها في الحكمة الأيورفيدية الهندوسية وفي مختلف الفلسفات القديمة، وهذه النظرة هي التي بدأنا نرى انبعاثها الآن واتساع نطاقها على أثر إخفاق الطب الحديث المُجزئ للإنسان في تأمين صحة حقيقية للفرد وللجماعة.

معلم-الطب-الإغريقي-أبوقراط،-أفلاطون-دعا-لعدم-الفصل-بين-معالجة-الجسد-ومعالجة-الروح
معلم-الطب-الإغريقي-أبوقراط،-أفلاطون-دعا-لعدم-الفصل-بين-معالجة-الجسد-ومعالجة-الروح

تعريف الفضيلة
يتدرّج تعريف هذه الفضيلة في المحاورة سواء كانت حُسْنَ خُلُقٍ، أم تعقُّلاً، أم اتّزاناً وحكمةً عملية في ترتيبٍ منتظم يبدأ من المفهوم الشائع وصولاً إلى التفسير الفلسفي. فالتعريفان الأولان، “الهدوء” و”الاعتدال”، بسيطان بما يكفي وهما حقيقيان إلى حدٍّ ما، ولا سيّما من وجهة نظر شاب في مغامرته الفكرية الأولى. أمّا التعريف الثالث، أي “قيام المرء بأعماله الخاصة”، فيُمثِّل إسهاماً فعلياً في الفلسفة الأخلاقية. في المقابل، ترنو التعريفات المتبقّية إلى هدفٍ أعلى يتمثَّل في طرح مفهوم المعرفة و”معرفة الذات”، أو توحيد الخير والمعرفة في علم واحد.
وهنا تكمن صعوبة محاورة “كارميديس” في المعنيين المتضمّنين في هذه السجيّة. فمن المنظور الأخلاقي، يتعدّى تعريفها من الهدوء إلى الاعتدال، إلى قيام المرء بعمله الخاص، والقيام بالأفعال الخيِّرة، ارتقاءً إلى المفهوم الفكري حول علم معرفة الذات، ومعرفة ما نعلمه وما لا نعلمه، ومعرفة الخير والشر، وحتى “معرفة المعرفة”.
رغم أن جميع التعريفات التي طرحت في سياق المحاورة رُفِضَت بشكل ما إلا أنها ألقت في النهاية ضوءاً يمكّننا من فهم حُسْن الخُلُق كفضيلة تقترن بالحكمة وسجيّة يتحلّى بها الحكماء.
يحتفظ سقراط بالحبكة الدرامية حتى النهاية، حيث يُقارب العديد من الحقائق الكبرى، التي سلّط الضوء عليها في محاورته من زوايا مختلفة، وهو إمّا أخضعها لاختبار الحس السليم، أو تطلّب الأمر منه دقة كبيرة في استخدام الكلمات، ليعود ويُنهي المحاورة من دون نتيجة حتميّة، تاركاً للمُريد والباحث والقارئ التوصُّل إليها بحسب مبلغه من الفهم الفلسفي، لكن بدا واضحاً التأكيد على كون هذه السجية تجمع بطريقة ما كل الفضائل التي اقترحت وأنها والحكمة صنوان.
المشهد: سقراط عائدٌ إلى أثينا بعد مشاركته مع الجيش الأثيني في معركة بوتيديا (Potidaea) في بداية “حرب البيلوبونيز”، يتّجه نحو “مدرسة المصارعة في تورياس” (Palaestra of Taureas) قبالة الهيكل قرب “رُواق الملك أركون” توقاً للأيام الخوالي مع الصحب ولاستطلاع مآل الحكمة بين مواطنيه بعد غيابه لمدة طويلة في خدمة الجيش.
فاجأ الجميع بحضوره فرحَّبوا به وسارع كايريفون (Chaerephon) الساذج إلى تقصِّي أخبار المعركة وأنباء سقوط بعض الأصحاب هناك. أخذ سقراط مكاناً إلى جانب كريتياس، ابن كالايسخروس (Callaeschrus) وأجاب على أسئلتهم وأنبأهم بما كانوا يتوقون لمعرفته عن معارك جيش أثينا. وبعد ذلك، شرَعَ سقراط بدوره يسأل الجميع عن الوضع الحالي للفلسفة في أثينا وعن حال الشباب فيها، وإذا ما تميّز وسطهم أحدٌ حكمةً أو جمالاً، أو في كلاهما.
تولّى كريتياس الإجابة على شق الجمال، وهو يتطلّع نحو بوّابة المدرسة حيث كان يدخل بعض الفتية، مُخبِراً سقراط بأنّه سيرى الآن مثالاً عنه. فأطلّ كارميديس المتمتع بجمال الهيئة محاطاً بصحبه، وأخذ مكانه، واسرّ كريتياس لسقراط بأنّ كارميديس يشكو صداعاً فلعلّ حجَّة استدعائه تكون أن يعالجه سقراط، الطبيبُ المُفترض، من صداعه. فسمِعَ كارميديس من ابن عمه وقدِمَ إلى سقراط ظناً منه أنّه طبيبُ أجسام ولم يعلم بعد أنّه طبيبُ أرواح.

جمال الرُّوح
وافقَ سقراطُ الجميعَ على مدى حُسْنِ مُحيَّا هذا الفتى وإطلالته، إلا أنّه استدرك إنبهارهم بجماله الخارجي متمنيّاً لو كان يتمتّع أيضاً بجمال الرُّوح، أي أنّ يكون جميلاً في الداخل كما هو في الخارج، آمِلاً لو يتبدّى الحُسْنُ في روحه كما يبدو الحُسْنُ في ظاهره، وكأنّ لسانَ حاله يُردّده قول الشاعرٌ العربي:
وما الحُسْنُ في وَجْهِ الفَتى شَرَفاً لهُ إذا لَمْ يَكُنْ في فِعْلهِ والخَلائقِ
وطمأن سقراط كريتياس بأنّه قد يكون كذلك، لأنّه يتحدّر من نسل صولون، وهذا ما سارع كريتياس إلى تأكيده، منوّهاً بأنّه يتمتّع بالحكمة أيضاً، وأشياء أخرى كالمقدرة على نظم الشعر.
لكن كيف يمكن علاج كارميديس من صداعه؟ إنّه دواءٌ أو “رُقْية”. الدواءُ لعلاج العلّة في الجسد والرُقْية لعلاج منشأها في الروح! ولا حاجة للرُقْية إذا كان المرء متحلياً بحُسْن الخُلُق والإتزان النفسي.
قال سقراط لكارميديس:
بمثل هؤلاء الأسلاف (يا كارميديس) حُقَّ لك أن تكون أولاً في كل شيء، ومظهرك يا نجل غلاكون ليُكرِمَهم أيضاً، لو أنّك أضفتَ إلى الجمال حُسْنَ خُلُقٍ، وإذا كنتَ كما أفصحَ كريتياس، يا عزيزي كارميديس، فمباركٌ أنتَ بكونك من هذا النسل. وهنا يكمن المغزى؛ فإذا كنتَ كما أفصَحَ تملك نعمة حُسْنِ الخُلُق بالفعل، وبالقدر الكافي، فعندها لا حاجة لكَ لأي رُقْية، لذا رجاءً أبلغني ما إذا كنتَ تعترف بحقيقة ما قاله كريتياس؛ هل تتحلَّى بسَجِيّة حُسْن الخُلُق أم لا؟
وهنا يُقنِع سقراط الفتى كارميديس بأنّ العلاج الناجح إنّما لا يُشفي الجسد فحسب بل الرُّوح أيضاً.
يحُدِّث سقراط الفتى عن الأطباء الألمعيين الذين يعالجون الجسم ككل قبل أن يعالجوا أي جزء منه. ويستشهد بالأطباء الترياقيين الذين يعالجون الرُّوح كما يعالجون الجسد. وينقل عن أحدهم قوله “كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول أن تُداوي العين من دون الرأس، أو الرأس من دون الجسد، وجبَ ألا تسعى لمعالجة الجسد من دون الرُّوح”. فبالنسبة إليه لا يمكن أن يتعافى الجزء ما لم يكن الكلُّ متعافياً، وكل خير وشر، سواء في الجسد أو الطبيعة البشرية، إنّما ينبع من النفس ويتدفّق منها إلى الخارج لذا، ينبغي البدء بمعالجة النفس أو الرُّوح بهذه “الرُقْية” لبَثّ الاعتدال والتوازن وحُسْن الخُلُق فيها، وحيث كانت هذه الفضائل تكون الصحة في كامل الجسد، فوجبَ ألَّا نُشفي الرأس قبل شفاء الرُّوح. والخطأ الأكبر الذي يقوم به أطباء عصره هو فصلهم علاج الجسد عن الرُّوح. وهنا يقول سقراط مجدداً لـ كارميديس إنّه إذا كان كما يؤكد كريتياس متحلّياً بحُسْن الخُلُق والإتزان فلا حاجة له
لـ “الرُقْية”، وطلب منه أن يُخبره ما إذا كان كريتياس صادقاً في اعتباره متحلّياً بهذه المزيّة.

سقراط: مرّةً أخرى يا كارميديس، تنبَّه جيداً، وانظرْ في داخلك، وتحر تأثير حُسْن الخُلُق فيك وطبيعة هذا التأثير. فكِّرْ في كل ذلك، وكشابٍ شُجاع أخبرني – ما هو حُسْن الخُلُق.

إرتسمت على مُحيّا كارميديس علاماتُ الخجل وقال إنّه إذا أنكر ثناء ابن عمه كريتياس فهذا تصرُّف غريب بحق نفسه وتكذيب لـ كريتياس والآخرين الذين يوافقونه الرأي، وإذا أقرَّ بذلك، فيكون قد أثنى على نفسه وهذا تصرُّف فيه غرور، لذا عجز عن الإجابة.
طمأنه سقراط بأنّ موقفه هذا طبيعي، وبالتالي يتعيّن عليهما أن يتقصّيا معاً ما إذا كان يتحلّى بحُسْن الخُلُق، والأفضل بدايةً أن يطرح عليه سؤال حول حُسْن الخُلُق، فإذا كانت سجيّة فيه، فلا بُدَّ أن تكون لديه وجهة نظر عن طبيعتها وفضائلها ولو ببساطة كلية.
كان السؤال الأول: ما هو حُسْن الخُلُق برأيك؟

” ما هو حسن الخلق؟ هل هو الهدوءأو الإعتدال أو حب الخير أو معرفة الذات؟  “

معبد-أبولو-في-دلفي-حيث-نقشت-العبارة-الشهيرة---أعرف-نفسك
معبد-أبولو-في-دلفي-حيث-نقشت-العبارة-الشهيرة—أعرف-نفسك

حُسْن الخُلُق هدوء؟
عند هذه اللحظة يبدأ النقاشُ الفعلي في المحاورة لمفهوم حُسْن الخُلُق، حيث يحاول كارميديس تعريف هذه السجيّة. بدا عليه التردُّد والإحجام عن الإجابة بداية، لكنّه بادر إلى اعتبار حُسْن الخُلُق هو نوع من الهدوء، إلا أنّ سقراط سرعان ما فنَّدَ هذا التعريف: فأيُّهما أفضل في الكتابة والقراءة وعزف القيثارة والتعلُّم والاستيعاب والتذكُّر والمصارعة والتمارين الرياضية، السرعة أم التباطؤ ؟ فوافق كارميديس مع سقراط بأنّ السرعة هي أفضل نشاطاً وحذاقةً وتعلُّماً وشحذاً للنفس، ولا سيّما في تقصّي النفس عن الحقائق والمعارف والإستكشاف. إذاً، حُسْن الخُلُق ليس هدوءاً.

حُسْن الخُلُق اعتدال؟
إلا أنّ سقراط لم يجعل كارميديس يُحبَط بل بثّ فيه الشجاعة على التأمُّل والخروج بإجابة أخرى، أطرق كارميديس هنيهةً باذلاً الجهد في تفكيره وجاء بإجابة أخرى: حُسْن الخُلُق هو اعتدال. وهنا يستشهد سقراط ببيت شعرٍ لـ هوميروس:
“الاعتدالُ ليس فضيلة لإنسانٍ محتاج”
وعنِيَ بذلك أنّ ثمة مواقفَ لا تتطلّب اعتدالاً كالدفاع عن النفس والمطالبة بالحقوق وما شابه ذلك ممّا يخشى فيه وقوع تفريط بحَقّ.
فوافَقه كارميديس أنّ للإعتدال وجهاً جيداً وآخر غير ذلك على عكس حُسْن الخُلُق.

حُسْن الخُلُق قيام المرء بأعماله الخاصة؟
هنا يلجأ كارميديس إلى تعريفٍ سَمِعَهُ من “أحدهم”، مُلمِّحاً إلى كريتياس، ومفاده أنّ “حُسْن الخُلُق هو قيام المرء بأعماله الخاصة”، فهل كان ذلك الشخصُ مُحِقّاً؟ وعمِلَ سقراط على دحض هذه الفكرة أيضاً، فالحِرَفي على سبيل المثال يحافظ على حُسْن خُلُقه حتى ولو كان يقوم بأعمال الآخرين، أو لأجلهم.
سقراط: إذاً، حُسْن الخُلُق ليس بقيام المرء بأعماله الخاصة؛ أو أقلّه القيام بأشياء من هذا القبيل.
كارميديس: حتماً لا.
إذاً، كما كنتُ أقول للتو، ذلك الذي جهَرَ بأنّ حُسْن الخُلُق هو قيام المرء بأعماله الخاصة إنّما يُخفي معنى آخر؛ إذ إنّني لا أعتقد أنّه على هذا القدر من الحماقة ليعني ذلك. هل كان مغفّلاً مَنْ أخبركَ بذلك يا كارميديس؟
كلا، (أجاب كارميديس)، أخاله بالتأكيد رجلاً حكيماً.
إذاً، أنا على يقين من أنّه وضع هذا التعريف كأُحجية، ظاناً أنّ أحداً لن يعلم معنى كلمات “قيام المرء بأعماله الخاصة”.
وتبيّن عندئذ أنّ كريتياس هو وراء هذا التعريف وسُرعان ما استُفِزّ هذا الأخير وانبرى يدافع عن مقولته، وليتولّى محاورة سقراط من هنا وحتى قبيل نهاية المحاورة بقليل. ودفاعُ كريتياس عن تعريفه هذا استند إلى تمييز بين “القيام بالأشياء”، و”صنعها”، و”العمل”. وحُسْن الخُلُق يكمن في عمل الخير. هنا يتوسّع سقراط في هذه المقولة لتشمل القيام بما هو خير للآخرين وللنفس، لكنّ الناس غالباً ما لا يعلمون أنّ أعمالهم ستكون ذات نفعٍ بهذا الشكل، وبالتالي من الممكن أن يكون المرء متمتّعاً بحُسْن الخُلُق من دون معرفة ذاتية بذلك.

حُسْن الخُلُق معرفة الذات؟
كريتياس يرفض بقوة افتراض أنّ يكون المرءُ حَسَنَ الخُلُقِ من دون أن يعرف ماهية حُسْنِ الخُلق، ويُعيد صياغة النقاش بأكمله ويجعل “معرفة الذات” التعريفَ الجديد لحُسْن الخُلُق، مستشهداً بذلك القول الشهير المنقوش على مدخل معبد “دلفي”: “اعرَفْ نفسَك” (باليونانية “غنوثي سيوتون”.
يقول كريتياس:
أكادُ أقول إنّ معرفة الذات هي جوهر حُسْن الخُلُق، وبذلك أوافق مع ذاك الذي كرّس نقش” إعرفْ نفسك” في دلفي.
يُعتبر اقتراحُ كريتياس هنا النقاشَ المحوري في محاورة كارميديس، لكن كيف لنا أن نفهم “معرفة الذات” كأساسٍ لحُسْن الخُلُق؟ بدأ هذا النقاشُ بوصيّة “نقش دلفي” المعتبرة لدى الإغريق ليتطوّر إلى فكرة فلسفية أكثر تعقيداً بكثير هي “معرفة الذات”. وهنا يستخدم أفلاطون النهج السقراطي في التساؤل الإستقرائي لإعادة صوغ أو دحض المفاهيم الإغريقية المُسلَّم بها والتي تعلّمها الإغريق من السوفسطائيين. واللافت أنّ نقاش “إعرفْ نفسك” ذو دلالة عميقة في المحاورة، إذ إنّ سقراط لا يحاول هنا إثبات خطأ هذه المقولة بل بالعكس يسعى إلى الحث على فهمها بنهجٍ عقلاني، وإلقاء الضوء على الحكمة الفيثاغورسية القديمة بصياغةٍ جديدة.
ووافق الاثنان على أنّ حُسْن الخُلُق إذا كان نوعاً من المعرفة فهو إذاً نوعٌ من العلوم. وكان اقتراح كريتياس الأوّلي أنّ حُسْن الخُلُق هو “علمُ ذات المرء” ولو لم يتّضح ما هو تأثير هذا “العلم”.

جملة-أعرف-نفسك-المنقوشة-على-مدخل-معبد-أبولو-في-دلف---اليونان
جملة-أعرف-نفسك-المنقوشة-على-مدخل-معبد-أبولو-في-دلف—اليونان

حُسْن الخُلُق معرفة المعرفة وعلم العلوم؟
التأكيد بأنّ حُسْن الخُلُق هو نوعٌ من علم معرفة الذات تطوّر إلى فرضية بأنّ حُسْن الخُلُق يتعيّن أن يكون علماً بحد ذاته وعلماً لجميع العلوم، بل “علم العلوم”. وذهب سقراط إلى حدّ القول إنّ مثل هذه المعرفة، لكي تكون معرفةً حقّة للذات، وجبَ أن “تعرف أيضاً ما لا تعرفه”. وبدا “علم” حُسْن الخُلُق عندئذ فكرة عصيّة على الفهم، بل لربّما مفارقة ، حيث أنّ سقراط غير متأكد من وجود مثل هذه المعرفة من حيث المبدأ وبالتالي غير متأكد ما إذا كانت مصدرَ خيرٍ في الأساس.
قال سقراط:
لستُ متأكداً ما إذا كان ثمة ما هو “علم العلوم”؛ وحتى لو كان موجوداً، فلا أعترفُ به بكونه حكمةً أو حُسْنَ خُلُقٍ، حتى يتسنّى لي رؤية ما إذا كان مثل هذا العلم قادراً أم لا على أن يؤتِينا بأيّ خيرٍ؛ إذ لديّ انطباعٌ بأنّ حُسْنَ الخُلُق هو منفعة وخير.
فثمة سؤال يطرح نفسه: لكلّ علمٍ موضوع، فالعددُ مثلاً هو موضوع الحساب، والصحة موضوع الطب، فما هو موضوع “حُسْن الخُلُق”؟ يأتي الجواب بأنّ حُسْن الخُلُق هو معرفة الإنسان لِمَا يعرفه ولِمَا لا يعرفه, لكن ثمة تناقضاً في هذا الكلام، فعلى سبيل المثال ما من رؤيةٍ للرؤية بل فقط أشياء مرئية، وهكذا دواليك من الأمثلة المشابِهة ليصلا إلى أنّ ليس هناك “معرفة للمعرفة” بحد ذاتها. فما هو أكبر أو أثقل أو أخف إنّما هو أكبر أو أثقل أو أخف من شيء آخر، لا من نفسه. فموضوع النسبية هو خارج الشيء لا متضمناً فيه.
والمعرفة هذه تجريد (abstraction) ولا تُنبئ عن موضوع متعيّن ملموس (concrete)، مثل الطب أو البناء أو ما شابه. وبالاعتراف أنّ هناك معرفة لِمَا نعرف ولِمَا نجهل، يبقى السؤال، أين الخير في ذلك؟ فلا بُدّ من أن تكون المعرفة التي يوفّرها حُسْن الخُلُق من النوع الذي يمنحنا الخير، فحُسْن الخُلُق هو خير، إلا أنّ هذه المعرفة الكلّية لا علاقة لها بالسعادة والخير، والنوع الوحيد من المعرفة الذي يجلب السعادة هو معرفة الخير والشر.
كريتياس يُجيب بأنّ علم أو معرفة الخير والشر، وجميع العلوم، إنّما تنتظم تحت العلم الأرقى أو “معرفة المعرفة”. لكنّ سقراط يُجيبه بالفصل مجدداً بين المجرّد والملموس، ويسأل كيف تبعث هذه المعرفة على السعادة بالطريقة ذاتها التي يبعث فيها الطبُّ على الصحة.
حينما يلجأ سقراط إلى التحدُّث عن “حُلُمه” حول الدولة المثالية التي تحكمها الحكمة (معرفة المعرفة)، تتبدّى الإشكالية في أنّه غير متأكد من أنّه حتى في مثل هذه الدولة المثالية، في حال وجودها، سيكون الجميع سعداء. هنا تكون الإشكالية في الربط بين حُسْن الخُلُق المثالي المحض، أو الحكمة المثالية المحض، والسعادة “المتعيّنة” في عالم الواقع. فما هي “معرفة المعرفة” التي تجعلنا سعداء فعلياً؟ هل هي معرفة الخير؟
الآن أوافق تماماً، بمقتضى ذلك، أنّ البشرية ستحيا وتعمل وفقاً للمعرفة، إذ إنّ الحكمة ستترقّب الجهل وتمنعه من اختراقنا. أمّا إذا ما كان العمل وفقاً للمعرفة ستترتّب عليه سعادة، فهذا يا عزيزي كريتياس ما ليس بمقدورنا بعد تحديده.
أجاب: أعتقدُ مع ذلك أنّنا إذا أهملنا المعرفة، فسيصعب علينا الظفر بتاج السعادة في أي شيء آخر.

” لا يمكن أن يتعافى الجزء ما لم يكن الكلُّ متعافياً، وكل خير وشر، سواء في الجسد أو الطبيعة البشرية، إنّما ينبــــــع
من النفس ويتدفــّق منها إلى الخـارج  “

جانب-من-أثينا-القديمة
جانب-من-أثينا-القديمة

تلميذٌ حَسُن الخِلْقة والخُلُق
عدم الخروج بجواب نهائي لتعريف حُسُن الخُلُق لم يُثبِّط عزيمة كارميديس، إذ بدا في الختام أنّ سقراط فازَ بتلميذٍ جديدٍ متعطِّشٍ للفلسفة، وتوّاقٍ “للإفتتان” يومياً بحكمته وتعاليمه. وبذلك أثبت كارميديس أنّه لا يتمتّع بحُسْنِ الخِلْقة فحسب بل أيضاً بحُسْنِ الخُلُق. فقد قرر مواصلة التعلُّم منه ومعرفة المعنى الحقيقي لحُسْن الخُلُق. لقد اكتشف بالفعل أنّه أكثر ما يكون مًتحلِّياً بحُسْن الخُلُق أشدّ ما يكون متمتّعاً بالسعادةً، بغض النظر عن الجدل الدائر حول هذه السجيّة والتعريفات الفلسفية لإستكشاف كُنهها.
وهذه التعريفات تمثّل النهج السقراطي وهو شكلٌ من أشكال البحث المعرفي لإستجلاء الحقائق، فعبر طرح الفرضيات ودحضها ورفضها يرتقي المُحاوِران إلى معرفة إيجابية، أو أقلّه إلى فهمٍ أفضل لما يعرفانه حقاً وما كانا يظنّان أنّهما يعرفانه. وتكشف هذه التعريفات إصرار سقراط على التثقيف الأخلاقي بالرُّوحيّة الفيثاغورسية، داعياً إلى التحلِّي بالفضائل الأخلاقية ومعرفة الذات والسعي وراء السعادة في المعرفة العقليّة والتأمُّل النفسي.
المغزى الرئيسي من وراء “محاورة كارميديس” هو أنّ آداب النفس البشرية تأتي أولاً حتى قبل الفلسفة وتعريفاتها، وكأنّ حُسْن الخُلُق هو كل تلك الصفات والمزايا الحميدة معاً بل هو مَجْمَعٌ لتلك الفضائل والسَجِيَّة الأولى لكلّ حكيمٍ مُحِبٍّ للحكمة والفلسفة.

