السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سد القرعون

ماذا تعرف عن سدّ القرعون

أكبر مشاريع لبنان المائية والكهرمائية؟

«لبنان هبة الليطاني» هذا ما قاله المهندس ابراهيم عبد العال في مقدمة دراسته لنهر الليطاني التي أجراها في العام 1948 متمثلاً بمقولة المؤرخ اليوناني هيرودوتس « مصر هبة النيل» .
عبّرت هذه الكلمات عن أهمية الموارد المائية لمستقبل الاقتصاد والتنمية في لبنان وعن الأهمية الكبرى لنهر الليطاني باعتباره النهر الأطول والأغزر بين الأنهر اللبنانية الداخلية والليطاني نهر «داخلي» بمعنى أن منبعه ومصبَّه يقعان في الأراضي اللبنانية وأن كل مياهه تعود إلى لبنان ولا يتشارك فيها مع أي بلد آخر.
مع ذلك، فإن لدى لبنان هواجس دائمة إزاء مطامع إسرائيل في مياهه ولا سيما الليطاني خصوصاً وأن إسرائيل اجتاحت أراضيه عدة مرات وكانت غالباً ما تصل إلى الليطاني أو تتجاوزه، وقد ترافقت حرب تموز 2006 مثلاً بإشاعات كثيرة عن خطط إسرائيلية لسرقة مياه النهر لكن الاحتلال يومها لم يدم طويلاً وتنفس اللبنانيون الصعداء تجاه سلامة مياه النهر وأمنهم المائي.
بالنظر إلى أهمية الليطاني فقد كان منذ الثلاثينات، وفي ظل الانتداب الفرنسي، مركز اهتمام الدولة اللبنانية التي اعتبرت أن من أولى واجباتها أن تحقق الاستغلال الكامل لهذه الثروة المائية االفريدة بحيث لا تذهب هدراً إلى البحر خصوصاً في فصل الشتاء عندما تؤدي متساقطات الأمطار والثلوج على السلسلتين الشرقية والغربية إلى زيادة كبيرة في تدفقات الأنهر وكميات المياه التي تحملها .
لكن الفكرة بدأت بالتحول إلى مشاريع جدية في خمسينات القرن العشرين، إذ لعبت قيادات فنية واقتصادية بارزة مثل المهندس ابراهيم عبد العال وألبير نقاش وسليم لحود دوراً أساسياً في بلورة المخططات والخيارات بشأن نهر الليطاني وأثمرت تلك الجهود بقيام المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في العام 1954 والتي عهد إليها الإشراف على بناء سد الليطاني الذي سمي في ما بعد «سد القرعون» وتمكّنت المصلحة في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب من إنجاز الأعمال في السدّ وتشغيله بالكامل في العام 1962.
فما هي قصة هذا السدّ المهم جداً لاقتصاد لبنان الزراعي وقطاعه الكهربائي؟ وما هي الفوائد التي يجنيها لبنان من استثمار مياهه على الوجه الصحيح؟ وما هي مشاريع مصلحة مياه الليطاني للمستقبل المنظور؟

نهر الليطاني
ينبع نهر الليطاني من نبع العليق الواقع غرب بعلبك ويخترق سهل البقاع من الشمال الى الجنوب حيث يبقى مستعلى ارتفاع عن سطح البحر يتراوح ما بين 800 – 1,000 متر ويزداد حجم تدفقاته المائية تدريجياً نتيجة الروافد التي تغذيه. ومن هذه الروافد نهر البردوني ونهر شتورا ونهر قب الياس ونبع الخريزات ونبع مشغرة اضافة الى نهر يحفوفا ونهر الغزيل الذي يعتبر أهم روافده على الإطلاق لأنه يضم نبع رأس العين ونبع الفاعور ونبع شمسين ونبع عنجر اضافة الى عين البيضا، وجميع هذه الروافد تصب في الليطاني ضمن مسافة لا تتعدى العشرة كيلومترات، وفي اقصى الجنوب يتلقى الليطاني مياه عين الزرقاء ومياه نبع الغلة .
وعندما يخرج الليطاني من البقاع ويدخل في القسم المنخفض من مجراه فإنه يهبط من علو 800 متر الى مصبِّه عند سطح البحر بعد اجتياز مسافة 100 كلم تقريباً، وفي القسم المنخفض يتلقى النهر مياه نهر زريقون ونهر وادي السلوقي .
وينحرف مجرى النهر باتجاه الغرب عند جسر الخردلي بالقرب من قلعة الشقيف تجاه دير ميماس حيث يتحول إسمه إلى «نهر القاسمية» ويتدفق إلى البحر المتوسط على بعد ثمانية كيلومترات شمال مدينة صور .
تبلغ مساحة حوض النهر (أي الأراضي الواقعة على ضفتيه ويمكن أن تستفيد من مياهه) 2,168 كيلومتر مربع (أو ما يعادل 21% من مساحة لبنان الإجمالية البالغة 10,452 كلم2) وتقع 80% من أراضي حوض الليطاني في سهل البقاع والباقي في المناطق الجنوبية من لبنان، فهو يبلغ 170 كلم وتصريفه السنوي يزيد على سبعمائة وسبعين مليون متر مكعب.

سد القرعون
تعود تسمية بحيرة القرعون أو سدّ القرعون إلى المكان الذي تمّ اختياره من قبل المهندس ابراهيم عبد العال مع الجيولوجي دوبرتريه بين بلدة القرعون وبلدة سحمر عند مستوى او منسوب 800 م والذي يعتبر من افضل المواقع الجغرافية لبناء السد وهذا الأمر كان بإجماع الخبراء الذين تعاقبوا على دراسة المشروع، لذلك تم اعتماد الموقع لبناء السد.

مواصفات السدّ
أجريت عدة دراسات لتحديد نوعية السدّ قبل الوصول الى القرار النهائي الذي سوف يعتمد في بنائه. البعثة الأميركية أو ما عُرف بالنقطة الرابعة قدّمت دراسة لبناء سدّ من الركام الصخري مع نواة من المواد الصلصالية المتوفرة في المكان، كما قدمت البعثة الفرنسية المعروفة بمجموعة الليطاني نموذجين للسدّ مراعية عدداً من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلباً على السدّ كالهزات الأرضية ، الفيضانات وغيرها فتم اختيار السد الخرساني وتلزيمه لإحدى الشركات اليوغوسلافية التي باشرت العمل في 30\9\ 1958 .
يبلغ ارتفاع السد 60 متراً وطوله حوالي 1090 متراً بعرض اقصى 162 متراً، ويبلغ حجم السدّ الاجمالي مليوني متر مكعب تقريباً، وهو من أنواع السدّ الركامي المبني من الردميات الصخرية مع طبقة امامية من الصخور المرصوفة .
بلاطات منع التسرب: هي من الخرسانة المسلحة على الواجهة الأمامية للسد تتراوح سماكتها ما بين 50 سنتمتراً في القسم الأسفل للسد و30 سنتمتراً في القسم الأعلى منه ، تبلغ مساحتها 47,000 متر مربع، ترتبط هذه البلاطات في ما بينها بفاصل مطاطي وتتم تعبئة الفراغات بمواد من الزفت العازل تسمى (water stop).

المنشآت التابعة للسدّ
1. منشأة تصريف الفيضان او المفيض Evacuateur des crues
يعتبر المفيض أهم المنشآت التابعة للسدّ، إذ إنه يحميه في حال الفيضانات ويؤمن مرور المياه بشكل سليم دون الإضرار بجسم السد، أما خصائص هذه المنشأة فهي :
– نوعية المفيض: برج من الخرسانة المسلحة في البحيرة متصل بنفق يمر تحت جسم السد حتى النهر .
– منسوب اعلى المفيض 858 م فوق سطح البحر .
– قطر اعلى المفيض 26 متراً
– قطر بئر التهوئة 3 أمتار ويصل الى منسوب 861.5 متر
– قطر نفق التصريف تحت السد 6.8 أمتار
2. منشأة تفريغ البحيرة
يتم تفريغ البحيرة في بعض الأحيان لأعمال الصيانة عندما تكون المياه في ادنى مستوياتها في فصل الخريف .
صممت منشأت التفريغ لتؤمن تصريف حوالي 100 متر مكعب في الثانية بواسطة برجين بالقرب من الضفة اليسرى للنهر متصلين بنفقين يمران تحت جسم السد وينتهيان عند غرفة السكورة المجهزة بمنشآت التحكم في فتح او قطع تفريغ المياه .
استعمال مياه السد
تستعمل المياه التي يختزنها في توليد الطاقة الكهربائية في المعامل الكهربائية الثلاثة (معمل مركبا، معمل الأولي، ومعمل جون ) التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني وفي ري ما يزيد على 1400 هكتار من اراضي سهل البقاع الزراعية وحوالي 36 الف هكتار من الأراضي الزراعية في الجنوب اللبناني .

معامل الطاقة الكهربائية
1. معمل إبراهيم عبد العال أو ما يُعرف بمعمل مركبا
يقع هذا المعمل على بعد 6,400 متر من سدّ القرعون وهو يأخذ المياه من بحيرة القرعون عبر نفق تحت الأرض على الضفة اليمنى من المجرى ، يتصل بالمجرى بواسطة انبوب فولاذي مضغوط يبلغ تصريفه الاقصى 22 متراً مكعباً بالثانية ، ويبلغ علو مسقطه 200 متر تتكون منظومة الانتاج في معمل عبد العال من وحدتين بقدرة تجهيزية إفرادية تساوي 17 ميغاواط مزودة بعنفة مائية ، حيث يبلغ مجموع الانتاج في المعمل 34 ميغاواط .
تمّ انجاز هذا المعمل بكامله ووضعه قيد الإستثمار في العام 1962 عندما كان سدّ القرعون في المرحلة الاولى من بنائه لكنه في حالة تسمح بتأمين المياه اللازمة لتشغيله .
2. معمل بولس ارقش أو ما يعرف بمعمل الأولي
يقع هذا المعمل في حوض نهر بسري على الضفة اليسرى للنهر، حيث يبلغ علو مسقطه 400 متر ويستمد المعمل المياه اللازمة لتوليد الطاقة من بحيرة القرعون بعد خروجها معنفة من معمل عبد العال لتتحد مع مياه نبع عين الزرقاء ومياه الأمطار وعدد من الينابيع الأخرى لتصل الى المعمل عبر نفق يخترق جبل نيحا بطول 17 كلم لتصل الى بركة انان فوق المعمل مباشرة حيث يتزود المعمل بالمياه مباشرة عبر انبوب فولاذي مضغوط يبلغ تصريفه 33 متراً مكعباً بالثانية .
تتكون منظومة إنتاج المعمل من ثلاث وحدات بقدرة تجهيزية تصل الى 36 ميغاواط مزودة كل منها بعنفة مائية حيث تبلغ القدرة الإجمالية للمعمل 108 ميغاواط .
تمّ انجاز بناء المعمل ووضعه قيد الإنتاج في تموز من العام 1965 بمجموعتين فقط قبل ان تتم اضافة مجموعة ثالثة في العام 1977 لزيادة قدرته الإنتاجية خلال ساعات الذروة ولم تدخل حيز العمل إلا في العام 1981 نتيجة الاوضاع الأمنية المتردية .
يعتبر معمل بولس أرقش اهم معمل لإنتاج الطاقة الكهربائية من مصدر مائي في لبنان من حيث القدرة الإفرادية لكل مجموعة من مجموعاته الثلاث، كما يعتبر هذا المعمل محطة مركزية لتجميع الطاقة المنتجة من المعامل الثلاثة .

قاطع السد المستند إلى البنية الخراسانية
قاطع السد المستند إلى البنية الخراسانية

3. معمل شارل حلو أو معمل جون
يقع هذا المعمل على الضفة اليسرى من مجرى نهر الأولي حيث يبلغ علو مسقطه 194 م وهو يعتمد القسم الأكبر من المياه اللازمة لتوليد الطاقة من تصريف معمل بولس ارقش ، والقسم الآخر من مياه نهر بسري عن طريق تحويلها الى بركة التجميع فوق المعمل حيث تتدفق عبر نفق طوله 6800 م ليتم نقلها الى المعمل بواسطة انبوب فولاذي مضغوط قدرة تصريفه 33 متراً مكعباً بالثانية .
تتكون منظومة الإنتاج في معمل جون من وحدتين بقدرة تجهيز افرادية تبلغ 24 ميغاواط مزودة كل منها بعنفة مائية لتصل القدرة الإجمالية للإنتاج الى 48 ميغاواط . واللافت في هذا المعمل انه مجهز بمحركات عكسية بإمكانها ضخ المياه المعنفة الى بركة التجمع في حال تمّ انشاء برك تجميع للمياه بعد خروجها من المعمل، وقد تم انجاز هذا المعمل في العام 1968 .

خطوط نقل الطاقة
تحتاج معامل الليطاني الى وجود خطوط توتر عال من اجل تصريف الطاقة المنتجة ووضعها على الشبكة العامة العائدة لمؤسسة كهرباء لبنان، ولأجل ذلك قامت المصلحة بتمويل انشاء شبكة توتر (66 كيلوفولت ) لحسابها تربط معاملها الثلاثة ببعضها بعضاً من جهة كما تربط هذه المعامل بالشبكة العامة من جهة اخرى .
وكانت هذه الشبكة تتعرض للأضرار بشكل مستمر طيلة الحرب الأهلية ونتيجة الإعتداءات الإسرائيلية وفي كل مرة يتم اصلاح هذه الأعطال وإعادة التيار الى طبيعته .

مشاريع الري التي تستفيد من مياه السد
1. مشروع ري القاسمية ورأس العين (الجنوب)
يعتبر هذا المشروع من اهم المشاريع في لبنان تمّ تنفيذه في العام 1974 ، يتكون هذا المشروع من قسمين أساسيين:
القسم الأول : قناة القاسمية : تمتد من السد التحويلي في الزرارية حتى الموزع العام بطول 9 كلم حيث تتفرع الى فرعين : الفرع الشمالي أو فرع صيدا والفرع الجنوبي أو فرع صور .
يمتد الفرع الشمالي او فرع صيدا من الموزع العام حتى مجرى نهر سينيق جنوب صيدا بطول 25 كلم وتبلغ طاقة تصريفه نحو 3.5 م مكعب بالثانية .
أما الفرع الجنوبي أو فرع صور فيمتد من مخرج نفق القاسمية حتى مفرق المعشوق بطول 9 كلم وتبلغ طاقة تصريفه نحو 1.5 م مكعب بالثانية.
القسم الثاني : قناة رأس العين :
تتألف من فرعين أساسيين :
فرع رأس العين الشمالية ويمتد من برك رأس العين جنوباً حتى مفرق المعشوق شمالاً بطول 5 كلم .
فرع رأس العين الجنوبي ويمتد من برك رأس العين حتى بلدة المنصوري جنوباً بطول 7 كلم ويروي هذا القسم 3,200 هكتار بالطرق التالية : الجاذبية ، والضخ مع الري الحديث الذي يعتمد على التنقيط . وما بين العام 1996 والعام 1998 نفذت المصلحة اشغال التحديث وتأهيل المنشآت الرئيسية للمشروع .
2. مشروع ري البقاع الجنوبي
تم تنفيذ المرحلة الأولى بما فيه البنية التحتية الهيدروليكية خلال الفترة ما بين 1998 و2001 وفق أحدث تقنيات الري .
يروي حالياً 2,000 هكتار من بحيرة القرعون جنوباً الى جب جنين وكامد اللوز شمالاً، وسوف يروي مستقبلاً عند الإنتهاء من تنفيذه حوالي 21 الف هكتار من الأراضي الزراعية .

منشآت المشروع
يتكون المشروع من :
– قناة جر رئيسية (900) بطول 18.40 كلم
– محطات ضخ رئيسية في اسفل سدّ القرعون
– محطات ضخ ثانوية على شبكات الآبار
– خزانات التوزيع وشبكات الري المضغوطة
تأتي معظم كميات المياه التي تستعمل في الري في الضخ من بحيرة القرعون مع دعم من آبار كامد اللوز لقطاع جب جنين .

مشروع الري النموذجي
تبلغ مساحة مشروع الري النموذجي 1200 هكتار تقع بين مجرى نهر سينيق ونهر الاولي ومساحة المنطقة المستثمرة من هذا المشروع تبلغ 350 هكتاراً تروى بالمياه المتوفرة في بركة أنان، ويتألف المشروع من شبكة ري رئيسية وشبكات فرعية يبلغ طولها 42 كلم .

وحدة البيئة والمهام التي تلقى على عاتقها في مراقبة المياه وحماية حوض الليطاني من التلوث
نظراً إلى إرتفاع نسبة التلوث التي تطال الأنهر اللبنانية بشكل عام وغياب الرقابة والمحاسبة كان لا بدّ من خطوة ذاتية في هذا المجال لمتابعة واقع المياه في حوض الليطاني مما دفع بالمصلحة الوطنية لنهر الليطاني بإستحداث وحدة البيئة في العام 2005 التي تلقى على عاتقها مهمة المراقبة الدائمة لنوعية المياه السطحية .

نهر الليطاني
نهر الليطاني

تلوث مياه الليطاني
الثمن البيئي …والعلاج

تعتبر مصادر التلوث في الليطاني كثيرة ولعلّ أبرز مصدر لتلوث مياه الحوض الأعلى لليطاني قبل وصوله الى بحيرة القرعون نتيجة لتحويل مياه الصرف الصحي والمياه المبتذلة إلى النهر من المجمعات السكانية القريبة من المجرى من القرى والبلدات الواقعة على طول مجرى النهر وهذا ما يظهر بشكل واضح خلال فصل الصيف بعد توقف مياه الأمطار.
أضف الى ذلك النفايات الصناعية التي ترمى على مجرى النهر والنفايات المنزلية فضلاً عن مخلفات المستشفيات ومزارع الدواجن في ما تتمثل الملوثات الأخرى ببقايا الأسمدة والمبيدات الزراعية وما ينتج عن المقالع والكسارات اضافة الى مراكز غسل السيارات ومحلات تغيير الزيت وغيرها وغير ذلك من مصادر التلوث التي تشوه النهر الى حد بعيد وهذا ما ينعكس بصورة خطيرة على نوعية مياه الري وإمكانية الإفادة من مياه النهر لأغراض الاستهلاك المنزلي.
لا يبدو في الأفق أي أمل في إمكان معالجة ظاهرة التلوث اذا لم تواكب بخطوات جدية من قبل الدولة منها على سبيل المثال لا الحصر :
– إصدار قانون خاص بإجراءات حماية المياه في لبنان ومعاقبة جرائم تلويث المياه وإصدار غرامات كبيرة على جرائم تلويث أو إفساد المياه.
– إيجاد إدارة خاصة حكومية لمراقبة السلامة في حوض الليطاني وغيره من الأنهر، وتعطى صلاحيات واسعة وتدعم بجهاز رقابة مدعم بالقوى الأمنية بما يعطي للقانون هيبته وقوة التنفيذ اللازمة لردع المخالفين.
– معالجة مياه الصرف الصحي بإقامة محطات تكرير جماعية لمعالجة المياه المبتذلة عند مخارج المدن والتجمعات السكانية والمصانع.
– إنشاء محطات لمعالجة النفايات الصلبة.
– إلزام مصانع تحويل الإنتاج الزراعي ومعامل إنتاج الألبان والأجبان والمسالخ بتجهيز منشآتهم بمحطات تكرير للسوائل والفضلات الناتجة عن عملية التصنيع .
– فرض غرامات مالية قاسية على رمي شتى أنواع النفايات في مجرى النهر .
– متابعة المزارعين وإرشادهم إلى سبل التخلص من مخلفات الأسمدة والمبيدات الزراعية .

وحدة البيئة والمهام الأساسية وكيفية عملها
– تقوم هذه الوحدة بدراسة نوعية المياه وذلك من خلال جمع العينات وتحليلها في الحوض الأعلى والأسفل من نهر الليطاني ( يقصد بالحوض الأسفل المسافة الممتدة من أسفل بحيرة القرعون وصولاً الى البحر شمال مدينة صور ) لتحديد العناصر والمكونات الملوِّثة .
– يتوزع العمل بين فريقين ، الأول في الحوض الأعلى وهو متواجد بشكل دائم في مركز الأبحاث التابع لمصلحة مياه الليطاني في خربة قنفار، والثاني يتبع مكتب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في مدينة صيدا .
– قامت الوحدة بدراسة الخصائص الجغرافية للنهر واستطاعت من خلالها تحديد مصادر التلوث المتمثلة بالنفايات الصلبة ونفايات المستشفيات ونفايات المصانع .