ثورة الموحدين الدروز

ثـــــورة الموحّديــــــن الـــــدروز
علـــى الحكـــــــم المصــــــــري

(1837 و 1838)

واجه الحكمَ المصري لبلاد الشام، بين سنتي 1832 و 1840، ثوراتٌ عديدة في فلسطين ولبنان وسورية، كان أهمها ثورة الموحدين الدروز، أو ما سمّي «الثورة الدرزية»، التي بدأت في جبل حوران (جبل العرب)، وامتدت إلى مناطق الدروز في سفحي جبل حرمون، الشرقي والغربي، وقدّم فيها دروز جبل لبنان النصرةَ لإخوانهم. هذه الثورة تتطلب كتاباً، أو بحثاً مطولاً، للإحاطة بأسبابها وبجميع فصولها ومعاركها، ولا سيما أن المصادر التاريخية التي تناولتها، أو تناولت جانباً منها، كثيرة وغنية بالمعلومات، ومنها تقارير القناصل الأجانب، وتقارير القادة المصريين، و«المحفوظات الملكية» المصرية التي جمعها المؤرّخ أسد رستم في أربعة مجلّدات، ووصف الأطباء المرافقين للحملات المصرية على جبل حوران، و«مذكرات تاريخية» لمؤرّخ مجهول نشرها قسطنطين باشا المخلّصي، و«حروب إبراهيم باشا المصري في سوريا والأناضول» لمؤرّخ مجهول، وكتاب «تاريخ الأعيان في جبل لبنان» لطنوس الشدياق، و«كشف اللثام عن محيا الحكومة والحكام في اقليمي مصر والشام « لنوفل نعمة الله نوفل، و«الجواب على اقتراح الأحباب» لميخائيل مشاقة، يُضاف إلى ذلك مصدران من دروز حوران، بالغا الأهمية، هما لشاهدي عيان للثورة في جبل العرب، أولهما قصيدة مطوّلة للشيخ أبي علي قسّام الحنّاوي، وثانيهما مخطوط بعنوان«قصة اللجاه» للشيخ حسين إبراهيم الهجري، كما أن هناك عشرات الكتب والأبحاث التي تناولت «الثورة الدرزية» في حديثها عن تاريخ بلاد الشام. وإزاء هذا العدد الكبير من المصادر والمراجع، والكم الهائل من المعلومات الواردة فيها، لا يسعنا أن نورد في هذه المقالة عن ثورة الدروز إلا أبرز الأسباب والمراحل والمعارك، وبإختصار كلي.

إحتلال محمد علي لبلاد الشام
توصّل محمد علي، الألباني الأصل، إلى تسلّم ولاية مصر، وكان شخصية فذّة وذا طموحات كبيرة، فسعى إلى تحديث مصر على النمط الأوروبي، وأنشأ جيشاً قوياً مجهّزاً بالمدافع، ومدعوماً بالسفن الحربية، ومدرّباً على أيدي ضباط فرنسيين، وأبرزهم سيف المعروف بسليمان باشا الفرنساوي. وطمع في احتلال بلاد الشام، لغناها بالمواد الأولية اللازمة للصناعة التي طوّرها، كالخشب والفحم الحجري والنحاس وسائر المعادن، ولموقعها الإستراتيجي والتجاري المميّز بين الغرب والشرق، ولأنها طريق الحجاج إلى بيت الله الحرام، ومحاذية لتركيا التي كان يرغب في القضاء عليها بعد أن باتت ضعيفة وعرضة للمطامع الأوروبية.
تذرّع محمد علي برفض والي عكا عبد الله باشا إعادة الأموال التي استدانها منه، وبتقديم الأخير الملجأ للفلاحين المصريين الذين هربوا من الخدمة الإجبارية في الجيش المصري، فوجّه في العشرين من شهر تشرين الثاني 1831 جيشاً بقيادة إبنه إبراهيم، لاحتلال عكا التي كانت تُعتبر بوابة بلاد الشام من ناحية مصر، والتي عجز عن إحتلالها بونابرت في سنة 1799، فاحتل إبراهيم باشا قلعتها الحصينة، وتابع زحفه شمالاً فسلّم أهالي دمشق مدينتهم له، فدخلها مع حليفه الأمير بشير الشهابي الثاني الذي سبق لمحمد علي ان تحالف معه وتحالف مع أعيان محليين من بلاد الشام تمهيداً لسيطرته عليها. ثم احتل إبراهيم باشا حمص في 8 تموز 1832 بعد معركة قوية مع الجيش العثماني، واحتل حماه في اليوم التالي، وتقدم إلى حلب فملكها بالأمان في الشهر نفسه. وواصل زحفه شمالاً فتغلّب في ممر بيلان على الحشود العسكرية التي جمعها العثمانيون للدفاع عن الأناضول، وإجتاز جبال طوروس الفاصلة بين سورية وتركيا، وتغلّب في قونيه على جيش كبير حشده العثمانيون بقيادة رؤوف باشا والصدر الأعظم رشيد باشا. ولم يعد هناك من عائق يحول بينه وبين الوصول إلى الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، فتقدم إلى كوتاهية، وانتظر تعليمات والده، وما سيؤول إليه تحرّك الدول الأوروبية التي خشيت من توسّعه وقلقت من إنتصاراته، ومن قيام دولة فتية في غرب آسيا وفي مصر مكان الدولة العثمانية الهرمة والمشبّهة آنذاك بالرجل المريض.
إستعان السلطان العثماني بالدول الأوروبية ، وطلب نجدتها لإنقاذ عاصمة بلاده المهدّدة بالسقوط، ولإنقاذ سلطنته، فكانت روسيا السبّاقة إلى تلبية طلبه، لأنها كانت تطمح إلى الإستيلاء على المضائق وعلى الآستانة لتصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وهي لا تريد دولة أخرى تنازعها في ذلك. فأرسلت اسطولها إلى الآستانة، وأنزلت 15 ألف جندي إلى البر، الأمر الذي أقلق بريطانيا وفرنسا والنمسا، فضغطت على محمد علي للقبول بمصالحة السلطان العثماني، فعُقد بينهما إتفاق كوتاهية في 14 آيار 1833، وهو ينصّ على قبول السلطان بمحمد علي والياً على مصر وجزيرة كريت بعد ان سبق له وعزله عنهما، وتنازله له عن بلاد الشام، وإعطاء إبنه إبراهيم ولاية أدنه، مقابل أن يدفع محمد علي الأموال التي كان يدفعها الولاة العثمانيون، وان يجلو عن المناطق التي احتلها في الأناضول.

” الأميركي رسل ريزنغ
متى سلّت السيوف من الأغماد كان الضاربون بها أصلب قوم في غربي آسيا، إنهم “الدروز”، حتى ان زهرة الجيش المصري انكمشــــــت وانهزمت في وجــــــــــه تلك الســـــــواعد التي لا تليـــــــــن”  “

إدارة محمد علي في بلاد الشام
أقام محمد علي ابنه إبراهيم حاكماً عاماً على بلاد الشام، فجعل إبراهيم دمشق مركزاً لحكمه وانطاكية مقراً له ليشرف عن كثب على تحرّكات الجيش العثماني، إذ إن إتفاق كوتاهية ما كان إلا هدنة مع الدولة العثمانية، اتخذ منها والده سبيلاً لاسكات الدول الأوروبية عن توسّعه المرحلي، وفرصة لمعرفة ما ستنجلي عنه سياساتها ومواقفها، واتخذت منها الدولة العثمانية فرصة لإعادة بناء قواتها والإستعداد لجولة ثانية مع عزيز مصر محمد علي.
استطاع إبراهيم باشا السيطرة التامة على الأوضاع الأمنية والإدارية والإقتصادية، بفضل تسليمه المناطق والمدن لحلفائه وأعوانه، وبفضل تقرّبه من السكان والإصلاحات الضرائبية، وإضعاف الإقطاع، وإنشاء مجالس المشورة لإدارة المدن، ووضع الأنظمة الحديثة، وتحقيق المساواة بين السكان أمام القوانين، وإلغاء تمييز المسلمين عن النصارى، وتسليم هؤلاء الوظائف الحكومية. فبدا الحكم المصري في أعين السكان أفضل بكثير من الحكم العثماني، إلا ان نظرتهم إلى الحكم المصري ما لبثت أن تبدّلت بعد تبدّل السياسة المصرية إزاءهم، وتراجع إبراهيم باشا عن سياسة التساهل التي اتبعها، واحتكاره للسلع الضرورية، وعدوله عن تخفيض الضرائب ولجوئه إلى زيادتها، وإلى جمع السلاح، والتجنيد الإلزامي والسخرة. وقد عمد إلى ذلك ليلبي حاجات جيشه، وليؤمن المزيد من الموارد له، وليزيد من أعداده تحسّباً للمعارك المحتملة مع الجيش العثماني.
أثارت التدابير الجديدة المتخذة السكان، ضد الحكم المصري في مناطق متعددة من بلاد الشام. وما كانت الثورة تهدأ في مكان حتى تشتعل في مكان آخر، فيما كانت الدولة العثمانية تعمل على إذكاء نار هذه الثورات لإضعاف الحكم المصري، وإظهاره بمظهر العاجز عن تسيير أمور بلاد الشام تمهيداً لعودة سيطرتها عليها. وقد اشترك دروز صفد في الثورة التي قامت في فلسطين، فأدى ذلك إلى نزوح بين خمسمائة وستمائة عائلة منهم إلى جبل حوران (جبل العرب) حسبما ذكر فرديناند بيريه الذي كان مرافقاً لسليمان باشا الفرنساوي.

” تألم الشيخ إبراهيم الهجري لإهانة زعيم الدروز على يد شريف باشا فأطلق شرارة الثورة على إبراهيم باشا مردداً كلمته الشهيرة “ما لإبراهيم إلا إبراهيم” “

نزع سلاح دروز جبل لبنان وتجنيدهم
آنذاك إنقسم سكان المقاطعات اللبنانية إلى فريقين: فريق جلّه من المسيحيين، وعلى رأسه الأمير بشير الشهابي الثاني، رحّب بالحكم المصري، وساعده في إحتلال عكا، وفي السيطرة على بعض المناطق الشامية. وفريق آخر، جلّه من الدروز، وقف منه موقف الحذر والشك، مفضّلاً الدولة العثمانية عليه. ومع هذا قضت الضرورة بتعاون بعض الدروز مع الحكم المصري، ومنهم الأميران الأرسلانيان أمين ومحمد قاسم، والمشايخ حمود النكدي وحسين تلحوق ويوسف عبد الملك، الذين انضموا إلى قوات الأمير خليل، إبن الأمير بشير الشهابي الثاني، وساروا معه إلى طرابلس للمحافظة عليها، فيما كان سائر زعماء الأسر المقاطعجية الدرزية وبعض الأمراء الشهابيين ضد القائد المصري. وقد التحق فريق منهم بالقوات العثمانية المتقهقرة، ورضخ الباقون على مضض. لم ينسَ الزعماء الدروز ما فعله محمد علي عندما وقف مع حليفه الأمير بشير الشهابي الثاني في صراعه مع الشيخ بشير جنبلاط، وعندما أوعز إلى حليفه الآخر، والي عكا عبدالله باشا، بإعدام الشيخ بشير بعد هزيمته أمام الأمير والقبض عليه وسجنه في عكا.
بعد أن تمكن إبراهيم باشا من إخماد الثورات التي قامت ضده، عمد في سنة 1835 إلى تجريد سكان جبل لبنان من السلاح، وتجنيدهم إجبارياً في جيشه بعد أن كان قد أعفاهم من هذين الفرضين، بسبب كونهم تابعين لحليفه الأمير بشير، ولأنهم ساعدوه في بداية احتلاله وسيطرته على بلاد الشام. فعمد أولاً إلى تجريد الدروز من السلاح وتجنيدهم نزولاً عند طلب والده الذي رأى أن لا مفر من تجنيدهم أسوة بما جرى لغيرهم، “ولانه، بحسب رأيه، إذا بقيت اسلحتهم في ايديهم تكون خطراً على الأمن في البلاد” ولكي يسهل على إبراهيم باشا تنفيذ أمر والده وعد النصارى بالإستمرار في إعفائهم من التجنيد، وهدّد الدروز، عندما تردّدوا في ذلك، بتخريب بيوتهم وقطع ارزاقهم إذا لم يمتثلوا لأمره. فأوفد الأمير بشير أبناءه لجمع السلاح من الدروز، وقدم إبراهيم باشا إلى دير القمر ومعه سليمان باشا الفرنساوي وسليم باشا ومحمد باشا والأمير عباس الشهابي، وبضعة آلاف من الجنود، لنزع سلاح الدروز. فبدأ الدروز بتسليم سلاحهم تحت هذا الضغط العسكري، وما ان جرّدوا من السلاح حتى بدأ تجريد النصارى من ذلك في مخالفة من إبراهيم باشا لما كان وعدهم به.
كان تجريد دروز جبل لبنان من السلاح مقدمة لتجنيدهم الإجباري، فطلب إبراهيم باشا 1500 شاب منهم، فاعترضوا على مبدأ التجنيد وعلى ضخامة العدد، ولا سيما انه لم يسبق لهم أن قدّموا أبناءهم للخدمة العسكرية الإلزامية. وإزاء خشيتهم من مغّبة الرفض المطلق أبدوا استعدادهم لتقديم 540 شاباً على الا يختلطوا بمن هم من غير ملتهم، وأن يكونوا في فرق خاصة. وهكذا كان إذ تم تشكيل أربع فرق خاصة لكل منها أربعة بّواقين. ومما يجدر ذكره أن بعض أبناء الأسر الإقطاعية الذين خدموا في الجيش المصري انعم عليهم محمد علي باشا بلقب “بك” ، ومنهم المشايخ نعمان جنبلاط، وخطار العماد وناصيف نكد، الذين اكتسبت أسرهم لقب البكوية إضافة إلى لقب المشيخة.

في هذه الطبيعة الوعرة لمنطقة اللجاه كانت البد الطولي للموحدين الدروز إذ تمكنوا رغم ضعف تسليحهم من سحق الجيش المصري
في هذه الطبيعة الوعرة لمنطقة اللجاه كانت البد الطولي للموحدين الدروز إذ تمكنوا رغم ضعف تسليحهم من سحق الجيش المصري

مسألة نزع سلاح دروز جبل حوران وتجنيدهم
حُلّت مسألة نزع سلاح دروز جبل لبنان وتجنيدهم بالشكل الذي ورد ذكره. أما مسألة نزع سلاح دروز جبل حوران (جبل العرب)، وتجنيدهم، فقد كانت سبباً لثورتهم الشهيرة على الحكم المصري، وشاركهم فيها بعض دروز لبنان، ومنهم عشرات المقاتلين من جبل لبنان.
كان الدروز قد توطنوا في جبل حوران أواخر العهد المعني، بسبب الصراع الحزبي القيسي اليمني، الذي أذكت الدولة العثمانية نيرانه. وكان أول النازحين إليه الأمير علم الدين المعني، وفي احدى الروايات الأمير علم الدين اليمني. لكن هذا الأمير الذي قدم إلى جبل حوران في سنة 1685 مع 150 فارساً وعيالهم، لم يمكث فيه طويلاً، بل عاد إلى لبنان ليترك رئاسة النازحين للشيخ حمدان الحمدان الذي يعود إليه فضل تثبيت أقدام الدروز في الموطن الجديد، وتأسيس المشيخة الحمدانية التي استطاع الدروز في عهدها إعمار مناطق الجبل شبه الخالية من السكان، والصمود في وجه غزوات البدو، وبسط سيطرتهم على مناطق السهل المجاورة، والإشراف على طريق الحج، كما انهم قاموا بقيادتها بالثورة على المصريين.
عمد إبراهيم باشا في أواخر سنة 1837 إلى نزع سلاح دروز جبل حوران وتجنيدهم، لاتمام السياسة التي انتهجها مع سائر السكان، ولبسط سلطته على الجبل بعد ان غدا ملجأ للكثيرين من العصاة عليه، ومن الهاربين من الضرائب الباهظة ومن التجنيد الإلزامي، فطلب من شريف باشا، حكمدار بلاد الشام، تنفيذ أوامره، فاستدعى هذا شيوخ جبل حوران وعلى رأسهم الشيخ يحيى الحمدان إلى اجتماع، وقد لبّى الشيوخ دعوته وحضروا إلى دمشق، فطلب منهم تقديم 170 شاباً للخدمة الإلزامية. لكن الشيخ الحمداني ألحّ عليه بإعفاء قومه من ذلك، لأنهم على تخوم البادية، ومعرّضون دائماً لغزوات البدو، لذا يصبح وجودهم مهدّداً بغياب أبنائهم عنهم. وتعهد بدفع المزيد من الضرائب مقابل ذلك، وهو ضريبة مئتي فدّان. لكن شريف باشا لم يحتمل الحاحه وأساء إليه. ولتوضيح ما جرى بينه وبين الشيخ المذكور، ولتحديد نوع الإساءة التي وجهّها إليه، وردة فعل دروز الجبل على ما جرى، ننقل ما دوّنه الرئيس الروحي الشيخ حسين إبراهيم الهجري الذي كان قريباً من الحدث، والذي سيكون شاهد عيان للمعارك التي دارت بين الدروز والحملات المصرية، والتي وصفها في مخطوطة “قصة اللجاه”.
يذكر الشيخ حسين إبراهيم الهجري ان شيوخ الجبل رجوا الوزير شريف باشا إعفاءهم من التجنيد فزاده ذلك إصراراً عليه، وتهديداً لهم وغضباً عليهم “عندها لجّ بالرجاء من أجل هذا الشأن من أخذته الغيرة على العيال والبلدان الشيخ يحيى الحمدان، فعند ذلك مشى الوزير بنفسه إليه، وقيل إنه صفعه بيده على خديه، وغضب غضباً شديداً عليه حتى دخل بقلب المذكور الجزع والذعر والخوف مما رآه. ثم خرج الجميع من عنده وهم خائفون، وفي أمورهم وتدبيرهم متحيرون، ولما وصلوا إلى البلاد إستدعوا كل ذي لب وعقل وعماد، وعرّفوهم مراد الدولة، ثم إجتمعوا بالشخص القويم الشيخ أبو حسين إبراهيم الهجري وأعلموه بهذا الشأن الجسيم، ثم أنهم لا يزالون في ما بينهم بالمخابرة والتفقّه والمشاورة. فبعضهم أمّموا على الفرار والهرب، وبعضهم أمّموا على الشدائد والقتال والحرب، وبعضهم أمّموا على أداء المراد والطلب خوفاً واحتساباً من عواقب الأمور والعطب”.
والروايات في جبل حوران عن الثورة كثيرة، ومنها ان الشيوخ الذين قابلوا شريف باشا عقدوا عند وصولهم إلى الجبل إجتماعاً في السويداء، وتداولوا في ما جرى وفي ما عليهم أن يفعلوا. وقبل أن يتخذوا القرار النهائي أوفدوا الشيخ حسين أبو عساف والشيخ حسين درويش إلى الرئيس الروحي الشيخ إبراهيم الهجري، ليقفا على رأيه، نظراً إلى مكانته السامية عندهم، ولثقتهم بحكمته وسداد رأيه. فأجاب الشيخان انه متألم جداً لإهانة الشيخ يحيى الحمدان، رافضاً كلياً لمبدأ التجنيد، وانه موافق على الثورة ضد المصريين، ومستعد للاشتراك في القتال. ومما يروى عنه قوله: “ما لإبراهيم الا ابراهيم”. نقل الشيخان المذكوران موقف الشيخ إبراهيم إلى أعيان الجبل فصمّموا على الثورة، وعلى الهجيج إلى اللجاه. والهجيج هو الرحيل مع العيال والمواشي وما يمكن حمله من المؤونة والعلف إلى أحد المكانين التاليين: الصفا في شرقي الجبل، واللجاه إلى الجنوب الغربي منه ، وكلاهما ذي مناعة طبيعية توفر الحماية المنشودة. واللجاه مسماة عند دروز حوران “ الوعرة” لوعورتها. وهي صحراء صخرية مكونة من مقذوفات البراكين التي تجمّدت في اعوجاجات عميقة، وممرات ملتوية وضيقة، ومليئة بالمغاور والكهوف التي تشكّل أفضل ملجأ طبيعي، لصعوبة الوصول إليها. وقد انشدت نساء دروز جبل حوران عن الهجيج، ابان الثورة على إبراهيم باشا ،البيت التالي:
بـــــــــــرهوم ويـــــش لــــــــك عندنـــا حــــــــــــوران والـــــــــوعره لــــــــــــنا
إن إقدام دروز حوران على الثورة واستعدادهم لمقاتلة الجيش المصري الذي عجزت عن الصمود في وجهه جيوش الدولة العثمانية، مثال على جرأتهم واستسهالهم للقتال، وتفضيلهم أمراً مّراً على أمر اكثر مرارة، وهو افضل دليل على مدى كره الناس للخدمة الإلزامية التي فرضها المصريون، بحيث كان جنودهم يضطرون إلى الحيلة لتجنيد الناس، وذلك بمداهمة المتجمعين في الأسواق أو في مناسبات الأعياد، والقبض عليهم، وسوقهم إلى الجندية.

قرية صميد بالقرب من السويداء شهدت موقعة تكبد فيها الجيش المصري خسائر فادحة
قرية صميد بالقرب من السويداء شهدت موقعة تكبد فيها الجيش المصري خسائر فادحة

بداية الثورة وحملة علي آغا البصيلي
يذكر جالياردو، رئيس الأطباء الذين رافقوا حملة إبراهيم باشا على الجبل سنة 1838، ان شريف باشا أرسل إلى السويداء قاعدة الجبل حوالي 120 فارساً يحملون الأصفاد التي سيقيّد بها المجندون. وما كاد هؤلاء يستقرون فيها حتى لاحظوا صعوبة تنفيذ أوامره، فعادوا تحت جنح الظلام إلى دمشق وأخبروه بخطورة تنفيذ الموقف. فأرسل حوالي 400 فارس غير نظامي، بقيادة رئيس الهوّارة علي آغا البصيلي، ليقابل الشيخ يحيى الحمدان، وليتسلّم المائة والسبعين شاباً. نزل القائد في قرية “الثعلة” الواقعة إلى الغرب من السويداء، وبدأ مع الدروز مفاوضات تفتقر إلى الثقة وتتسم بالخداع والتهويل، مستهدفاً منها استدراجهم وإخراجهم من اللجاه ليسهل عليه ضربهم كما جاء في “مذكرات تاريخية” لمؤلف مجهول عايش الحدث، ولكنهم، وحسبما جاء في هذه المذكرات: “كانوا أمكر منه” ولم يقعوا في الفخ الذي نصبه لهم، إذ سبقوه في توجيه الضربة، وهاجموه ليلاً، وأجهزوا على جنوده، ولم ينجُ بنفسه إلا بكل صعوبة. وكان من القتلى عبد القادر آغا أبو حبيب متسلم حوران سهلاً وجبلاً. ولم يسلم من حملة البصيلي سوى ثلاثين نفراً ، فيما فقد الدروز ثلاثة عشر رجلاً من بينهم الشيخ إبراهيم الأطرش، عم الشيخ إسماعيل مؤسس الزعامة الطرشانية، وقد تعقب إبراهيم مع فرسان الدروز الجنود الناجين الهاربين من الثعلة وقتلوا بعضهم.
يسمي دروز جبل حوران المواقع الحربية بالأسماء التالية: كون – شر- يوم – ذبحة ويسمّون ما جرى في الثعلة مع علي آغا البصيلي “ذبحة الثعلة” أو “ذبح البصيلي”. وبعد هذا ستتابع المعارك وستزداد الأسماء المذكورة، وأبرزها يوم بصرى- يوم براق- يوم القسطل- يوم لاهثة – يوم الصورة الكبيرة- يوم جب النعام- يوم صميد- يوم الكسوة. وكما كانت خسائر الدروز قليلة في “ ذبحة الثعلة “ وخسائر المصريين كثيرة، هكذا كانت خسائرهم وخسائر المصريين في معظم المعارك التي وقعت، ذلك أن خسائر المصريين الكبيرة جداً قياساً إلى خسائر الدروز مع انهم الأكثر عدداً وتنظيماً وتسليحاً، تعود إلى الشجاعة التي إتصف بهم الدروز عبر تاريخهم, وتعود إلى جهل المصريين لأراضي جبل حوران، وخصوصاً اللجاه، وتهوّرهم وتسرّعهم للدخول إلى اللجاه، واستهانتهم بعدد الدروز القلائل، وركونهم إلى الإنتصارات الباهرة التي حققوها على الجيوش العثمانية.

حملة محمد باشا
إنتهى إلى الوزير شريف باشا نبأ الكارثة التي حلّت بحملة علي آغا البصيلي، فسارع إلى إعداد حملة تثأر لذلك وتنفذ أمره بالتجنيد، بقيادة محمد باشا مفتش الجيش المصري، عددها ثمانية آلاف جندي، وفي المراجع الدرزية أثنا عشر الف جندي، ومعهم سلاح المدفعية. وعند وصولها إلى بصرى الحرير، الواقعة في سهل حوران على الطريق إلى السويداء، هاجمها الدروز، واستبسلوا كعادتهم في القتال، لكنهم انهزموا حين بدأ قصف المدفعية التي لم يتعودوا على قتالها. واغتنم محمد باشا تضعضعهم وانهزامهم، فأطلق عساكره لعدة أيام تفتش القرى، وتنهبها، وتجمع المواشي، ثم لحق بالثائرين إلى داخل اللجاه، لاعتقاده أنهم ما عادوا قادرين على متابعة القتال، ولجهله طبيعة ارض اللجاه، وكان ذلك خطأ بالغاً منه.
كان الدروز آنذاك متجمّعين في قرى داما والخرسا وصميد وعاهره (عريقة اليوم). وحين وصل الجند إليهم تخلّوا عن قريتي عاهره والخرسا، وإنشغلوا بنقل عيالهم وغلالهم ومواشيهم إلى أماكن اكثر أمناً في اللجاه، فيما كان الجند يتعقبونهم ويقتلون العجزة منهم ويسلبون ما يصادفونه من المواشي. أما قرية صميد، فقد كان الشيخ إبراهيم الهجري موجوداً فيها مع أربعين مقاتلاً، فناوشوا الجند لبعض الوقت، وأخّروا تقدمه. وما ان وصل الثوار في تقهقرهم إلى حيث تجمعت نساؤهم وأطفالهم، حتى قابلتهم النساء بالزغاريد وهتافات التشجيع، فارتدوا على الجند ليدافعوا عن أعراضهم، واستبسلوا في الدفاع عن عيالهم، وأجبروا الجند على التقهقر وقتلوا معظمهم ومن بينهم قائد الحملة محمد باشا ، وأيوب بك (امير اللواء) وأربعة عشر ضابطاً، فيما خسروا أربعة عشر نفراً وكان من أسباب انتصارهم انضمام المتطوعين الدروز في الجيش المصري إليهم.

” ثورة دروز حوران على الجيش المصري الذي قهر جيوش الدولة العثمانية، مثال على جرأتهم واستسهالهم للقتال، وتفضيلــــهم الموت على النيل من كرامتـــــــهم  “

محمد-علي-باشا-في-أوج-سلطانه
محمد-علي-باشا-في-أوج-سلطانه

حملة أحمد منيكلي باشا
لما بلغ شريف باشا خبر الكارثة الثانية التي حلّت بالجند المصري، جمع ما عنده من العساكر، وما تبقى من فلول حملة محمد باشا، وأمده إبراهيم باشا بجيش يقوده وزير الحربية، احمد منيكلي باشا، وعدده أربعة آلاف جندي، فأصبح المجموع عشرين ألفاً (في المراجع الدرزية أربعة وعشرون ألفاً)، وبعد ان تجمعت هذه الحملة في قرية تبنه الواقعة في سهل حوران على تخوم اللجاه، والمتخذة نقطة عسكرية، توجّهت إلى داخل اللجاه، وسارت يوماً كاملاً فيه دون أن تصادف الثائرين الذين لم يعلموا بتحركاتها إلا في المساء، من قبل العربان الذين كانت بعض قبائلهم تساعدهم، فعقدوا إجتماعاً برئاسة الشيخ يحيى الحمدان وحضور الشيخ إبراهيم الهجري الذي كان يشدّد العزائم، ويقوّي إرادة الصمود، ويحث على مواصلة القتال وعلى الاستبسال، وحضور شبلي آغا العريان زعيم راشيا الذي انضم الى الثوار.
قرّر الدروز في إجتماعهم العاجل كيفية مجابهة الحملة الجديدة، فسار خمسمائة رجل منهم لقتالها، وانقسموا الى ثلاث فرق: فرقة ظاهرة، وفرقتان مختبئتان خلف الصخور. وحين بدأت المعركة في صباح اليوم الثاني انهزموا بسبب تفوق الجند عليهم بالعدد والسلاح، لكنهم في تقهقرهم ظلوا يناوشون الجند ويطلقون النيران عليهم من خلف الصخور التي تشكل لهم استحكمات طبيعية. ولما وصلوا في إنهزامهم إلى عيالهم صاحت النساء بالزغاريد وبعبارات التنخية وبمناشدة “ النشامى”، فأعادوا الكرّة على الجنود حتى أوقفوا تقدمهم ثم اضطرّوهم إلى الإنهزام، فتشتتوا وتعقبوا فلولهم المهزومة التي لا تلوي على شيء والتي تجهل طريقاً تسلكه حتى صار الرجل حسبما جاء في “قصة اللجاه” الوارد ذكرها، يحوز من المصريين مائة رجل، ويسلبهم سلاحهم ومالهم. وقد غنم الدروز الكثير من الأسلحة والذخائر، ولم يفقدوا في هذه المعركة الظافرة سوى 25 قتيلاً فيما كانت خسارة عدوهم اكبر خسارة نزلت به في معاركه معهم وهي مئات القتلى، واضعاف ذلك من الجرحى من بينهم أحمد منيكلي باشا وتُعرف هذه المعركة بيوم القسطل وقد جرت في غربي اللجاه .
كان الرئيس الروحي لدروز جبل العرب، الشيخ أبو علي قسّام الحنّاوي من ابرز المقاتلين، وشاهد عيان لما جرى، فوصف في قصيدته المطوّلة، البالغة 111 بيتاً، معظم المعارك، وسمىّ قادة الحملات المصرية الاربع، وبعض من قتلوا وجرحوا منهم، وافتخر بتاريخ الدروز وامجادهم وصنائعهم في قتال المصريين والعثمانيين، وهذه مقتطفات منها:
ومن بعدها إبراهيـــــــم باشـــــــا ركـب
عليـنا وجــرّد علينــــــا عســكـرا جــــرّار
أول فتـوح الشــر ذبــح البصيلــــــــــي
اجـا خمـس مية حصان بفرد نهـــــــــار
من بعدهـا جهّــــــز وزيــــــرو محمــد
باشــــا كيــــــــــوداً حربـــــجـي قهّــــــــار
دخل للجاه زاحــف بجيش عرمـــــرم
ونحنــــــا قلايــــــــل مــــــــا يـــزود كـثــار
نطحناه ونتناخى وتبكـي حريمنـــــــا
وصـــــــار المـعـــــارك والفـرنجـي ثــــــار
جانـــــا ابو ابراهيم فـازع بعـزمــــــــــه
وسيفو بشـــــوف العـين يلهـــــــب نــــــــار
وصحنا كما تهدر اسـود الضــراغم
عَ القـــــوم في البلطــــــات والـبتـــــــــــــّار
ذبحنـا الوزير وكل ضبّـاط عسكـرو
وثلثين جيــــــــشـو راح قصــف عمـــــــار
ومـن بعـد ذا جانا شريفـاً واحمـد
باشـــــــــــوات يتكنّـــــو لأخــــــــــذ الـثـــــار
فاتـوا علينـا للمنـــــــــاره ورتّـــــبــوا
الآيــــــات في ضـــــرب الكـــلل والـنــــــــار
وبارودهم مثل الرعود القـواصــف
بيـــــوم عظيـــــم الهــــــول والأخطـــــــــار
ما ظن لا هولاً ولا يــــــوم أعـظـــم
يشبـــه لصفّيــــــن وليــــــــوم ذي قـــــــار
ومحاربتنـا وسط غابــة اســـــــودنا
يا بئــــــس شــــــوّار عليــــــهــم شــــــــــــــار
فهـذي قلعتنـــــــا وهـذي لجاتنـــــــــا
وتـربـــــــة عـدانــــا ومـن دخلـــها حــــــار
حملنا عليـهـم كالاسـود القســاور
ووثبــــــة ضــــــراغـم مثلــــها ما صــــــار
أخذنا المدافـع والجباخانـات والذخر
والذبــــــح ما يحصـــــى لـه مقــــــــــــدار
وأحمد باشا راح محمول فـي نعــش
وطيـفــــــور بـــــــــــك ومثلـــــــــــهـم وزّار
وبرج الغضـــــب جانـا ابـراهيـم باشـا
بالأرنـــــــاؤوط والتـــــــرك والبلغــــــــــار
ونصب عراضي الجيش في ديار اللجاه
وضيـق عليـنــــــا الظــــالم القهّـــــــــــــــار
علـى سـاق قام الحرب يوما فيومـا
وخيـــــل الهنـــــادي كـــــــــل يـوم تغــــــار
وستـين كـون نقابلـو ومـا نهابـــــــو
ونكســــــر جيوشـــــو بقــــــــــوة المختـــــار
وسبعيـن الـف فقـد من عساكـــــرو
اصلــــــح وصالحنـــــا وفــــات الثــــــــــــار

حملة إبراهيم باشا
قلقت حكومة محمد علي من هذه الهزائم المتتالية، وخشي إبراهيم باشا من تفاقم أمر ثورة الدروز، واحتمال امتدادها إلى سائر المناطق الدرزية، وخصوصاً بعد ظهور ملامح الثورة في سفحي جبل حرمون، وخشي إستغلال الدولة العثمانية لفرصة انشغاله في إخمادها، واحتمال قيام الدمشقيين بالانتفاضة عليه بعد ان أظهروا الشماتة بإنهزامات جنوده، وبعد أن اتصل الدروز بهم وحرّضوهم على الثورة، فصمم إبراهيم باشا ان يقود بنفسه حملة كبرى تخضع الجبل الثائر ليعمَّ الهدوء جميع مناطق بلاد الشام. وقد جاء في المحفوظات الملكية ان محمد علي رأى وجوب الإسراع في قمع الثورة الدرزية، لئلا يؤدي استمرارها الى استفزاز الآستانة.

” مئات من المقاتلين والفرسان الدروز يهزمون حملة من 24 ألف جندي مصري مجهزين بالمدفعية ويقتلون قائدها وضباطها ويغنمون أسلحتها وذخائرها  “

حملة إبراهيم باشا تصل إلى مشارف أضنة وتهدد الدولة العثمانية
حملة إبراهيم باشا تصل إلى مشارف أضنة وتهدد الدولة العثمانية

” دروز جبل لبنان يهبّون لنصرة ثورة إخوانهم على إبراهيم باشا في وادي التيم بقيادة الشيخين حســـن جنبلاط وناصر الديــن العمـاد  “

وارسل محمد علي إلى إبنه إبراهيم نجدات كبيرة من مصر، واستقدم مصطفى باشا من كاندى مصطحباً ألفي الباني، واستحضر إبراهيم باشا قوات عديدة من بلاد الشام دون ان يخلي الحدود الشمالية من الجند تحسّباً لأي هجوم طارئ من الدولة العثمانية. وبلغ مجموع الحملة التي اعدها أكثر من عشرين الف مقاتل، وكانت تضم نخبة الضباط مثل سليمان باشا الفرنساوي ومصطفى باشا، كما تضم أفضل الجنود المدرّبين على حروب الجبال والأماكن الوعرة كالألبان وسواهم.
إنتقل إبراهيم باشا إلى اللجاه ليختبر بنفسه أرضها ومسالكها وأماكن مياهها. وبعد أن دار حولها وقع اختياره، بالاتفاق مع سليمان باشا، على خطة تقضي بتجنب مقاتلة الدروز داخل اللجاه على قدر الإمكان، وبمنع خروجهم منها، وبإقامة معسكرات حولها من ناحية الغرب، وبمنع إقتراب الدروز من ينابيع المياه.
هاجم الدروز قوات إبراهيم باشا في قرية “الصورة الكبيرة” عند تخوم اللجاه، لكنهم لم يستطيعوا التغلب عليها بالرغم من الخسائر التي انزلوها بها، كما لم يستطيعوا فك الحصار المفروض عليهم، لكنهم تمكنوا في البداية من منع توغل القوات المصرية في اللجاه، ومنعها من السيطرة على نبع ماء يستقون منه حيث دارت معركة كبيرة كانت خسائر المصريين تفوق بكثير خسائرهم، وجاء في وصفها في “مذكرات تاريخية” بالقول: إن العسكر كان يخب في الدم والقتلى إلى الركبة”.
وبقدر ما كانت قوات إبراهيم باشا كبيرة، بقدر ما كانت بطولات الدروز وتضحياتهم في التصدّي لها كبيرة ايضاً، وبرز منهم الأبطال الذين خلّدت الذاكرة الشعبية اسماءهم، مثل اسماعيل الأطرش، وحسين ابوعساف، وحسين درويش، واحمد جربوع، كما اعتمدوا بعض الخطط الحربية التي تدل على مقدرتهم في مواجهة الأخطار والتحديات الطارئة. ومن ذلك طريقة إستعادة مواشيهم المسلوبة من قبيلة اغتنمت وجودهم على الجبهة مع جنود إبراهيم باشا، فغزتهم وسلبت مواشيهم، ذلك انهم حين علموا بذلك عمدوا الى اشعال النار لإيهام الجنود المصريين انهم لا يزالون في مواقعهم وسارعوا الى اللحاق بالقبيلة الغازية وهاجموها وانتصروا عليها، واستعادوا مواشيهم .

ومن خطط الدروز الحربية ايضاً انقسام مشاتهم الى فرقتين خلال انسحابهم الى داخل اللجاه أمام إحدى الحملات المصرية: فرقة تتمركز خلف الصخور وتطلق النار، وفرقة تحشو البنادق وهي تجري، وحين تنتهي الفرقة الاولى من اطلاق النار تسارع لتحل مكان الفرقة الثانية التي تأخذ دورها ، فيما كان الفرسان يؤمنون الحماية للفرقتين ويشاغلون العدو بنيرانهم. وما زالوا على هذه الحال حتى بلغوا المكان الآمن، وارتد الجند عنهم بعد ان انزلوا فيه الكثير من القتلى والجرحى.
كان الدروز يعرفون الجنود المصريين حين يلفظون حرف “الجيم” في الكلمات، فيعاملونهم بأقسى ما يعاملون به سائر المجّندين الذين سيق بعضهم قسراً الى قتالهم. ولكثرة ما لاقى الجنود المصريون من الاهوال في قتال الدروز ظلت كلمة “درزي” لمدة طويلة تثير في نفوس المصريين النفرة والجزع، وكثيراً ما استعملوها في معرض الشتيمة.

توسّع الثورة وانتقالها إلى وادي التيم
عمد الدروز على أثر انتصاراتهم الأولى إلى إثارة الدمشقيين، فارسلوا، بواسطة شيخ قرية الهيجانة الرسائل إلى مفتي دمشق، وشمدين آغا احد أعيان أكراد الشام، والبوظلي في حي الميدان. وقام في الوقت نفسه بعض دروز غوطة دمشق بقطع الطريق بين بيروت ودمشق، واخذوا يؤلّبون سكان القرى للهجوم على ثكنات الجيش، وإطلاق سراح المجنّدين من أبنائهم. لكن متسلّم الشام حافظ بك عمد إلى الشدة، وأعدم كل مشتبه به. وعن هذا جاء في “مذكرات تاريخية” انه اخذ يعدم كل يوم أو يومين ثلاثة أشخاص من الدروز، فلما رأى أهل البلد ذلك رجعوا عن غيهم حالاً.
كان بعض دروز لبنان يناصرون اخوانهم الثائرين في جبل حوران، ومن أبرزهم شبلي العريان الذي حضر بعض معارك اللجاه، والذي عاد من هناك ليضرم الثورة في سفحي جبل حرمون من أجل تخفيف وطأة الحصار المفروض على الثائرين في اللجاه. فهاجم مع دروز سفح حرمون الشرقي قافلة مصرية في سعسع، وقتل افرادها، ثم انتقل إلى راشيا وهاجم سراي الحكومة فيها، وقتل متسلمها، وأثار إعجاب أهل راشيا، فانضم إليه عدد كبير من رجالها، وبذلك بدأت الثورة في وادي التيم، والتحق بها قوم من العرب والشيعة الهاربين من الجندية الإلزامية، كما التحق بها عشرات المقاتلين من دروز جبل لبنان.
حين علم إبراهيم باشا بأمر الثورة في راشيا ركّز على إنهائها بسرعة قبل أن يستفحل أمرها، وتمتد إلى جبل لبنان نظراً إلى تعاطف دروز الجبل مع اخوانهم الثائرين، فأرسل إلى راشيا حملة من ألف جندي مزودين بالمدفعية، وما ان وصل هؤلاء حتى هاجمهم الثوار واضطروهم إلى اللجوء إلى قلعة راشيا، ثم اضطروهم إلى الخروج منها والفرار في سهل البقاع حيث تعقبوهم وقتلوا العديد منهم، كما أنهم هاجموا رجال المدفعية الذين تمركزوا في التلال المشرفة على راشيا، واستولوا على ما عندهم من مدافع وذخائر.

الدولة المصرية في عهد محمد علي باشا 1805-1840
الدولة المصرية في عهد محمد علي باشا 1805-1840

” الدروز الذين يعيبون على إبراهيم باشا ردم عيون المياه وتسميمها، ومحاولة إبادتهم عطشاً، يتذكرون منه مأثرة عدم السماح لأي من جنوده بالإساءة إلى النساء  “

لم يكتفِ إبراهيم باشا بالإعتماد على جنوده في انهاء الثورة في وادي التيم، بل إنه إستنجد بحليفه الأمير بشير الشهابي الثاني الذي بات مطواعاً له ينفذ جميع طلباته، وبات حاكماً على جبل لبنان بالإسم. لقد طلب أن يمدّه الأمير بالرجال فأرسل الأمير ولده خليل على رأس قوة من نصارى جبل لبنان، فقاتل هؤلاء الثائرين الدروز في وادي التيم، وساهموا في إنهاء ثورتهم. ومن الطبيعي أن يتوجه دروز جبل لبنان لنصرة إخوانهم في وادي التيم، وقد فعل ذلك العشرات منهم بقيادة الشيخين حسن جنبلاط وناصر الدين العماد، ولكنه من غير الطبيعي أن يتوجه نصارى جبل لبنان لنصرة حاكم غريب وقتال مواطنيهم وجيرانهم، فهذا خطأ جسيم ارتكبه الأمير بشير مبرهناً به عن عدائه للدروز، ومساهماً في زرع بذور الفتنة التي قامت في اواسط القرن التاسع عشر بين الدروز والنصارى.
إنتقل إبراهيم باشا إلى وادي التيم، وبلغ عيحا الواقعة إلى الشمال من بلدة راشيا، وهناك دارت بينه وبين الثوار معركة لم يستطع فيها حسم الأمر لمصلحته، ثم لجأ إلى الخديعة والدهاء الحربي، فأوعز إلى أحد جواسيسه أن يشيع خبر ورود قافلة مصرية تنقل اسلحة وذخائر من دمشق إلى الجيش المصري في عيحا. فعلم الدروز بذلك وصدّقوه، وانطلت الحيلة عليهم، ووقعوا في الفخ، إذ ان القافلة المذكروة كانت حملة يقودها مصطفى باشا للالتحاق بإبراهيم باشا الذي اعد خطة محكمة لتطويق الثوار بالحملة المذكورة وبقوة يقودها بنفسه، إذ حين هاجم الدروز القافلة في وادي بكّا وقعوا في الفخ الذي نصبه لهم دهاء إبراهيم باشا، فكانت مقتلة كبرى منهم ولم يسلم من عشرات المقاتلين الا عدد قليل، بالرغم من تفانيهم واسبتسالهم في القتال حتى قاتلوا أخيراً بالسلاح الأبيض. وقد سميت هذه المعركة “معركة الاخوة “ لكثرة الأخوة من الدروز المشتركين فيها.
كانت معركة وادي بكّا ضربة قاصمة للثورة في وادي التيم، لكن ثواره لم يستسلموا، بل لجأوا بقيادة شبلي العريان إلى جنعم، وهناك تعقبتهم ثلاث حملات مصرية، أولاها بقيادة إبراهيم باشا وثانيها بقيادة الأمير خليل الشهابي، وثالثها بقيادة مدير ايالة صيدا. وبعد عدة معارك كانت آخرها معركة شبعا ضد قوات إبراهيم باشا حيث نهب جنوده كتب الدروز الدينية من خلوات شبعا، اضطر الثوار إلى عرض استسلامهم على إبراهيم باشا شرط العفو عنهم، فقبل بذلك متوسّلاً منه ومن تساهله اغراء دروز جبل حوران بالتسليم. وما لبث شبلي العريان الذي حيّر الجند واتعبه في تعقبه ان سلم نفسه، وقام بألعاب فروسية في سهل جديدة يبوس أمام إبراهيم باشا الذي أعجب به وعفا عنه.