أهداف وحدة المراقبة (وحدة البيئة )
تتضمن الأهداف الرئيسية لبرنامج مراقبة نوعية المياه :
1. تأسيس قاعدة بيانات طويلة الأمد متعلقة بنوعية المياه من أجل الحفاظ على المعلومات ورصد التغيرات الحاصلة في حوض الليطاني وللتأكد من سلامة المياه التي تستخدمها البلدات والوحدات الزراعية والصناعية .
2. إنشاء قاعدة جامعة للبيانات والتحليل لإدارة وترجمة المواضيع المتعلقة بنوعية المياه .
3. تبادل المعلومات مع المؤسسات المعنية من أجل تحسين نوعية المياه وتطوير إدارة هذا القطاع .
4. تطوير الإمكانيات من أجل الإكتشاف المبكر للملوثات ومصادرها من خلال إيجاد إطار قانوني لمراقبة نشاط المصانع والنشاط الزراعي ومراقبة النفايات الصلبة والسائلة .
5. الإعداد لدراسة جيو تقنية تُعنى بالإهتمام بمجمع القرعون المائي من خلال دراسة تغذيته الإصطناعية للمياه الجوفية عبر المشاركة في مشروع آراسيا عبر الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية .
6. مراقبة المياه الجوفية عبر الآبار المخصصة لذلك والتي تمّ حفرها بدعم من الـ USAID.
7. استخدام نفس التقنية المذكورة في البند الخامس لدراسة امكانية تسرب المياه من تحت جسم السد .

آثار المشروع الإقتصادية والإجتماعية
كان لمشروع الليطاني الأثر الأكبر في تغيير حياة الناس في القرى والبلدات المجاورة له حيث حول آلاف الهكتارات الزراعية من أرض بعلية الى أرض مروية يمكن الاستفادة منها على مدار السنة على الرغم من توزيع المياه بشكل غير متساو على المناطق المحيطة، وهذا ما أطلعنا عليه المزارع اسعد جابر رئيس تعاونية خربة قنفار الزراعية .
يقول المزارع جابر لقد أحدث المشروع ثورة هائلة في عالم الزراعة في البقاع الغربي من خلال تنوع المزروعات وتوزعها على مدار السنة فتحوّلت الزراعة من بعلية الى مروية مما ضاعف المردود وشجّع على الاستثمار في القطاع الزراعي لكن المشكلة تكمن في مشاريع الري المنفذة في البقاع حيث نرى أن المزارعين الذين يمتلكون حيازات زراعية على مجرى قناة الري الممتدة من منطقة السد وصولا الى بلدة كامد اللوز يعمدون الى ري مزروعاتهم بكلفة زهيدة على مدار العام لا تتجاوز السبعين الف ليرة لبنانية .
وفي المقابل، القرى والبلدات الواقعة في سفوح السلسلة الغربية لا تستفيد من هذا المشروع فهي تعتمد على مياه الينابيع المنسابة من الجبل وهذا ما يسبب في تراجع الزراعة وفي اهمال بعض المزارعين لأراضيهم ولاسيما في سنوات الجفاف .

بحيرة القرعون كما تبدو من الأقمار الصناعية
بحيرة القرعون كما تبدو من الأقمار الصناعية

توزّع الملكيات الزراعية
هناك تفاوت كبير في توزيع الاراضي الزراعية لكن أغلبية هذه الملكيات هي ملكيات فردية تتوزع على معظم سكان القرى المحاذية لمشروع الليطاني، لكن هناك نسبة قليلة من المزارعين اصحاب الحيازات الكبيرة التي تستثمر في الزراعة بشكل كبير ويعتبر المردود الزراعي الركيزة الأساسية في عيشهم في حين ان الشريحة الكبرى ممن يمتهنون الزراعة لا يعتمدون عليها بشكل كلي .
اللافت في بعض المزارعين الذين يمتلكون اراضي زراعية في القرى غير المشمولة بري المشروع يهملون اراضيهم ويذهبون لاستثمار الأراضي في المنطقة التي يشملها الري نظراً إلى الكلفة الزهيدة التي يدفعها المزارع .
ما هي المعوقات التي تعيق العمل الزراعي ؟
جابر: المشكلة الاساسية التي تعيق عمل المزارعين هي مشكلة التصريف والمنافسة من الخارج التي تدخل الاسواق المحلية بشكل عشوائي مما يدفع المزارعين الى بيع منتجاتهم الزراعية بسعر الكلفة في معظم الأحيان .
والمشكلة المستجدة اليوم هي مشكلة التصدير الى الدول العربية واغلاق المعابر مما يسبب في تلف بعض المحاصيل التي تأتي دفعة واحدة في زمنٍ قياسي ، كما رفعت من كلفة التبريد في البرادات الزراعية، اضافة الى ذلك هناك، ظاهرة التلوث التي أصبحت واقعاً لا مفرّ منه نتيجة العديد من مصادر التلوث التي تدخل مياه البحيرة وغياب اي رقابة من الدولة على ذلك مما يسبب في تلف المزروعات نتيجة الادوية والمبيدات السامة التي ترمى في مجرى النهر .
هل تستعمل هذه المياه في الاستعمال المنزلي او في الشفة ؟
جابر: إطلاقاً لا يمكن ان تستخدم هذه المياه للأغراض المنزلية وهي غير صالحة للشرب نظراً إلى ارتفاع نسبة التلوث وهذه الملوثات تسبب امراضاً خطيرة تؤدي الى الوفاة.
وفي النهاية لا يسعني القول إلا أن من يرنو الى البحيرة من بعيد يذهله منظرها الجذاب ومن يقترب منها ويطلع على المشاكل الصحية التي تعتريها يصبه الذهول .

مركز الخدمة والارشاد الزراعي في خربة قنفار
تمّ بناء هذا المشروع ضمن اطار مشروع IRWA الممول من الاتحاد الأوروبي ما بين العام 2003 والعام 2006 وهو يهدف الى توفير الإرشاد والدعم الفني للمزارعين في مشروع ري القاع الجنوبي .
يتضمن المشروع :
– حقل تجارب بمساحة 160 هكتاراً للقيام بتجارب الزراعة والري .
مختبر للتربة والمياه كامل التجهيز .
– محطة ارصاد جوية .
– حقل تجارب دون مستوى السد بمساحة 37 دونماً تتضمن 25 دونماً لزراعة الزيتون و12 دونماً لعنب المائدة الذي يتضمن 12 صنفاً.

الأهداف التي يتوخى المركز تحقيقها
أولاً: ترشيد المزارعين على استعمال التقنيات الحديثة في الزراعة والري عبر ندوات دورية وإنشاء حقول تجارب زراعية .
ثانياً: استقبال الباحثين والطلاب لإجراء الأبحاث العلمية.
ثالثاً: إجراء تجارب لإدخال زراعات جديدة .
يشهد المركز تعاوناً مثمراً مع المؤسسات والبرامج التابعة للقطاعين العام والخاص والأهلي بينها برنامج دعم إدارة حوض الليطاني وزارة الزراعة ، مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية والمعهد الزراعي العالي لدول حوض المتوسط ، كليات الزراعة في الجامعتين اللبنانية والعربية .

المزارع اسعد جابر
المزارع اسعد جابر

الواقع السياحي
على الرغم من جمال البحيرة ومن المنظر الأخاذ الذي تتمتع به إلا ان واقع التلوث الذي اصاب مياهها حرم أهل المنطقة من مورد مهم وهو مورد السياحة وإن وجد فهو بسيط وموسمي يقتصر على بعض الزوار الذين يأتون الى البحيرة لمشاهدتها فقط وهذا الدور تقوم به بعض المراكز السياحية الصغيرة التي تؤمن نقل من يرغب للقيام بجولة داخل البحيرة، اما المشاريع السياحية القريبة والمباشرة للبحيرة فهي شبه معدومة وهذه الظاهرة لا تقتصر على محيط بحيرة القرعون فقط لكنها تنعدم على طول مجرى الليطاني ولاسيما في منطقة المجرى الأعلى حيث تنتشر روائح النفايات الكريهة وتؤثر على الوضع الصحي لسكان المناطق المجاورة .

شيخ النخوة والتواضع

إذا أردت شــــريـــــــــــــــــــف النــــــاس كلهـــــــــــــــــــم فانظر إلى عظيم في زي مسكين
ذاك الذي عظمت فـــــــــــــــــي الله نعمته وذاك يصــــلــــــــــــح للدنيـــــــــــــــــــــا وللـــديـــــــــــــــــــن
الشيخ حسين قيس، ذاك القاضي الشريف الذي امتدت ولايته القضائية المذهبية من عام 1911 إلى العام 1933 على المسلمين الموحدين من بلاد الجليل والكرمل جنوباً، إلى وادي التيم والجولان وغوطة الشام وإقليم البلان وحتى جبل السماق قرب حلب شمالاً .
كان الشيخ حسين قدوة في التواضع والمحبة والشفقة والرحمة وخصوصاً تجاه الفلاحين قاطني بلدته الماري، رغم علّو مكانته، والأدلة والأمثلة على ذلك عديدة. وإحدى الروايات عنه التي تبين سماحته وغيرته وتواضعه هي ما حصل عندما قرر أهل قريته الماري القيام بزيارة إلى مقام «السلطان إبراهيم» في الجولان، وكان قيام أهل القرية بهذا النوع من الزيارات الدينية مألوفاً في أواخر الصيف، بعد جني الغلال والمواسم، وكانت تتم عادة تلبية لدعوة من أحد أبناء القرية وذلك وفاءً لنذر، سواء كان عن مولود جديد، أم شفاء مريضٍ، أم وفرة محصول، وما أكثر المناسبات والأسباب التي كان الناس يتخذونها سبيلاً لشكر الله على نعمه التي لا تحصى. وكانت القرية تهب بكامل أبنائها إلى واجب الزيارة ولا يبقى فيها إلا من لا تسمح لهم ظروفهم بمجاراة الركب مثل الشيوخ العجز والمرضى والأطفال الصغار.
كان موكب الزيارة يمرّ في محلة «السبّان» يتقدمه الشباب والصبايا بالزغاريد والحداء والأغاني الحماسية، في تلك اللحظة تحمس بعض رعاة الماشية (وكانوا يسمون: «رعيان العجّال») للمشهد وكانوا مجتمعين في الحظائر المطلة على الموكب، وخطر في بالهم أن ينضموا إلى الموكب الاحتفالي، لذلك عمدوا عند غروب الشمس إلى إدخال الطروش (الماشية) إلى الزريبة، وإغلاق منافذها، ثم لحقوا بهم على وجه السرعة كي لا يفوتهم شيءٌ من بهجة الزيارة وروعتها (كالطرب والغناء، والدبكة، والطعام الشهي، وسوى ذلك).

كان من عادة الشيخ حسين قيس تفقّد قريته ليلاً، وقد بلغه من أحدهم أنّ «رعيان العجّال» قد تركوا الزريبة دون حراسة، ولحقوا بالزائرين.
إستهجن الشيخ تصرف الرعيان غير المسؤول لأن الماشية التي يهتمون بها كثيرة وتساوي مبالغ طائلة، والزرائب تقع في منطقة بعيدة ومعرضة للإعتداءات وعمليات السرقة، لذلك قرر أن يذهب بنفسه إلى موقع الزرائب وأن يتولى الحراسة الليلية بنفسه متأبطاً سلاحه، وقد خشي أن يؤدي ترك الماشية دون حراسة إلى تسلل اللصوص وأخذها كلها غنيمة سهلة.
بالطبع كان وقع المفاجأة صادماً على الرعيان عندما عادوا مع ساعات الفجر ليجدوا الشيح حسين ساهراً على سلاحه حماية للزرائب التي أهملوا حمايتها سعياً وراء بعض التسلية، وأدرك هؤلاء سوء تصرفهم وخجلوا كثيراً، إذ وجدوا أنهم حرموا الشيخ من الموكب ومن نوم الليل بسبب قرارهم الطائش وكان خجلهم لدرجة أنهم حاولوا أن يتواروا عن نظر الشيخ وهم في حيرة كيف سيشرحون له ويعتذرون منه. لكن الشيخ ناداهم وطيّب خاطرهم بكل حبور وسرور بالقول: «هل انبسطتم وسررتم يا أبنائي في سهرتكم، سامحكم الله، والشباب لا تُلام، وإن كان من واجبكم، على الأقل، إعلامنا بذلك».
عندما توفي الشيخ حسين قيس عام 1933، أقيم له أسبوع الأربعين في بلدته حاصبيا، وفي الباحة المعروفة بإسم آل قيس قرب منزله.
وقد حضرت الوفود الغفيرة من شتى المناطق، وخصوصاً من الشوف وجبل العرب والجولان والجليل ووادي التيم بأكمله. وكان في مقدم الحضور وزير الدفاع السوري آنذاك عبد الغفار باشا الأطرش، والمستشار الفرنسي في الجنوب يرافقه قائمقام مرجعيون وضباط الدرك.
أثناء الإحتفال قُلّد نجله الشيخ نجيب قيس عباءة القضاء المذهبي، إذ كانت العادة آنذاك توارث المناصب في العائلة .
وبناءً على طلب الشيخ توفيق غبار، رثاه الأديب والشاعر سلام الراسي بقصيدة عصماء أشاد بها بالمتوفي وبنضال بني معروف في الدفاع عن الحرية والكرامة ضد المستعمر، مما أغضب المستشار الفرنسي فأوعز إلى ضابط الدرك باعتقال الخطيب. ويبدو أن أحد المشايخ تناهى إلى سمعه كلام المستشار فسارع إلى مغادرة المكان مصطحباً سلام الراسي إلى منزله وأخفاه عن عيون السلطة.

ومما قاله الشاعر في قصيدته يومذاك:
أحاصبيــا والخطــب الأليـــــم مصــــــــــــــــــــــــــدعٌ أصـــــــــــــاب التقــى عمــداً فـــــــــــــــــــهـــو عمـــــوده
إذا جرحـــت بــــــــــــــــالحزن صـدرك طعنـــةُ فقـد مزّقـــــت في المرج حـــــــــــــــــــزنــاً كبــــــــــــــــــــــده
بكـيتم بنــي معـــــــــــــــــــروف رشــدكمُ كمـــــــــــــــــــــا بكــى التّيــــم بـــــــــــــــــــالدّمــع السّخـــي عمــــيده
بكيـتم وأحــرى أن تصونــوا دموعكــم فمـــــا مـــــــــــــــــــــات فـي ذلّ يســرُّ حســــــــــــــــــــــــــوده
فـــــــــــــــــــللســيف فـي كــــــــــــــــــــفّ الحســين تعهــــــد علـى الفتــك حاشـــا أن يخـــون عـهوده
وللــوطــــــــــــــــــــن المفـــــــــــــــــــــــدّى حــــــبّ بـــــــــــــــــــقلبـــــــــــــــه تمـــــــــــــــــــلّــكــه حــتــــــــــــــــــــــــــــــــــى استــــــفـــــــــــــــــــزّ قــــــــــــــــــــعــــــــــــوده
خــذيــــــــــــــــــه رثـــــــــــــــــــــاءً من فــــــــــــــــــــــؤادٍ مســــــــــعَّـــــــــــــــــــرٍ بنـــار الأســـى تُذكـــي الـــــــــــــــــــدمـوع وقـــوده

بئس الجد ونِعـمَ الأب

نعم الأب بئس الجد
نعم الأب بئس الجد

وأول مــــــــــــــــا ســــاق المودة بيننــــــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــــــــــــــوادي بغيـض يــــــــــــــــــا بثينـــة ســـبـــــــــــــــــــــــــــــــــــاب
وقالـت لـنا قولاً أجبنا بمثلـــــــــــــــــــــــــه لكـــــــــــــــــل مقــــــــــــــــــال يــــــــــــــــا بثينـــة جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواب

كان من عادة الخليفة أبو جعفر المنصور ووزيره البرمكي تفقد أحوال عاصمته بغداد من وقت إلى آخر. وأثناء إحدى تلك الجولات دخلا مطحنة في المدينة، فوجدا صاحبها البراك منهمكاً بعمله. رحّب بهما وأجلّ قدومهما عليه وكأنها نعمة سماوية قد حلّت به.
حان وقت الصلاة أثناء وجودهم هنالك فنهضوا جميعاً لتأديتها، وبعد الفراغ منها سأل الخليفة البرّاك :
هل أنت حافظٌ للقرآن الكريم؟
أجابه : لا يا سيدي ..!
حتى ولا قسماً منه؟
أيضاً لا، فأنا أميّ ولا أحسن القراءة..
غضب الخليفة لما اعتبره تقصيراً لا يغتفر فأمر باعتقال البرّاك وإيداعه السجن.
تابع جولته مع وزيره نحو المدينة، فمرّا بمدرسة صغيرة فوجدا أحد تلامذتها منزوياً إلى جانب الملعب وهو يقرأ القرآن بصوتٍ عالٍ وغير مبالٍ بلهو أترابه.
ناداه الخليفة وسأله: في أي سورة تقرأ يا بني؟
أجاب الولد بعد أن علم أن سائله هو الخليفة بذاته: أقرأً في سورة مولاي الأصغر.
قال الملك: لكن هذه السورة غير موجودة!
قال الولد: صحيح لكن النظر إلى صورتك الكريمة يا مولاي الأصغر يساعدنا على قراءة وفهم آية مولانا الأكبر ( الله تعالى). سُرّ الخليفة أيّما سرور لهذه الإجابة الذكية فأمر أن يُعطيه قسماً من المال الذي بحوزته وخاطب الصبي قائلاً: أعطِ هذا المال لوالديك..
تفحّص الولد المال فوجده قليلاً، رفع نظره نحو الخليفة وقال: مولاي، إن والدتي ستقول: هذا ليس عطاء الخلفاء فشكراً لك.
إندهش الخليفة لجسارة الولد فأمر الوزير بإعطائه كل ما يحمل من دراهم. آنذاك تبسّم الصبي لهذا العطاء وقال: حقاً هكذا تكون عطاءات الخلفاء، أدام الله عزكم وأطال عمركم..
إغتاظ الوزير مما اعتبره تساهلاً من الخليفة وإكراماً لا مبرر له للصبي، وضمر في ذاته استرجاع كل المال الذي انتهى إليه بسبب كرم الخليفة المنصور وإعجابه بكلامه. ثم أسرّ في أذن سيده الخليفة قائلاً : مولاي هذا الولد محتالٌ ويأخذ أموالنا وعمره لا يتجاوز الخمس عشرة سنة فهذا لا يجوز مطلقاً..
أجاب الخليفة : إنه ولد خارق الذكاء ويستحق هذا الإكرام.
قال الوزير: لا تغضب مولاي، سأحاول إسترجاعها كما احتال علينا. ثم نظر نحو الصبي وقال: هل صدّقت أن الخليفة قد أعطاك كل هذا المال؟
أجاب الولد: نعم قد صدّقت، ومتى كان الخلفاء يستردّون نعمة أنعموا بها؟؟ ثم ألا تعلم أن الصدقة لا يجوز لمن تلقاها أن يردّها أو يرفضها؟ ورغم ذلك إذا وجدتها كثيرة علينا فنحن على استعداد لإعادتها شرط أن تستجيب لطلب واحد منا لا غير.
هلّل الوزير في ذاته وقال : أطلب ما تريد أيها الولد.
قال الولد: أريد منك فقط أن تقلّد صوت الحمار ثلاث مرات حتى يسمعك رفاقي في الملعب، وكان في ظن الولد أن طلبه سيحرج الوزير فيرفض تنفيذه، لكن الوزير كان قد أحس بقدر كبير من الحسد للولد بحيث لم يمانع في تنفيذ طلبه طمعاً في استرداد المال الذي أنعم به الخليفة المنصور عليه. لذلك استجمع الوزير قواه ونفخ صدره ثم انطلق بصوت منكر يقلّد الحمار وكرر ذلك ثلاث مرات على مسمع من الخليفة ومن الجمهور الذي كان قد اجتمع لمتابعة المشهد.
ضحك الصبي ضحكاً حمل الكثير من الهزء بالوزير الأحمق ثم ناوله المال بعد أن حوّل بنظره نحو الخليفة وقال: نعم الخليفة من كان وزيره يتقن صوت الحمير!!
إستشاط الخليفة غضباً من تصرف وزيره ثم أمره بردّ المال قائلاً: تستحق هذه الإهانة من ولد بهذا العمر بسبب حسدك وطيشك.
أخذ الولد المال من جديد إلى بيته ثم ناوله لأمه، ولكنها رفضت أن تأخذ المال قائلة: عُد إلى الخليفة وقل له: نحن لسنا في حاجة إلى دراهمك بل في حاجة لإخراج والدنا من السجن وهو الذي يعيلنا ويجني لنا قوتنا وأنت سجنته من دون ذنب اقترفه..
ولما عاد الولد بالمال إلى الخليفة إستغرب الأخير، لكن الولد أخبره بقصة والده السجين في زنزانات المنصور دون ذنب اقترفه. سأل المنصور الولد: هل برّاك المطحنة حقاً والدك؟ أجاب الصبي: نعم إنه والدي وليس لنا من معيل سواه.
قال الخليفة : نعم الإبن وبئس الأب..
أجاب الصبي: نعم الأب وبئس الجد..
قال الخليفة : كيف هذا؟
قال الصبي : لأن جدّي لم يعلّم أبي، أما أبي فقد علّمني.
فرح الخليفة لهذه الإجابة الذكيّة مجدداً من قبل الصبي وأمر جنده بإخراج الوالد من السجن في الحال ثم عاد الولد مع والده ومع الدراهم إلى البيت.