” شبلي العريان الذي حيّر الجند المصري وأتعبه يسلّم نفسه ويقوم بألعاب فروسية في سهل جديدة يبوس أمام إبراهيم باشا الذي أعجب به وعفا عنه  “

 شبلي العريان الذي حيّر الجند المصري وأتعبه يسلّم نفسه ويقوم بألعاب فروسية في سهل جديدة يبوس أمام إبراهيم باشا الذي أعجب به وعفا عنه
شبلي العريان الذي حيّر الجند المصري وأتعبه يسلّم نفسه ويقوم بألعاب فروسية في سهل جديدة يبوس أمام إبراهيم باشا الذي أعجب به وعفا عنه

نهاية الثورة في جبل حوران
إنحصر القتال بين دروز حوران وبين القائد المصري حول ينابيع المياه، إذ كان لا يمضي يومان أو ثلاثة إلا وتقع معركة على أحدها. وأخيراً نجح القائد المصري في إحكام سيطرته على جميع مراكز المياه، وردم بعضها، وسمّم البعض الآخر بالرغم من احتجاج الطبيب كلوت بك، ومعارضته لهذا العمل اللا إنساني، وكان يرمي الجاز والسموم والجيف والأقذار في المياه حتى لم يعد هناك نبع صالح يشرب منه الدروز وحيواناتهم في صيف 1838، وهي الفترة التي يشتد فيها الجفاف. وإزاء ذلك كله اضطر الدروز إلى التفاوض لإلقاء السلاح، فدارت المفاوضات حول إنهاء القتال، لكنها فشلت في البداية، لأن علي آغا البصيلي، المفاوض عن القائد المصري، اشترط ان يسلّم الدروز جميع الأسلحة، بما فيها أسلحتهم، بينما قبلوا بتقديم الأسلحة التي كسبوها من المصريين، واصروا على الاحتفاظ بسلاحهم. وأخيراً تساهل إبراهيم باشا بالأمر فقبل بتسليم الدروز الاسلحة التي غنموها فقط، فسلموا اليه سبعمائة بندقية، واحتفظوا بسلاحهم كما انهم استحصلوا على إعفاء من التجنيد الإجباري الذي كان سبب ثورتهم. أما تساهل إبراهيم باشا، فيعود إلى رغبته في إنهاء ثورة سببت له المتاعب، وأنزلت بجنوده الخسائر ورغبته في التفرغ لمواجهة الخطر العثماني الذي يهب عليه من الحدود الشمالية.
تجدر الإشارة أخيراً إلى ان الدروز الذي يعيبون على إبراهيم باشا ردم عيون المياه وتسميمها، ومحاولة إبادتهم عطشاً، يتذكرون منه مأثرة عدم السماح لأي من جنوده بالإساءة إلى النساء. كما تجدر الإشارة إلى انهم، بالرغم من اضطرارهم اخيراً إلى الاستسلام حققوا الهدف الذي ثاروا من أجله وهو الاحتفاظ بسلاحهم، وعدم تجنيد شبابهم في الخدمة الإلزامية، وهم بناءً على ذلك يفتخرون ببطولاتهم في هذه الثورة كما في سائر المراحل الجهادية، ويفتخرون بما فعلته نخبة أبطالهم، وبأنهم استطاعوا بأعدادهم القليلة مواجهة الجيوش النظامية المجهزة بالمدفعية، والتغلب عليها، ما جعل السائح الأميركي رسل ريزنغ يقول فيهم: “ متى سلّت السيوف من الأغماد كان الضاربون بها أصلب قوم في غربي آسيا: إنهم “الدروز”، حتى ان زهرة الجيش المصري انكمشت وانهزمت في وجه تلك السواعد التي لا تلوى”.

الشيخ ابو سعيد امين ابو غنام

على طريق الأولياء الصالحين

المغفور له الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنام

1914-2013

فقدت طائفة الموحدين الدروز علماً بارزاً من أعلام هيئتها الروحية العليا، وعابداً زاهداً، صالحاً ناصحاً، مصلحاً آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، قدوة للسالكين العابدين الذاكرين الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنام الذي توفّاه الله في بلدته عرمون عن عمر ناهز الـتسعة والتسعين عاماً.
سلك الشيخ الفقيد طريق التوحيد والطاعة والزهد منذ مطلع شبابه، وجاهد في حياته كلها في العبادات والخلوات وترقية النفس واكتساب الخصال والمحامد التوحيدية، وقد نال الكثير من تلك الجواهر النفيسة على يد شيخه المرشد العلم المرحوم أبو حسين محمود فرج الذي عاش بين العامين 1866 و1953 وكان في حياته منارة للسالكين وشيخاً قدوة أصبحت حياته الزاخرة بالفضائل وخصال التوحيد سيرة تتناقلها الأجيال التالية على سبيل حفز النفس على الإقتداء والتزام الصراط المستقيم.
كان من علامات نجابة الشيخ الفقيد وتفتحه المبكر على طريق الزهد والعبادة الخالصة أنه كان مازال في مطلع شبابه عندما من ّعليه معلمه الشيخ أبو حسين محمود فرج ومجتمع المشايخ الثقات بتكريمه بالعباءة البيضاء المقلمة بالأسود وهي منحة تشير إلى توافق عقلاء الطائفة على استكمال السالك لواجبات الدين وفرائضه وخصاله واستحقاقه بالتالي أن يكون من حلقة العقلاء الراشدين الذين يشكلون في الحقيقة حصنها وملجأها المنيع في الشدائد. واستمر في حياته على طريق الاولياء الصالحين في مسيرة حافلة بالمآثر حتى توافقت الهيئة الروحية العليا للطائفة التي كان في مقدمها المرحوم الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين في العام 2006 على تتويج الشيخ أبو سعيد أمين بالعمامة المكولسة أو «المدوَّريَّة» وهي التي تمنح فقط إلى كبار المشايخ الثقات الذين أمضوا عمراً طويلاً في العبادة وخدمة الموحدين وأظهروا في عملهم الرشد والجرأة والأخذ بالخصال الشريفة للسلف الصالح وخصوصاً في الزهد والتواضع وزجر النفس وحماية الوحدة ومنع الفتن ورص الصفوف في المحن وتقديم الموعظة الحسنة والنصيحة لكل راغب مستجيب والقدوة الصالحة في أسلوب الحياة وفي معارج الزهد والطاعة والعبادة.
ويعتبر الشيخ أبو سعيد آخر حلقة في سلسلة المشايخ المتصلة بالشيخ أبو حسين محمود فرج في منطقة الغرب والذين يمثلون جيلاً مضى الآن من رجالات كبار طبعوا زمانهم وقدموا الأمثولات في التزام الأمر والنهي وتقديم صورة مشرقة عن المسلك التوحيدي وخصاله ومدرسته الزهدية.
وتخليداً لسيرة الشيخ القدوة أبو سعيد أمين ابو غنام أعدّت مجلة «الضحى» هذا الملف الخاص الذي يتضمن تغطية لمسيرته الروحية الحافلة كما تم توثيقها من المجلة وفي شهادات موجزة لبعض المشايخ الأفاضل. أيضاً يتضمن الملف تحقيقاً عن خلوة المونسة في بلدة عرمون ومقالاً يعرض للرجال الصالحين والأبرار الذين أنجبتهم قرية عرمون الزاهرة وجوارها في الأزمنة القديمة والحديثة.

تكريماً لذكرى الشيخ القُدوة أبو سعيد أمين أبو غنام

شيــــخ الحلــــم والطهــــارة

تكــرّس للخلــوة والعبادة وإصلاح النفس منذ شبابــه
فاستحــق العبــاءة المُقلَّمــة وهو في ســــن الـ 22

لازم عَلَـــم عصرِه الشيخ أبو حسين محمــود فــــرج
واكتسب من عمله وفوائده، وربطته رجاحة عقله
بكبار المشايــخ الثقــات في لبنــان وسوريــــــا

كانت له حصافة وحكمة ومهابة جعلت منه مقصداً
للسالكين ومعيناً لهم في أمور دينهم ودنياهــم

ورث عقال الموحدين الدروز منذ نشأة مسلك التوحيد الإرث العظيم لإسلام الفقر والزهد بالدنيا والخلوة والمجاهدة واختاروا طريق الرسول الأعظم وخلفائه الراشدين والصحابة الأبرار من أمثال سلمان وأبو ذر والمقداد والتابعين الكبار من أمثال إبراهيم إبن أدهم والبسطامي والجنيد وذو النون المصري واندمجت سيرة السلف الصالح بثقافة الموحدين الدروز فسعى كبار عقالهم والصفوة من أخيارهم إلى تقليد أولئك السابقين النجباء والأخذ بسيرتهم، فلم يتركوا حالاً من أحوال الزهد والتقشف والتأدب والتواضع والمراقبة إلا وأخذوا بها في مجهاداتهم، فصفت لهم الدنيا واشرقت أنوار الدين في سيماهم وصفا الناس بهم وأنِسوا إلى مجالسهم وصحبتهم واشتهر أمر الكثيرين منهم في الأمصار وكتبت الروايات والملاحم عن تقواهم وصلابة إيمانهم وشجاعتهم وكراماتهم.
هؤلاء الزهاد العارفون لم يخل منهم زمان وقد انتظموا في كل جيل حلقات في سلسلة لا تنتهي فكان كل جيل من العارفين ينقل أمانة التوحيد ومعارفه وخصاله ودستوره إلى الجيل التالي، فبقي مجتمع التوحيد بذلك غنياً ثرياً بهم ، منتفعاً ببركات مسالكهم ونصائحهم وارشادهم، وكان في أوقات الشدائد لائذاً إليهم وإلى حكمتهم وعزيمتهم وأدعيتهم وكم من الظروف الخطرة والملمات الحالكة انقشعت ببركة هؤلاء الصالحين مثلما تنقشع الغيمة السوداء عن أديم الأرض.

طريق الزهد ومجاهدة النفس
ينتمي الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنام إلى حقبة المشايخ الذين طبعوا قرناً كاملاً من الزمان من بداية القرن العشرين المنصرم إلى مطلع القرن الحالي، وقد كان من إنعام الله على الموحدين الدروز على مدى الأزمان أن لم يجعل التوحيد كتاباً يقرأ ويحفظ فحسب بل جعله دستوراً معاشاً ومسلكاً يلتزم وتربية ومجاهدة ومراقبة كما جعل للموحدين بينهم مرشدين سالكين عارفين ليهدوهم إلى صراط التوحيد ويسلِّكوهم في قواعده وآدابه جاعلين من أنفسهم قدوة ومثالا في التزام تلك القواعد وتطبيقها، وهذا التطابق بين التعليم والسلوك هو ميزة يعتبرها مشايخ الموحدين العالِمين العامِلين في هذا المشرق قاعدة أساسية لاكتساب الدين، إذ لم ينل أي منهم منزلته بالدرس وسعة العلوم النظرية فقط بل نالوها بالفقر والتذلل لله ومجاهدة النفوس وحياة التقوى والزهد وإشراق المعارف اليقينية. لذلك فإن على من أراد التعرف على حياة التوحيد والاطلاع على أنواره وزينته أن لا يبحث في المعاهد ولا في الدور ولا في الصروح العظيمة بل عليه أن يبحث عنه في أهل التوحيد في الخلوات البسيطة وفي مجالس الذكر والتسبيح بين الساهرين القائمين الليل أهل الصلاح الثقات العازفين عن الدنيا وفتنتها المتعففين المضيئة وجوههم بسكينة التسليم ووداعة الرضا الآنسين إلى الله في كل آن.

ولادته ونشأته
ولد فقيدنا الكبير الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنام في مطلع القرن العشرين وبالتحديد في شهر آب من سنة 1914 في زمن شهد نشاطاً كبيراً وحيوية في البيئة الروحية للموحدين الدروز، وشهد على ذلك الإيناع الروحي، العدد الكبير من المشايخ الأعلام أصحاب العمائم المكولسة أو المدوّرية الذين عاشوا في تلك الفترة وازدانت بهيبتهم وعلمهم مجالس الذكر وخلوات العبادة في لبنان وسوريا وفلسطين1. بين هؤلاء المشايخ برز في تلك الفترة الشيخ أبو حسين محمود فرج (1866-1953) في عبيه باعتباره الشيخ العلم القدوة المقدم والمرجعية الأولى للموحدين. كان إسم الشيخ أبو حسين محمود قد ذاع في سوريا وفي لبنان وكانت خلوة الشيخ احمد امين الدين في عبيه وهو احد مشايخ العقل من السلف الصالح وملقب بـ « بو عقلين» قد أصبحت في عهده مقصداً للمشايخ والمستجيبين التائقين لمجالسة الشيخ العلم وتحصيل البركة من قيام الليل والذكر بمشاركته، إذ كانت وفود الزائرين تأتي من المناطق القريبة والبعيدة وبعضهم كان يأتي من فلسطين أو سوريا تجتمع في الخلوة كل يوم جمعة وكان المرحوم الشيخ أمين طريف على صلة وطيدة بالشيخ أبو حسين محمود الذي سيُتَوِّجه لاحقا بالعمامة المكولسة. اما الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنام فقد توجه منذ شبابه إلى خلوة عبيه عاقدا العزم على أخذ طريق العبادة والتطهر والاستزادة من المعارف على يد ذلك المرشد الكبير، وقد أحبّ المريد الشاب شيخه وتعلّق به وسعى لخدمته كما أن الشيخ نفسه أحب تلميذه النجيب ولمح فيه علامات النباهة والتكرّس وعلو الهمة في طلب المعرفة والأخذ بخصال التوحيد وآدابه التي كان يراها في شيخه الذي اكتسب صفة السيد بين المشايخ الكبار الذين كانت تزدان بهم المجالس وسهرات العبادة والذكر. وقد اشتهر الشيخ الراحل بتوقيره الشديد للشيخ أبي حسين محمود فرج وملازمته قدر الإمكان ولم يزل يعتبره المثال الأرقى والقدوة الأسمى، وكان كثير الحديث عنه وعن مآثره ومواعظه وخصاله مستشهداً بأفعاله وسيرته، وكان من عادته إذا زاره الشيخ أبو حسين محمود أو ضاف في بلدته أن يرافقه إلى أطراف البلدة لوداعه هناك تقديراً لشخصه الطاهر.

“كم من الظروف الخطرة والملمات الحالكة انقشعت ببركة هؤلاء الصالحين مثلما تنقشع الغيمــة الســـوداء عن أديم الأرض”

الشيخ-أبو-سعيد-أمين-أبو-غنام-في-شبابه
الشيخ-أبو-سعيد-أمين-أبو-غنام-في-شبابه”

شيخا مُكمَّلا في سن الـ 22-23
أصبح الشيخ أبو سعيد من المقربين إلى مرشده الشيخ أبو حسين محمود فرج وقد استلهم من سيرته وتعليمه الجد والتفاني في طريق الدين ومجاهدة النفس وظهرت ثمار كفاحه واستفادته من المشايخ في ما اشتهر به من ورع وتواضع وحلم وأناة ودماثة في الطباع وحصافة وحكمة ووقار ومهابة جعلت منه مقصداً للسالكين ومعيناً لهم في أمور دينهم ودنياهم نصحاً ووعظاً وإصلاحاً. وبسبب اشتهار أمره وفلاحه رأى الشيخ أبو حسين محمود أن يُكمِّله بتكريمه بالعباءة البيضاء المقلّمة وكان مازال في سن الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين، وهذا لا يحصل إلا مع من يكرمه الله بميزات الرشاد والتمييز والتقوى وعلو الهمة منذ فتوته وهذه من علامات المصطفين الأبرار.
فالعباءة البيضاء المقلّمة بالأسود هي العلامة الظاهرة على استكمال المريد لمسلك الاستقامة في الدين ومجاهدة النفس والعمل بآداب التوحيد والتخلق بخصاله، وهو ما يؤهله لأن يكون من تلك الصفوة التي تمثل حصن الدين والجماعة ونبراسها وملجأها في الملمات.
إن العباءة البيضاء المقلمة وكمال الوجه هما تتمة لمسلك روحي شريف يقتضي على الموحدين التمسك به وتوقيره وإزجائه الاحترام الذي يستحق.
في مجلس الشيخ أبو حسين محمود فرج وغيره من المجالس الزاهرة تعرّف الشيخ أبو سعيد على المشايخ الأعلام الآخرين وأقام صلات المودّة وأخوة الدين معهم وأخذ من خبرتهم وعلمهم الواسع كما انجذب إلى مسلكهم وحكمتهم وتعليمهم ومن هؤلاء الشيخ أبو محمود سليمان عبد الخالق والشيخ أبو علي مهنا بدر (خلوات البياضة) والشيخ أبو حسين يوسف أبو ابراهيم والشيخ أبو حسين محمود دربيه في لبنان والشيخ أبو حسين محمد الحناوي والشيخ أبو حسن يحيى الخطيب والشيخ أبو حسين محمد عبد الوهاب في سوريا. وربطت الشيخ أبو سعيد علاقة وطيدة مع المرحوم الشيخ أبو محمد صالح العنداري الذي كان رغم مرضه يحرص على زيارته في عرمون وهو في طريقه الى مستشفى الجامعة الأميركية للعلاج، ومع المرحوم الشيخ ابو سعيد حمود حسن من البنيه جد شيخ العقل الحالي.
يقول أفراد عائلته إنهم لم يشعروا يوماً بأنه غاضب بل أظهر على الدوام حسن الخلق وطول البال وجبر الخاطر وليونة غير موجودة عند الكثير من الناس، وكان على قدر ما يكون الانسان غاضباً عندما يتحدث الى المرحوم يزول غضبه على الفور.
ومن صفاته انه رغم تقدّم سنه كان يصرّ على خدمة نفسه عاملاً بمبدأ رفع الكلفة رافضاً أن يفعل أحد شيئاً لأجله، واذا قام أحد أفراد عائلته بواجب تجاهه كان يظهر له على الفور آيات الشكر والإمتنان. .

” كان في عبادته ملازماً بيته ولم يخرج للناس كثيراً حتى في زيارات دينية فكانت خلوته بيته ومســـجده ومحــراب تزَهُّدِه ومجــاهدته “

مع المرحوم الشيخ أبو محمد جواد
مع المرحوم الشيخ أبو محمد جواد

اهتمامه بالتعليم الديني
كان وعظ الشيخ ابو سعيد مؤثراً رقيقاً ودقيقاً وحازماً في الأوامر والنواهي وكان يشير في كلامه إلى ابتلاءات العصر وينصح مريديه من شباب عائلته وزائريه (حيث كان يقصده الكثير من الشباب من الاردن وحلب وحضر في سوريا) بملازمة الخوف باعتباره «منجاة من الزلل وعصمة لجميع العالمين ولي». وكانت عبارة «رأس الحكمة مخافة الله» ملازمة غرفته. وكان يقول: «لو خاف المرء من الله مثل خوفه من الناس كان ولياً» وكان يتعجب من مداراة الناس لكل قوي في الأرض وتفريطهم في أمر المولى القوي العزيز الحاكم القهار، وكان يشدد في وعظه على اجتناب المال أو الرزق الحرام، وذكر بعض المقربين أن أحد أحفاده طلب مرة رأيه في نيته أخذ قرض من البنك فكان جوابه له سريعاً قاطعاً: «لا تدخل الحرام الى بيتنا».
كان الشيخ الراحل محباً كاتماً للسر ناصحاً برقة ورأفة مسامحاً واسع الصدر صاحب بصيرة وفراسة موجزاً في كلامه مع فصاحة ودقة وكان حسن الاستماع يصغي بإهتمام لوجهة نظر الطالب ومراده ثم يقوم بإرشاده وفق ما يلمحه فيه من استعداد وقبول لكن مع التركيز دوماً على الأوامر والنواهي وأهمية الإستقامة في السلوك كشرط للتقدم في طريق الحقيقة والدين، وكان بارعاً في استخدام الأمثال والقصص وسير الصالحين كوسيلة للتعليم والتوجيه، لكنه كان يعطي كل إنسان على قدر طاقته الاستيعابية، فقلب اللبيب يتغذّى من أدنى إشارة، وكانت حكمته الواسعة وأناته وتعامله الصائب مع كل ظرف إحدى أبرز الصفات التي اشتهر فيها. وبالنظر إلى الإقبال المتزايد على مجلسه وتزايد عدد الطالبين في أسرته وعائلته فقد سعى الشيخ أبو سعيد أمين بمساعدة أصحاب الأيادي البيضاء في مجتمعه إلى تشييد خلوة تعليمية جعل منها باباً لتعليم العلوم التوحيدية على يد مشايخ لهم مكانتهم الدينية.

إعراضه عن السياسة
من الأمور التي عرفت عنه إعراضه عن السياسة والأمور العامة الدنيويّة وانصرافه للعبادة والخلوة، وهذه من خصال المشايخ الموحدين الذين يعتبرون السياسة وأدرانها من خلاف وغضب وشهوة سلطة وفساد نية وقول وفعل من أخطر قواطع الطريق بل هي في نظرهم من الخطورة بحيث يجب على أي سالك حصيف أن يفرّ منها كما يفرّ من النار. لكن بقدر إعراض المشايخ الموحدين عنها فإنهم يجتمعون كالبنيان المرصوص عندما تتعرض الطائفة المعروفية لأي تهديد، إذ تراهم عندها يهبون هبة رجل واحد من أجل حفظها ورد غائلة العدوان عنها.
ومن المواقف التي تروى عنه أنه بعد مصادمات أيار 2008 المؤسفة قصده وفد من علماء الطائفة الشيعية الكريمة للصلح والتوافق بين الدروز والشيعة فاستقبلهم ببشاشة وترحاب إلا أنه لاذ بالصمت لبعض الوقت بعد ان كلَّف بعض الإخوان للقيام بواجب الترحيب ثم اردف جملة إلى الضيوف إذ قال: «إنا خلقنا لكم عقلاً ومعرفة وتمييزاً لتدفعوا به الضرر وتستجلبوا به النعم» .
تواضعه الجم
من محامد الشيخ الفقيد التي ورثها بصورة خاصة عن مرشده الشيخ أبو حسين محمود فرج التواضع الجم وكره الشهرة وحب الخلوة فكان في عبادته ملازماً بيته على الدوام ولم يخرج للناس كثيراً حتى في زيارات دينية فكانت خلوته بيته ومسجده وموضع عبادته ومجاهدته، ومنها مثلاً عندما أصرّ المرحومان الشيخ أبو حسين إبراهيم أبو حمدان (مٍيمس) والشيخ أبو علي مهنا حسان (حاصبيّا) شيخا البيّاضة الشريفة في تلك الأيام على الشيخ بالقدوم إلى البياضة للتعبد هناك، فذهب ومكث أسبوعاً واحداً فقط، نزولاً عند خاطرهم ثم عاد بعدها الى داره وسلكه الثابت.
كان الشيخ الراحل لفرط تواضعه عندما كانوا يطلبون رأيه في أمر ما يفضل دوماً الشورى والاستئناس برأي المشايخ في الأمور ولاسيما المهمة منها، وكان موقفه هذا نتيجة ليس فقط لتواضعه بل لخشيته من كل خاطر عجب مهما كان صغيراً حتى عندما كان يرى في فكره رأياً في مسألة تهم الموحدين فإنه لم يكن يبديه أو يبدأ بطرحه أو اقتراح الأخذ به، بل كان يطلب من المشايخ رأيهم فيه حتى إذا اتجه الجمع بعد التشاور إلى ما يعتقد أنه الرأي الصواب وافقهم عليه، وإلا فإنه كان عند الحاجة يعرض رأيه بصيغة النصيحة تاركاً للجميع أمر الأخذ به أو عدم الأخذ به، لكنه كان بسبب رجاحة عقله وثقة المشايخ والناس بحكمته يحصل دوماً على موافقة الجميع، وقد بقي الشيخ أبو سعيد أمين على هذا النهج من التواضع وتمسكه بتقليد المشورة بعد تتويجه بالعمامة المكولسة وارتقائه بالتالي إلى صفوف أعيان مشايخ الهيئة الروحية لطائفة الموحدين الدروز.

صبره على المكاره
تميّز الشيخ المرحوم بالصبر على المكارِه وهو ما يشهد عليه عدد كبير من المشايخ ومن معاصريه والمقربين منه، فكان يصطبر على ألم المرض حتى لا يكاد يظهره أو يلفت نظر أهل بيته المقربين إليه. ومما يُروى عنه أنه أصيب بمرض بعد أيام من تتويجه بالعمامة المكولسة وبلغ أمر مرضه الشيخ العلم الزاهد أبو حسين محمد الحِنّاوي في سهوة البلاطة في سوريا. اتصل الشيخ الحِنّاوي للاطمئنان على صحته وفي الوقت نفسه المباركة له بالعمامة المكولسة وقد جرى بين الاثنين حديث دلّ على عمق المودة بينهما كما دلّ على تقدير الشيخ الحِنّاوي لصبر الشيخ أبو سعيد على المرض وقد توجه إليه بكلام نوه فيه بصبره على الشدائد ومما قاله على سبيل الوعظ: «فالصبر على الشدائد يفيد المؤمن الفوائد وحصول الدرجات ونيل الثواب» .

تتويجه بالعمامة المكولسة
في الرابع من تشرين الثاني 2006 حضر الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين رئيس الهيئة الروحية آنذاك إلى منزل الشيخ أبو سعيد أمين في صوفر لغرض تتويجه بالعمامة المكولسة تقديراً له على حياة مديدة أنفقها في العبادة والصلاح والإصلاح وكان قد قصد خلوة الشيخ أمين الصايغ (أطال الله بعمره) للغرض نفسه وقد رافق المرحوم الشيخ أبو محمد جواد عدد من المشايخ الثقات من عاليه وبيصور وبطمة والمنطقة، لحضور المناسبة والمباركة للشيخ أبو سعيد الذي كان بلغ 91 عاماً. يومها قال الشيخ أبو محمد جواد مخاطباً الحضور: «اللّفة (العمامة المكولسة) ما بتكبّرو وهويّ بيكبّرها وبِفلْ مبعود إذا ما بيقبلها». وكان قصد الشيخ الجليل يومها الإلحاح على الشيخ الزاهد بقبول العمامة المكولسة وقد بلغ في ذلك «وضع الحد» عليه وهو ما يشير إلى أن الشيخ بسبب تواضعه المعروف وكرهه للشهرة كان ربما يميل لأن يعتذر عن قبول العمامة المكولسة، وهو ما يفسر لهجة الشيخ أبو محمد جواد في الإلحاح عليه إلى حدّ إلزامه (وهو أعلى مرجع روحي في الطائفة) بقبولها. يومها أفاض الشيخ أبو محمد جواد في الشهادة للشيخ ابو سعيد بما هو أهل له وقابله التواضع والاعتراف والتذلل من الشيخ المحتفى به.

سماحة-شيخ-العقل-يؤمّ-صلاة-الجنازة-في-مأتم-المرحوم-الشيخ-أبو-سعيد-أمين-أبو-غنام
سماحة-شيخ-العقل-يؤمّ-صلاة-الجنازة-في-مأتم-المرحوم-الشيخ-أبو-سعيد-أمين-أبو-غنام

وفاته رحمه الله
توفي الشيخ أبو سعيد في 18 كانون الأول 2013 عن عمر ناهز الـ 99 عاماً وقد نعته طائفة الموحدين الدروز بهيئتها الروحية ومشيخة العقل وقيادات الطائفة ونوابها وفاعلياتها وعموم أبنائها، وكان له مأتم مهيب شاركت فيه القيادات الروحية والسياسية والامنية وجمع غفير من رجال الدين وشخصيات وفاعليات وهيئات حزبية واجتماعية ومدنية.
وقبيل الصلاة على جثمانه الطاهر ألقى شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن كلمة جاء فيها: “بالرضى والتسليم لمشيئته تعالى، نودع اليوم شيخاً فاضلاً كريماً، عيناً من اعيان زماننا، وعلماً من الأعلام الشاهدة على الرسوخ في السبيل القويم والنهج السليم، ونفحأً عطراً طيباً من نفحات أهل التوحيد والسلف الصالح الذين بذلوا في الله مهجتهم، فعمّت في البرايا بركتهم، وعلت بالحق كلمتهم.” وتوجّه بالرحمة للشيخ الجليل، ثم امّ الشيخ حسن الصلاة على الجثمان حيث ووري إلى جانب خلوة العائلة الدينية.
رحمك الله وأثابك عن الموحدين المسلمين يا شيخ الطهارة والتقوى والاستقامة، والضراعة إلى الله تعالى أن يجعل مثالك المضيء قدوة ومثالاً ونبراس هداية لجميع المؤمنين عبر الأجيال.

[su_accordion]
[su_spoiler title=”ش. سامي أبي المنى” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

نجمٌ من الغرب

رثاء العلم المبين والثقة الأمين الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنّام رحمه الله

مقام-الشيخ-أبو-سعيد-أمين-أبو-غنام
مقام-الشيخ-أبو-سعيد-أمين-أبو-غنام

نَجمٌ من “الغرب” في الأرجاء قد سَطَعـا فَشَـعَّ في الشرق وهجٌ منه وٱلتمعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
باهَـــــــــــــــــــــــتْ به “عَرَمـونُ” الغربِ أجبُلَهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا طَوداً عَلا من “أبي غنـــــــــــــــــــامَ” وٱرتفعــــــــــــــــــــــــــــــــــا
“أبـو سعيــدٍ” “أميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنٌ” طـــــاهرٌ عَلـَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمٌ في دار سَعْدٍ نمـا كالنُّــــــــــــــــــــــــــورِ وٱتّسَــــــــعــــــــــــــــــــــــــــــــــا
فزادَهــــــــــــــا عِــــــــــــــزّةً مـــن عِـــــــــــــــــــــــــــــــــزِّه، وغَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدَا مِثـالَ خيــــــــــــــــــــــــــرٍ، لأهـــــــــــــــــــــــــــلِ الخيـــــــــــــــــــــــــــر،ِ مُتَّبَــــــعـــا
أيـــــــــــــــــــــــــــا كبيـــــــــــــــراً، سقــــــــــــــاكَ اللهُ حكمـــــتَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه فمـا ٱرتويــــــــــــــــــــتَ، ولَمّـا تَعــــــــــــــــــــــــــرفِ الشــــــــّبَعـــــــــــــا
ومـا طمِعــــــــــــــــتَ بغيـرِ الحــــــــــــــــــــــــــــــقِّ، تطلُبُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه شوقاً وإن كنتَ لا تستحسِنُ الطّمَعـــــــــــــــــــــا
ويـا مُحِبّــــــــــــــــــــــــــــــــــاً، تجلّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى فـــي محبّتـــــــــــِــــــــــــــــــــــــــــه معنىُ الحيـاة، فكان المُخلصَ الوَرِعـــــــــــــــــــــــــــــــــــا
زرعتَ جُهداً فطابَ الزَّرعُ، يحصُــــــــــــــــــــــــــــدُه بفرحة القلبِ مَن في عُمرِه زَرَعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
وكــــــــــــــان أوفـاه جَنيــــــــــــــــــــــــــــــــــاً، بــــــــــــــــــــــــــل وأطيبَـــــــــــــــــــه، غــــــــــــــذاءُ روحٍ، من التوحيــــــــــــــــــــــــد قد جُمِعا
نشـــــــــــــأتَ يا عاشــــــــــــــــــــــــــقَ التوحيدِ من صِغَــــرٍ كبِــــــــــــــــــــــــــذرةٍ، لُبُّهــــــــــــــــــــــــــا في الأرضِ قد وُضِعا
فـــــــــــــي أرضِ أرقـــــــــــــى أميـــــــــــــرٍ سيِّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدٍ دَرَجَ الـــشيخُ الأمينُ، وفي ذاك العَرينِ سَعَــــــــــــى
من علمِــــــــــــــــــــــــــه غُــــــــــــــــــــــــــذِّيَـتْ أركانُــــــــــــــه شــــرَفــــــــــــــاً، من سرِّه العذبِ ســــــــــــــــــــــــــــــــرَّ الحقِّ قد رَضِعا
حتى بَدَا النُّضجُ في تلك الثِّمارِ، وقـــــــــــــد ذاقَ المُريدُ لذيـــــــــــــــــــــــــــذَ الطَّعـــــــــــــــــــــــــــــمِ وانتفعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
ما أطيبَ العَيشَ في التوحيدِ، دوحتُــــه تُحيــــــــــــــي القلوبَ وتَشفـــــــــــــي الداءَ والوَجَعــا
يا سيِّدي الشيـــــــــــــخَ ما أغنـــــــــــــاكَ، مُكتَفيـــــــــــــِـاً بمــــــــــــــــــــــــا ﭐغتنيتَ بـــــــــــــه عن زُخـــــــــــــرُفٍ لمَعَـــــــــــــــــــــــــــــا
يا سيّـــــــــــــدي الشيـــــــــــــخَ ما أصفاكَ، مُرتقيـــــــــــــاً إلى السـلامِ،بعــــــــــــــــــــــــــين القلــــــــــــــــــــــــــبِ مُطّلِعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
بالحــــــــــــــــــــــــــبِّ تَقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَعُ بـــــــــــــابَ اللِه، مُبتهــــــــــــــــــــــــــِـــلاً وهكـــــــــــــذا يدخــــــــــــــلُ الأبــــــــــــــوابَ مَـــــــــــــن قَرَعَـــــــــــــــــا
دخلتَهـــــــــــــا مِن خصــــــــــــــــــــــــــالٍ فيــــــــــــــــــــــــــــــــك ناضجـةٍ ومن طِبـــــــــــــــــــــــــــاعٍ،بهـــــــــــــــــــــــــــا إيمانُكـــــــــــــــــــــــــــم طُبِعـــــــــــــــــــــــــــــــــا
بشاشــــــــــــــةُ الوجـــــــــــــــــــــــــــه تُنبـــــــــــــي عن محبّتكــــــــم ولطفُكـم كــــــــــــــــــــــــــلَّ همِّ النّــــــــــــــاسِ قد وَسِعَــــــــــــــــــــــــــا
أنوارُكـــــــــــــم في ظــــــــــــــلامِ الليــــــــــــــل مُرشِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدةٌ والصــــــــــــــوتُ همـــــــــــــسٌ ولكـــــــــــــنْ يبلُـــــــــغُ السّمَعَا
ولستُ ألمسُ غيرَ الطُّهــــــــــــــــــــــــــرِ من يدِكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ولا أشـــــــــــمُّ ســــــــــــــــــــــــــوى ِالأُنس الذي وُدِعَـــــــــــــــا
في نهجِكــــــــــــــــــــــــــم منهــــــــــــــــــــــــــجُ العُبّـــــــــــــادِ، سيرتـــــــــــــُه تَروي المُحِـــــــــــــبَّ بِمـــــــــــــا مِن طُهرِكـــــــــــــم نَبَعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
وفـــــــــــــي رِضاكُـــــــــــــم وفي التّسليـــــــــــــمِ مدرســـــــــــةٌ تَعلَّــــــــــــــــــــــــــمَ النّـاسُ منهــــــــــــــــــــــــــا الصّبـرَ والوَرَعــــــــــــــــــــــــــا
طُوبـــــــــــــى لكـــــــــــــمْ ســــــــــــــادتي، نلتُم شهادتَكم ونالها في خُطاكــــــــــــــــــــــــم مَن سعى وَدعـــــــــــــــــــــــــــا
ألـــــــــــــفُ التَّحيّــــــــــــــــــــــــــاتِ يا روحَ الأميــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنِ وألـفُ ألـفِ رحمةِ ربٍّ زادَكم ورَعـــــــــــــــــى
من الكـــــــــــــتاب العزيـــــــــــــــــــــــــــز ﭐلروحُ قد نَهــــــــــــــــــــلت من سُنّة المُصطفى الشيخُ الجليلُ وعــــــى
من الأيمّــــــــــــــــــــــــــةِ من ســــــــــــــــــــــــــرّ الثِّقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات رَوى المديـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدَ وأحيــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ذاتَـــــــــــــــــــــــــــــــــــه ولَعَـــــــــــــــــــــــــــا
من الجدودِ ﭐستمدَّ العــــــــــــــــــــــــــــــــــزمَ من جَبَـــــــــــــــــــــــــــلٍ قــــــــــــــــــــــــــد صارعَ الظُلمَ حتى ذلّ وانصرعـــــــــا
من إرثِ أسَلافــــــــــــــــــــــــــه الأبرارِ، من قِيَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمٍ فيها تحدّى بنـو معــــــــــــــــــــــــــــــــــروفَ مَن طَمِعــــــــــــــــــــــــــا
ومن سنا شيخِنا الشيخِ الجوادِ سنـــــــــــــتْ عمامةُ الطهرِ تاجاً سادَ إذ خضعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
تلـك المكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارمُ معـيـــــــــــــــــــــــــــــــــارٌ ومُنطَلـــــــَــــــــــــــقٌ مَن لم يعِش في حمى أسرارِها ﭐنقطعـا
حَيّيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتُ في”عرمونَ” اليـــــــــــــــــــــــــــــــــــومَ مدمعَهـا من كـلِّ بيتٍ به خطبُ الأسى وَقعـــــــــــــــــــــــــــــــــــا
كأنــــــــــــــــــــــــــــــــما ذكرياتُ العمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرِ حاضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرةٌ والصخرُ يبكي هنا والغصنُ قد دَمَعــــــــــــــــــــا
ووجـــــــــــــهُ “عاليهَ” دمـعُ “الجُـــــــــــــــــــــــردِ” يُغرِقُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه لأنّ نجـمَ الرضــــــــــــــــــــــــــــــى من صوبِــــــــــــــــــــــــــه طَلَعــــــــــــــا
والشوفُ والمتنُ والتيمـــــــــــــــــــــانِ في أسَــــــــــــــــــــــــــفٍ ومَن وراءَ الجبـالِ السُّمـــــــــــــــــــــــــــرِ قد فُجِعـــــــــــــــــــــــــــا
واحســـــــرتـاهُ علينـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا، إن هــــــــــــــــــوى عَلَـــــــــــــمٌ أو غابَ عَينٌ، تحمّلنا الهمــــــــــــــــــــــــــومَ معــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
نبكــــــــــــــــــــــــــــــــي عليــــــــــــــــــــــــــكَ، وفي أعماقِنــــــــــــــــــــــــا ألــــمٌ وأنت تمضــــــــــــــــــــــــــــي إلى مثــــــــــــــــــــــــــواكَ مقتنعـــــــــــــــــــــــــــــــــــا
عليـــــــــــــكَ رحمــــــــــــــــــــــــــةُ ربِّ الكـــــــونِ هاطلـــــــــــــــــــــــــــــــــةٌ فاهنأْ بفوزٍ، بختـــــــــــــمِ الحـــــــــــــقّ قد طُبِعــــــــــــــــــــــــــــــــــا

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”ش. ماجد أبو سعد” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

نــــــال شــــــــرف العبوديــــــــة
لعــــزّ الحضــــــــرة الإلهيــــــــة

مما ذكره الشيخ ماجد ابو سعد في وداع المرحوم الشيخ ابو سعيد امين ابو غنام.

بسم الله الرحمن الرحيم
الرضى بقضاء الله: قَالَ تَعَالىَ في سورة الفجر «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي»صدق الله العظيم، انه نداء الحق تَعَالىَ للنفس المؤمنة. الموقنة المصدقة بلقائه، يبشرها مولاها بالانتقال من خبر اليقين بتصديق الوعود في الدنيا، الى عين اليقين في اليوم الموعود في الآخرة، لتسعد سعادةً دائمة بلقائه، بعد ان اشتاقت في دار الخدمة للقائه، وهذا هو حال نفس شيخنا الجليل الطاهرة الشيخ ابو سعيد امين ابو غنام اشتاقت للقاء مولاها في الدار الآخرة.

نشأته: نشأ المرحوم الشيخ منذ صغره على الخير والورع، متابعاً مجالس الذكر، فبرزت نفسه الى ميدان السباق، مشمّرة في الجدّ عن ساق، وسهرت عينه في طاعة الله مجاهدة، وبكت من خشية الله محاسبة، وغضّت عن محارم الله مراقبة، فنالت نفسه المنازل العالية، وحُرِّمت عليها نار العذاب الباقية، لذتُها الانس بمشاهدة الجلال، كما وعد العلي المتعالي.

مسلكه: قال تعالى:إنما يؤمن بآياتنا الذين اذا ذكّروا بها خرّوا سُجدَّاً وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون (السجدة 15)، وفي هذه الآية الكريمة خصال، تجمَّعت في شيخنا الجليل المفضال، من ركوع الخشوع، وسجود الخضوع، والتذلل والتضرّع لمولاه، فكان انسه القيام في جوف الليل، والدعاء والإستغفار، في ظلمة الإسحار، وخوف محرق، وشوقٍ مقلق، وعطف ولطف ونصح للاخوان، وهل جزاء الإحسان الا الإحسان «ولمن خاف مقام ربّه جنتان».

خوفه: رأس الحكمة مخافة الله، عبارة كانت ترافق شيخنا السّعيد مستحضراً قوله تَعَالىَ في كتابه المجيد: لمن خاف مقامي وخاف وعيدِ.(ابراهيم 14). كانت لاخوانه ومريديه مدرسةً في بذر الخوف في القلوب وتربية المهابة في النفوس، وبالتالي فلا ينال حقيقة الكرامة في دار السرُور، إلاَّ مَنْ خاف وأبى وهم الكرامة في دار الغرور.
تواضُعُهُ: ملأ قلب شيخنا الفاضل التواضع خضوعاً للعزَّة الإلهية، فنال شرف العبودية لعزّ الحضرة الإلهية، وكرامة التقوى، وعزَّ الآخرة، فصار منارةً في تواضعه ووقوفه بنفسه عند قدرها، وعدم الإغترار بجاه الدنيا المنقرض.

تتويجه: عندما تكرم المرجع الروحي شيخ الزهد والورع والعفاف المرحوم الشيخ ابو محمد جواد ولي الدين بالعمامة المكولسة، ارتسمت في عيني شيخنا الخاشعتين دمعتا اعتذار، وفي لسانه العفيف الإعتراف والإستغفار، وفي قلبه الخاضع الدُعاء والإفتقار وهو يعلم ان العمامة كمالٌ ظاهر، وهو ظلُّ ورمزٌ لكمالٍ باطن، لِمَنْ اصلح سريرته، ونقَّى طويَّته. كما كان شيخنا التَّقي قد تصفَّى من كل كدر، فهيَّأ نفسه التقية لمشاهدة الجلال، وينتظره مع من سبقه من الأبرار، في دار الكرامة الكبرى، ما لا اذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على قلب بشر.

حِلْمُهُ: كان شيخنا الكبير القدير ملك حليمٍ في قهره لغضبه، وأسره لهواه. كما جاء في الحديث الشريف: «من كظم غيظه وهو قادرٌ على انفاذه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضىً». وقال الصادق الأمين:« إن هؤلاء في أمتي قليل الا من عصمه الله». وشيخنا الجليل من ذاك القليل من الصفوة. قد انكشفت له معاني الأسماء الرفيعة، والصفات الجليلة انكشافاً جليّاً يجري مجرى اليقين، فانبعث شوقه الى ذاك الأفق الأعلى، الى الجمال المقدَّس والجلال المعظَّم.

خاتمة: ان شيخنا السّعيد كم نغبطه على عمرٍ مديدٍ قارب المئة عام قضاها طاعة وجهاداً، ويقظةً واستعداداً، وورعاً وسَدادًا، قدمها قرباناً على مائدة الكرم السماوية العليا، وهو يرى ذلك قليلاً في تحصيل السعادة الأبدية القصوى، ونيل رضى المولى. فأقبل بوجهه عليه، ووفد بحسن ظنه اليه، ونفسه المباعة أنَفس القرابين التي قدمها بين يديه، خالصة من عيوب الرياء، مطيبة بأعمال الصفاء، مطهَّرة بنوايا النقاء، متوجّهة نحو قبلة الرجاء، مذكَّاةً بتسمية الولاء، مصدقة بوعد العفو والغفران، ونيل جميل الإحسان، في مقعد صدقٍ عند المليك الديان، الذي قال في محكم القرآن:كلا ان كتاب الأبرار لفي علييّن وما أدراك ما عِليُّون كتاب مرقوم يشهده المقرَّبون.(الآية 18-19-20-21 المطففين)

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”ش. منذر عبد الخالق” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنام رحمه الله