آمن بالحجر تبرأ

كان الأقدمون يعظون دوماً بأن على المرء أن يسلّم أمره لله وحده. فهو الباري من كل زلّة، والشافي من كل علّة. وكانوا في الوقت نفسه يجيزون التقرب من المولى بشفاعات الأنبياء والأولياء ثم انتشرت عادة النذور يقطع المرء على نفسه القيام بعمل لوجه الله تعالى في ما لو أنعم عليه بمال أو رزق أو شفاء مريض أو إنجاب ولد بعد طول انقطاع الخ.. وأخيراً دخل في اعتقاد اناس أنه من الممكن الحصول على شيء أو دفع بلاء معين من خلال تعليق «حجاب» يكتبه أحد الشيوخ أو الروحانيون. وكلمة حجاب مستقاة من «حجب» أي «أخفى» فهي تحجب حامله عن الشر الذي ربما ألحق به من دون تلك التعويذة. وعادة كانت الحجابات تكتب في المزارات تبركاً بالمقيم في الحجرة، لكن توسّع العمل بها إلى أناس يعتبرون أن للكلمات المعينة التي قد تستقى من الآيات القرآنية أو الأدعية أحياناً قوة الشفاء والله أعلم. وفي الكثير من الحالات يبرأ الإنسان من المرض بفضل الله تعالى فيردّ الشفاء إلى حجاب من هنا أو هناك لكن في الكثير من الحالات يكون إيمان طالب الشفاعة وصدق نيته سبباً في الشفاء لأن الله يريد أن يقدم العبرة لعباده بأنه لا يخيب رجاء سائليه وأنه هو المبتلي بالمرض وهو من ينعم بالشفاء وكل ما على الإنسان هو أن يؤمن حقاً بذلك وأن يلجأ إلى الله بصفاء النية والقصد.
المعّاز علي حسين من بلدة قليا، إحدى قرى البقاع الغربي، أصاب قطيعه مرض الحمى القلاعية، فلم يبق إلا على القليل من ماعزه. وقد احتار هذا الرجل البسيط في الأمر لكنه قرر أن ينذر لبعض المقامات الدينية القريبة من بلدته، بالإضافة إلى مداواة القطيع أو ما تبقى منه بالأدوية النافعة لذلك. لكن رغم كل تلك الجهود بقيَ هذا المرض يفتك بقطيعه رأساً خلف رأس.
وفي يوم ناداه راعٍ آخر من القاطع المقابل له قائلاً : « يا أخي أبو حسين إذا لم يزل المرض يهاجم قطيعك، فما لك إلا أن تقصد الشيخ سلمان في بلدة السريرة كي يكتب لك حجاباً تعلّقه في رقبة الكرّاز، وقد شفى العديد من الحالات المشابهة لمرض عنزاتك».
حقيقة الأمر أن مقصد الراعي لم يكن بريئاً بل كان على سبيل الهزء والغش للراعي لأن «الشيخ» المقصود لم يكن شيخاً ولا كاتب حجابات بل رجلاً من العامة يدعى السيد سلمان الذي قضى القسم الأكبر من حياته في المهجر ولم يكن لتاريخه قد التزم بفروض الدين، لكنه كان في الحقيقة يتميز بالصفات الحميدة، أخلاقاً وكرماً، وقدوة في المعاملة بين أبناء قريته. وفوق هذا، حباه الله بروح النكتة، ودماثة الخلق. لذا طاب معشره، وكثر أصحابه.
لم يكن في علم المعّاز علي حسين أن «الشيخ سلمان» يكتب الحجابات لكنه قال في نفسه: ما الضرر في اللجوء إليه لعل الله يأتي بالشفاء على يده. بالفعل جاء إليه طالباً منه أن يكتب له حجاباً كي يعلّقه في رأس الكراز لعل ذلك يحمل الشفاء بإذن الله إلى القطيع.
تفرّس السيد سلمان بزائره، ثم سأله عن مرسله، وبعد أن تيقّن من هوية الرجل نهض إلى غرفة جانبية وكتب حجاباً، ثم طوى الورقة بشكل مثلث بعد أن صمّغ أطرافها بالشمع كي لا تفتح ثم ناولها للمعّاز قائلاً : « هذا طلبك، والله تعالى الشافي والمعافي من كل علّة».
تتعاقب الفصول حتى قدوم عيد الصليب، أواخر الصيف. فهذا الموعد هو الثابت والدائم عند القرويين لسداد الديون، ووفاء النذور، ونحر المعاليف وإلى ما هنالك من الأمور التي تتمم دورة الحياة الإجتماعية. وإذا بالمعّاز علي حسين يطرق باب «الشيخ سلمان» وهو يجرّ كرّاز ماعز كبيراً يقدمه له على سبيل الهدية موضحاً أنه وبفضل الحجاب الذي كتبه له قد شفي قطيعه بأكمله، وعوّض الله علينا بالعديد من تعداده».
ذُهل «الشيخ سلمان» من كلام المعّاز، وأفتر ثغره عن ابتسامة ماكرة. ولكن، وهو المشهود له بالصراحة والصدق، تجرأ وقال: «يا صاحبي، سأصارحك القول»:
هل تعلم ماذا كتبت في الحجاب الذي أعطيتك إياه؟
أجابه المعاز : لا، ولكن لي نيتي واتكالي على الله ولي أيضاً نيتك وليس أكثر.
قال السيد سلمان : لقد غلبتني وغلبت الذي أرسلك. والله تعالى استجاب لنيتك وإخلاصك في الطلب منه وليس لطهارتنا أو بركاتنا، كما قد تظن، لقد كتبت في الحجاب «ما زال باقي من عنزات علي في السيري فعزرائيل يقضي على الكبيري والزغيري».
ولكن كما قلت يا صاحبي، نيّتك الصافية وصدقك مع خالقك هو الذي جعل الله تعالى يمنّ بالشفاء على عنزاتك لأن الله أراد أن يجعل من المستهزئ بك ومني عبرة وأن يؤكد صحة القول الكريم: « إنما الأعمال بالنيّات».
أجاب المعّاز بالبساطة التي تميّز شخصيته: ما أعلمه أن الله من عليّ بشفاء ماعزي وكانت نيتي أن أوفيك نذري إذا حصل الشفاء وها أنذا أقدم لك هذا الكرّاز فهو حلال لك ولعائلتك.
«الشيخ سلمان» الذي راق له هذا اللقب في ذاته، وقف محتاراً شارد الفكر بعبرة المعاز علي حسين الذي «غلبه» بصفاء نيته لأن «الشيخ سلمان» غير مقتنع بالحجابات ولم يتخذها صنعة بل هو يهزأ ممنّ يعتقد بها وأراد لذلك أن يثبت اعتقاده بمزحة لم تكن لبقة بقدر ما كان فيها سماجة وقلة احترام. لكن الله تعالى سخر من هزء «الشيخ سلمان» وتقبـَّل نية المعاز الصادقة وأثابه عليها. وهذا مغزى القول المعروف: «آمن بالحجر تبرأ».

المؤرخ حسن البعيني

غلاف الكتاب

غلاف كتاب الدكتور البعيني

ندوة تناقش كتاب المؤرخ حسن البعيني
حول مشيخة عقل الموحدين الدروز

د. رياض غنام: هل يمكن الإستغناء عن تسمية «الدروز»؟
د. محمد شيا: عالم مؤرخ مدقق وقد نجح في مهمته
رامي الريس: عمل بحثي شامل أول من نوعه

كتاب الدكتور المؤرخ حسن أمين البعيني «مشيخة عقل الموحّدين (الدروز) في لبنان وسوريا وفلسطين» يدخل المكتبة العربية كأول بحث موضوعي شامل موسّع عن الرئاسة الروحية للموحّدين (الدروز) منذ نشوئها وحتى اليوم. وقد بذل الدكتور البعيني في وضع كتابه الجديد جهوداً بحثية ومستفيداً من اطلاعه الواسع على المراجع التاريخية ومن خبرته المباشرة في تاريخ الموحدين الدروز ليضع توثيقاً كاملاً لتطور فكرة الرئاسة الروحية والأدوار المهمة التي لعبها كبار مشاريخ الموحدين الدروز عبر الزمن. وقد عالج الدكتور البعيني موضوعه بتفصيل شمل تطور المشيخة في كل من لبنان وسوريا وفلسطين والحقبات التاريخية المختلفة التي مرت بها وتطور تسمياتها وأدوارها وعلاقاتها وتأثرها بالتطورات السياسية وأحياناً بالإنقسامات داخل مجتمع الموحدين الدروز.
من أجل تسليط الضوء على الكتاب وتثمين الإضافة التي يقدمها في توثيق تاريخ الموحدين الدروز أقيمت في المكتبة الوطنية – بعقلين بتاريخ 20 حزيران 2015، ندوة حوارية شارك فيها إلى جانب المؤلف كل من الدكتور رياض حسين غنّام، والدكتور محمد شيّا، والأستاذ رامي الريّس، وقدمها الأستاذ غازي صعب، وغصّت القاعة العامة في المكتبة الوطنية بحضور غفير من الدارسين والمهتمين.
بعد تقديم مدير المكتبة الوطنية الأستاذ غازي صعب للمؤلف والمتحدثين بدأ الدكتور رياض حسن غنّام الحديث بالقول إن:«كتاب الدكتور حسن البعيني جاء ليلقي الضوء على موضوع تجنّب الغوص فيه الكثير من الباحثين في العقيدة وأسس المذهب، وهو لم يقدم على ولوج هذا المسلك العسر لولا تمكّنه المعمّق وقدرته على التحليل والإستنتاج، فتطرّق ولو إقتضاباً لناحية نشوء المذهب، والخصوصية التي يتسم بها». وأضاف الدكتور غنام القول: «إن كتاب الدكتور حسن البعيني لا شك يسد ثلمة في تاريخ مشيخة عقل الطائفة الدرزية، خصوصاً وأنه جاء نتيجة جهد مؤرخ تمرّس في كتابة تاريخ تلك الطائفة فدوّن بطولاتها وأيامها وملاحمها ومواقفها الوطنية، من الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، مروراً بدروز جبل العرب في خلال فترة الإنتداب الفرنسي كما دوّن عادات الدروز وتقاليدهم في أكثر من كتاب.
لكن الدكتور غنام توقّف عند موضوع تسمية الموحدين الدروز واقتراح البعض التخلص من تسمية الدروز فقال:«لست أدري إن كان التخلي عن إسم الدروز سيتم بتلك البساطة، وإن تاريخ أمة وتراث شعب سنغير إسمه بتلك السهولة والبساطة، فالدروز عبر تاريخهم ليسوا مصطلحاً يمكن تبديله أو مواقف يمكن تسطيحها، وما الفائدة من الحاضر والمستقبل إذا غيّرنا الماضي وقطعنا كل صلة به، فماذا نعمل بتراث الدروز والمؤلفات التي دونوها والشهادات التي قيلت فيهم شعراً ونثراً، والبطولات التي سطّروها واقترنت بتاريخهم وتراثهم المجيد».
وختم بالقول: إن كتاب الدكتور حسن البعيني هو بمثابة الحجر الأساس في تاريخ مشيخة العقل وتطورها، وهو إنجاز فريد تناوله المؤلف جامعاً شاملاً، لم أجد في قراءته ثغرة تتعلق بالكاتب، وإن وجدت إشكالات تتعلق بالمسؤولين عن الطائفة، كونهم عمادها وأصحاب الحل والربط فيها. وسيبقى كتاب الدكتور حسن البعيني مرجعاً متميزاً بدقته وحرفية بنائه وصياغة افكاره التي قرن بها سلوكية إجتماعية وصدقية إنسانية، آملاً أن أناديه في القريب العاجل الشيخ الدكتور حسن البعيني، وهو لا ينقصه من كل ذلك إلا الجبة والعمة.
الدكتور محمد شيّا
الدكتور محمد شيّا بدأ مداخلته بالثناء على الكاتب وتأكيد أهمية الكتاب فقال: «بصراحة، ومن دون إطراء مبالغ فيه، قبل كتاب الدكتور حسن البعيني لم تكن عندي فكرة شاملة كافية وافية عن تاريخ مشيخة العقل في لبنان، فكيف بسوريا وفلسطين! هذا يكفي للدلالة على الجهد الإستثنائي الذي بذله المؤلف في تقميش مادة هذا الكتاب الغني. وأضاف:« سهل الكلام منا عن هذا الكتاب، لكن الصعوبة هي في إعداد مادة هذا الكتاب والتدقيق فيها ومقارنتها وتحمّل مسؤوليتها، وهو مطلب قصر عنه الكثيرون، في حدود علمي على الأقل».
وأضاف الدكتور شيّا القول: «يلفتك في الكتاب إتساع الحقبة الزمنية، شمول المادة، التفاصيل، التصنيف، الوضوح، التدقيق، ثم الجذور التي حاول المؤلف الوصول اليها: الجذور المؤسسة لمقام مشيخة العقل، بل وبحثه في الأزمات التي انتابت المشيخة في أحيان عدة».
ولفت إلى أن «هذا كتاب يغلب عليه التّاريخ، وليس التحليل، بل لا يتسع للتحليل. لذا كان جل إهتمام المؤلف القيام بوظيفة المؤرخ العالم المدقق، وقد نجح في مهمته تلك أيما نجاح».
وختم الدكتور شيّا بالقول: «لا حاجة لأن أختم بالقول إن الدكتور حسن البعيني في كتابه الجديد «مشيخة عقل الموحدين» كما في كتبه العلمية السابقة، كما في مقالاته في غير دورية ومكان، كان يقدّم دائماً المطلوب تقديمه، الذي لا يستغنى عنه، في أفضل صيغة علميّة موضوعيّة وبأعلى حس من الإلتزام الوطني والعروبي والإسلامي. مبروك مبروك للدكتور حسن البعيني كتابه الذي سيملأ بالتأكيد فراغاً في مكتباتنا. أمدّه الله بالصحة والقوة ليستمر معيناً لا ينضب في المعرفة والعلم والبحث والتنقيب على حس وإلتزام أخلاقيين من مستوى رفيع».
رامي الريس
ثم تحدّث الأستاذ رامي الريِّس مفوض الإعلام في الحزب التقدمي الاشتراكي فقال: «تشاء الصدف أن نناقش اليوم هذا الكتاب القيم حول مشيخة العقل للموحدين الدروز في لحظة يعيش فيها أبناء هذه الطائفة المعروفية العربية منعطفات هامة تتصل بالأرض والوجود والهوية وتتطلب أكثر من أي وقتٍ مضى ما يتطلب التحلي بروح المسؤولية العالية درءاً للفتنة».
وأشار الريِّس إلى ارتباط موقع مشيخة العقل لدى الموحدين الدروز بأهمية العقل نفسه مستعيناً بتعريف المعلم الشهيد كمال جنبلاط للتوحيد باعتباره «نهج العقل والقلب» لأن الشعور (أي القلب) يطلب التوحيد والوحدة، والعقل يطلب أيضاً التوحيد والوحدة: وحدة التفسير، ووحدة عقل جميع مظاهر الكون».
ونوّه الريِّس بحجم الجهد الذي بذله المؤلف بالقول:« كرّس الدكتور حسن البعيني الكثير من وقته وجهده لإتمام هذا العمل البحثي الأول من نوعه في ما يتعلق بمشيخة العقل وتاريخها وتطورها ودورها في كل من لبنان وسوريا وفلسطين، وهو يتنقّل، أي الكاتب، بالقارىء في عددٍ واسع من المواضيع مستهلاً كتابه بالمراحل الأولى للدعوة ثم أفرد فصلاً كاملاً للمشيخة في لبنان حتى أواسط القرن الثامن عشر معدداً حقبات الشيوخ الذين تولوا زمام الأمر ومن ثم انتقل إلى المراحل التي كانت فيها مشيخة العقل ثنائية وثلاثية وصوﻻً إلى المشيخة في سوريا وفلسطين».
وختم الريِّس بالقول: «إذا كان من عبرة نستخلصها من هذا الكتاب، فهي أنه آن الأوان لتتوحد الكلمة وترصّ الصفوف مع الحفاظ على التنوع والتعددية، فهذا لا يتناقض مع ذاك. إن تغليب الفكر المؤسساتي هو أكثر ما تحتاجه هذه الطائفة التي قد يرى البعض أنها تملك فائضاً من العنفوان، وهذا صحيح، ولكنها تملك أيضاً فائضاً من العقلانية والفلسفة التوحيدية وتكرّس إهتماماً كبيراً بالعقل».
الدكتور حسن البعيني شكر المساهمين في الندوة مؤكداً أنه لم يكتب عن الموحِّدين من منطلقٍ فئوي، بل من منطلق أكاديمي، لأن تاريخهم جزء من التاريخ العام ومكمّل له، ولأنه جزءٌ من التاريخ العربي والإسلامي في بلاد الشام ، ولأن هناك ما لا يُحصى من المواضيع عنهم، تستأهل البحث، ومنها مشيخة العقل أو رئاستهم الدينية وهي لم تُبحث من قبل إلا على نطاق جزئي ومحدود لحساسية بعض نواحيها، ولقلة مراجعها، ولضبابية الأزمنة القديمة، لذا عمدت إلى الكتابة عنها في بحثٍ شامل ومستفيض.

محطات في ذاكرة وطن1

العميد عصام أبو زكي ينشر مذكرات حساسة وأسراراً

تسجيل على شيء من التفصيل للمحنة اللبنانية ومراحــلها من منظار ضابط أمن واســـع الإطلاع

كتب كثيرون عن الحرب اللبنانية التي امتدت بين جولات وهدنات ما بين العامين 1975 و1989، وقد تخلل ذلك عدوان إسرائيلي غاشم وموجات اغتيال لقيادات البلد وشخصياته السياسية والدينية والإعلامية، لكن رغم ما تعرّض له البلد من أهوال فقد اتسمت الكتابات التي حاولت التأريخ لتلك المرحلة السوداء غالباً بالهوى السياسي وبغلبة الكلام السياسي ولغة الإتهام للآخر، لذلك، فإن القليل من تلك المؤلفات يساعد على تكوين فكرة حقيقية عما حدث وعن خفايا اللعبة وأهداف وأساليب اللاعبين.
على العكس من ذلك، فإن العميد عصام أبو زكي يقدّم في كتابه «محطات في ذاكرة وطن» رواية مختلفة لأنها رواية رجل أمن لما كان يشهده يومياً أو يحقق فيه من حوادث وتمردات وأعمال إجرامية، وهذه الوقائع كما يرويها هي أحداث ناطقة لا تحتاج إلى الكثير من التحليل ويكفي الإطلاع عليها كما هي لفهم الكثير مما كان يجري. لهذا السبب، فإن كتاب «محطات في ذاكرة وطن» يمكن اعتباره أول تسجيل على شيء من التفصيل للمحنة اللبنانية أو على الأقل بداياتها وإرهاصاتها من منظار ضابط أمن واسع الاطلاع واتيح له بسبب موقعه وحصافته أن يربط الكثير من الخيوط وأن يتأكد بنفسه من أن الكثير من الأحداث التي ظهرت معزولة أو عفوية إنما كانت في الحقيقة فصولاً متلاحقة في سيناريو محكم.
الكتاب يعرض بأسلوب مشوق لمشاهدات وأحداث مصيرية رافقت خدمة العميد أبو زكي الطويلة في السلك الأمني في مرحلة زمنية تمتد من مطلع الستينات حتى نهاية التسعينات من القرن المنصرم، لكن العميد أبو زكي كما يقرّ لم ينشر كل ما يعرفه وهو ربما من أكثر الناس إطلاعاً لكنه آثر أن يبقي الكثير من الأمور والوقائع في خزانة معتمة مبرراً ذلك بالحرص على عدم نكء الجراح والإعتراف بأن الكثير مما مضى قد مضى، وهو يقول إن همّه في الكتاب ليست الروايات المثيرة بل مساعدة الأجيال التي لم تعش تلك الفترة المصيرية على فهم خلفيات ما حصل، ولأنه عندما يفهم اللبنانيون ما حصل سيجدون الأعذار لبعضهم بعضاً ويدركون أن الجميع كانوا دون علم منهم لاعبين صغاراً في «لعبة أمم» أكبر من الجميع.
شاء القدر أن تتزامن خدمة العميد أبو زكي ومسؤولياته الأمنية مع جميع مراحل الحرب الأهلية حتى ما بعد انتهائها وحلول السلم الأهلي وقيام حكومة مركزية بموجب وثيقة الوفاق الوطني – «اتفاق الطائف»، وقد وضعته تلك الأحداث في مواقع أتاحت له الإطلاع على خفايا ما يجري كما تسببت بتكليفه بأدوار أمنية وسياسية سواء خلال عمله مع المعلم كمال جنبلاط أم في مرحلة العمل مع وليد بك جنبلاط أم في قيادته للشرطة القضائية. ومن أهم علامات نجاح العميد أبو زكي الثقة الكبيرة التي تمتع بها لدى أوساط الإنتربول والقيادات الأمنية الدولية وأدت إلى تزويده بمعلومات ثمينة عزّزت فعالية القوى الأمنية اللبنانية في مجال مكافحة الجريمة المنظمة وكانت وراء تحقيق الأجهزة الأمنية لنجاحات غير مسبوقة في هذا المجال، وكما نعلم فإن القوى الأمنية الدولية قليلاً ما تضع ثقتها في أجهزة حفظ الأمن في بعض الدول النامية بسبب ما يعرف عن فساد تلك الأجهزة وبالتالي احتمال تسريب المعلومات أو تفاصيل العمليات الحساسة التي قد تكون قيد التحضير من قبل الإنتربول إلى المجرمين أنفسهم. وكان عصام أبو زكي أحد الضباط القلائل الذين طلب منهم المشاركة في اجتماعات دولية في قبرص أو في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية هدفها تبادل المعلومات السرية والتعاون في مكافحة الجريمة على أنواعها.
شكّل نجاحه الشهير في القضاء على «دولة المطلوبين» في طرابلس، ثم اقتياده لأحد زعماء ميليشيات المدينة مكبلاً عنواناً لجسارة تصل غالباً إلى حد المخاطرة ودهاء أمنياً تميّز به على الدوام، وقد كان عصام أبو زكي بسبب حدسه الأمني أحد أنجح المحققين الأمنيين وتمكن من كشف قضايا وخفايا كثيرة يصعب حصرها منها قضية الجاسوس الإسرائيلي في طرابلس وقضايا الفساد في مرفأ بيروت كما تمكّن في أقل من أسبوعين من جمع كل خيوط اغتيال الزعيم كمال جنبلاط وقدم ملفاً كاملاً عنها بما في ذلك تسمية المرتكبين والمخططين، كما كان لنباهته دور كبير في كشف مدبري محاولة اغتيال وليد جنبلاط بسيارة مفخخة في العام 1983.
اشتهر العميد أبو زكي كقائد لسرية الطوارئ (الفرقة 16) التي تمكّنت من فرض الأمن في أنحاء بيروت، كما اشتهر بصورة خاصة بتصديه الشجاع وإحباطه لمحاولة الدبابات الإسرائيلية إبان اجتياح العام 1982 اقتحام مقر السرية في ثكنة الحلو، فكانت ثكنة الحلو هي الثكنة الوحيدة التي لم يدخلها المحتل الإسرائيلي. بعد ذلك وفي قيادة الشرطة القضائية لعب عصام أبو زكي دوراً في كشف عملية تفجير ملهى لابيل في ألمانيا، ومن المفارقات أنه تعاون يومها مع المحقق الألماني ديتليف مليس ونشأت بين الرجلين صداقة واحترام متبادلان. وشاءت الأقدار بعد سنوات أن يعيّن مليس قاضي تحقيق في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ويأتي بنفسه إلى لبنان. وكان العميد أبو زكي قد أحيل يومها على التقاعد المبكر بسبب توتر العلاقة بينه وبين أحد كبار المسؤولين في موضوع يتعلق بملاحقة بعض الشخصيات السياسية.
كتاب العميد عصام أبو زكي عن تجربته الامنية وبعض ما اكتنفها من أسرار مرجع لا غنى عنه لكل مهتم بالإطلاع على جوانب خفية كثيرة لمرحلة مصيرية من تاريخ لبنان الحديث.

تقديم وليد بك جنبلاط

قدّم الزعيم وليد بك جنبلاط لكتاب العميد عصام أبو زكي بالكلمات التالية:
عرفت العميد عصام أبو زكي منذ سنوات طويلة وهو الذي تولى المهام الأمنية الصعبة في حقبة قاسية من تاريخ لبنان الحديث، وقد خدم الدولة بشرف ووفاء رغم ما شكّله ذلك من مخاطر ومصاعب في لحظات الإنقسام الوطني العميق وفي مراحل الإقتتال الداخلي بين اللبنانيين.
في مسيرة العميد أبو زكي محطات ومفاصل في غاية الأهمية عكست حرفيته ومهنيته في العمل العسكري والأمني، وحقق في المئات من الملفات الكبيرة والحساسة، قد يكون أهمها وأبرزها ملف اغتيال كمال جنبلاط الذي استطاع من خلال إصراره وعناده، رسم صورة الجريمة كاملة بالأسماء والتفاصيل كاشفاً جميع المخططين والمنفذين والمتورطين.
لقد دفع العميد أبو زكي في الكثير من المراحل ثمناً لمواقفه ولعمله المهني في وقت كانت تتحلل فيه الدولة بكل مؤسساتها ويتلاشى حضورها ويضمحل دورها. حرص ألا يتراجع عندما كانت هيبة الدولة في أدنى مستوياتها، بل بذل كل الجهد، ضمن نطاق عمله لترميم هذه الصورة المبعثرة وتطبيق القانون بحزم وقوة.
كل التحية للعميد أبو زكي على كل ما قام به، وكل الشكر له لبذله الجهد لتوثيق ملفات وحقبات مهمة من تاريخ لبنان المعاصر.

ابو الذر الغفاري

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها على غســـله ودفنه”

أبو ذرّ الغفاري

صاحــــب الرســــول أميــــر الفقــــراء

عاش وحيداً ومات وحيداً على قارعة الطريق

بعث إليه أمير الشام بثلاثمئة دينار،فردّها إليه
وقال: «أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني؟»

شكا معاوية إلى الخليفة «إفساد أبو ذرّ للناس»
فأًمره بترك الشام ونُفيَ إلى قرية قرب المدينة

بكت زوجته إذ لم تجد في البيت ما تكفنه به
فبشّرها أن رهطاً في الطريق إليه سيقوم بذلك

«ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر حتى ما ترك لي الحقّ صديقاً».
أبو ذرّ الغفاري

إذا كان عمر بن الخطاب نموذجاً للعدل في الإسلام فإن الصحابي الجليل أبا ذرّ الغفاري هو نموذج النقاء والطهر الإيماني وقد قيض الله تعالى أن يكون أبو ذرّ العلامة الفارقة في صدرالإسلام لأنه بين جمهور الصحابة الذين قامت على عاتقهم الدعوة ثم الفتوحات وبناء الدولة، كان من الذين أدركوا ما خشيه الرسول وهو أن انتصار الإسلام وتحوّله إلى دولة ذات مال وثراء قد يحمل معه خسارة الكثير من جوهر الدعوة ومبادئها الأصلية وينعكس بالتالي بالنكوص عن الكثير من مبادئ الإسلام ولاسيما في العدل بين الرعية والتقوى والتزام الأوامر والنواهي. وكان نقاء سريرة أبي ذرّ الغفاري أمراً مشهوراً وكانت شدته في الحق وصدقه في المنافحة عن الدين وإدانة المهادنة والتساهل في قبول مظاهر الفساد أو الظلم التي تولدت عن فتح الأمصار والإنتقال إلى مجتمع الرخاء والثروة. وقد كان الرسول (ص) مدركاً تماماً لهذه المفارقة وهي أن انتصار الإسلام وتحوّله إلى ملك عظيم في الأرض سيحمل تحديات هائلة تقوم بصورة خاصة على كيفية التوفيق بين الإيمان والزهد بالدنيا الذي يدعو إليه الدين وبين الرخاء الاقتصادي وإغراءات الملك والإسراف في حب الدنيا. وقد جاء في الحديث قول النبي (ص) لجماعة من الناس جاءوا يرتقبون الحصول على مغانم بعد فتح أحد البلدان: «وَاللَّهِ لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
وكان أبو ذرّ على تواصل مستمر مع الرسول (ص) ومن الذين أدركوا أهمية التحذير الذي وجّهه النبي لأهل زمانه، وقد أخذه أبو ذرّ فعلاً على محمل الجد، الأمر الذي حوّله إلى صوت مرتفع في انتقاد الانحراف والظلم والفساد لا يخشى في الله أو في الحق لومة لائم. وهذه الخاصية التي تميّز بها أبو ذرّ جعلته من أقرب المقربين للرسول (ص) الذي قدر فيه نقاء سريرته وصدقه وشجاعته في الحق، فقال فيه في حديث نقله أبي هريرة: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبو ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
كان أبو ذرّ من بين وزراء النبي (ص) ومن المقريبن إليه لكنه بعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى أصبح صوت الحق الذي ارتفع مندداً بتحول كثير من المسلمين من الجهاد في الدين إلى طلب الدنيا والتنازع عليها. وقد نال أبو ذرّ من انتصاره لمبادئ الإسلام ومعارضته للفساد ما ناله من جفاء أهل الحكم والعديد من أهل زمانه، لكنه ثبت في مواقفه والتزم سلوك التقوى والفقر حتى مات فقيراً وليس في بيته شيء من متاع الدنيا.
فمن هو أبو ذرّ وكيف دخل في الإسلام وما هي مكانته بين الصحابة ولماذا تميّز بحياة الزهد والفقر واحتقار الدنيا وكيف جعلته جرأته في الحق وصدقه من أقرب المقربين إلى الرسول (ص) وما هي الصفات التي تميّز بها وما هي أهم مواقفه في الإيمان والزهد في الدنيا والثبات في الحق وما هو أثره الخالد في الإسلام كمجاهد ثوري في سبيل الحق والإيمان الصحيح؟

من هو أبو ذرّ الغفاري
أبو ذرّ، وكان يدعى أبو الذرّ جندب بن جنادة الغفاري، وقد اختلف في إسمه لكن اتفق جميع النسابين على أن نسبه ينتهي إلى بني غفار من بني ضمرة من قبيلة كنانة. عرف منذ شبابه بالقوة وشدة البأس والشجاعة في الحرب لكن مع ميل إلى الخلوة والتأمل في أحوال الدنيا كما عرف بالصدق والمروءة، لكن أهم ما كان يميّزه أنه لم يعبد الأصنام في الجاهلية بل كان موحداً يقول «لا إله إلا الله» ويسخر من آلهة العرب ومن صغر عقول من يسجد للأصنام ويترك الخالق الديان. وقد جعلت تلك الصفات من أبي ذرّ من أول المصدقين بالرسول (ص) وقد سارع إلى سلوك طريق مكة بمجرد أن أخبره أحدهم أنه قد ظهر فيها نبي«يقول مثل قوله« أي لا إله إلا الله » وقد وصل أبو ذرّ إلى مكان الرسول وطلب منه أن يعرض عليه الإسلام وأسلم لتوه، وكان بعد ذلك من أشدّ المسلمين تمسكاً بأهداب الدين وقيمه مقتدياً بمثال النبي مخلصاً له حتى آخر يوم في حياته، وهذا يعني أن أبا ذرّ الغفاري كان من الذين جاءوا إلى الإسلام قبل أن يدعوا وهو فعل ذلك والإسلام ما زال سرياً ومضطهداً وقد كان حسب رواة الأثر رابع من أسلم أو خامس من أسلم للدين الجديد بعد السيدة خديجة بنت وهب زوجة الرسول (ص) وأبي بكر الصديق (ر) وعلي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وقد اشتهر بعد ذلك بالفقه ورواية الحديث وقال جمهرة المحدثين أنه كان يوازي عبد الله بن مسعود في العلم.
وكان أبو ذرّ أول من حيا الرسول (ص) بتحية الإسلام بقوله عندما لقيه لأول مرة: «السلام عليك يا رسول الله» وكان أول من جهر بإسلامه وسط قريش غير مبالِ بالضرب المبرح الذي تعرض له وقد نزل عند رغبة رسول الله (ص) بمغادرة مكة إلى قومه ودعوتهم إلى الإسلام فعاد إلى غفار وأمضى فيها سنوات يدعوهم حتى أسلم معظمهم كما أسلمت قبائل حليفة لهم ولم يشارك أبو ذرّ لهذا السبب في غزوتي بدر وأحد ولا في غزوة الخندق لكنه شارك بعد ذلك في جميع غزوات الرسول وفي حروب المسلمين التي كانت إحداها «غزوة العسرة» في تبوك.

عاش أبو ذر حياة تقشف قاسية في الصحراء وصدمه الانتقال السريع إلى الثروات وحب الدنيا
عاش أبو ذر حياة تقشف قاسية في الصحراء وصدمه الانتقال السريع إلى الثروات وحب الدنيا

توحيده قبل الإسلام
كان أبو ذرّ حسب وصف معاصريه طويلًاً أسمر اللون نحيفاً وقال بعضهم إنه كان أبيض الرأس واللحية مما يدل على أنه كان قد تجاوز سن الشباب عندما لقي النبي (ص) وأسلم على يده. وكان أبو ذرّ شجاعاً يتفرّد وحيداً بالغزو فيُغير على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع، لكن كان من أبرز فضائله أنه كان موحداً قبل الإسلام، وأنه بسبب ما تنامى إليه من ظهور الرسول في مكة سارع إلى استقصاء الخبر قبل أن يتوجه إليه بنفسه يسلم على يديه، وقد كانت قبيلة غفار التي ينتمي إليها أبو ذرّ تسكن البادية بين مكة والمدينة وكانت قبيلة فقيرة تعيش على قطع الطريق والغزو أو ما تحصل عليه من القوافل، ولهذا فقد كان إسلام أبي ذرّ ظاهرة ملفتة وقد تعجب الرسول (ص) لمرأى هذا الرجل الأسمر الأشعث القادم من الصحراء يعلن إسلامه وعدد المصدقين يومذاك لم يكد يبلغ عدد أصابع اليد الواحدة.
ويبيّن حديث جرى بينه وبين أبي بكر الصديق (ر) كيف أنه كان موحداً قبل الإسلام، إذ أخذ أبو بكر يوماً بيد أبي ذرّ وقال: يا أبا ذرّ، هل كنت تُألِّه (أي تقول «لا إله إلا الله») في جاهليتك؟ أجاب أبو ذرّ: نعم، صليت ثلاث سنوات قبل الإسلام وكنت أصلّي عشاءً حتى إذا كان من آخر السّحَرِ وكنت أقوم عند الشمس (أي عند شروقها)، فلا أزال مصلياً حتى يؤذيني حرّها، فأخرّ كأني خفاء. فسأله أبو بكر الصديق (ر): فأين كنت توجَّه؟ فقال: لا أدري إلى حيث وجّهني الله، حتى أدخل الله عليَّ الإسلام».
وكما أن سلمان الفارسي (ر) قطع البراري والقفار من أعماق فارس إلى المدينة المنورة بهدف الاجتماع إلى الرسول (ص) وكان يعلم عن قرب ظهوره، كذلك فإن أبا ذرّ الغفاري لم يدع إلى الإسلام بل قدِم إلى الإسلام بنفسه قدوم المؤمن.

الوصايا السبع

قال أبو ذرّ: أوصاني خليلي بسبعٍ:
أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئًا، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّهنّ من كنز تحت العرش».

مسارعته للجهر بإسلامه
قال أبو ذر، بعد وصوله الى مكة واسلامه: «أقمت مع رسول الله (ص) بمكة، فعلمني الإسلام، وأقرأني شيئاً من القرآن، ثم قال لي: لا تخبر بإسلامك أحداً في مكة، فإني أخاف عليك أن يقتلوك، فقلت: والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد، وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش، فسكت رسول الله (ص).
قال: فجئت المسجد، وقريش جلوساً يتحدثون، فتوسطتهم، وناديت بأعلى صوتي: «يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله». فما كادت كلماتي تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعاً، وهبوا من مجالسهم، وقالوا: عليكم بهذا الصابئ، وقاموا إليَّ، وجعلوا يضربونني لأموت، فأدركني العباس بن عبد المطلب عمُّ النبي (ص) وأكب عليَّ ليحميني منهم، ثم أقبل عليهم، وقال: «ويلكم، ويلكم، أتقتلون رجلاً من غفار، وممر قوافلكم عليهم؟ انتبهوا».
قال: ولما أفقت من غيبوبتي بعد أن ضُربت ضرباً مبرحاً، جئت النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى ما بي قال: يا أبا ذرّ، ألم أنهك عن إعلان إسلامك؟ فقلت: يا رسول الله، كانت حاجة في نفسي فقضيتها، فقال: إلحقْ بقومك، وأخبرهم بما رأيت وما سمعت، وادعُهم إلى الله، لعلّ الله ينفعهم بك، ويأجرك فيهم، قال: فإذا بلغك أني ظهرت فتعالَ إلي».

جهاد المشركين ..على طريقته
لكن أبا ذرّ لم ينتظر الأمر بقتال المشركين، وقد كان في المسلمين آنذاك ضعف ولم يكونوا بعد قد هاجروا إلى المدينة وقويت شوكتهم هناك. لذلك ومن فرط حميته وحماسه للدين الجديد وبسبب قوته ودربته في القتال وفنون الغزو التي اشتهر بها الغفاريون فقد قرر أبو ذرّ أن يفتح حرباً على المشركين ضمن إمكاناته الخاصة، فكان يكمن لقوافل قريش وغيرها فيعترضها ويحجزها ويقول: « لا أردّ إليكم منها شيئاً حتى تشهدوا أن لا إلهَ إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله»، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيئاً. وبقي أبو ذرّ على تلك الحال حتى هاجر رسول الله (ص) ومضت غزوة بدر وغزوة أحد، ثمّ قدِم فأقام بالمدينة مع النبيّ (ص).

جانب آخر من بلدة الربذة
جانب آخر من بلدة الربذة

إسلام قومه بني غفار
أخبر أبو ذرّ عن إسلام قومه بني غفار فقال: لقيتُ رسول الله (ص) فقال: «إنّه قد وُجّهْتُ إلى أرضٍ ذاتِ نخل ولا أحْسِبُها إلاّ يثرب، فهل أنت مبْلِغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟» فانطلقتُ حتى لقيتُ أخي أنيسا فقال: «ما صنعتَ؟» قلتُ: «صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدّقتُ». قال أُنيس: «ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أَسلمتُ وصدّقتُ». قال فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما فإنّي قد أسلمتُ وصدّقتُ. قال فاحتملنا فأتينا قومَنا فأسلم نِصْفُهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة. وكان يؤمّهم إيماءُ بن رَحَضَةَ، وكان سيّدهم، وقال بقيّتهم: إذا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينةَ أسلمنا. فقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم بقيّتهم وجاءت أسْلَمُ وكانوا حلفاء غفار فقالوا: يا رسول الله، أخوتنا، نُسْلِمُ على الذي أسلم أخوتنا. فأسلموا فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «غِفارٌ غَفَرَ الله لها وأسْلَمُ سالَمها الله».
ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لم يُطِق أبو ذرّ صبراً على الإقامة في المدينة، بعد أن خلت من سيدها، وأقفرت من هدي مجلسه، فرحل إلى بادية الشام، وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهم جميعاً.
لكن إقامته في الشام جعلت منه شاهداً على التغيرات السريعة التي كانت تطرأ على عالم الإسلام بعد فتح الأمصار واتساع رقعة الدولة وتدفق الثروات وإقبال الناس نتيجة لذلك على الدنيا ومباهجها، وقد استمر أبو ذرّ على اعتقاده بإسلام التآخي والمساواة والزهد في الدنيا وقد ساءه في تلك المرحلة تزايد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الناس فحاول، وهو الصحابي المعتبر وصاحب الرسول (ص) وأحد وزرائه الذين كان يحبهم، أن يتابع الشهادة للحق ويحاول الإصلاح ويدعو لنهج أكثر مساواة بين الناس، إلا أنه وبسبب شخصيته غير المهادنة وثباته في الحق فقد وجد أبو ذرّ نفسه يواجه جفاء الحكام والعديد من الناس الذين انجرفوا وراء الثروة والحياة الرغدة الجديدة، لذلك فقد آثر في نهاية المطاف الابتعاد عن الشأن العام أو جرى كذلك إبعاده عندما استدعاه الخليفة عثمان بن عفان (ر) وطلب منه أن يغادر الشام وأن يقيم في بلدة نائية بين مكة والمدينة تدعى الربذة وهو ما فعله به قانعاً بعيش الإعتكاف في كوخ صغير وعيش الفقر حتى وافته المنية في سنة 32 هجرية.