كلمات في سيرة روحية حافلة

ودعنا في الشهر الفائت علماً من أعلام طائفة الموحدين، وعيناً من أعيانها الأماثل، شيخنا الفاضل الشيخ أبا سعيد أمين أبو غنام، وقد أمضى حياته على الطريق المستقيم والنهج القويم آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر طائعاً لباريه محباً لإخوانه، مواظباً على تلاوة الكتاب العزيز وافياً بشروطه عاملاً بأحكامه السمحاء قائماً بالفرائض التوحيدية، محافظاً على المسالك الدينية العصماء، مقتنعاً بمبادئ الأسلاف الشريفة وتقاليدهم العريقة مقتفياً لآثارهم الغراء.
ولد الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنام في بلدة عرمون – الغرب، سنة 1914م في بيت وُسم بسمة الدين وعائلة عرفت بكثرة الملتزمين في المسلك التوحيدي، فنشأ منذ نعومة أظافره نشأة صالحة وتعلّق بأهداب الدين فتى يافعاً يعمل دائباً بهمة ونشاط مساعداً أهله على تحمل أعباء العيش وشظف الحياة، وعندما بلغ مبلغ الشباب أخذ يهتم بدراسة الكتاب العزيز ويصرف معظم أوقاته بين أوراقه وصفحاته متفكراً في مضمونه وآياته، متعمقاً في معانيه وإشاراته، مواظباً على التلاوة والترتيل في ليله ونهاره وصبحه ومسائه مداوماً على مجالسة الشيوخ الكبار من عائلته متعلماً منهم مقتبساً من فضائلهم سائراً على مسلكهم مستفيداً من وعظهم وإرشادهم مهتماً بكل ما يسدون له من النصح، حتى غدا على جانب كبير من العلم ينظره الجميع بنظرة الإحترام ويتوقعون له مستقبلاً زاهراً. وعندما شعر أنه بحاجة الى التوسع والإستزادة في العلم، اتجهت أنظاره الى خلوة الشيخ أحمد أمين الدين المزدهرة في بلدة عبيه، والمتألقة بوجود سيدنا الشيخ أبي حسين محمود فرج، فصحبه مدة من الزمن مرافقاً له في حَلِّه وترحاله متأدباً بآدابه ناهلاً من فيض علمه، متأثرا بمسلكه وخشوعه ومراقبته، والتزامه الوضوح والدقة في كلامه، متقيداً بالقيود الصارمة في لحظه ولفظه وسائر حركاته وسكناته، فأصبح من تلاميذه النجب المياومين الذين اتسعت لهم في التوحيد أفسح الميادين.
سمت همة الشيخ أبو سعيد وارتفع قدره وأصبح من المشايخ المميزين في بلدته ومنطقته يعينه على ذلك عزم متوقد وفكر متجدد، وقوة جسدية تعينه على قضاء حوائجه في دينه ودنياه، فجاهد وعمل بكل قواه على صقل نفسه بالعلوم التوحيدية، فاستنار عقله الصافي بأنوار الهدى واليقين، واشتغل على تهذيب جوارحه وتقييدها بقيود الورع، مستسهلاً التعب والنصب والمشقات ، مقبلاً على الأوامر والفرائض، مدبراً عن المحارم والنواهي، مخلصاً في سره وجهره معتصماً بالصبر واليقين، فعلت منزلته وأصبح منزله محجة للقاصدين وملتقى الزوار الوافدين، فيلتقيهم بوجهه البشوش مرحباً بهم بأرق العبارات والألفاظ، باذلاً لهم أقصى ما يستطيع من الكرم والجود ومحياه طافح بالبشر والفرح والغبطة، فكثرت أصدقاؤه وخلانه وتضاعف محبوه وإخوانه، وازداد برّه وإحسانه للقريب والبعيد واشتهرت أياديه البيضاء التي عمّت جميع المناطق، فشاع خبره في جميع البلدان وانتشر ذكره في مجالس الأعيان مما أهله أن يكون من أصحاب العمائم المدوّرة، تتويجاً لعمره المديد الحافل بالجهاد والتضحية والعطاء، وهذه أبيات مؤرخة عساها تساهم في ايفائه بعض حقه:
بدر أضاء في سماء الغرب فاق عُلىً ســـامي المقام سَنِــيُّ الطهـر والنبــــــــل
بدا جليــــــــــاً ترقـــــــــى في معارجــــه يشـــــــعُّ نوراً ويجلــــــــو ظلمةَ الجهــــــــل
متوَّجــــــــا برفيع من مكـــــارمــــــــــــه يهديــه علم الهدى في الجزء والكـــــــل
مــــزودا بقــــويم من مســــــــالكــــــــه مواكـــبــــا للنهـــى مع راجح العقــــــــــــل
مقلَّــــــــــــــــــدا بوفيــــــــر من عزائمه راقي البصيـــرة زاكي الفرع والأصــــل
مجاهــدا في مياديــــــن الأُلى بطلا مراقبــــا خاشعــــا فــي أقوم السبـــــــــل
مرابطــــــا في حدود الدين مُؤتلقــا وحازما حاسمـــا فـــي الموقف الفصـــل
وآمــــرا ناهيـــــا مستكملا أدبـــــــــا مســدَّدَ الخَطـــوِ فـــــي الترحـال والحَــلِّ
أحب إخوانـــــه الأبرار محتضنـــــا ومحسنا منصفا فــــــي القطع والوصــل
مضى فقيـدا نجيدا مخلصا علما مُخَلِّفـــا غُصصا فــــي مُهجـــة الأهـــــــــل
ثـــوى كريمـــا جليـــلا سيدا ثقـــــــة ً يرجـــو ثواب ولـــــــــي الأمـــــر والفعـــــــــل
في جنّــــة الخلد لاقى وجه خالقـــه مسلمــــا راضيـــا فـــــي واحـــة العـــــــــدل
أحيـــى تراث أبي غنــــامِ أرَّخَـــــــــــــهُ أبــــو سعيـــدٍ أميـــنٌ مَعقــــِل الفضـــــــــــــل
سنة 1435 هجرية

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”عزت عبد الخالق” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

المرحوم الشيخ أبو سعيد أمين قبل تتويجه بالعمامة المدوَّرِيّة
المرحوم الشيخ أبو سعيد أمين قبل تتويجه بالعمامة المدوَّرِيّة

من أبرز الصفات التي اتصف بها المرحوم الشيخ أبو سعيد أمين أبو غنام الأخلاق العالية ورجاحة العقل والأناة حتى أصبح يُضرب به المثل ويقال لمن يقوم بهذه الأعمال من أبناء المجتمع الديني “كأنه الشيخ بو سعيد أمين”. وهكذا استقرت نفسه الطاهرة على هذه القاعدة من الأخلاق الحميدة، ولم يُذكر مرة أن فارقت الابتسامة ثغره، أو نظرة الحنان والرأفة والمحبة وجهه. أما الغضب وعلاماته والتعابير التي تصدر عنه وما ينتجه من أساليب قاسية في التعاطي، كلها لم تعرف أي سبيل الى نفسيّة الشيخ المرحوم أو طريقة تعاطيه في حياته أو علاقاته الاجتماعية، بل كان كلامه دائماً عذباً ومعبراً عن القيم التي آمن بها قلباً وعاشها مسلكاً.

أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
لم تكن الأخلاق العالية، وان كانت السمة البارزة في شخصية الشيخ، منفصلة عن سواها من الفضائل، بل كانت جزءاً لا يتجزأ من القيم المتكاملة المتجسدة في نفسه المليئة بالايمان، منصبغة بصبغته الروحانية، والتي كان عمادها الدائم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر منجبلاً في طينته الطائعة لخالقها، القائمة بالفروض والواجبات، اذ كانت الفضائل التي تلّف نفسه الروحانية ثمرة هذه الطاعة والإنقياد التلقائي لما أُمر به ونُهي عنه حتى لازمت حياته أينما حلّ وأينما ارتحل وأصبح صورة حيّة عن فضائل التوحيد وقيمه… أو على هذا الأساس المتين في التزامه الخاص، كان اشعاعاً في محيطه وبين عارفيه وفي مجتمعه، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ولا يترك الأمور تسير بدون ضوابط ومعايير، عاشها في ايمانه وتصرفاته لحظة بلحظة، وبثها في نورانيته الصادقة بأسلوبه اللطيف وتعابيره السلسة وقلبه المحّب وابتسامته المعهودة، فتلقاها المجتمع بطيبة خاصة وسلك بها مسلك الصراط المستقيم، إذ لا خلفيات لهذه الأوامر سوى الامتثال للمرسوم الشريف والأخذ بالتعاليم الشرعية ليدرك الغاية الانسانية وصولاً الى الغرض الشريف الذي تتحقق به كرامة الانسان، بعيداً من المعاصي والموبقات وما يلوّث النفس البشرية بالمخالفة لوصايا الله التي تؤدي بالبشرية الى الإنسفال سواء على صعيد الفرد أو المجتمعات وتجّر التناحر والنزاعات.

إصلاحه بين الناس
كان الكثير من الناس يقصد الشيخ لاستشارته في ما يواجهونه من صعوبات ومشاكل تعترض حياتهم وتسبّب التباعد ونقص التواصل السليم وأحياناً التنافر والخلافات، فيرشدهم بما هو علاج شاف لهذه الأمراض النفسيّة والاجتماعية، لأن رأيه صاف ومجرد ومن وحي الايمان والاعتقاد الذي لا يأتيه الباطل ولا يعتريه الخلل، وكان الناس يتقبلون رأيه ووصاياه التي كانت في الغالب وقاية من الخلافات ولقاحاً فكرياً ونفسياً يعزّز الجانب العقلي والديني في الانسان ويعطي الدفع الايجابي، مما يحول دون وقوع الأخطاء ومعالجة تداعياتها السلبية على الفرد والمجتمع.
أما اذا واجه بعض المشكلات الصعبة، والتي كانت كثيراً ما تحصل بين الناس بسبب التعقيدات وتشابك المصالح الدنيوية والاجتماعية، فكان شيخنا الجليل بما يحمل من ايمان عميق ورأي سديد ولطافة معهودة وفكر ثاقب، لا يألو جهداً من سعيّه المبارك لتقريب وجهات النظر وتوسيع المساحات المشتركة واحقاق الحق والاصلاح العام، وحلّ اسباب النزاعات وتغليب عنصر الحق والخير واطفاء نار الغضب والحقد والحسد بماء الحقائق، وسدّ أبواب الخلاف من سائر وجوهها وأسبابها.
لمع نجمه وسطع وكان القدوة الحسنة والمقصد الأمين وموضع التكريم والإلتفاف حوله والأخذ برأيه في الشدّة والرخاء. وكان في القرن الذي عاش فيه علماً من أعلام التوحيد وقبساً وهاجاً تستضيء به الأفكار والقلوب ومعقلاً حصيناً لقوى الخير وموئلا آمناً ترتاح اليه النفوس، ومن ثمرة أفعاله العقل والحلم والسكون ومكارم الأخلاق، كل ذلك سلماً ومرقاة الى حدّ الانسانية الفاضلة التي أرادها الله لعباده.
هذه كانت شذرات من سيرة شيخ اتصف بالتقى وكان مرجعاً دينياً بارزاً تفتقده طائفة الموحدين الدروز.

 

 

content[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”ش. سلمان محمد بو غنام” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

قيض الله سبحانه لهذا المذهب الإسلامي التوحيدي عدد كبير من الثقات الاصفياء، أصحاب العقول المدركة والأرواح الطاهرة والبصائر المنيرة ، سادات شيوخ علماء اولياء مخلصين
عمّرت بهمتهم المساجد وأقيمت المجالس وشُيّدت الخلوات وازدحمت مجالسهم بالطلاب المريدين وكان على رأس هذه الكوكبة سيد عظيم حكيم مرشد إمام كبير نقيب بل نقيب النقباء وسيد الأسياد هو المرحوم السيد الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي قدّس الله روحه الذي ولد في العام 820 هجرية في عبيه وهو سليل الاسرة التنوخية العريقة الى العديد من الامراء التنوخيين، كما عاش في عصره الشيخ زهر الدين من آل ابي ريدان من بلدة البساتين كما تعرف اليوم.
والجدير ذكره على سبيل التعداد وليس الحصر الشيخ شمس الدين الصايغ الاصل من شمليخ ( بلدة شارون) وانتقل الى عبيه وكان يسكن في منطقة بواردين التابعة لبلدة البنيه وكذلك الشيخ زين الدين عبد الغفار تقي الدين وهو من بلدة بعقلين لكنه سكن في بلدة كفرمتى وتوفي فيها عام 965 هجرية ومدفنه فيها الى يومنا هذا.

المرحوم-الشيخ-أبو-حسين-محمود-فرج-كان-بمثابة-المرشد-الروحي-للشيخ-أبو-سعيد-أمين
المرحوم-الشيخ-أبو-حسين-محمود-فرج-كان-بمثابة-المرشد-الروحي-للشيخ-أبو-سعيد-أمين

كما نذكر الشيخ عساف أمين الدين وله مقام في بلدة عبيه والشيخ احمد امين الدين صاحب الوصية المشهورة بوقف املاكه على نية الخير.
واستناداً لكتاب مناقب الأعيان للمرحوم الشيخ ابو صالح فرحان العريضي نذكر في بيصور الشيخ ابو عز الدين ابراهيم بو حرب(العريضي) والشيخ ابو يوسف ضاهر ملاعب والشيخ ابو علي اسماعيل حسيكي ملاعب، ومن بلدة عيناب كان الشيخ احمد العنابي.
وفي بلدة كفرمتى نذكر الشيخ ابوعلي مسعود الغريب (الجدّ).
ولا بدّ لنا من ان نذكر صاحب الفضل العميم والقدر الكبير العلم الجليل سيدنا المرحوم الشيخ أبو حسين محمود فرج الأمين السادق الورع التقي وقد خصه الله سبحانه وميّزه عن مشايخ عصره بميزات كثيرة نذكر منها ميزة كلامه وصيانة لسانه مع الصدق التام، وتجنب الحرام والشبهات، فكانت هذه الخصال كما قال عنه ولده المرحوم الشيخ أبو محمد حسين فرج «من الدلائل الواضحة على سمو فضله وعلو مقامه وكبر منزلته».
ومن ميزته أيضاً أنه كان رحمه الله مع قلة كلامه دائم الحرص في مراقبة باريه، شديد الخوف، خاشعاً خاضعاً لعزته وكرامته وغدا بفضل تأييد الله تعالى سيداً ساد على جميع البلدان فغدت خلوته (خلوة عين الشاوي) في عبيه مقصد المشايخ الأعيان وملتقى الطلاب والمريدين يقتبسون من خصاله الحميدة وينهلون من علمه وإرشاده ما يستطيعون، ومن المشايخ الذين لازموا رفقة سيدنا الشيخ ابو حسين فرج نذكر منهم فقيدنا المرحوم الشيخ الجليل أبو سعيد أمين أبو غنام والمرحوم الشيخ القدير أبو علي محمد الحلبي، والمرحوم الشيخ الجليل الشيخ ابو سعيد حمود حسن، والذي ضريحه في منزل سماحة شيخ العقل، والمرحوم الشيخ الجليل ابو داود كامل حسن ، والمرحوم الشيخ الجليل ابو هاني ملحم خداج وله ضريح في منزله ، والمرحوم الشيخ الجليل ابو حسين محمود ملاعب.
وعرمون الزاهرة الزاخرة برجالها عرفت مجموعة كبيرة من المشايخ الثقات المؤمنين الموحدين منذ القدم، المثابرين المجتهدين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر المجاهدين في معرفة الله عز وجل، الراضين المسلمين العابدين القائمين على تلاوة كتابه الكريم، شيوخ كرام بنوا الخلوات وشيدوا المجالس فكان منهم كوكبة كبيرة ساحت في إحياء الدين الشريف، نذكر منهم:

منظر-عام-لقرية-عرمون--2
منظر-عام-لقرية-عرمون–2

 

المرحوم الشيخ جمال الدين بن محمد بن جمال الدين بن يوسف الصايغ المتوفي سنة 1012 هـ – 1603 م وله حجرة في مجلس آل المهتار – عرمون
المرحوم الشيخ الشاب عبدالله ابن الشيخ حسن المعروف بالعرموني والمتوفي سنة 1135 هـ – 1722 م والمدفون في خلوات دير قوبل وله حجرة بناها الأمير بشير بن يوسف بن سليم في 12 صفر 1136 .
المرحوم الشيخ أبو حسن سليمان إبراهيم الجوهري والمتوفي سنة 1166 هـ – 1752 م وله حجرة في مجلس آل الجوهري.
الشيخ المرحوم أبو حسن جمال الدين المهتار صاحب خلوات المونسة عرمون والمتوفي سنة 1294 هـ 1877 م وله حجرة ضمت ولده الشيخ أبو يوسف المهتار باني مجلس آل المهتار.
أما مزار المرحوم الشيخ أبو حسن سليمان الحلبي المتوفي سنة 1325 هـ. فهو يضمّ جثمان نجليه المرحوم الشيخ أبو سليمان محمود والمرحوم الشيخ ابو محمد صالح وحفيديه المرحوم الشيخ ابو امين سليمان والمرحوم الشيخ الجليل أبو علي محمد الحلبي والكائن في ساحة آل الحلبي في عرمون.
وأما مزار المرحوم الشيخ الجليل أبو محمود سعيد أبو غنام المتوفي سنة 1347 هـ فهو يضم ضمّ رفاة والده المرحوم الشيخ أبو سليمان محمد سعد الدين وولده المرحوم الشيخ ابو سليمان محمود أبو غنام وهذا المزار له كرامات ويزار ويقبل النذر.
أما الشيوخ الأبرار من ثلة المؤمنين العابدين المسدقين فنذكر منهم المرحوم الشيخ القدير أبو حسين علي قبلان والمرحوم الشيخ أبو سليمان محمود سلوم أبو غنام ونجليه الشيخ أبو أمين رشيد والشيخ أبو حسن سليمان وحفيده اليوم الشيخ التقي الورع الشيخ أبو عفيف رفيق أبو غنام، كما نذكر المرحوم الشيخ ابو عادل نسيب ابو غنام.
نذكر أنه كان لشيخنا المرحوم أبو سعيد أمين أبو غنام عم كريم هو المرحوم الشيخ أبو محمود سعيد أبو غنام، صاحب المزار المذكور سابقاً، صادق مجاهد حفظ الكتاب ومكث مدة طويلة في خلوة جده المرحوم الشيخ جمال الدين المهتار في المونسة حتى ذاع إسمه في البلاد واصبح منزله مقصد المشايخ الأعيان ومن صفاته رحمه الله انه كان قليل الكلام خاشعاً لله محبّاً للإخوان كريماً حقاً لُقّب ببنك المشايخ وعمله هذا لوجه الله الكريم فقط.
وشيخنا المرحوم أبو سعيد أمين كان يقول: عمي سعيد كان يفعل كذا وكذا وكان يتصرّف كذا وكذا وهذا مما يدلّ على إعجابه وتقديره للمرحوم عمّه سعيد والمرحوم أبو سليمان سعيد هو باني مجلس آل أبو غنام.
وللمرحوم الكريم ولدان هما المرحومان الشيخ ابو سليمان محمود والشيخ أبو محمد توفيق وولده المرحوم الشيخ أبو سلمان محمد أبو غنام (والد الكاتب).
من جهة ذكر عائلة آل دقدوق منهم أفاضل كالمرحوم الشيخ ابو يوسف امين دقدوق. ومن جهة ذكر آل يحيى منهم افاضل كالمرحوم الشيخ ابوكمال شفيق حميد يحيى.

content[/su_spoiler]

[/su_accordion]

 

لبنان يودّع العلامة السيّد هاني فحص

شيّع لبنان العلامة السيد هاني فحص في حضور سياسي وثقافي وديني وشعبي كبير ومتنوع، وشارك في تشييعه في مسقط رأسه جبشيت (النبطية) كل من عزام الأحمد ممثلاً الرئيس الفلسطيني ابو مازن، إضافة إلى النائب أكرم شهيِّب ممثلاً النائب وليد جنبلاط، والشيخ غاندي مكارم ممثلاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، والشيخ علي زين الدين بإسم مؤسسة العرفان التوحيدية، والدكتور حسن منيمنة على رأس وفد بإسم تيار المستقبل، والسيد محسن إبراهيم ووفد يمثل المرجع السيد علي السيستاني، إضافة إلى رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد، والنواب السادة: علاء الدين ترو، عبد المجيد صالح، عبد اللطيف الزين، ياسين جابر وكل من الشيخ نبيل قاووق عن حزب الله، إضافة إلى وفد يمثل القوات اللبنانية برئاسة النائب جوزيف معلوف، ووفد تجمع لبنان المدني، ووفد حركة التجدد الديمقراطي، ووفد كبير من حركة فتح، مع حضور بارز للشعراء والأدباء والصحافيين والمفكرين، إضافة إلى حضور شعبي إسلامي ومسيحي لافتين. وقد نعته المرجعيات الروحية الثلاث المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، دار الفتوى ومشيخة العقل .

السيد هاني فحص في سطور
رجل دين وأديب وكاتب ومؤلف وناشط في المجتمع المدني، وداعية حوار بين الأديان، ومن أبرز المفكرين الذين كتبوا في قضايا مقاربة الإسلام لتحديات الحداثة.
ولد في بلدة جبشيت (النبطية) عام 1946، وتلقى الدراسة الابتدائية في القرية والمتوسطة في مدينة النبطية. أنهى دراسته الثانوية ثم هاجر عام 1963 إلى النجف الأشرف في العراق ودرس في حوزته الدينية، ونال إجازة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه في النجف. وعاد من النجف عام 1972 ليستقر في بلدته جبشيت، وكان قد تزوج في سن التاسع عشرة من السيدة نادية علوه وله ثلاثة أبناء وابنتان هم: حسن، زيد، مصطفى، بادية وريا عقيلة المدير العام السابق لوزارة الإعلام محمد عبيد.

نضاله السياسي
إنتسب إلى حركة فتح أيام وجودها في لبنان، وهو عضو في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني، كذلك فهو عضو في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
ترشّح للإنتخابات الفرعية عام 1974 متحالفاً مع كمال جنبلاط، ولكن سرعان ما انسحب من المعركة بسبب اعتراض السيد موسى الصدر آنذاك. عاد وترشح للإنتخابات النيابية عام 1992 عن محافظة النبطية ولم يحالفه الحظ. شارك في قيادة انتفاضة مزارعي التبغ المطلبية عام 1972.

نشاطاته الثقافية
أشرف على مجلة النجف لمدة عام أيام إقامته فيها، ولدى عودته منها مارس عمله الديني إماماً وشارك في تأسيس وتفعيل منتدى أدباء جبل عامل مع عدد من الأدباء والشعراء الجنوبيين.
في العام 1982 سافر إلى إيران مع عائلته وأقام فيها حتى العام 1985، عمل خلالها مستشاراً في مكتب إعلام الحوزة في قم، ومشرفاً على مجلة (الفجر)، كما أقام علاقات مع بعض المراجع فيها مثل الشيخ منتظري وغيرهم. وكان في لبنان مقرباً من المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
تفرغ بعد انتخابات 1992 لشؤون الحوار الإسلامي والإسلامي المسيحي والكتابة والعمل الفكري والثقافي، فأسس مع النائب السابق سمير فرنجية (المؤتمر الدائم للحوار اللبناني)، ويعتبر من الأعضاء المؤسسين للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، وكذلك من المؤسسين (للقاء اللبناني للحوار) .
عضو في الهيئة الشرعية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وعضو في أكاديمية أهل البيت في عمان في الأردن، وكذلك في منتدى الوسطية في عمان أيضاً، وعضو مجلس إدارة وعضو مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات الخيرية الثقافية.

مؤلفاته
له ما يقارب من الثلاثة عشر كتاباً مطبوعاً منها: ماضي لا يمضي، ذكريات ومكونات عراقية، الإمامان الصدر وشمس الدين ذاكرة لغدنا، خطاب القلب، أوراق من دفتر الولد العاملي، في الوحدة والتجزئة، ملاحظات في المنهج، الشيعة والدولة في لبنان.

سميح القاسم

سميح القاسـم شاعــــر العروبــــة
والصمــــــود ورفــــــــض الاحتـــــلال

رفض وأولاده الخدمة العسكرية فسجنوا وحدّدت إقامتهم
وقاد المبادرة الدرزية في رفض التجنيد وسياسات المحتل

ألوف المشيعين من فلسطين والضفة والجولان والنقب
ودعت شاعر المقاومة والحنين في مسقط رأسه الرامة

شعره الأخير: أيها الموت لا أحبك لكنني لا أخافك

غيّب الموت بعد صراع قاسٍ مع المرض الشاعر العربي الفلسطيني سميح القاسم أحد أبرز شعراء الوطن العربي وشاعر المقاومة في فلسطين بلا منازع وهو الذي احتفظ بشعر التمرد والرفض للإحتلال الإسرائيلي، لكن مع إبقاء جذوة الأمل بحتمية اندحار الظلم ورفض الهزيمة والحض المستمر على الصمود فكان شعره على الدوام أحد المحركات المعنوية الفاعلة في نضال الشعب الفلسطيني وانتفاضاته داخل فلسطين وفي المناطق المحتلة، وقد رفض القاسم الهجرة إلى خارج فلسطين وبقي مقيماً في مدينة حيفا حتى وقت متأخر لكنه عاد إلى قريته الرامة في الجليل الغربي في السنوات الأخيرة، وكان القاسم صوتاً مدوياً في حركة الموحدين الدروز الرافضة للتجنيد، إذ رفض الخدمة العسكرية الإجبارية في جيش الاحتلال كما رفضها أبناؤه وتعرضوا جميعاً للسجن وللإقامة الجبرية، وطُرِدَ القاسم مِن عمله مرَّات عدّة بسبب نشاطه الشِّعري والسياسي وواجَهَ أكثر مِن تهديد بالقتل، في الوطن وخارجه.
وكتب القاسم قصائد معروفة غناها العالم العربي بأسره، منها قصيدته التي أنشدها الفنان مرسيل خليفة «منتصب القامة أمشي مرفوع الهامة أمشي» كما تذاع قصائده بصوته على القنوات العربية والفلسطينية، وقد نعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الشاعر بكلمات جاء فيها «إن الشاعر القاسم، صاحب الصوت الوطني الشامخ، رحل بعد مسيرة حافلة بالعطاء، والذي كرّس جلّ حياته مدافعاً عن الحق والعدل والأرض».