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها على غســـله ودفنه”

تصوير بليغ للزهد

دخل على أبي ذر رجلٌ ذات مرة، فجعل يقلب الطرف في بيته، فلم يجد فيه متاعاً، فقال:
«يا أبا ذرّ، أين متاعكم؟ فقال: لنا بيت هناك، نرسل إليه صالح متاعنا.
فهم الرجل مراده، وهو أنّه يعني الدار الآخرة، وقال: ولكن لا بدّ لك من متاع ما دمت في هذه الدار، فأجاب: ولكن صاحب المنزل لا يدعنا فيه»

شهادة الرسول (ص) به
من أشهر ما قاله فيه رسول الله (ص) ما أورده أبو هريرة إذ نقل عن النبي قوله: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
وهذا الوصف من النبي (ص) يغني عن كل وصف لأبي ذرّ وسيظهر صدق ابي ذرّ في سيرته وجهاده ليس فقط في عصر النبي (ص) بل إنه سيظهر بأجلى معانيه بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى وانطلاقة الدولة الإسلامية واتساع رقعة ملكها. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الرسول (ص) وقد كان أخبر الناس بأبي ذرّ ونقائه وجرأته في الحق كان يخشى عليه من مكائد السياسة ورياح الفتن التي تحدث عنها قبل وفاته، وقد حرص على أن يوصيه بالحيطة وطاعة الأمير حتى وإن حصل ما قد يرى فيه افتئاتاً على الشريعة أو ظلماً. وهناك حادثتان مهمتان تظهران مدى اهتمام الرسول (ص) بأبي ذرّ وحرصه عليه. الحادثة الأولى كانت عندما سأل الرسول (ص) أبا ذرّ: «يا أبا ذرّ كيف أنت إذا كان عليك أمراء يستأثرون بالفيء؟» (أي يغصبون حقوق المسلمين في المال والغنائم) فقال أبو ذرّ: «إذا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به». فقال النبيّ: «أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني».
من منطلق الحرص نفسه نصح الرسول (ص) أبا ذرّ بعدم السعي للإمارة وقد سأل الصحابي الجليل الرسول يوماً: «يا رسول الله ألا تستعملني؟» أي الا تولني إمارة أو عملاً أخدم فيه الإسلام؟ وكان اقتراح أبي ذرّ من منطلق العمل للمجتمع الإسلامي وإحقاق الحق ولم يكن إطلاقاً طلباً لجاه أو مال، لكن الرسول (ص) كما جاء في الحديث الذي نقله الحارث بن يزيد الحضرميّ ردّ بأن وضع يده على كتف أبي ذرّ ثم قال له: «إنّك ضعيف وإنّها أمانةٌ وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها».
رافق أبو ذرّ عهد أبي بكر الصديق وعمر وعايش مرحلة الخليفة عثمان وكان له رأي صريح في أحقية الإمام علي (كرم الله وجهه) بالخلافة لكنه حاذر مع ذلك الإنجرار إلى الفتن التي اندلعت بعد مقتل الخليفة عثمان، وقد كانت له قبل ذلك مواقف ناقدة لمعاوية بن أبي سفيان عندما كان والياً على الشام، وقد أقام أبو ذرّ هناك لبعض الوقت وشهد التحولات الكبرى وصدم لما رآه من استئثار فئة بالثروات من دون الناس فذهب إلى معاوية يناقشه في الأمر. وقد روى زيد بن وهب تلك الواقعة وما حصل بعدها على الشكل التالي قال: مررتُ بالرّبَذةِ (وهي قرية صغيرة من قرى المدينة) فإذا أنا بأبي ذرّ فقلتُ: «ما أنزلك منزلك هذا؟» قال: «كنتُ بالشأم فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{ قال معاوية: نَزَلَتْ في أهل الكتاب»، قال: فقلتُ «نَزَلَتْ فينا وفيهم». قال فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان، قال فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتُ المدينةَ وكَثُر الناسُ علي كأنّهم لم يَرَوْني قبل ذلك» وبالرغم من تفهم عثمان لموقف أبي ذرّ وشكواه من تبدل المجتمع الإسلامي بعد الرسول، فإنه لم يكن يرى ما رآه الصحابي الزاهد واعتبر أن الإسلام دخل عصراً جديداً قيضه الله بسبب الفتوحات وامتلاك الأمصار وأنه لا يمكن لهذه الإمبراطورية أن تدار كما كان يدار مجتمع المدينة البسيط أو كما كان المجتمع الإسلامي في أول عهده. لذلك أيدّ عثمان وجهة نظر معاوية وأمر أبا ذرّ أن يُهدِّئ من حملته، واستأذن أبا ذرّ الخليفة الإقامة في قرية الربذة وهي قرية في نواحي المدينة فأذن له.
نأتي هنا إلى حديث نبوي مهم تنبأ فيه الرسول بما سيعترض أبو ذرّ من صعوبات جراء التصادم الذي توقع أن يحصل بينه وبين المجتمع الإسلامي الصاعد، فقد حدّث محمّد بن سيرين أنّ رسول الله (ص)، قال لأبي ذرّ: «إذا بلغ البِنَاءُ سَلْعاً فاخرج منها -ونحا بيده نحو الشام- ولا أرى أمراءك يَدَعونَك!» قال: «يا رسول الله أفلا أقاتل مَن يحول بيني وبين أمرك؟» قال: «لا»، قال: «فما تأمرني؟» قال: «اسْمَعْ واطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشي».
يذكرأنه لما توجه أبو ذرّ إلى الربذة بعد أن أمره الخليفة عثمان (ر) بذلك وصلها وقد أقيمت الصلاةُ وعبدٌ حبشي لعثمان يؤم المصلين. ولما رأى الحبشي أبا ذرّ تأخّر ودعا الصحابي لأن يؤم المصلين مكانه، فقال أبو ذرّ له: تَقَدّمْ فصلّ فقد أُمِرْتُ أن أسْمَعَ وأطيعَ ولو لعبدٍ حَبشيّ فأنت عبد حبشيّ».
وقال عبد الله بن سيدان السّلَميّ: «تَناجى أبو ذرّ وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذرّ متبسّماً فقال له الناس: «ما لك ولأمير المؤمنين؟» قال: «سامعٌ مُطيعٌ ولو أمرني أن آتيَ صنعاء أو عدن ثمّ استطعتُ أن أفعل لفعلتُ»، وقد أمره عثمان أن يخرج إلى الرّبَذَة.
يشير الحديث المنقول عن النبي (ص) مجدداً إلى أنه وقد كان يكنّ الحب لأبي ذرّ أراد أن ينصحه بالإبتعاد عن الشأن العام لأنه كان يتنبأ بحصول الخلافات وربما الفتن من بعده وكان يعتقد بأن الأفضل لأبي ذرّ الزاهد العابد أن لا يقترب من فتنة الدنيا سواء من طريق طلب الإمارة أو من طريق أخذ جانب أي من الفرقاء المتخاصمين، أو محاولة تبديل ما لم يعد ممكناً تبديله لأن مجتمع الإسلام تغيّر ولأن لله حكمته في كل شيء.

ما تبقى من بلدة الربذة في السعودية حيث قضى أبو ذر آخر أيامه
ما تبقى من بلدة الربذة في السعودية حيث قضى أبو ذر آخر أيامه

صدَّق أبو ذرّ رسول الله (ص) وقرر أن ينأى بنفسه عن الحياة العامة، لكن وبسبب شهرته بين صحابة رسول الله ومكانته الكبيرة في الإسلام وبسبب ما عرف عنه من صدق وتمسك بمبادئ الرسالة وتعاليم النبي (ص) فقد أيّده كثيرون بل جاءه يوماً نفر كبير من أهل العراق (قيل من أهل الكوفة) فقالوا: «يا أبا ذرّ فعل بك هذا الرجل (يقصدون عثمان) وفعل فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً فَنُكْمِلُكَ برجال ما شئتَ؟» وكان واضحاً أنهم يحرضونه على التمرد، فقال أبو ذرّ لهم: «يا أهل الإسلام لا تَعْرِضوا عليّ ذاكم ولا تُذِلّوا السلطان فإنّه مَن أذلّ السلطان فلا توبة له» وأضاف أبو ذرّ «والله لو أنّ عثمان صلبني على أطول خشبةٍ أو أطول جبل لَسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي» وكان يستذكر بذلك تنبيه الرسول له لأن يبتعد عن الشام عندما تبدأ فيها المدنية وحركة العمران والإقبال على الدنيا. وكان هذا في الحقيقة موقف صحابي جليل آخر هو سلمان الفارسي عندما اشتد الخلاف بين المسلمين إذ آثر أن يبتعد وأن يقضي آخر أيامه في المدائن يعيش كعامة الناس بل كفقرائهم وهو الأمير عليها.
حدث أبو ذرّ عن رسول الله (ص) بأنه قال له: «يا أبا ذرّ إني أراك ضعيفاً وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين ولا تَوَلَيَّنَ مالَ يَتيمٍ» وعندما يقول الرسول عن أبي ذرّ بأنه ضعيف فإنه لا يقصد به ضعف الشخصية أو حتى البنية وهو الذي كان يعرف مدى صلابته في نصرة الدين ومشاركته في أكثر غزوات المسلمين بعد الخندق، بل كان يقصد أنه كان من الطهر وسلامة القلب بحيث لا يطيق مكائد السياسة والتنازع عليها بين أهل الدنيا وكان الرسول (ص) يريد أن لا يستدرج أبا ذرّ إلى ما لا طاقة له به. وهناك شبه ملفت بين نصح الرسول لأبي ذرّ باجتناب الدنيا والإمارة وبين قول لسلمان الفارسي (ر) جاء فيه: «إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميراً على اثنين فافعل».

حب الرسول (ص) له
كان أبو ذرّ من القلة المقربين إلى رسول الله (ص) بل كانت له مكانة خاصة لديه وقد ذكر أبو الدرداء أن الرسول (ص) «كان يبتدئ أبا ذرّ الكلام إذا حضر، ويتفقده إذا غاب».
وجاء في الأثر أن أبا ذرّ أقام في باديته يدعو قبيلته غفار إلى الإسلام حتى مضت بدرٌ وأحدٌ والخندقُ، ثم قدم إلى المدينة وقد أسلم أهل غفار وأقوام غيرهم وانقطع إلى رسول الله (ص)، واستأذنه أن يقوم في خدمته، فأذن له، ونَعِمَ بصحبته، وسَعِدَ بخدمته، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثره ويكرمه، فما لقيه مرةً إلا صافحه، وهشَّ في وجهه وبشَّ .
ومن علامات حب الرسول لأبي ذرّ حديث لشريك عن أبي ربيعة عن ابن بريدة عن أبيه قال: فقال رسول الله (ص) إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم. قيل يا رسول الله سمِّهم لنا. قال عليٌّ منهم يقول ذلك ثلاثاً، وأبو ذرّ والمقداد وسلمان الفارسي، أمرني بحبِّهم وأخبرني أنه يحبهم».
وجاء ذكر أبي ذرّ كأحد وزراء النبي أو حوارييه المقربين في حديث أثبته أحمد إبن حنبل في مسنده جاء فيه: إن رسول الله (ص) قال: «إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفر، وعلي، وحسن، وحسين، وأبو بكر، وعمر، والمقداد، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذرّ، وحذيفة، وسلمان، وعمار، وبلال»
وقال مالك بن دينار أنّ النبيّ (ص) جلس يوماً مع أصحابه ثم قال: «أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟» فقال أبو ذرّ: «أنا»، فقال له النبيّ (ص) «صدقتَ» .وكان النبي يشير إلى علمه بأن الكثيرين من الصحابة الذين جاهدوا معهم ستتبدل أحوالهم مع دخول الرخاء والثراء إلى عالم الإسلام، وقد وُلِّي كثيرون منهم الأمصار أو النواحي وصار لأكثرهم شأن وحال من اليسر والاستقرار في الدور والحواضر والمدن. وكان أبو ذرّ يحب أن يذكر هذا الحديث لأصحاب رسول الله قائلاً لهم: «إني لأقْرَبَكُم مجلساً من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «أَقْرَبُكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكْتُهُ فِيهَا».

نبوءة الرسول (ص)
حول أبي ذرّ

عن عبد الله بن مسعود (ر) قال: لما سار رسول الله إلى تبوك1 جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول :»دعوه، إن يكُ فيه خير فسيُلحقه الله بكم، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه»
حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذرّ، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله: «دعوه، إن يكً فيه خير فسيلحِقه الله بكم، وإن يكً غير ذلك فقد أراحكم الله منه».
فتلوَّم أبو ذرّ (ر) على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره فخرج يتبع رسول الله ماشياً، ونزل رسول الله في بعض منازله ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق. فقال رسول الله: «كن أبا ذرّ» فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو -والله- أبو ذرّ. فقال رسول الله: «رحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
1-هي غزوة تبوك وسميت بـ «غزوة العسرة» بسبب ما اعترض المسلمين فيها من صعاب وخصم قوي عدة وعدداً

قبر أبي ذر اليوم
قبر أبي ذر اليوم

ورعه وشدته في الحق
كان أبو ذرّ ورعاً للغاية يحاسب نفسه أشد الحساب وكان بنفس المعنى يحاسب الآخرين ولاسيما صحابة النبي (ص) على ما يبدر منهم مما يعتبره ضعفاً في الإيمان أو العزيمة أو محاباة للقوي. لذلك ولما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذرّ فجعل أبو موسى يلزمه (يضمه إليه) مخاطباً إياه بالقول: «أنت أخي» فيجيبه أبو ذرّ مبتعداً: «إليك عني»، ويقول الأشعريّ مجدداً، «مَرْحَبًا بأخي»، ويدفعه أبو ذرّ ويقول: «لستُ بأخيك إنّما كنتُ أخاك قبل أن تُسْتَعْمَلَ» (أي قبل أن تصبح في خدمة سلطان) ثمّ لقي أبا هريرة فالتزمه (أي اراد أن يضمه إليه) وقال: «مرحبًا بأخي»، فقال أبو ذرّ: «إليك عني، هل كنتَ عَمِلْتَ لهؤلاء؟» قال: «نعم»، قال: «هل تطاولتّ في البِناء أو اتْخَذتَ زَرْعًا أو ماشيةً؟» قال: لا»، قال: «أنت أخي أنت أخي».
وحدث سعيد بن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن أبي ذرّ أنّه رآه في نَمِرَة مُؤتَزِراً بها قائماً يصلّي فقال له: « يا أبا ذرّ أما لك ثوب غير هذه النمرة؟» قال:» لو كان لي لرأيتَه عليّ»، قال: «فإنّي رأيتُ عليك منذ أيّام ثوبين»، فقال: «يا ابن أخي أعطيتَهما مَن هو أحوج إليهما مني»، قال: «والله إنّك لمحتاج إليهما»، قال أبو ذرّ: «اللهمّ غفراً، إنّك لمعظّم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البُرْدة ولي أُخْرى للمسجد ولي أعْنُزٌ نحلبها ولي أحْمِرَةٌ نحتمل عليها ميرتَنا وعندنا مَن يخدمنا ويكفينا مهْنَةَ طعامِنا فأيّ نعمةٍ أفضل ممّا نحن فيه؟».
بعث إليه أمير الشام بثلاثمئة دينار، وقال له:»استعن بها على قضاء حاجتك». فردها إليه، وقال: أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني».
وقال عيسى بن عُميلة الفَزاريّ: أخبرني من رأى أبا ذرّ يحلب غُنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيتُه ليلةً حلب حتى ما بقي في ضُروع غنمه شيء إلاّ عَصَرَه، وقرّب إليهم تمراً وهو يسير، ثمّ تعذرّ إليهم وقال: «لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به». قال وما رأيتُه ذاق تلك الليلةَ شيئاً.
وقال خالد بن حيان: «كان أبو ذرّ وأبو الدَّرداء في مِظَلَّتَيْنِ من شَعْر بدمشق».
قيل لأبي ذرّ: ألا تتخذ أرضاً كما اتخذ طلحة والزبير؟ فقال: «وما أصنع بأن أكون أميراً، وإنما يكفيني كل يوم شربة من ماء أو نبيذ (منقوع الزبيب) أو لبن، وفي الجمعة قَفِيزٌ من قمح».
وعن أبي ذرّ قال: «كان قوتي على عهد رسول الله صاعاً من التمر، فلست بزائدٍ عليه حتى ألقى الله تعالى».
وقال سعيد بن أبي الحسن أنّ أبا ذرّ كان عطاؤه أربعة آلاف فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عمّا يكفيه لسنةٍ فاشتراه له، ثمّ اشترى فلوساً بما بقي وقال: «إنّه ليس من وعى ذهباً أو فضّة يُوكي عليه إلا وهو يتلظّى على صاحبه».

روايته للحديث
روى أبو ذرّ عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم وكان أحد أهم مراجع النقل عن رسول الله (ص). وقد روى عن أبي ذرّ الخليفة عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأبو إدريس الخولاني، وزيد بن وهب الجهني، والأحنف بن قيس التميمي، وجُبير بن نُفير الحضرمي، وعبد الرحمن بن تميم، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخ أبي ذرّ، وخرشة بن الحر الفزاري، وزيد بن ظبيان، وأبو أسماء الرَّحَبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الدؤلي، والمعرور بن سُوَيد الأسدي، ويزيد بن شريك التيمي، وأبو مُرَاوح الغِفَاري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن حجيرة، وعبد الرحمن بن
أبو ذرّ الغفاري عن الرسول (ص).
في صحيح مسلم عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله: هل رأيت ربك؟ قال : «نور أنَّى أراه». قال النووي: أي حجابه نور، فكيف أراه؟!
روى البخاري بسنده عن أبي ذرّ (ر) قال: سألت النبي، أي العمل أفضل؟ قال :»إيمان بالله وجهاد في سبيله» قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أعلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها» قلت: فإن لم أفعل. قال: «تعين ضَايِعاً أو تصنع لأخرق» قلت: فإن لم أفعل. قال: «تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تصدق بها على نفسك».

مسضريح ومسجد الصحابي الجليل أبي الدرجاء في دمشق، صاحب أبو ذر في الجهاد والفقر
مسضريح ومسجد الصحابي الجليل أبي الدرجاء في دمشق، صاحب أبو ذر في الجهاد والفقر

من أقواله البليغة

ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري؟

لا تَغشَ أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب
من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه

إذا سافر الفقر إلى مكانٍ قال الكفر خذني معك.

• حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديد الحر لطول يوم النشور، وصلوا ركعتين في سوداء الليل لوحشة القبور».
• انظروا إلى الدنيا نظرة الزاهدين فيها، فإنها عن قليل تزيل الساكن، وتفجع المترف فلا تغرنَّكم.
• عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.
• والله لو تعلمون ما أعلم، ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني، يوم خلقني، شجرة تعضد، ويؤكل ثمرها.
• إني لأعرف بالناس من البيطار بالدواب، أما خيارهم فالزاهدون، وأما شرارهم فمن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه.
• ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري؟
• أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه بمال إلى أبي ذرّ رضي الله عنه مع عبدٍ له، وقال له: إن قبله منك فأنت حر. فلما ذهب العبد بالمال، لم يقبله، فقال له العبد: يا سيدي إن قبولك له فيه عَتقي. فقال له أبو ذرّ: إن كان فيه عَتقُك فإن فيه رُقِّي.
• كان الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه.
• هل ترى الناس ما أكثرهم؟ ما فيهم خير، إلا تقي أو تائب.
• رأى رجل أبا ذرّ وهو يتبوأ مكاناً، فقال له: ما تريد يا أبا ذرّ؟ قال: أطلب موضعاً أنام فيه، نفسي هذه مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني.
• ذو الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم.
• لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم، إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
• يولدون للموت، ويعمرون للخراب، ويحرصون على ما يفنى، ويتركون ما يبقى، ألا حبذا المكروهان: الموت والفقر.
• الوحدة خير من الجليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة.

.

كيف يموت العبد الزاهد

أوصى بأن يُغسل جثمانه ويكفن ويوضع في الطريق
وأن يطلب من أول القادمين أن يعينوا أهله على دفنه

كان موت ابي ذر الغفاري خاتمة مناسبة لحياة الزهد والتقشف والفقر التي عاشها كما إنه كان عنواناً لاحتقاره الدنيا الفانية وتطلعه إلى الباقية بشغف المؤمن الثابت العقيدة والواثق من وعد الله، بل إن أبا ذر أراد ربما أن يعطي بموته درساً من أبلغ الدروس لأهل الدنيا حتى يعلموا أين سينتهي بهم المطاف فلا يتعلقون بمباهجها الخادعة ولا يكون لهم طول الأمل بها بل التفكر الدائم بأنهم ميتون وملاقو ربهم فيتقون ويعتبرون.
لقد كان موت أبي ذر عنواناً لنبوءتين قالهما الرسول (ص) الأولى عندما قال: رحم الله أبا ذر يعيش وحيداً ويموت وحيداً ويبعث وحيداً. والثانية تنبأ فيها بظروف دفن أبي ذر إذ قال في جمع من أصحابه كان بينهم أبو ذر:» «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، تَشْهِدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وبالفعل فقد مات أبو ذر وليس لدى زوجته أو أهل بيته كفن يلفونه به وكانوا يعيشون في ناحية من الربذة الشبه مقفرة ، فلم يجدوا بالتالي من يهب إلى غسله ودفنه. وكان أبو ذر يعيش لحظاته الأخيرة وامرأته قلقة جداً كيف ستتصرف عندما تفارق الروح الجسد. وكانت لذلك تبكي بحرقة. قال لها أبو ذر: «ما يبْكيك؟» فقالت: «ومَا لِي لا أَبْكي وأنت تموت بِفلَاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعك كفنًا لي ولا لك؟ ولا يَدَ لي للقيام بجهازك». لكن أبا ذر المؤمن كان على يقين بأن ما أنبأ به الرسول (ص) لا بد حاصل فقال لها: «أبْشِري وَلَا تَبْكِي، فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولُ: «لَا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» ، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنفَر أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وأردف أبو ذر قائلاً لزوجته: ليس من أولئك النفَر أحدُ إلّا وَقد مات في قَرْيَة وجماعة، فأنا ذلك الرّجل، والله ما كذَبت ولا كُذِّبت فأبْصِري الطريقَ». قالت زوجته: «وأنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطَّعَتِ الطّريق؟ وكانت تقصد أن الحجيج كانوا قد عادوا إلى بلدانهم ولم يعد أمل بمرور قوافل أو راجلين يساعدونهم»، قال: « اذهبي فتبصَّري». قالت: «فكنْتُ أشتدُّ إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضُه. أي أعتني به وهو في نزاعه الأخير. وأخبرت زوجة أبي ذر بعدها فقالت: بينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجال على رِحَالهم كأنهم الرّخم تحثّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفُوا عليّ»، فقالوا: «يا أمَةَ الله، ما لك؟»، قلت: «امرؤ من المسلمين يموتُ، تُكَفّنونه؟» قالوا: «ومَنْ هو؟» قلت لهم: «أبو ذرّ». قالوا: «صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ « قلت: «نعم». قالت: «فَفَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السيّاط في نحورها (أي ألقوا اللجام على أعناق النوق) يتسابقون إليه حتى جاءوه»، فقال لهم: «أَبْشِروا، فإنِّي سمعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلّا وقد هلك في قرية وجماعة، واللهِ ما كَذَبْت، ولا كذبت، ولو كان عندي ثوبٌ يسعُني كفنًا لي أو لامرأتي لم أكفَّنْ إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم لله ألا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً» وكان أبو ذر يقصد بذلك أنه لا يريد لأي كان في منصب إمارة أو وجاهة أو على علاقة بالدولة أن يكفنه أو أن يشترك في تكفينه. وكان معظم الذين وقفوا حوله للمساعدة ممن تنطبق عليهم تلك الصفات إلّا فتًى من الأنصار، فقال: «أنا أَكفّنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين في عَيْبتي من غزْل أمّي». قال: «أنت تكفنني يا بني». قال: فكفّنه الأنصاريُّ وغسَّله في النّفر الذين حضَرُوه، منهم حُجْر بن الأدبر ومالك الأشتر. وقيل في رواية ثانية أو هي تكمل الرواية الأولى أنه لما نفى عثمان أبا ذرّ إلى الرّبَذَةِ وحضره الموت ولم يكن معه أحد إلاّ امرأتهُ وغلامه فإنه أوصاهما أن اغسلاني وكفّناني وضعاني على قارعة الطريق فأوّل رَكْبٍ يمرّ بكم فقولوا هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دَفْنِه. فلمّا مات فعلاً ذلك، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد الله بن مسعود في رَهْط من أهل العراق عُمّارًا فلم يَرُعْهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها، فقام إليه الغلام قال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه. فاستهلّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله، «تمشي وحدك وتموت وحدك وتُبْعَثُ وحدك». .
توفي أبو ذر في الربذة سنة 32 هـ وقيل في آخر شهر ذي الحجة سنة 31 هـ بعد انصراف الحجيج، وصلى عليه عبد الله بن مسعود في النفر الذين شهدوا موته، ثم حملوا عياله إلى عثمان بن عفان (ر) بالمدينة، فضم ابنة أبي ذر إلى عياله، وقال: «يرحم الله أبا ذر». وتقع الربذة اليوم 100 كم جنوب شرقي محافظة الحناكية و200 كم شرق المدينة المنورة.

عمر بن الخطاب

“كان عمر (ر) قبل إسلامه رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش ومفاخراً ومنافراً لها مع القبــــائل”

” توسعت الشورى في خلافة عمر لكثرة المستجدات ولامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم مختلفة  “

[su_accordion]

[su_spoiler title=”تاريخنا الذي أضعناه” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

عندما فتح الإسلام الأمصار وكسب قلوب الشعوب
بدعوة التوحيد والعدل ومخافة الله في الحق

الخليفة عمر بن الخطاب نموذجاً

في زمن راجت فيه حركات التطرف والعنف الأعمى وماتت الرحمة في قلوب الكثيرين وساد ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وتفشى التعصب وتزاحمت الرايات وتناحرت وتفرقت الأمة جماعات يقاتل بعضها بعضاً واستوى الأعداء في مقاعدهم يتفرجون مغتبطين لمشهد هذه الفتن المرعبة التي تدمر يميناً وشمالاً وتحصد قيمنا وحضارتنا كما تأتي النار على اليباس الهشيم. في هذا الزمن البائس، زمن محنة الأمة في وجودها وقيمها وإنسانيتها نبحث جميعاً عن سبب لكل ما يجري فلا نجد في الحقيقة إلا جواباً واحداً وهو أننا ابتعدنا عن الإسلام الحق الذي بهر العالم بسماحته وشرف خصاله وعظمة رسالته إلى جاهلية جديدة بل إلى حالة من الإنحطاط والتوحش لو قيض لأهل الجاهلية أن يعودوا بيننا لكانوا أول من تبرأوا منها ورفضوا أي صلة بها، وقد كانت لعرب الجاهلية -يجب أن لا ننسى- خصال عظيمة وشيم وشرف، ولولا أنهم كانوا حتى قبل إسلامهم مجتمعين على قدر كبير من الرفعة والخصال الحميدة، ولولا أن كانت لهم قيم وأعراف يلتزمونها لما كانوا تقبلوا الإسلام وتحمل الأولون منهم ما تحملوه من أجل نصرته والجهاد في سبيله.
قد لا يكون في مقدورنا أو مقدور أي جماعة صغيرة أن تقف في وجه هذا الإعصار من الغضب النفسي والأحقاد والكراهية وشهوة القتل لكننا نمتلك مع ذلك في وجه هجمة الظلام سلاحاً ماضياً وجباراً هو أنوار عقيدتنا الإسلامية وتاريخنا وسير الأولين والسلف الصالح، نمتلك قيم الإسلام التي لا يمكن لأي قوة أن تبدّل فيها لأنها مصانة في كتاب الله العزيز وفي السنة النبوية الشريفة وفي سير الصالحين والإرث المجيد للأمة وهو أشبه ببحر عظيم لا حدود له ولا يمكن أن تنفد مكنوناته وجواهره. وإن العودة إلى تلك الأسس المتينة لصرح الإسلام هي في الواقع أفضل جواب على ما يجري من تلفيق وتآمر وهي أمضى سلاح يمكن أن نشرعه من أجل حماية عقيدتنا وقيمنا ومجتمعاتنا.
في هذا العدد نسلط الضوء على بعض الجوانب المضيئة لرسالة الإسلام في انطلاقتها المظفرة ونتخذ مثالاً على أهميتها حياة وجهاد وتعليم رجلين من كبار الصحابة هما الخليفة عمر بن الخطاب والصحابي الجليل المجاهد الذي مدحه الرسول كأصدق من وجد على وجه البسيطة أبو ذر الغفاري، وقد اخترنا من تلك الفترة نماذج حقيقية لأن هذا الأسلوب يترك التعميم والوصف التاريخي لينطلق من علم السيرة وما يحمله من فوائد لأنه ليس أقوى من أن تجد رسالة الإسلام الحق كما أنزلها الله تعالى وقد تمثلت في أشخاص حقيقيين يحيون مبادئها ويحكمون بشريعتها ويقدمون المثال على حجم التغيير الذي أمكن للإسلام الحق ومبادئه السمحاء أن يحدثه في العالم. وقد كان أشهر ما وصف به الله تعالى الرسول الهادي في القرآن الكريم الآية الكريمة }وإنك لعلى خلق عظيم{ (ن:4) وكذلك قوله تعالى: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ{ (آل عمران: 159) فالله تعالى ينبئ رسوله أنه نصره باللين والخلق العظيم، وفي هذا القول من الحق ما يغني عن أي مزيد لأن الله يصف دينه بأنه دين الرحمة والأدب واللين والتخلق بأخلاق الله وليس دين الغلظة والشراسة. وسنرى في هذا الفصل الذي اخترنا فيه الخليفة عمر بن الخطاب كنموذج كيف كان فهم الصحابة الكرام -وهم أقرب الناس إلى الرسول (ص) وإلى فهم القرآن والسنة-الإسلام الحق، وكيف طبقوه وكيف نشروه في العالم بقوة المحبة والسماحة وخصال الإسلام الشريفة التي بهرت الشعوب فأقبلوا على هذا الدين بمحض الإعجاب بالرسالة والإعجاب والتقدير لممثليها كما كانوا يرونهم في حياتهم اليومية وتعاملاتهم، وصفاتهم. وسنتابع الموضوع إن شاء الله مع حلقات تالية نسلط فيها الضوء على جوانب مضيئة من تاريخ الإسلام ومسيرته الحضارية والإنسانية.
نشير هنا إلى أننا استفدنا في هذا المقال من النصوص والمراجع والمصنفات الإسلامية ولاسيما المؤلف النفيس للدكتور محمد الصلابي :«فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب» 1261.

تمكّن المسلمون في أقل من ثلاثة عقود من فتح معظم أمصارالمشرق والمغرب بما في ذلك بلاد الشام والعراق وفلسطين ومصر وليبيا وفارس لكن الأهم من فتح الأمصار أن المسلمين تمكنوا رغم حداثة عهدهم بحكم الممالك والإمبراطوريات من وضع الأسس لحكم إسلامي يقوم على أحد أنجح الأنظمة السياسية في التاريخ وأكثرها تقدماً في مجال التسامح واحترام الحريات والعقائد وإشاعة العدل الاجتماعي وبناء نظام الخلافة قبل أن ينتقل المسلمون إلى مرحلة الملكية الوراثية مع قيام الدولة الأموية ثم الدولة العباسية وما تلاها من ممالك في تاريخ الإسلام الطويل حتى نهاية مرحلة الدولة العثمانية.
لقد نجح الرسول (ص) والخلفاء من بعده في اجتراح الحلول لكافة القضايا والمشكلات التي استجدت بسبب خروج المسلمين إلى العالم وتولي قادتهم ورجالاتهم لحكم بلدان بعيدة وأحياناً غير عربية، وجاهد الخلفاء الراشدون أيما جهاد لكي لا يؤدي الثراء المفاجئ إلى شيوع الرخاء وتراجع القيم الإسلامية التي أينعت وازدهرت في زمن الدعوة وشظف العيش وخبز الشعير واضطهاد المسلمين. وقد اعتنى الخليفة عمر بصورة خاصة بتطوير نظام الحسبة، والأسواق والتجارة واهتم بالعلم وتتبع الرعية بالتوجيه والتعليم جاعلاً من المدينةَ المنورة داراً للفتوى والفقه ومدرسة لتخريج العلماء والدعاة والولاة والقضاة. ومع توسع حركة الفتوحات تمّ إرشاد القادة والأمراء إلى إقامة المساجد في الأقاليم المفتوحة، لتكون مراكز للدعوة والتعليم والتربية ونشر الحضارة الجديدة، وقد وصل عدد المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة في دولة عمر (ر) إلى اثني عشر ألف مسجد وتميّز عصر الفاروق (وقد أعطي هذا اللقب باعتبار أن إسلامه فَرّق بين الإسلام والكفر) بالتطور العمراني وبناء شبكات الطرق ووسائل النقل البري والبحري وإنشاء الثغور والأمصار كقواعد عسكرية ومراكز إشعاع حضاري، وفي عهده نشأت المدن الكبرى كالبصرة والكوفة والفسطاط، وأشرف الفاروق على تطوير المؤسسة المالية والقضائية وقام بتأمين مصادر دخل الدولة من الزكاة والجزية والخراج والعشور والفيء والغنائم وتعزيز بيت مال المسلمين وتدوين الدواوين، ووضع السجلات بأراضي الخراج وأصدر النقود الإسلامية وقام بتطوير النظام القضائي فعيّن القضاة وحدد مرتباتهم وصفاتهم وما يجب عليهم، ومصادر الأحكام القضائية، والأدلّة التي يعتمد عليها القاضي، وبيّن القواعد في تعيين الولاة والصفات الواجبة فيهم والشروط التي تفرض عليهم، ثم تابعهم في حكمهم وتعامل مع شكاوى الرعية فيهم، وحاسبهم وأنزل أقسى أنواع العقوبات بالمتحاورين منهم.
رغم ما يشير إليه كل ما سبق من الأهمية الكبيرة لمرحلة ولادة المجتمع الإسلامي فإن الصحابة والخلفاء الراشدين كتبوا بأعمالهم سيرة حافلة بنصرة الحق والاستقامة والورع والتواضع والتزام حياة البساطة حتى بعد أن دانت لهم الأمصار وتدفقت أموال الخراج والمغانم إلى بيت مال المسلمين. وجسّدت تلك الحياة البسيطة الورعة صورة عن تربية الرسول (ص) لأصحابه وعن مدرسة التقوى والزهد بل الفقر التي أسس لها في حياته هو وفي كفاحه وسيرته كنبي وكفاتح، وهو الذي دخل مكة مطأطئ الرأس بروح الخضوع وكان أول فعل له كسلطان للدولة الإسلامية المنتصرة هو العفو عن مشركي مكة الذين ساموه وساموا المؤمنين أشد العذاب في مرحلة ما قبل الهجرة وحتى الفتح وإنهاء دولة الشرك. وكان لملازمة الخلفاء الأربع للرسول (ص) وصحبتهم الطويلة له ومجالستهم أو مرافقتهم إياه أثر عظيم في تماهيهم بصورة شبه تامة مع أخلاق الرسول واستيعابهم بقوة الحب والإتباع لسيرة النبي ولتعليمه ولنهجه.
وبسبب حكمه الذي امتد لعشر سنوات وتزامن مع أهم مرحلة تأسيسية في تاريخ الإسلام، وبسبب أن معظم الأوضاع التي واجهها المسلمون كانت جديدة عليهم ولم يسبق أن تناولها حكم أو اجتهاد، فقد كان على عمر بن الخطاب أن يسنّ السنن وأن يجتهد في كل ما يتعلق بالدولة الجديدة ومجتمع المسلمين مسنداً اجتهاده دوماً إلى القرآن وإلى السنة النبوية، وعند الحاجة إلى حس العدل والحق الذي كان بمثابة البوصلة التي تهديه دوماً إلى جادة الصواب، إضافة إلى ما سبق تحوّلت حياة عمر بن الخطاب منذ إسلامه وحتى استشهاده إلى سيرة زاخرة بالتعليم والمواقف المشهودة التي كانت وما زالت خير ما يمكن أن يقدّم للعالم من أمثلة على عظمة الإسلام وعظمة الحضارة الإسلامية.

عمر في الجاهلية
ولد عمر بن الخطاب، ويكنى أبا حفص، في مكّة بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، إلا أنه امتاز عليهم بأنه كان ممن تعلموا القراءة وحمل المسؤولية صغيراً واتصف لذلك بقوة التحمل والجلد وشدّة البأس، وقد تعلم أيضاً ألواناً من رياضة البدن، فبرع في المصارعة وركوب الخيل والفروسية وتذوق الشعر ورواه، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، واحتل مكانةً بارزة في المجتمع المكي الجاهلي، وأسهم بشكل فعَّال في أحداثه. يقول ابن سعد «إن عمر كان يقضي بين العرب في خصوماتهم قبل الإسلام» .

إسلامه
كان عمر (ر) رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، واضح البيان، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش، ومفاخراً ومنافراً لها مع القبائل، وكان بسبب إخلاصه وتفانيه في الدفاع عن ما يعتقده يدافع عن ما ألفته قريش من عادات وعبادات وقد وقف لذلك في وجه الدين الجديد قبل أن تسوقه الأقدار في أحد الأيام إلى بيت شقيقته فاطمة التي كانت قد أسلمت سرّاً مع زوجها وقد فاجأ عمر شقيقته وهي تقرأ القرآن الكريم مع زوجها فعنّفها وحاول ضرب زوجها قبل أن يهدأ ويطلب منها أن تقرأ عليه ما كانت تقرأ (وكانت سورة }طه{) فلما استمع إلى مطلعها رقّ قلبه كثيراً وقال: «ما ينبغي لمن يقول هذا الكلام أن يعبد إلهاً غيره» وطلب من اخته وصهره أن «دلّوني على محمد».

آثار المدائن اليوم بعد أن كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية
آثار المدائن اليوم بعد أن كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية

عمر بن الخطاب
الشاعر .. والناقد

كان عمر (ر) أكثر الخلفاء الراشدين ميلاً لسماع الشعر وتقييمه كما كان أكثرهم تمثلاً به حتى قيل: كان عمر بن الخطاب لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيتاً من الشعر وقد برع الفاروق في النقد الأدبي وكانت له مقاييس يحتكم إليها في تفضيله أو إيثاره نصاً على نص أو تقديمه شاعراً على غيره، ومن هذه المقاييس سلامة العربية وأنس الألفاظ والبعد عن المعاضلة والتعقيد والوضوح والإبانة وأن تكون الألفاظ بقدر المعاني وجمال اللفظة في موقعها وحسن التقسيم وكان (ر) يمنع الشعراء من قول الهجاء أو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية واستخدم أساليب متعددة في تأديبهم منها أنه أشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم.

إسلام عمر يبدّل الموازين
أسلم عمر وهو ابن سبعة وعشرين عاماً، وتحول فور إسلامه إلى أبرز منافح عنيد عن الدين الجديد، الأمر الذي بدّل الموازين ورفع معنويات المسلمين وكان عددهم يومها 37. وفي هذا قال عبد الله بن مسعود (ر) : «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلي، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا، فصلينا وطفنا».

هجرته
لما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية إذ إنه تحدى المشركين عند الكعبة أن يتبعوه فلم يفعل أي منهم ومضى في سبيله.
أدت ملازمة عمر بن الخطاب للرسول (ص) وكثرة تحدثه معه، إلى طبعه على البلاغة والبيان وطلاقة اللسان، وكان رضي الله عنه إذا جلس إلى رسول الله (ص) لم يترك المجلس حتى ينفضّ وكان يجلس في حلقات ودروس ومواعظ رسول الله (ص) نشطاً يستوضح، ويستفهم، ويلقي الأسئلة في الشؤون الخاصة والعامة.
ولذلك فقد روى عن النبي (ص) خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثاً تناولت شتى أوجه العبادات والمعاملات، وقد اتفق الشيخان في صحيحيهما على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بواحد وعشرين(1)، والبقية في كتب الأحاديث الأخرى.
هيبة عمر
كان عمر بن الخطاب حاسماً وشديداً في الأمر والنهي وكان صاحب فراسة ومنطق وقوة بيان وكان لذلك مهاباً من الجميع بل كان الكثيرون يخشون غضبته في الحق، وكان الرسول معجباً بجرأة عمر مقدراً نصرته للدين حتى خاطبه يوماً بالقول: «يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً (أي طريقاً) قط إلا سلك فجاً آخر(2) هذا الحديث فيه بيان فضل عمر رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الحق وخصومته للباطل لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه.