مؤسس لجنة المبادرة الدرزية
والقاسم هم هو من مؤسسي لجنة المبادرة الدرزية بل هو صاحب الفكرة ولعب دوراً مهماً في بلورة توجّهاتها العربية الرافضة للتجنيد وللتعاون مع الاحتلال وتشويه صورة الموحدين الدروز في فلسطين. . ترأس «الاتحاد العام للكتاب العرب» في فلسطين منذ تأسيسه، وكان في السنوات الأخيرة رئيس تحرير فصلية «إضاءات» ورئيس التحرير الفخري لصحيفة «كل العرب» التي تصدر في مدينة الناصرة.
أسهَمَ في تحرير «الغد» و«الاتحاد» ثم رَئِسَ تحرير جريدة «هذا العالم» عام 1966، ثُمَّ عادَ للعمل مُحرراً أدبياً في «الاتحاد» وأمين عام تحرير «الجديد» ثمَّ رئيس تحريرها، وأسَّسَ منشورات «عربسك» في حيفا، مع الكاتب عصام خوري سنة 1973، وأدارَ في ما بعد «المؤسسة الشعبية للفنون» في حيفا.
والشاعر الفقيد متزوج وأب لأربعة أولاد هم وطن ووضاح وعمر وياسر.

جوائز عالمية وتكريم
حصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدّة مؤسسات، فنال جائزة «غار الشعر» من إسبانيا، وتلقى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي، كما حصل على جائزة البابطين الأدبية، وحصل مرّتين على «وسام القدس للثقافة» من الرئيس ياسر عرفات، وحصل على جائزة نجيب محفوظ من مصر وجائزة «السلام» من واحة السلام، وجائزة «الشعر» الفلسطينية. وتلّقى القاسم عدداً كبيراً من الدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف من عدة مؤسسات وقلّده الرئيس محمود عباس وسام «نجمة القدس» كما حصلَ على جائزة ياسر عرفات للإنجاز، من مؤسسة ياسر عرفات.تُرجِمَ عددٌ كبير من قصائده إلى الإنكليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفييتنامية والفارسية والعبرية ولغات أخرى.
كتب سميح القاسم أيضاً عدداً من الروايات، ومن بين اهتماماته إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية عالية كما يحمل في الوقت نفسه، رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
حياته
ولد سميح القاسم في مدينة الزرقاء في الأردن يوم 11 مايو 1939وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة، ثم انتقل للتعليم كما اشتغل عاملاً في خليج حيفا وصحفياً، وانصرف بعدها إلى نشاطه السياسي وتفرغ بصورة شبه كلية لعمله الأدبي والشعري، وما إن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي.
كانَ والدُهُ ضابطاً برتبةِ كابتن في قوّة حدود شرق الأردن وروى بعض شيوخ العائلة أنَّ جدَّهم الأول خير محمد الحسين كانَ فارساً قَدِمَ مِن شِبه الجزيرة العربية لمقاتلة الروم واستقرَّ به المطاف على سفح جبل حيدَر في فلسطين على مشارف موقع كانَ مستوطنة للروم، وما زالَ الموقع الذي نزل فيه معروفاً إلى اليوم بإسم «خلَّة خير» على سفح جبل حيدر الجنوبي.

بعض ما قيل فيه
صدَرتْ في العالم العربي وفي العالم عدّة كُتب ودراسات نقدية، تناولَت أعمال الشاعر وسيرته الأدبية وإنجازاته وإضافاته الخاصة والمتميّزة، شكلاً ومضموناً، وقد أسهب الكتاب والنقاد في محاولة توصيف ظاهرة سميح القاسم النضالية والشعرية، وقد أطلقت على الشاعر المناضل ألقاب وتسميات منها أنه «قيثارة فلسطين» و«شاعر العرب الأكبر» و«شاعر العروبة بلا منازع» وهو «مغني الربابة وشاعر الشمس» .

تشييع مهيب
شارك الآلاف في تشييع جثمان الشاعر سميح القاسم في بلدة الرامة في الجليل الأعلى في مسيرة رفعت خلالها الأعلام الفلسطينية وتخللتها قراءة لأشعاره. وسجّي الجثمان في الملعب، حيث بدأت تصل الوفود القادمة من القدس المحتلة والضفة الغربية والنقب وكل المدن والبلدات العربية داخل الكيان المحتل.
سجّي جثمان الشاعر الراحل في بيت الشعب وغطي نعشه بالورد الجوري الأحمر وأغصان الزيتون، وارتدت النسوة الأسود وغطاء الرأس الأبيض وحملن أغصان الزيتون وارتدى الشبان سترات كتب عليها «منتصب القامة أمشي… مرفوع الهامة أمشي». وردّد الجميع عند رفع النعش وهم يبكون «مع السلامة مع السلامة…”
وخلف الكشافة الذين عزفوا دقات الحزن، سار الموكب المهيب وراء علم فلسطيني امتد لعشرة أمتار، على وقع كلمات قصيدة «سماء الأبجدية”.
وتقدّم المسيرة الرجال ومشايخ الدروز ورجال الدين المسيحيون وأصدقاء الشاعر وأبناؤه وزوجته وأقرباؤه وقريباته وشخصيات سياسية، كان من بين المعزين رئيس الوزراء الفلسطيني السابق الدكتور سلام فياض. وتقدم أعضاء وفد الجولان حاملين أعلاماً سورية وفلسطينية.
شارك في تأبين الشاعر عدد من الشخصيات الوطنية والدينية قبل أن يوارى الثرى على أرض مرتفعة في جبل حيدر في بلدة الرامة تشرف على جبال الجليل وعلى مدينة حيفا ورأس الناقورة، وسط قطعة أرض كبيرة سيتم تحويلها إلى حديقة في المستقبل.

سميح القاسم ومحمود درويش في زيارة للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري
سميح القاسم ومحمود درويش في زيارة للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري
يلقي شعرا وهو في مطلع شبابه وإلى جانبه الشاعر الراحل توفيق زياد
يلقي شعرا وهو في مطلع شبابه وإلى جانبه الشاعر الراحل توفيق زياد
التشييع على أكتاف المحبين
التشييع على أكتاف المحبين
منظمات شبابية شاركت في التشييع
منظمات شبابية شاركت في التشييع

ومضاته الأخيرة

صورة-له-في-شبابه
صورة-له-في-شبابه

عاش سميح القاسم حياته ونضاله شعراً كما ودّع دنياه مستقبلاً الموت بلغة الشعر فكتب وهو على سرير الموت الأبيات البليغة التالية:
أنا لا أحبك يا موت
لكنني لا أخافك
أعلمُ أنّي تضيق عليّ ضفافك
وأعلمُ أن سريرك جسمي
وروحي لحافك
أنا لا أحبك يا موت
لكنني لا أخافك

ترأس «الاتحاد العام للكتاب العرب» في فلسطين منذ تأسيسه، وكان في السنوات الأخيرة رئيس تحرير فصلية «إضاءات» ورئيس التحرير الفخري لصحيفة «كل العرب» التي تصدر في مدينة الناصرة.
أسهَمَ في تحرير «الغد» و«الاتحاد» ثم رَئِسَ تحرير جريدة «هذا العالم» عام 1966، ثُمَّ عادَ للعمل مُحرراً أدبياً في «الاتحاد» وأمين عام تحرير «الجديد» ثمَّ رئيس تحريرها، وأسَّسَ منشورات «عربسك» في حيفا، مع الكاتب عصام خوري سنة 1973، وأدارَ في ما بعد «المؤسسة الشعبية للفنون» في حيفا.
والشاعر الفقيد متزوج وأب لأربعة أولاد هم وطن ووضاح وعمر وياسر.

جوائز عالمية وتكريم
حصل سميح القاسم على العديد من الجوائز والدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف في عدّة مؤسسات، فنال جائزة «غار الشعر» من إسبانيا، وتلقى جائزتين من فرنسا عن مختاراته التي ترجمها إلى الفرنسية الشاعر والكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي، كما حصل على جائزة البابطين الأدبية، وحصل مرّتين على «وسام القدس للثقافة» من الرئيس ياسر عرفات، وحصل على جائزة نجيب محفوظ من مصر وجائزة «السلام» من واحة السلام، وجائزة «الشعر» الفلسطينية. وتلّقى القاسم عدداً كبيراً من الدروع وشهادات التقدير وعضوية الشرف من عدة مؤسسات وقلّده الرئيس محمود عباس وسام «نجمة القدس» كما حصلَ على جائزة ياسر عرفات للإنجاز، من مؤسسة ياسر عرفات.تُرجِمَ عددٌ كبير من قصائده إلى الإنكليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفييتنامية والفارسية والعبرية ولغات أخرى.
كتب سميح القاسم أيضاً عدداً من الروايات، ومن بين اهتماماته إنشاء مسرح فلسطيني يحمل رسالة فنية وثقافية عالية كما يحمل في الوقت نفسه، رسالة سياسية قادرة على التأثير في الرأي العام العالمي في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية.
حياته
ولد سميح القاسم في مدينة الزرقاء في الأردن يوم 11 مايو 1939وتعلّم في مدارس الرامة والناصرة، ثم انتقل للتعليم كما اشتغل عاملاً في خليج حيفا وصحفياً، وانصرف بعدها إلى نشاطه السياسي وتفرغ بصورة شبه كلية لعمله الأدبي والشعري، وما إن بلغ الثلاثين حتى كان قد نشر ست مجموعات شعرية حازت على شهرة واسعة في العالم العربي.
كانَ والدُهُ ضابطاً برتبةِ كابتن في قوّة حدود شرق الأردن وروى بعض شيوخ العائلة أنَّ جدَّهم الأول خير محمد الحسين كانَ فارساً قَدِمَ مِن شِبه الجزيرة العربية لمقاتلة الروم واستقرَّ به المطاف على سفح جبل حيدَر في فلسطين على مشارف موقع كانَ مستوطنة للروم، وما زالَ الموقع الذي نزل فيه معروفاً إلى اليوم بإسم «خلَّة خير» على سفح جبل حيدر الجنوبي.

بعض ما قيل فيه
صدَرتْ في العالم العربي وفي العالم عدّة كُتب ودراسات نقدية، تناولَت أعمال الشاعر وسيرته الأدبية وإنجازاته وإضافاته الخاصة والمتميّزة، شكلاً ومضموناً، وقد أسهب الكتاب والنقاد في محاولة توصيف ظاهرة سميح القاسم النضالية والشعرية، وقد أطلقت على الشاعر المناضل ألقاب وتسميات منها أنه «قيثارة فلسطين» و«شاعر العرب الأكبر» و«شاعر العروبة بلا منازع» وهو «مغني الربابة وشاعر الشمس» .

تشييع مهيب
شارك الآلاف في تشييع جثمان الشاعر سميح القاسم في بلدة الرامة في الجليل الأعلى في مسيرة رفعت خلالها الأعلام الفلسطينية وتخللتها قراءة لأشعاره. وسجّي الجثمان في الملعب، حيث بدأت تصل الوفود القادمة من القدس المحتلة والضفة الغربية والنقب وكل المدن والبلدات العربية داخل الكيان المحتل.
سجّي جثمان الشاعر الراحل في بيت الشعب وغطي نعشه بالورد الجوري الأحمر وأغصان الزيتون، وارتدت النسوة الأسود وغطاء الرأس الأبيض وحملن أغصان الزيتون وارتدى الشبان سترات كتب عليها «منتصب القامة أمشي… مرفوع الهامة أمشي». وردّد الجميع عند رفع النعش وهم يبكون «مع السلامة مع السلامة…”
وخلف الكشافة الذين عزفوا دقات الحزن، سار الموكب المهيب وراء علم فلسطيني امتد لعشرة أمتار، على وقع كلمات قصيدة «سماء الأبجدية”.
وتقدّم المسيرة الرجال ومشايخ الدروز ورجال الدين المسيحيون وأصدقاء الشاعر وأبناؤه وزوجته وأقرباؤه وقريباته وشخصيات سياسية، كان من بين المعزين رئيس الوزراء الفلسطيني السابق الدكتور سلام فياض. وتقدم أعضاء وفد الجولان حاملين أعلاماً سورية وفلسطينية.
شارك في تأبين الشاعر عدد من الشخصيات الوطنية والدينية قبل أن يوارى الثرى على أرض مرتفعة في جبل حيدر في بلدة الرامة تشرف على جبال الجليل وعلى مدينة حيفا ورأس الناقورة، وسط قطعة أرض كبيرة سيتم تحويلها إلى حديقة في المستقبل.

من شعــــــر
سميح القاسم

يلقي-شعره-الوطني
يلقي-شعره-الوطني

وردة حزني
بهدوء ورويّة
أقطف وردة حزني الجورية
‏وأغني لحبيبة جسدي المسبيّة
لا أستأذن أحدا
أقذف حجري في وجه الكرة الأرضية
لا أستأذن أحدا
أقضم تفاحة موتي
وأغنّي للحرية

منتصبَ القامةِ أمشي
منتصبَ القامةِ أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي….
قلبي قمرٌ أحمر
قلبي بستان
فيه فيه العوسج
فيه الريحان
شفتاي سماءٌ تمطر
نارًا حينًا حبًا أحيان….
في كفي قصفة زيتونٍ
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي….

أنا مُتأسّف
إلى الله أرفع عيني أرفع قلبي وكفّي
يا رب حزناً حزنتُ وأرهقني اليُتم
وأهلكت النار زرعي وضرعي
بكاءً بكيتُ ويمّمت وجهي إلى نور عرشك
يا رب
جارت عليّ الشعوب
وسُدّت أمامي الدروب
تضرعت وصلّيت
بُحّ دعائي وشَحت
ينابيع مائي
تمادى ندائي أضاءت شموعي
فسامح بكائي وكفكف دموعي
ظلامي شديد وليلي ثقيل طويل
فأنعم عليّ بنور السماء وجدّد ضيائي
وسدّد خطاي، سدّد خطاي لأعبر منفاي
يا رب واغفر إغفر خطاياي واقبل رجائي
شقاء شقيْتُ وثوبي تهرّأ
برد الكابة قاسٍ وحرّ التخلّي
شديد مقيت
شقاءً شقاءً شقيت
ويطردني الجُند عن باب بيتي
وأرجو حياتي بموتي
وناري تشبّ بزيتي
وصمتي يزلزل صمتي
ويهدم سّمْتي
ولم يبق سمتٌ سواك
ولم يبق صوت سواك
فيا رب بارك براكين روحي
وأسعف جروحي
ومجِّد بوقتك ما ظلّ من بعض وقتي
إلهي وما من إله سواك
مراعيَ ضاقت بعشب السموم اللئيمة
ماتت خِرافي على ساعديّ
وبئري أهالوا عليها الصخور
ولي تينةٌ أتلفوها، وزيتونة جرّفوها
ولي نخلة وبّخوها، ودالية عنّفوها
وليمونة قصّفوها، ونعناعة جفّفوها عقاباً
فكيف تفوح بحزني وضعفي
وكيف تبوح بخوفي عليها وخوفي
إلهي وما من إله سواك أراك بقلبي وروحي
أراك وأنت تراني
أسيراً حبيس الشِراك
بلاد أبي أصبحت مقبرة، منازل من آمنوا مُقفرة
بساتين من آمنوا مُسحره، مدارسهم ُمنكرة
وأحزانهم عتمة ممطرة
إلهي إلهي
وما من إله سواك
سألت رضاك وطلبت رضاك
تضرّعت صليت هَبني رضاك
وسلّط على القاذفات
وسلّط على الراجمات جناح الهلاك
ونزّل علينا جناح الملاك
إلهي إلهي أمِن مغفرة؟
ألا مغفرة؟ ولا مغفرة؟
إلهي عذابي طويل وقاس ومؤسف
وأنت غفور رحيم ومنصف

إلهي أنا متأسف، أنا متأسف
إلهي، إلهي أنا متأسف
أنا متأسف
أنا متأسف

تعبت
يا أيها الموتى بلا موت
تعبت من الحياة بلا حياة
و تعبت من صمتي
و من صوتي
تعبت من الرواية والرواة
و من الجناية والجناة
و من المحاكم والقضاة

تقدموا
تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل ارض تحتكم جهنم
تقدموا
يموت منا الطفل والشيخ
ولا يستسلم
وتسقط الام على ابنائها القتلى
ولا تستسلم
تقدموا تقدموا
بناقلات جندكم
وراجمات حقدكم
وهددوا وشردوا ويتموا وهدموا
لن تكسروا اعماقنا
لن تهزموا اشواقنا
نحن القضاء المبرم
تقدموا تقدموا

حرامكم محلل
حلالكم محرم
تقدموا بشهوة القتل التي تقتلكم
وصوبوا بدقة لا ترحموا
وسددوا للرحم
ان نطفة من دمنا تضطرم
تقدموا كيف اشتهيتم
واقتلوا
قاتلكم مبرأ
قتيلنا متهم
ولم يزل رب الجنود قائما وساهرا
ولم يزل قاضي القضاة المجرم
تقدموا تقدموا

لا تفتحوا مدرسة
لا تغلقوا سجنا
ولا تعتذروا
لا تحذروا لا تفهموا
أولكم آخركم
مؤمنكم كافركم
وداؤكم مستحكم
فاسترسلوا واستبسلوا
واندفعوا وارتفعوا
واصطدموا وارتطموا
لآخر الشوق الذي ظل لكم
وآخر الحبل الذي ظل لكم
فكل شوق وله نهاية
وكل حبل وله نهاية
وشمسنا بداية البداية
لا تسمعوا لا تفهموا
تقدموا
كل سماء فوقكم جهنم
وكل ارض تحتكم جهنم
تقدموا تقدموا

كل سماء فوقكم جهنم
وكل ارض تحتكم جهنم

خذني معك
من قصيدة في رثاء محمود درويش

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني
ووزرِ حياتي
وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،
أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟
وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،
وآثَرتَ حُزني مَلاذا
أجبني. أجبني.. لماذا؟.
عَصَافيرُنا يا صَديقي تطيرُ بِلا أَجنحهْ
وأَحلامُنا يا رَفيقي تَطيرُ بِلا مِرْوَحَهْ
تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ.
مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ سوى المذبَحَهْ

وتَنسى مناقيرَها في تُرابِ القُبورِ الجماعيَّةِ.. الحَبُّ والحُبُّ
أَرضٌ مُحَرَّمَةٌ يا صَديقي
وتَنفَرِطُ المسْبَحَهْ
هو الخوفُ والموتُ في الخوفِ. والأمنُ في الموتِ

طائر الرعــد
و يكون أن يأتي
يأتي مع الشمس
وجه تشَّوه في غبار مناهج الدرس
و يكون أن يأتي
بعد انتحار القحط في صوتي
شيء . . روائعه بلا حدّ
شيء يسمّى في الأغاني
طائر الرعد
لا بد أن يأتي
فلقد بلغناها
بلغنا قمة الموت

تعالي لنرسم معاً قوس قزح
نازلاً كنت : على سلم أحزان الهزيمة
نازلاً .. يمتصني موت بطيء
صارخاً في وجه أحزاني القديمة :

أحرقيني ! أحرقيني .. لأضيء !
لم أكن وحدي،
ووحدي كنت، في العتمة وحدي
راكعاً أبكي ، أصلي ، أتطهر
جبهتي قطعة شمع فوق زندي
وفمي ناي مكسّر

واستوى المارق والقديس
في الجرح الجديد
واستوى المارق والقديس
في العار الجديد
واستوى المارق والقديس
يا أرض فميدي
واغفري لي، نازلاً يمتصني الموت البطيء
واغفري لي صرختي للنار في ذل سجودي :
أحرقيني أحرقيني لأضيء

أغمضي عينيك من عار الهزيمة
أغمضي عينيك وابكي، واحضنيني
ودعيني أشرب الدمع . دعيني
يبست حنجرتي ريح الهزيمة
وكأنا منذ عشرين التقينا
وكأنا ما افترقنا
وكأنا ما احترقنا
شبك الحب يديه بيدينا ..
وتحدثنا عن الغربة والسجن الكبير
عن أغانينا لفجر في الزمن
وانحسار الليل عن وجه الوطن
وتحدثنا عن الكوخ الصغير
بين أحراج الجبل ..
وستأتين بطفلة
ونسميها «طلل “
وستأتيني بدوريّ وفلـّه
وبديوان غزل !
قلتِ لي – أذكر –
من أي قرار
صوتك مشحون حزناً وغضب
قلتِ يا حبي، من زحف التتار
وانكسارات العرب !
قلتِ لي: في أي أرض حجرية
بذرتك الريح من عشرين عام
قلتِ: في ظل دواليك السبيّه
وعلى أنقاض أبراج الحمام !
قلتِ: في صوتك نار وثنية
قلت: حتى تلد الريح الغمام
جعلوا جرحي دواة، ولذا
فأنا أكتب شعري بشظية
وأغني للسلام !
وبكينا
مثل طفلين غريبين، بكينا

البيان قبل الأخير
عن واقع الـحال مع الغزاة الّذين لا يقرأوا
لاَ. لاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ..
يَوْمُ الْحِسَابِ فَاتَكُمْ
وَبُعثِرَتْ أَوْقَاتُكُمْ
يَا أَيُّهَا الآتُونَ مِنْ عَذَابِكُمْ
عُودُوا عَلَى عَذَابِنَا
عُودُوا إِلَى صَوَابِنَا
أَلشَّمْسُ فِي كِتَابِنَا
فَأَيُّ شَيْءٍ غَيْرَ هَذَا اللَّيْلِ فِي كِتَابُكُمْ
يَا أَيُّهَا الآتُونَ مِنْ عَذَابِكُمْ
لاَ. لاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ

مَنْ أَوْصَدَ السِّحْرَ عَلَى قُلُوبِكُمْ؟
مَنْ كَدَّسَ الأَلْغَازَ فِي دُرُوبِكُمْ؟
مَنْ أَرْشَدَ النَّصْلَ إِلَى دِمَائِنَا؟
مَنْ دَلَّ أَشْبَاحَ الأَسَاطِيرِ عَلَى أَسْمَائِنَا؟
مَنْ أَشْعَلَ الْفَتِيل؟
مَنْ لاَطَمَ الْقَتِيلَ بِالْقَتِيلْ؟
لاَ تَسْأَلُوا لاَ تَقْبَلُوا
لاَ تَعْبَأُوا بِالدَّمْعَةِ الْمُفَكِّرَهْ
وَلاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ..