بعض أهم إنجازته
1. الحثّ على جمع القرآن الكريم: كان عمر بن الخطاب أول من أشار على الخليفة الصِدّيق بجمع القرآن الكريم وبخاصة بعد أن أدت الحروب ولاسيما حرب اليمامة إلى مقتل الكثير من حفظة القرآن.
2. التأريخ بالهجرة: كان الخليفة عمر أول من كتب التاريخ بالهجرة.
3. رد سبايا العرب: كان أول قرار اتخذه عمر في دولته ردّ سبايا أهل الردة إلى عشائرهم حيث قال: كرهت أن يكون السبي سنة في العرب، وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام شريعة الله سواء.
4. لقب أمير المؤمنين: كان عمر بن الخطاب أول من كتب بإسم «أمير المؤمنين» وقيل إن رجلين قدما من العراق يطلبانه وقد دخلا الجامع فسألا عمر ابن العاص أن يستأذن لهما لدى «أمير المؤمنين» وقد استحسن ابن العاص الإسم وألح على عمر أنه اللقب المناسب «لأننا نحن المؤمنون وانت أميرنا». فجرى استخدام اللقب من ذلك اليوم.
5. ضرب النقود الإسلامية : يقول المقريزي: «وأول من ضرب النقود في الإسلام عمر بن الخطاب سنة ثماني عشرة من الهجرة على نقش الكسروية وزاد فيها: «الحمد لله». وفي بعضها: «لا إله إلا الله» وعلى جزء منها إسم «الخليفة عمر».
6. الشورى: اعتمد عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى في دولته، فكان لا يستأثر بالأمر دون المسلمين ولا يستبد عليهم في شأن من الشؤون العامة، فإذا نزل به أمر لا يبرمه حتى يجمع المسلمين ويناقش الرأي معهم فيه ويستشيرهم.
ومن مأثور قول الخليفة عمر: «لا خير في أمر أبرم من غير شورى»، وقوله: «شاور في أمرك من يخاف الله عزّ وجل» ، وكان يحث قادة حربه على الشورى، ثم توسع نطاق الشورى في خلافة عمر (ر) لكثرة المستجدات والأحداث وامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم متباينة فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى الاجتهاد الواسع.

العدل والمساواة
فتح عمر بن الخطاب الأبواب على مصاريعها لوصول الرعية إلى حقوقها، وتفقد بنفسه أحوالها، فمنع عنها أي ظلم قد يقع عليها كما تدل عليه الأمثلة التالية:
1- اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: «والله لقد قضيت بالحق» قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصُنِع له طعام جاء به خدام وضعوه أمام القوم وانصرفوا. سأل عمر ضيفه: أترغبونه عنهم؟ (أي ألا تطعمونهم من هذا الطعام) فقال الضيف: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكننا نستأثر عليهم (أي نأكل قبل أن يأكلوا) فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين(3).
2- لم يكن عمر رضي الله عنه ليأكل من طعام غير متيسر لجميع المسلمين، وكان يصوم الدهر، وكان طعامه في زمن الرمادة خبزاً بالزيت.
3- من الأمثلة على عدم الهوادة في تطبيق المساواة، ما صنعه عمر مع جبلة بن الأيهم الذي وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحلَّه، فغضب الأمير الغساني لذلك فلطم الرجل لطمة قاسية هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ما حلّ به وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه.
قال له عمر: إما أن ترضي الرجل وإما أن اقتص له منك.
اعترت جبلة بن الأيهم الدهشة لكلام عمر وقال له: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟
فقال عمر: إن الإسلام قد سوّى بينكما.

صورة من العام 1900 للمدينة المنورة التي بقيت لمدة مركزا للدولة الإسلامية بعد الفتح -2
صورة من العام 1900 للمدينة المنورة التي بقيت لمدة مركزا للدولة الإسلامية بعد الفتح -2

حق الأمن والحريات الشخصية
تكفل الإسلام اولاً للأفراد بحق الأمن وحق الحياة وسهر الأمراء والولاة على تأمينهما وصيانتهما من أي عبث أو تطاول وقد كانت حرمة المسكن وحقوق الملكية مكفولة ومصانة في عهد الفاروق وعصر الخلفاء الراشدين، كما إن الإسلام كفل حرية الرأي كفالة تامة فكانوا يتركون الناس يبدون آراءهم، وكان عمر (ر) يقول: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي(4)، وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردّني أحد منكم تهيباً مني(5)، وجاءه يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: إتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها(6)،

ورعه
كان عمر رضي الله عنه شديد الورع، وقد بلغ به الورع في ما يحق له ولا يحق، فإنه مرض يوماً، فوصفوا له العسل دواء، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداوَ عمر بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس، وصعد المنبر واستأذن بالقول: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليّ حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض، لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك.

تواضعه الشديد
عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: «لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة (أي أعجاب بالنفس) فأردت أن أكسرها» .

نزاهته
قال عمر (ر): إن الناس ليؤدون إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، وإن الإمام إذا رتع رتعت الرعية ، ولذلك كان شديداً في محاسبة نفسه وأهله، فكان إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم فإن وقعتهم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أؤتي برجل وقع في ما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم أن يتأخر. وكان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه خوف أن يحصلوا على منافع أو حظوة بسبب أواصر القربى التي تربطهم بخليفة المسلمين.

عمر يأمر بجلد ابنه علناً

يروي ابن الجوزي أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص أقام الحد على ابن الخليفة في البيت، فلما بلغ الخبر عمر غضب وكتب إلى بن العاص يعنفه بشدة لهذه المحاباة مؤكداً له أن « لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه» و«إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. وبناء على طلب عمر جيء بإبنه عبد الرحمن إلى المدينة فأقيم عليه حد الخمر جلداً وشهد ذلك جمهور العامة».

الخليفة عمر أعطى الأمان لمسيحيي فلسطين ورفض الصلاة في كنيسة القيامة
الخليفة عمر أعطى الأمان لمسيحيي فلسطين ورفض الصلاة في كنيسة القيامة

خاتمة
هذا غيض بسيط من فيض الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وكان نموذجاً على عصر بكامله وصحابياً عظيماً من أولئك الذين زخر الإسلام بهم في عصره الذهبي الأول، عصر الطهرالحقيقي والجهاد والزهد بالدنيا وما فيها؛ عصر التسامح وحرية الرأي والاعتقاد واحترام جميع من عاش في دار الإسلام من مذاهب وديانات سماوية. ولنتأمل كم أصبحت سحيقة هذه الهوة المستعرة التي تفصلنا اليوم كمسلمين عن الإسلام الذي عاشه عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدون والصحابة الكرام. كم نحن في حاجة لاستذكار ذلك الجانب المضيء من تاريخنا وإرثنا الروحي والأخلاقي والسلوكي لعل ذلك يسهم في إيقاظ الضمائر وشفاء البصيرة واستفاقة العقول وصلاح الناس والمجتمع.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الحرية الدينية في الإسلام” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الإسلام ترك أهل الكتاب يمارسون شعائرهم بسلام
بل أعلن أن الدولة ستقاتل لحمايتهم من أي عدوان
الشيخ محمد الغزالي
لم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء، مثل ما صنع الإسلام

تشهد حركة الفتوحات الكبرى في مطلع الإسلام على احترام الرسالة الخاتمة للأديان الأخرى، وحرص أولي الأمر في تلك الفترة الذهبية على عدم إكراه أحد على الدخول في الإسلام. وقد جاءت عمر بن الخطاب ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها: «أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق» فقالت: «أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ أقرب»، فقضى حاجتها، ولكنه وبعد أن انصرفت راودته خشية من أن يكون بدعوتها للإسلام كان كمن يستغل حاجتها لمحاولة إكراهها على ذلك، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت ولم أكرِه.
لكن رغم أن عمر كان خليفة المسلمين ورغم أنه يعتبر الدعوة إلى سبيل الله أمراً واجباً فإنه شعر بالذنب إذ انتبه إلى أنه يدعو إلى إلإسلام صاحب حاجة الأمر الذي قد يشكل إكراهاً والله تعالى يقول في كتابه العزيز }لا إكراه في الدين{ (البقرة:256).
وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه «أشق» حدّث فقال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال: «أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم»، فأبيت فقال: }لا إكراه في الدين{. فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال: «اذهب حيث شئت»، وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم الحرية في الاعتقاد، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونصّ فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم(7)، وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم» وأكد ذلك العهد بقوله: «على ماضي هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين»، وقد اتفق الفقهاء على أن لأهل الذمة ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك ما لم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم.
يقول الشيخ الغزالي عن كفالة الإسلام لحرية المعتقد «إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض، لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام».
لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع ولخص سياسته حيال النصارى واليهود بقوله: «وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدوهم بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم».
وقد ثبت عن عمر أنه كان شديد التسامح مع أهل الذمة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: أن عمر – رضي الله عنه – مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل – شيخ كبير ضرير البصر – فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي، قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل(8)، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: «انظر هذا وضرباءه (أمثاله) فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم»، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. وقد كتب إلى عماله معمّماً عليهم هذا الأمر، وهذه الأفعال تدل على عدالة الإسلام وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرفق برعاياها ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرية الدينية معلماً بارزاً في عصر الخلافة الراشدة، مكفولة من قبل الدولة، ومصانة بأحكام التشريع الرباني.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”قصص وعبــر
من سيرة الخليفة عُمَر” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مهمة في جوف الليل
خرج عمر بن الخطاب مرة في سواد الليل فرآه طلحة رضي الله عنه، فراقبه، فذهب عمر فدخل بيتاً، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت وإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، نعم ينظف بيتها، فقال لطلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع هذا وعمر خليفة المسلمين.

عمر يطلي بعيراً
قدم الأحنف بن قيس رضي الله عنه مع وفد العراق في يوم صائف شديد الحر على عمر رضي الله عنه، وكان عمر يطلي بعيراً بالقطران من إبل الصدقة فقال: يا أحنف ضع ثيابك وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير، فإنه من إبل الصدقة، فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلا تأمر عبداً من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم، ما يجب على العبد لسيده في النصيحة وأداء الأمانة.

أخبار من القادسية
ذكر ابن كثير أن عمر بن الخطاب كان يستخبر عن أمر القادسية كل من لقيه من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق استطلاعاً للأخبار، وبينما هو ذات يوم من الأيام، إذا هو براكب يلوح من بعيد، فاستقبله عمر فسأله عن أخبار جيش المسلمين، فقال له الرجل: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل الرجل يحدثه وهو لا يعرف عمر وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة، فعرف الرجل عمر فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتني أنك الخليفة؟ فقال لا حرج عليك يا أخي. ما ضرّ الناس أن لا يعرفوا عمر؟.

الخليفة تحت شجرة
جاء الهرمزان وزير كسرى يطلب الخليفة عمر وكان في أبهى حلل الملوك معتمراً تاجاً من ذهب وزبرجد، ومرتدياً ألبسة فاخرة من الحرير. دخل المدينة وسأل: أين قصر الخليفة؟ أجاب الناس: ليس له قصر. قال أين بيته؟ فذهبوا، فأروه بيتاً من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة، قال أين حرسه؟ قالوا ليس له حرس. طرق الهرمزان الباب، فخرج ولد الخليفة، قال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فلم يجدوه، بحثوا عنه، فوجدوه نائماً تحت شجرة، وقد وضع درّته بجانبه، وعليه ثوبه المرقع وقد توسد ذراعه، في إغفاءة هانئة. دهش الهرمزان وهو يرى الرجل الذي قهر الممالك وفتح الأمصار ينام بهذه الهيئة، تحت شجرة، وقال كلمته المشهورة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.

إمام العدل
جاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً:
يا أمير المؤمنين: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم بإبنه معه: فقدم عمر فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟

مسجد عمر بن الخطاب بدوحة الجندل
مسجد عمر بن الخطاب بدوحة الجندل

عمر وأم كلثوم في مهمة ليلية
كان عمر يخرج ليلاً يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي

استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص عجيبة وأخبار طريفة، من ذلك أنه بينما كان يتجول ليلاً بالمدينة إذا بخيمة يصدر منها أنين امرأة، فلما اقترب رأى رجلاً قاعداً فاقترب منه وسلم عليه، وسأله عن خبره، فعلم أنه جاء من البادية، وأن امرأته جاءها المخاض وليس عندها أحد، فانطلق عمر إلى بيته فقال لامرأته أم كلثوم وهي ابنة علي» هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ فقالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض وليس عندها أحد. قالت نعم إن شئت فانطلقت معه، وحملت إليها ما تحتاجه من سمن وحبوب وطعام، فدخلت على المرأة، وراح عمر يوقد النار حتى انبعث الدخان من لحيته، والرجل ينظر إليه متعجباً وهو لا يعرفه، فلما ولدت المرأة نادت أم كلثوم يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل أخذ يتراجع وقد أخذته الهيبة والدهشة، فسكن عمر من روعه وحمل الطعام إلى زوجته لتطعم امرأة الرجل، ثم قام ووضع شيئاً من الطعام بين يدي الرجل وهو يقول له: كل ويحك فإنك قد سهرت الليل.

في معركة القادسية اعتمد القائد رستم بقوة على فرق الأفيال لكن جيش المسلمين تمكن من قهرها
في معركة القادسية اعتمد القائد رستم بقوة على فرق الأفيال لكن جيش المسلمين تمكن من قهرها

تأديب النفس
يروي محمد بن عمر المخزومي عن أبيه أنه قال: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكبروا صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه (ص).
ثم قال: أيها الناس. لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر، أو الزبيب، فأظل يومي، وأي يوم؟!
ثم نزل عن المنبر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن سفّهت نفسك فقال: ويحك يا ابن عوف!! إني خلوت فحدثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها.

يؤنب نفسه سراً
وروى أنس بن مالك فقال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً، وخرجت معه، حتى دخل حائطاً، فسمعته يقول، وبيني وبينه حائط، وهو في جوف الحائط: «عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين.. بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك».

أصابت امرأة وأخطأ عمر
قال عبد الله بن مصعب خطب عمر (ر) فقال: لا تزيدوا مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي فضة، يعني يزيد بن الحصين الحارثي، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقامت امرأة من صف النساء طويلة في أنفها فطس فقالت: ما ذاك لك؟ قال: ولم؟ قالت: لأن الله يقول: }وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{ (النساء: 20)
فقال عمر « أصابت امرأة وأخطأ عمر». دالاً بذلك على مقدار تواضعه.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”من أقواله البليغة” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

قال عمر رضي الله عنه لرجل همّ بطلاق امرأته: «لِمَ تطلقها؟» قال الرجل :«لا أحبها». فقال عمر: «أو كلّ البيوت بنيت على الحب؟ فأين الرعاية والتذمّم؟» (أي حفظ الذمة).

مشهد-تصويري-لفتوحات-عمر-بن-الخطاب-كما-جاء-في-الفيلم-الذي-روى-قصته
مشهد-تصويري-لفتوحات-عمر-بن-الخطاب-كما-جاء-في-الفيلم-الذي-روى-قصته

كان عمر رضي الله عنه إذا رأى أحداً يطأطئ عنقه في الصلاة يضربه بالدرة (الدرّة عصا غليظة كان يحملها دائماً)، ويقول له «ويحك، إن الخشوع في القلب».
سئل عمر: لم لا تكسو الكعبة بالحرير؟ فرد قائلاً: بطون المسلمين أولى.
لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدّث صدق، وإذا ائتُمِن أدى، وإذا أشفى -أى هم بالمعصية- تورع.
قال عمر: كونوا دعاة لله وأنتم صامتون. قيل: وكيف ذلك؟ قال : بأخلاقكم.
الدين ليس بالطنطنة من آخر الليل ولكن الدين الورع.
اخشوشنوا، وإياكم وزي العجم: كسرى وقيصر
لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً، فإني لا أدري أيهما خير لي
إن الحكمة ليست من كبر السن، ولكنها عطاء الله يعطيه لمن يشاء
من قال أنا عالم فهو جاهل
عليك بالصدق وإن قتلك
ترك الخطيئة خير من معالجة التوبة
من كثر ضحكه قلت هيبته
لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب.
اعرف عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين.
ذكر الله عند أمره ونهيه خير من ذكر باللسان
لكل صارم نبوة، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.
أفضل الزهد إخفاء الزهد
إذا أراد الله بقوم سوءاً منحهم الجدل ومنعهم العمل
أميتوا الباطل بعدم ذكره
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

محاورات افلاطون

كريتو

سقراط يرفض عرض أصحابه تسهيل فراره ويعطي كريتو قبل ساعات من تجرِّع السمّ درساً في احتقار الموت والتزام الفضيلة

الموت أفضل من الحيــــاة من دون شرف
والمهم نوعية الحياة وليس عدد سنواتها

كريتو: لم يعـــد لدي شــــيء أقولــــــــــــه!
سقراط: إذاً دعني اتبع ما يوحي إليَّ بأنه
أمر الله

أهمية محاورة كريتو
على خلاف محاورات أفلاطون تقوم محاورة كريتو على نقاش مركّز بين شخصين فقط هما الحكيم سقراط وكريتو أحد مريديه، وهي من الأعمال المبكرة لأفلاطون والتي تضم دفاع سقراط ، لكنها رغم إيجازها تعتبر من الأعمال المهمة لأنها تتضمن درساً أخلاقياً وروحياً مهماً في أهمية احترام القانون والدولة وعدم بذل أي مجهود لإجتناب الموت كما لو كان مصيبة. بين سطورها تظهر بوضوح شخصية سقراط العظيمة وثباته وثقته بإيمانه الذي بقي محتواه سراً في داخله بسبب خشيته من التدخل في عقيدة أهل أثينا الوثنية أو إنكارها أو التشكيك بها.
تبدأ محاورة كريتو بمشهد فريد يلخّص بدوره جوهر شخصية سقراط. فكريتو الذي يتسلل لمقابلة سقراط وصل الزنزانة مع ساعات الفجر وهو يتحرق شوقاً لأن يعرض على المعلم خطة لإنقاذه من السجن ومن تنفيذ حكم الموت دبرها مريدوه وأمنوا لها المال والنفوذ.
كريتو يفاجأ بسقراط يغطّ في نوم عميق ويتحرج من إيقاظه، لكنه يتعجب كيف يمكن لرجل ينتظر تنفيذ حكم بالإعدام به بعد ساعات أن يكون في هذه الحالة من السكينة وعدم الإكتراث، فالراهن حسب معرفته بالنفس البشرية أن انتظار الموت أمر رهيب، وهو كان يتوقع ربما أن يرى سقراط مكتئباً أو هلعاً، وعلى الأقل لم يكن ليدور في فكره أبداً أن يجد الحكيم مستسلماً إلى لذة النوم العميق غير عابئ بمصيره الذي اقترب!!
من شدّة دهشته وشعور الرهبة أمام مشهد الحكيم النائم يمتنع كريتو أولاً عن إيقاظ سقراط معتقداً أنه بذلك يتركه في حال لا يشعر فيها بما سيصيبه بعد ساعات عندما يأتي الجلاد لتنفيذ حكم الموت. لكن سقراط يستيقظ ليجد كريتو جالساً قبالته ويبدأ بذلك هذا الحوار المثير بأبعاده الأخلاقية والروحية: كريتو يعرض على سقراط فكرة الهرب من السجن وحكم الإعدام، وسقراط يشرح له بأسلوبه الجدلي المتدرج لماذا لا يمكن لهذا السلوك أن ينسجم مع مبادئ الأخلاق والفضيلة أو مع قناعاته الشخصية.

كريتو: لم أشأ أن أوقظك، وقد كنت أسأل نفسي عن هذا النوم الهانئ الذي كنت تغطّ فيه، لأنني أردت أن تكون في تلك اللحظات بعيداً عن الألم، لقد عرفتك في الماضي دوماً على هذه الحال من السعادة والهدوء، لكنني لم أر في حياتي رجلاً يواجه مصيبة الموت ويقابلها بهذا القدر من البشاشة والسهولة.
سقراط: لم لا يا كريتو، إذ عندما يبلغ رجل سن الكهولة فإن عليه أن لا يكون خائفاً من احتمال مواجهة الموت.
أما لماذا جاء كريتو في ساعات الفجر الأولى لزيارة سقراط فلأنه كان يحمل ما اعتبره خبراً حزيناً هو أن الباخرة ستصل إلى ميناء ديلوس في ذاك اليوم والذي سيكون لذلك آخر أيام سقراط لأن المحكمة قررت تنفيذ حكم الإعدام عند وصول تلك الباخرة إلى الميناء المذكور.
هنا يعرض سقراط لما يبدو كأنه معرفته بغيب الأمور وما سيجري في المستقبل، إذ صحح الحكيم لكريتو معلوماته قائلاً له إن الباخرة لن تصل اليوم ولن يكون اليوم بالتالي موعد تنفيذ حكم الإعدام، لكن الباخرة ستصل بعد يومين. كيف عرف سقراط ذلك يسأل كريتو. يجيب الحكيم بأنه نتيجة لرؤية صادقة حصلت له قبل أن يوقظه كريتو من نومه.
وبالنظر إلى أن كريتو وبقية أصدقاء سقراط بدأوا يشعرون بقرب حلول المصيبة بفقد معلمهم فقد كان لزيارة كريتو السرية غرض آخر هو الإلحاح مجدداً على سقراط بقبول فكرة الفرار من السجن، وقد قدم كريتو مرافعة طويلة توسّل فيها لسقراط أن يقبل الفكرة لأن «من واجبه أن يحمي حياته» لأنها «ليست ملكه ولكنها ملك لأفراد أسرته وأصدقائه ومريديه» فلا يجب بالتالي أن يتساهل في تقديمها لجلاديه، أضف إلى ذلك أن موت سقراط لن يفهمه الناس باعتباره قبولاً من الحكيم بمصيره ورضا به بل سيعتبرون موته نتيجة لتخلي أصدقاء سقراط عنه وتخاذلاً منهم في نجدته في محنته.
يقف سقراط فوراً عند النقطة الأخيرة ليعطي كريتو درساً كما كانت عادته مع مريديه.
سقراط: لكن لِمَ ينبغي علينا يا عزيزي كريتو أن نبالي برأي الكثرة من الناس؟ إذ إن الناس الأخيار- وهم الوحيدون الذين ينبغي أن يلقى إليهم بال- سيحكمون على ذلك الأمر كما هو في حقيقته.