حِئْتُمْ إِذَنْ فَلْتَخْرُجِ السَّاحَاتُ وَالشَّوَارِعْ
فَيْضًا مِنَ النُّورِ
عَلَى الْعَتْمَةِ فِي السَّاحَاتِ وَالشَّوَارِعْ
سَدًّا مِنَ اللَّحْمِ
عَلَى مَدٍّ مِنَ الْفُولاَذِ وَالْمَطَامِعْ
أَلْكُلُّ.. لِلسَّاحَاتِ وَالشَّوَارِعْ
وَالْكُلُّ. فِي السَّاحَاتِ وَالشَّوَارِعْ
وَلْتُدْرِكِ الْمَصَارِعُ الْمَصَارِعْ
وَلاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ
لاَ. لاَ تَعُدُّوا الْعَشَرَهْ…

السلام
ليُغنِّ غيري للسلامْ
ليُغنِّ غيري للصداقة، للأخوّةِ، للوئامْ
ليُغنِّ غيري..
للغراب ..جذلانَ ينعقُ بين أبياتي الخراب
للبوم.. في أنقاضِ أبراجِ الحمام !
ليُغنِّ غيري للسلام
و سنابلي في الحقل تجهشُ بالحنين
للنورج المعبود يمنحها الخلود من الفناء
لصدى أغاني الحاصدين
لِحُداء راعٍ في السفوح
يحكي إلى عنزاته.عن حّبّه الخَفِرِ الطموح
و عيونهِا السوداء.. و القدِّ المليح
ليُغنِّ غيري للسلام
و هناك.. خلف حواجز الأسلاك. في قلب الظلام
جثمت مدائن من خيام سُكّانُها..
مستوطنات الحزن و الحمّى، و سلّ الذكريات
و هناك.. تنطفئ الحياة في ناسِنا..
في أبرياء.. لم يسيئوا للحياة !
و هنا… !
هَمَت بيّارةٌ من خلقهم.. خيراً كثير
أجدادهم غرسوا لهم..
و لغيرهم، يا حسرتي، الخير الكثير
و لهم من الميراث أحزان السنين !
فليشبع الأيتام من فضلات مأدبة اللئام !!

لا نُصبَ.. لا زَهرةَ.. لا تذكار
لا بيتَ شعرٍ.. لا ستار
لا خرقة مخضوبة بالدم من قميص
كان على إخوتنا الأبرار
لا حَجَرٌ خُطّت به أسماؤهم
لا شيءَ.. يا للعار
أشباحُهم ما برحت تدورْ
تنبش في أنقاش كَفْر قاسم القبور
ليُغنِّ غيري للسلام..

سماحـــــة شيـــخ العقـــل
سيبقــــى رمـــزاً للنضـــال

وجّه سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن برقيتين الى الرئيس الفلسطيني الاستاذ محمود عباس وسفير دولة فلسطين في لبنان الاستاذ اشرف دبور عبّر فيهما عن عميق الأسى لنبأ رحيل الشاعر المعروفي والمناضل الفلسطيني الكبير سميح القاسم، الذي قاوم على طريقته الاحتلال الإسرائيلي وصلفه وظلمه وقهره للشعب الفلسطيني، وعبّر بصدق ووجع عن معاناة الفلسطينيين ومآسي الشعوب العربية، ورفع الصوت عالياً نصرةً للحق وللقضايا الانسانية، وكان خير من يمثل التزام أبناء طائفة الموحدين الدروز بإنتمائهم العربي الأصيل وبتجذرهم في الأرض. ويبقى سميح القاسم رمزاً للنضال، عاش فوق التراب الفلسطيني وتوفي فوق ارض فلسطين.

الشيــــخ سامــــي أبــــي المنــــى
نحسـدُه على استراحــة الضميــر والفكـــر

وجه رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز رسالة تعزية لعائلة الشاعر والمناضل سميح القاسم ولإخوانه بني معروف الأكارم والشعب الفلسطيني الصابر جاء فيها:
نفتقد وإياكم، كما يفتقد الشعب الفلسطيني المجاهد فارساً من فرسان الأدبِ المقاوِم والنضال، الذي لمع اسمُه ونجمُه في سماء الأمة العربية، مجاهداً بالشعر والموقف، ملتصقاً بالأرضِ والتاريخِ والقضية، الشاعر المحلِّق سميح القاسم.
لقد كان شاعرُنا الراحلُ واحداً من أبرز الشعراء والشخصيات الوطنية، ورمزاً للإباءِ والعنفوان، تألّم من الغربة فغنّى للوطن، وذاق مرارةَ السجنِ فأنشد للحرية، و”تعبَ من الحياة بلا حياة” فحمل نعشَه على كتفه، وبكى مع الأطفالِ والأمهات فحمل في كفه غصنَ الزيتون، وفي قلبِه المحبةَ والسلام.
إننا إذ نتحسّرُ لغيابِه اليومَ، والبلادُ ما زالت تعيشُ في أَوجِ مراحلِ الصدامِ وتدفعُ الدموعَ والدماءَ ضريبةَ الوجود، ومشاهدُ الدمارِ والألمِ تسيطرُ في أكثرَ من مكانٍ، والموتُ ينهشُ جسدَ الأمة من هنا وهناك، فإننا نحسدُه على استراحة الضمير والفكر، وقد أدّى ما عليه من واجب النداء والنضال، ومات واقفاً منتصِباً، وكأن صوته ما زال يتحدى المحتل الغاصب: “ لن تكسروا أعماقنا لن تهزموا أشواقنا»..
سميح القاسم، ستبقى إسماً لا يُنسى، وقامةً لا تُطوى، على طريق القادةِ المعروفيين الأحرارِ، كسلطان باشا وكمال جنبلاط وعادل أرسلان، وسيظلُّ شعرُك نبراساً لأحبائنا الفلسطينيين، في الديار وفي المخيمات، يحثُّهم على الوحدة ويُذكي فيهم الحنينَ إلى العودة والانتصار.
نطلبُ لروحِك الرحمةَ ولعائلتِك وأهلِك البقاءَ والعزاء، ولشعبِك العزّةَ وإرادةَ الحياة.

كلمة سواء

لــو عــاد الملـــوك

قبل ستة عقود كان العالم العربي يعيش مرحلة ما سمي يومها حركة النهضة وبناء الدولة العصرية، وهي الحركة التي تبعت زوال الدولة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها العربية إلى ممالك ودول وضعت لها دساتير وبنيت مؤسسات جعلتها على العموم أقرب في نظامها السياسي إلى الدول المنتدبة وهذه الدول تقاسمت أراضي السلطنة لتحوّلها إلى مستعمرات أو محميات أو ما شابه.
اللافت هو أن الولايات العثمانية السابقة اتجهت بصورة عفوية للبحث عن شرعيات تاريخية تجعلها على رأس الدولة فتشكّلت في العديد من الدول العربية أنظمة ملكية دستورية، إذ اعتبر الملك يومها بديلاً عن سلطة الخلافة العثمانية الغاربة والقادر بالتالي على توفير شرعية مماثلة توحّد المكونات المختلفة للمجتمع وتحقق الاستقرار والتطور والازدهار. في العراق مثلاً الذي يضم بطبيعته مكونات مذهبية وعرقية مختلفة تحوّل الملك إلى الضامن الأول لحقوق جميع الفئات والحَكَم المؤتمن في فض النزاعات وإعطاء كل ذي حق حقه. ولم تكن الملكية في العراق نظاماً استبدادياً كما أدخل في روع الأجيال التالية بل كانت ملكية دستورية محكومة بمؤسسات أبرزها الأحزاب والبرلمان ومجلس الأعيان والقضاء المستقل، وكانت الوزارة تعين من قبل مجلس النواب وتأخذ الثقة منه وقد سقطت عدة حكومات عراقية في مجلس النواب، وهو ما لا يحدث إلا نادراً حتى في الديمقراطيات المتقدمة، كما ترأس الحكومات في ظل النظام الملكي سنة وشيعة من دون تمييز وشغل الأكراد والتركمان مناصب بارزة وتولى يهودي عراقي منصب وزير المالية، وكان العامل الأهم في تلك الوحدة وفي انسجام تلك المكونات هو الملك الذي يحظى بشرعية أساسية بسبب انتمائه إلى البيت الهاشمي الشريف، وكذلك بسبب الحكمة واحترام القانون اللذين كانا الميزتين الأهم لأسلوبه في ممارسة السلطة والقيام بمسؤولياتها في الدولة. في الأردن الذي كادت تمزقه التناقضات ومضاعفات القضية الفلسطينية خصوصاً بعد خسارة الضفة الغربية كان الملك ولا يزال نقطة التوازن الحاسمة التي تساعد في الحفاظ على وحدة البلاد وحماية اللعبة السياسية على الرغم من عدم النضج الذي يميّز الكثير من أطرافها أشخاصاً وأحزاباً. في اليمن كان السلطان أيضاً عامل التوازن والوئام الداخلي في مجتمع قبلي مغرق في القدم، وفي مصر كما في ليبيا كانت عائلات ملكية عريقة تعطي لتلك الدول مكانة بين الأمم وتوفّر للمجتمع استقراراً ورفاهاً. وفي جميع تلك الأنظمة الدستورية كانت هناك مؤسسات تساعد الملك (أو رئيس الجمهورية) على الحكم وهي مؤسسات يتم اختيارها من أعيان البلد وأفضل الكفاءات وأكثرها خبرة. أما في فلسطين فقد تعمدت السلطة البريطانية تركها فريسة للإنقسامات تمهيداً لتقسيمها وإنشاء كيان يهودي غاصب على قسم كبير منها.
بصورة عامة كانت المجتمعات العربية مجتمعات مستقرة والأهم من ذلك كانت مجتمعات واعدة تسير في طريق الازدهار والتقدم الاقتصادي والثقافي والعلمي، وفوق ذلك تصان فيها كرامة الإنسان. ولم يكن من شيم تلك الحكومات الدستورية قمع الحريات أو تعذيب الخصوم أو خطف الناس في ظلمة الليل واقتيادهم إلى زنزانات وأقبية فلا يعرف بعد ذلك عن مصيرهم شيء.
في العراق يذكر التاريخ رواية معبّرة عن تلك الحقبة، إذ حصل أن كان الأمير عبد الإله الوصي على العرش العراقي يقوم في أول الخمسينات من القرن الماضي ببناء بيت له على شاطئ دجلة وقام البناءون نتيجة خطأ باقتطاع بضعة أمتار من أرض لجار له من عامة الشعب، فما كان من هذا المواطن إلا أن توجّه إلى القضاء وأقام دعوى على الأمير عبد الإله الذي بعد أن انتبه مهندسوه إلى الخطأ قام بتصحيحه وأعاد للفلاح حقه. . ويذكر أيضاً أن مجلس الوزراء العراقي أمضى في مطلع الخمسينات نصف ساعة في مناقشة حجم “مصروف الجيب” الذي يجب أن يصرف للأمير عبد الإله الذي كان يستعدّ لتلبية دعوة لزيارة الولايات المتحدة الأميركية. هذه حوادث حقيقية لا يعرفها الجيل الذي تربى على التاريخ الملفق الذي أنتج بعد ذلك لتبرير الإنقلابات العسكرية وهدم الأنظمة الشرعية الفتية في المنطقة.
صحيح أن أنظمة الحكم الملكية الدستورية التي سبقت موجة انقلابات العسكر كانت تشكو أحياناً من الضعف أو من تجاوزات البطانة، لكن كل تلك الأمور، كما اكتشفنا بعد فوات الأوان، لم تكن لتزن كثيراً في ميزان الاستقرار والاستمرارية والوحدة الوطنية التي أمنتها تلك العهود لمجتمعاتنا، كما أنها لا يمكن أن تزن شيئاً عند مقارنتها بما قاسته الشعوب العربية بعد زوال تلك الشرعيات الدستورية. وليس من قبيل المبالغة لذلك اعتبار مرحلة الجمهوريات والملكيات الدستورية بمثابة المرحلة “الإنسانية” الذهبية أو مرحلة حكم القانون في العالم العربي.
على العكس من ذلك، فإن القوى الانقلابية التي هللت لها الجماهير واندفعت في الشوارع فرحة بقدومها هي ذاتها اليوم التي قرر الجيل الثاني أو الثالث لتلك الجماهير بذل النفوس والتضحية بكل شيء من أجل التخلص منها. إنها لمفارقة محزنة ومدهشة أننا كعرب وبعد أن أضعنا ستين عاماً في ما سماه الشهيد كمال جنبلاط “السجن العربي الكبير” نبذل أقصى جهدنا لكي نعود إلى تلك الحالة الديمقراطية والحضارية التي كانت قائمة في ظل الحكومات الديمقراطية الطرية العود التي اكتسحتها “الجماهير” بقيادة “ثوريي” تلك الفترة التعيسة.
لكن هيهات أن يمكن إعادة جمع الإناء الذي تحول إلى حطام، فالتاريخ لا يرحم ولا يعيد نفسه، والمجتمعات الصحية والسليمة التي تمت تفرقتها وإجهاض تجربتها الديمقراطية المهمة لا توجد وسيلة سهلة لإعادة لملمتها وإحيائها، لأن الديمقراطية التي عاشتها بلدان المنطقة في فترة من الزمن لم تكن قائمة بسبب وجود مؤسسات فحسب، بل كانت كذلك بسبب وجود ثقافة ديمقراطية مقبولة لدى الناس وبسبب حكم القانون الذي كان يعزز شعور المواطنة ويشعر الأقليات خصوصاً بأنها آمنة على نفسها وتقاليدها ومعتقدها. وقد تطلب ترسيخ الديمقراطية عقوداً من الممارسة والتشريع والتنظيم والتدرب على الإدارة الحكومية كما تطلب وجود الملوك والحكومات الديمقراطية كقوى ضامنة وراعية للتجربة ولوحدة البلاد في الوقت نفسه.
وكما أن ثقافة حكم القانون كانت الأساس لقيام الجمهوريات والملكيات الدستورية في المنطقة العربية فإن موجة الانقلابات التي أطاحت بتلك الأنظمة واحداً بعد الآخر – في ما يشبه موجة وبائية- دشّنت على العكس ثقافة مختلفة تماماً مناهضة لكل ما هو ديمقراطي، إذ كان أول ما قامت به هو حلّ الدساتير القائمة وفرض أنظمة لا تخضع لأي مساءلة وتسن بنفسها ما يناسب مصالحها من قوانين وتتدخل في القضاء وتصادر الممتلكات من دون حق وتغيّر وتبدّل في الحكم وفي الإدارة وفي الجيش وفي الأمن وفي التعليم بل وفي كتابة التاريخ.
وبالطبع، فإن الترويج لثقافة الطغيان تحت ذرائع “التقدم” و”التغيير” وما شابه والاستهانة بالكرامات والحقوق على مدى عقود طويلة أنشأ في حد ذاته “ثقافة” جديدة “لا ديمقراطية” متأصلة حتى في سلوك الناس العاديين أو الذين يطرحون أنفسهم كبديل عن الوضع القائم. وهذا هو ربما سبب ما بدا من تعثر “الربيع العربي” إذ إن القوى البديلة كما ظهر حتى الآن لا تملك ثقافة حكم ناضجة تعينها على إقامة بدائل أفضل مما هو قائم بل في بعض الحالات سعى بعض الذين ركبوا موجة الاعتراض والمطالبة بالحرية إلى إقامة أوضاع استبدادية لا تختلف كثيراً عن الأوضاع التي اشتكى الناس منها وتمردوا عليها.
برزت مع الوقت صعوبة إضافية ناجمة عن أن الذين حكموا بإسم الشعارات البراقة انشغلوا بملاحقة رجال الصناعات والمال وأهل الثروات بذريعة محاربة الاستغلال ثم طاردوا النخب الحيّة من رجال قانون وجامعيين ومفكرين وأدباء وقطعوا بذلك شرايين البلد واقتصاده وهجروا قواه المنتجة والمبدعة، وهذا التفريغ المنهجي لقوى المجتمع يفسّر بدوره ضعف المشاريع البديلة في بلدان “الربيع العربي” وعدم قدرتها على إبراز قيادات قادرة على التأسيس لبدائل ديمقراطية وليس لأوضاع تكون من جنس الأوضاع السالفة أو أسوأ منها.
لقد وصلت المأساة حداً يجعل المرء يتحسر فعلاً على أيام الملوك وعهود السلام والإزدهار التي سادت في ظل الأنظمة التوافقية المعتدلة التي نشأت في عالمنا العربي في تلك الحقبة، ولو أن أولئك الملوك ما زالوا بيننا الآن لطالب كثير من الناس بتوليتهم مجدداً. لكن مثل هذا الحل بعيد الاحتمال والفتن قد تطول ربما إلى أن يتعب الناس من هذا الاستنزاف العقيم الذي لن يأتي بخير لأحد فيبدأون بحكم الضرورة وحب البقاء البحث عن حلول تقوم على مبدأ الأمن على النفس والمال والعرض والإنصاف والإصلاح واحترام الإنسان وكرامته وهذا أضعف الإيمان، أما الديمقراطية المرجوّة، فشأن آخر قد يطول انتظاره.

ملتزمون بثوابت التوحيد

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن.

ملتزمون بثوابت التوحيد

ما أحوجنا هذه الأيّام إلى التطلُّع بعين ثاقبة و نيِّرة نحو الثوابت التاريخيَّة التي التزمها أسلافُ الموحَّدين الدروز منذ البدايات التي برزوا فيها قبائل عربيّة أصيلة، تحفظ في روحها وفي مسالكها الحياتيَّة القيَم العالية، والمبادئ السامية، سواء أكان ذلك في المنحى السياسي، أم في المنحى الأخلاقي والاجتماعي. كان الأمراء التنوخيُّون خيرَ من تولّى حكم إمارة الجبل اللبناني العتيق عبر مئات السنين، ذلك أنَّهم حفظوا لبلدهم دورًا عزيزًا سَنيًّا في محيطهم الكبير، عبر علاقة حكيمة ومتواصلة مع الخلفاء الذين توالوا عبر الحقب المختلفة من دون تسجيل بوادر نزوع إلى التقوقع المذهبيّ، أو إلى عصبيَّاتٍ خارجة عن المسار العام للأمَّة”.

الملاحظةُ ذاتها تنطبقُ على الأمراء المعنيّين الذين خلفوا التنوخيّين، مع العلم بأنّه يتوجَّبُ النّظر إلى مرحلة الأمير فخر الدّين الكبير لا من منظور التمرُّد على السلطنة، وكتاب الخالدي الصفدي معاصره ومرافقه إلى توسكانا آنذاك يضع الحقائق في نصابها، إذ يردُ في تاريخه ما يؤكِّدُ مدى التزام الأمير بثوابت التاريخ، وإنّما أراد تحاشي ظلم الواشين والمفترين، وفي الوقت نفسه، أراد لبلده أن يجمع مكوِّناته الاجتماعية في بوتقة فكرية وطنيَّة جامعة، ممّا أدّى إلى اعتبار المؤرّخين له رائدًا في تجسيد الفكرة الجامعة للعيش المشترك التي منها كان لبنان.

نريد من هذا المدخل القول بأن المقاربة الموضوعيَّة لتاريخ الموحِّدين الدّروز بمجمله، لا يمكن أن تضعهم في حيِّز منفصل عن “أمَّتهم”، لا بالمعنى السياسي للتعبير، و لا بالمعنى السّلوكي الديني.

ومع ذلك، لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ فصول الحرب اللبنانيّة التي بدأت منذ العام 1975، شهدت خلال فترة الفوضى حركة تشويش خبيث لم توفِّر فيه أيّا من المعالم و المذاهب الاسلاميَّة بغرض ضرب الساحة الوطنية وتفتيتها. وتفشَّى هذا “الفيروس” في سوق رخيصة شعبيّة تُستثار دون أيّ حسّ نقدي عقلانيّ مستنير، ودون تمييز ضروريّ في هذه المواضيع بين ما هو جدّي رصين و ما هو مبتذل رخيص. ثم رُوجّت هذه الأفكارُ الهزيلة المغلوطة في عالَمٍ صاخب تقتحمُ حواسه وضمائره الصورةُ و الخبر العاجل من دون الوقوف على حقائق الأمور وطبائعها الصحيحة ولا تزال مع الاسف حتى اليوم.
إزاء كلّ هذا الالتباس المولود في العتمة، نقف نحن في وضح النهار – مع محافظتنا على نظرتنا الوطنية والتاريخية – لنذكِّر الجميع بالتقاليد المعروفيَّة الأصيلة، و بأنَّ مذهب الموحِّدين الدروز هو ثمرة طيّبة من دوحة الاسلام العظيم، تبدَّت مناحِيه السلوكيَّة و لطائفه الرّوحيَّة في بيئةٍ شهدت أرقى مستويات الحضارة الاسلاميَّة الزاهية التي أنارت العالم في عصوره المظلمة، وحفظت له ينابيع المعرفة بإخلاص وصدق مجسِّدة بما هو عليه الاسلام السّمح من عمق إنسانيّ مستنير يفتقرُ إلى مضامينه الأخلاقيَّة الرّفيعة عالمنا المعاصر. وهذا ما يعمل على تثبيته المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز.

لقد سبق لـ”الضحى” أن نشرت منذ حوالي السنتين كتابنا “السبيل إلى التوحيد”، الذي يشكِّل مدخلا إلى المسلك التوحيدي. و قد كان الحرص شديدًا على أن تكون نصوصُه مستقاة من ينابيع معرفيَّة تراثية صافية. أردناه خصوصًا أن يكون أداة تعليميَّة لأبنائنا من الجيل المعاصر المقيم و المغترب، والذي نأمل منهم الحصول عليه والتعمق بمضمونه بحيث يقفون على معالم تربويّة تكون لهم نبراسًا مفيدًا يوجّههم إلى الباب الصحيح لتراثهم الأصيل. و هذا هو سبيلنا الواضح لتراه الناسُ في النور، نُكمّله بـكتاب آخر ذي أغراض تعليمية أيضا وضعنا له عنوان “علامة المؤمن”. وهذه هي طريق الحق مفتوحة ومضيئة لكل ذي بصيرة، أما الذين يندفعون بطيش إلى أقبية الظلام “فهم لا يتبعون إلا الظن”وما تهوى الأنفس” ويعمون عن الحقيقة الساطعة التي نرجو الله تعالى أن تشمل بنعمتها جميع المخلصين من أهل التقوى والدين.

المؤسف حقاً ان كثيرين يجهلون تاريخ الموحدين الدروز بمعناه التراثي الأثيل العميق، ويحلّون محل المعرفة الحقيقية والموضوعية كل أنواع الظنون والأباطيل، لكن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وهو لا يؤخذ من أقبية الظلام والظلاميّة ولكن من فسحة النّور. وإنَّ إحدى المهمّات الأساسيَّة لمجلة”الضحى” هي السعي قدر الإمكان لسد بعض النقص في فهم حقيقة تراث الموحِّدين وقيمهم وسيَر رجالاتهم المشهود لهم، والإضاءة على صفحات تاريخهم النضالي والفكري والمسلكيّ البالغ الثراء، وهو إرث مستمر بثوابته المعرفيَّة والإسلاميَّة والوطنيَّة، نحافظ عليه برغم كل المتغيرات وبعض محاولات البلبلة وخلط المفاهيم بشكل مضلّ تمامًا. فقدرنا هو أن نبقى أوفياء لفضيلة الصدق التي بها تصحّ كلّ معرفة، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.

.

العدد 10