يردّ كريتو بالتحذير من أن الكثرة من الناس يمكنهم أن يتسببوا بالأذى الكثير كما أثبتت محاكمة سقراط عندما انساقت هيئة المحكمة المؤلفة من نحو 500 شخص وراء الحجج الباطلة للإدعاء.
يردّ سقراط على ذلك بالتأكيد على أن الأمر ليس أكثرية أو أقلية. يقول:
سقراط: حبذا لو أن رأي الأكثرية يمكنه أن يقدم خدمة للبشر لكن في حقيقة الأمر أن الكثرة من البشر لا يمكنها أن تضر أو أن تنفع ، لا يمكنها أن تجعل من إنسان حكيماً أو أن تجعل منه أحمق، وأي شيء يفعلونه فإنما هو نتيجة عوامل مقدرة لا سلطة لهم عليها.
يتجه ظن كريتو هنا، وهو العارف بشخصية ومناقب سقراط، إلى أن الحكيم ربما يرفض الفرار من السجن لأنه لو فعل ذلك سيسبب مشكلة كبيرة لمريديه وأصدقائه الذين سيتبين أنهم ساعدوه في ذلك وقد تُصادر أملاكهم أو يُزج بهم في السجون، أي إن نبل سقراط هو المانع الأهم لرفضه الإنصياع لخطة الهرب، لذلك يحاول كريتو شدّ عزيمة الحكيم بالتأكيد على أن هناك كثيرين مستعدون لبذل كل شيء من أجل تغطية مسألة خروجه، بما في ذلك تقديم الهدايا أو المال مما قد لا يرتّب بالتالي آثاراً سلبية.
يقرّ سقراط لكريتو بأنه حقاً يعتريه قلق لجهة ما قد ينجم لرفاقه نتيجة عملية الفرار لكن هذا الخوف ليس العامل الوحيد وراء رفضه الفرار.
سقراط: ياعزيزي كريتو إن حماسك لإنقاذي أمر يستحق التقدير لو كان في المحل الصحيح، لكن إن كان النوع الخاطئ من الحماس فالأمر مختلف، إذ في حال الحماس لأمر باطل فإنه كلما زاد الحماس كلما زاد حجم الشر الناجم عن العمل، ولهذا، فإن علينا أولاً أن ننظر إذا كان العمل جائزاً ويجب القيام به أم لا. إنني كما تعلم من أولئك الناس الذين يصرون على الإهتداء بالعقل، وبغض النظر عن الأسباب فإنني سأتبع دوماً ما يبدو لي عند التمحيص الموقف الأفضل. وإذا كان هذا القدر قد وقع عليّ فإنه لا يمكنني أن أضع جانباً بسبب ذلك سواء الأسباب التي عرضتها قبل قليل أم المبادئ التي التزمتها حتى الآن وما زلت، لذلك إن لم نجد معاً مبادئ أو مبررات أفضل من التي عرضتها فإنا متأكد أنني لن أوافق على ما تعرضه عليّ، لا بل إنني لن أقبل به حتى لو كان علي أن أتحمل أكثر من سجن أو مصادرة أو موت وأكثر من عقاب من النوع الذي قد يخيفونني به كما يخوفون الأطفال بالغول الأسطوري.
هذا موقف حازم جازم من الحكيم أراد به أن يقدّم لتلميذه كريتو درساً في الفضيلة وهو لا يبدو عابئاً بالموت الذي ينتظره بقدر اهتمامه أن لا يرتكب إثماً بفعل هوى النفس أو الخوف، بل إن سقراط يتصرف مع كريتو بصورة طبيعية تماماً مثل عادته في محاورة تلامذته وأصدقائه وكل من أراد التعلّم منه ما يعتقد أنه الحق.
سيتابع سقراط حواره مع كريتو بأسلوبه اللطيف والمحب لكنه سيبدّل اتجاه الحوار ليتناول الموضوع من زاوية جديدة.
سقراط: ما هو الطريق الأقرب إلى الحق في النظر إلى المسألة (أي اقتراح كريتو على سقراط أن يقبل بالفرار من السجن). هل أعود إلى حجتك السابقة حول أهمية رأي الناس، ومنهم من يجب أن يؤخذ برأيه ومنهم من يجب إهمال ما يقوله؟ والسؤال هل كان موقفي هذا صائباً قبل أن يحكم عليّ؟ وهل الحجة التي كانت صائبة قبل الآن أصبحت الآن كلاماً لمجرد الكلام، أو ربما للتسلية فقط؟ هذا ما أريد الآن التباحث معك فيه، وما أريدك الآن أن تساعدني في حلّه.
سقراط: أخبرني يا كريتو إذا ما كنت أنا على حق في القول من أن آراء بعض الناس يمكن أخذها في الاعتبار بينما البعض الآخر لا ينبغي لآرائهم أن تؤخذ في الاعتبار .
كريتو: هذا مؤكد
سقراط: أي إن الآراء الصالحة يجب أخذها في الاعتبار وليس الآراء الباطلة؟
كريتو: صحيح
سقراط: وأن آراء حكماء الناس صالحة وآراء الحمقى منهم تجلب الشرور.
كريتو: بالتأكيد
سقراط: … هل ينبغي على التلميذ في معهد الرياضة واللياقة الجسدية أن يستمع في تدريبه لآراء الناس الآخرين أو أنه يسمع من شخص واحد فقط هو مدربه أو معلمه بغض النظر عمن يكون هذا المدرب؟
كريتو: يجب عليه الإستماع إلى مدربه فقط
سقراط: أي إنه يجب أن يخاف فقط من عقاب ذلك الأستاذ وأن يتطلع للحصول على إعجابه هو وليس إعجاب الناس؟؟
كريتو: هذا واضح
ينتقل الحكيم الآن إلى عرض مسألة مكملة وهو يمهد للدخول في صلب الموضوع وتقديم إجابات واضحة على مشروع تهريبه من السجن.
وهو يبدأ بطرح السؤال حول عاقبة عدم إطاعة المعلم الذي يعرف واتباع عامة الناس ممن لا يمتلكون معرفة أو فهماً للأمور، وبالطبع فإن واجب التلميذ هو اتباع المعلم الذي يمتلك الحكمة، فإن قرر بدلاً من ذلك اتباع رأي الأكثرية من الناس الذين لا يمتلكون الحكمة، ألن يصيبه من جراء ذلك بلاء كبير؟
يوافق كريتو على ذلك، لكن المعلم يكمل عرض حجته بالتركيز على أن البلاء الذي يصيب العاصي إنما يصيبه في حياته وربما في بدنه وأن الموت أفضل من الحياة من دون شرف لأن المهم هو نوعية الحياة وليس الحياة نفسها أي عدد السنين التي نعيشها. ويشرح المعلم هذه النقطة عبر استكمال الحوار مع كريتو على النحو التالي:
سقراط: هل يمكننا العيش مع ذات شريرة فاسدة؟

الحكيم-سقراط
الحكيم-سقراط

“علينا أن لا نبالي بما تقوله الكثرة من الناس بل ما يقوله لنا من يمتلك معرفة الحق والباطل”

كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: وهل تكون الحياة جديرة بأن نعيشها لو أن هذا الجزء الأسمى من الإنسان إضمحل وفسد؟ هذا الجزء الذي يتقدم ويتطور باتباع العدل ويتردى بالظلم وترك الحق؟
كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: إذاً يا صديقي فإن علينا أن لا نبالي بما تقوله الكثرة من الناس لنا بل أن نتبع فقط ما يقوله لنا الرجل الذي يملك معرفة ما هو عدل وما هو باطل وما تقوله الحقيقة، لذلك فإنك بدأت حجتك بخطأ جوهري عندما قلت إن علينا إنه تتبع أكثرية الناس في تحديد ما هو حق وما هو باطل ما هو خير وما هو شر وما هو شرف للإنسان وما هو عار عليه.
يستدرك سقراط المطّلع على فكر كريتو بالقول: بالطبع هناك من قد يردّ بالقول: لكن الأكثرية قد تتسبب بالقتل (ملمحاً إلى محاكمة سقراط وما أدت إليه من حكم جائر عليه بالموت).
كريتو: حقاً يا سقراط ، هذا ما سيكون جوابي
سقراط: هذا صحيح، لكنني أجد لدهشتي أن حجتي السابقة ما زالت في مكانها بل هي أقوى من أي وقت، وأودّ أن أعلم هنا منك إن كانت تلك الحجة تنطبق أيضاً على فرضية أخرى وهي: أنه ليست الحياة في ذاتها ما يجب طلبه بل الحياة الطيبة.
كريتو: صحيح؟ يبدو لي أن ذلك هو الصواب.
سقراط: والحياة الطيبة هي حياة عدل وشرف، أليس كذلك؟
كريتو: حقاً
سقراط: بناءً على كل ما سبق سآتي الآن إلى مسألة ما إذا كان ينبغي لي أم لا، أن أحاول النجاة بنفسي من دون رضا أهل أثينا، وإذا ما كنت محقاً فعلاً لو أنني قمت بذلك فإن تبيّن لي أن ذلك حق فإنني سأعمل للنجاة بنفسي، وإن تبيّن أنه عمل غير محق فإنني سأمتنع عن ذلك، أما عن الاعتبارات الأخرى التي ذكرتها مثل المال (الذي عرض أصدقاء سقراط توفيره بهدف إنقاذه) وخسارة السمعة (أي اتهام الناس لهم بالتخلي عن معلمهم) وواجب تعليم أطفالنا فكلها حسب نظري تدخل في اهتمامات عامة الناس (ولا علاقة لها بالمسألة الأخلاقية في موضوع محاولة الفرار من السجن). والعامة كما تعرف مستعدون دوماً لأن يدعوا الناس للحياة، إن كان ذلك في مقدورهم، أو أن يدفعوا بهم إلى الموت ومن دون حاجة لسبب وجيه. لذلك، فإن المسألة الأهم التي يجب النظر فيها هي هل يجوز لنا أن نفرّ من السجن أو أن نحمّل الآخرين عبء مساعدتنا في ذلك عبر توفير الأموال أو تقديم الشكر للمعنيين أم أن ذلك يعتبر عملاً خاطئاً وآثماً؟ وفي حال كان ذلك العمل خاطئاً فإن ما يمكن أن ينجم عن بقائي هنا من مصيبة أو موت لا ينبغي أن يدخل في الاعتبار أو يؤثر على صحة حكمنا على الأمور.
يضطر كريتو هنا للموافقة على الفرضيات التي وضعها سقراط، لكنه ما زال يحمل الأمل -وإن كان أمله يتضاءل مع تطور المحاورة- بإمكان إقناع الحكيم بالقبول بخطة تهريبه من السجن.
يسأل كريتو: أعتقد أنك على حق لكن ما العمل في هذه الحال؟
سقراط: لنتابع تقييم المسألة معاً، فإما أن تُظهر خطأ موقفي إن استطعت، وعندها فإنني سأقتنع بدعوتك لي أن أفرّ من السجن رغم إرادة الأثينيين. والحقيقة هي أنني راغب وبإخلاص في أن تنجح في إقناعي، لكن على أن لا يتعارض موقفك وحجتك مع ما أعتقد أنه الموقف الصواب.
هنا يطلب سقراط من كريتو أن يجيب على بعض الأسئلة التي سيطرحها عليه، وسنرى أن الحكيم يدخل هنا إلى صعيد جديد يتعلق بالفضيلة وبواجب الفرد في أن لا يتصرف خطأ أو أن يؤذي أحداً.
سقراط: يمكننا القول بأنه علينا أن لا نقوم مطلقاً بارتكاب عمل خاطئ وأن السيئات دوماً تجلب الشرّ والعار لفاعلها؟ هذه المبادئ التي اتفقنا عليها من قبل هل علينا أن نلقي بها جانباً الآن؟ وهل أجرينا كل تلك الحوارات عبر سنوات حياتنا بجدية تامة لنكتشف ونحن في هذا العمر أننا لم نكن في حقيقة الأمر أفضل من أطفال يلهون أم نبقى على قناعتنا الثابتة، وعلى الرغم من النتائج التي قد نتعرض لها، بصحة كل ما كنا نقوله وبأن الظلم دائماً ما يجلب الشرور والعار لكل من يرتكبه. هل نتفق على ذلك؟
كريتو: نعم بالتأكيد
سقراط: إذن يتحتم علينا أن لا نرتكب الخطأ
كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: ويجب علينا أن أوذينا أن لا نسبب الأذى في المقابل كما يعتقد الكثيرون، لأن الواجب أن لا نؤذي أحداً على الإطلاق.
كريتو: بالتأكيد
سقراط: وماذا عن الردّ على الشرّ بالشرّ كما هو اعتقاد أكثرية الناس ، هل هذا حق ؟
كريتو: كلا
عند هذه النقطة يسعى سقراط لامتحان صدق كريتو في إجاباته لأنه سيواجهه بعد قليل بنتيجة موافقاته للحكيم. سأله ما إذا كان على ثقة بأنه موافق على أنه لا يمكن الردّ على الشرّ بالشرّ مهما كان حجم الأذى الذي نتعرض له وينبهه إلى أن هذا الرأي لا يشاركه فيه إلا قليلون بينما الأكثرية هم مع فكرة الردّ على الأذى بالأذى. لهذا يسأل سقراط كريتو سؤالاً محدداً:

”  هل من الممكن لدولة أن تقوم إذا كانت قوانينها لا تتمتع بأي قوة تنفيذ ويمكن لأي فرد أن يعطل تنفيذها؟ “

سقراط: هل أنت موافق فعلاً على المبدأ الذي عرضته لك وهل أنت مستعد لأن تعتبره العامل الفصل في مناقشتنا أم أنك ستختلف معي بشأنه؟ فإن كنت مع الرأي الآخر دعني استمع إلى ما ستقوله وإن كنت ستبقى على موافقتك لي فإنني سأتابع عرض حجتي.
وإذ يؤكد كريتو أنه لم يبدّل رأيه ينتقل سقراط إلى سؤال آخر هو: هل ينبغي للمرء أن يتمسك بما يعتقد أنه الحق أم يمكنه أن يتنصل منه ويخون مبدأه؟ يجيب كريتو بأن الصحيح هو العمل بما يعتقد المرء أنه الحق.
هنا يأتي سقراط إلى بيت القصيد مخاطباً كريتو:
سقراط: لكن إذا كان ذلك المبدأ صحيحاً، كيف نطبقه؟ إذا غادرت السجن رغم إرادة أهل أثينا هل أكون على حق أم على باطل؟ أو هل أكون بذلك قد سببت الأذى إلى أولئك الذين يجب أن يكونوا آخر من أفكر بإيقاع الأذى بهم؟ الا أكون بذلك قد خنت المبادئ التي توافقنا معاً على أنها يجب أن تتبع؟ ماذا تقول؟
يتفاجأ كريتو بهذا الانعطاف في حديث الحكيم ولا يقوى رغم ما قاله من موافقته لسقراط أن يجيب بالإيجاب على سؤاله وهو يختار بدلاً من ذلك موقفاً متردداً فيجيب: لا يمكنني الإجابة على ما تقول لأنني لا أعلم .
هنا ينتقل سقراط إلى أسلوب قوي في مواجهة كريتو بالحقائق وخطاب الضمير.
سقراط: لنفترض إذاً يا كريتو أنني قررت الهرب من السجن وقبل أن يحصل ذلك جاءتني قوانين أثينا وحكومتها للتحقيق معي في الأمر وهم سيبدأون حديثهم معي على هذا النحو: قل لنا يا سقراط – سيقولون- ما الذي أنت في صدده؟ هل حقاً عزمت على أن تعطل بقرار فردي منك قوانين البلاد ؟ هل تعتقد حقاً أنه من الممكن لدولة أن تقوم إذا كانت قوانينها لا تتمتع بأي قوة تنفيذ ويمكن لأي فرد أن يعطل تنفيذها؟
هنا يوجه سقراط كلامه إلى كريتو ويسأله: ألا تعتقد أن اي خطيب مفوّه يمكنه أن يقدم مطالعة طويلة حول الشر الذي ينجم للدولة عن تجاهل قوانينها والتي تتطلب أن أي حكم تصدره يجب أن يتبعه التنفيذ؟ ربما وددت لو أنني أردّ على ذلك الاتهام بالقول: لكن الدولة هي التي سببت لنا الأذى بإصدارها لحكم ظالم!
كريتو: أحسنت يا سقراط!
سقراط: لكن القانون سيجيبني: هل هذا هو ما اتفقنا عليه؟ أم أن عليك أن تقبل بتنفيذ حكم الدولة ضدك؟ سيتابع القانون القول: قل لنا يا سقراط أي جرم ارتكبناه ضدك يبرر لك أن تقوم بتدميرنا وتدمير الدولة؟ بادئ الأمر لسنا نحن الذين سهلنا لك فرصة وجودك ؟ لقد تزوج والدك والدتك بمساعدتنا، وبما أنك اتيت إلى الحياة بمساعدتنا ونحن الذين اهتممنا بمعيشتك وبتعليمك، أليست قوانين الدولة التي جعلت من واجب والدك أن يقدم لك أفضل تعليم وأن يعلمك الرياضة والموسيقى؟ سأجيبهم: نعم . وعندها سيتابعون الحديث بما أننا وفّرنا لك الوجود والتربية وكل شيء هل يمكنك أن تنكر أنك لهذه الناحية ابننا وعبدنا كما كان أبوك وأجدادك من قبلك؟ وإذا كان صحيحاً أنك تتمتع بحقوق تزيد على ما نتمتع به أو أن من حقك أن ترد على الأذى الذي أوقعناه بك بأذى أكبر هل يمكنك أن تطبق ذلك المبدأ على والدك أو سيدك (لو كان لك سيد)، وإذا كنا نعتقد أنه من حقنا أن نميتك هل تعتقد أن لك الحق أن تدمرنا في المقابل؟ هل يغيب عن فيلسوف كبير مثلك أن للوطن قيمة أكبر وأقدس وأعلى من أي والد أو والدة أو أسلاف، وأن على المواطن حتى وإن لم يكن مقتنعاً بعمل الدولة أن يظهر الطاعة لها؟ وعندما توقع الدولة بك قصاصاً فإن عليك أن تتحمله بصمت، كذلك في المعركة، فإنه من العار على أي جندي أن يتمرد وأن يترك مكانه في القتال رغم ما قد يواجهه من خطر الجراح أو الموت. إن عليه أن يعمل ما يأمره به وطنه وكما إنه من غير المقبول أن يعتدي المرء على والده فإنه من غيرالمقبول أن يعتدي على بلده.
قدّم سقراط هنا مطالعة بليغة وموجزة في احترام الدولة والقانون وفي أسبقية الوطن على الفرد وأسبقية قوانين الدولة على مصلحة أو رغبات الأفراد، ومما لا شك فيه أنه في هذه الأفكار تطورت فكرة الديمقراطية الأثينية إلى درجة لا تقل نضجاً وتطوراً عن مفهوم الدولة في عصرنا الحاضر.

منطقة أغورا الشهيرة في أثينا حيث جرت محاكمة سقراط كما تبدو اليوم
منطقة أغورا الشهيرة في أثينا حيث جرت محاكمة سقراط كما تبدو اليوم

وجد كريتو نفسه هنا في موقف صعب للغاية، لقد استدرجه سقراط أولاً للتوافق معه على جملة من المبادئ التي وجدها منطقية مثل عدم الرد على الشر بالشر والتزام ما يعتقد الإنسان أنه الحق، لكنه يجد نفسه وقد باغته سقراط بالإنتقال إلى أهمية تطبيق تلك المبادئ بغض النظر عن النتائج التي قد تصيبنا من جراء ذلك. وها هو كريتو يجد نفسه أمام نتائج لتلك المبادئ لم يكن يتوقعها! بل إن سقراط بدا في مطالعته وكأنه يدافع فعلاً عن الدولة التي أذته وحكمت عليه بالموت، مقدماً بنفسه المثال على أن الموقف من الدولة والقوانين (وأي من شؤون الحياة) لا يمكن أن يكون استنسابياً ومرتبطاً بمصلحة أو تقدير الفرد. وبالطبع يرتقي سقراط في هذه المطالعة إلى ذروة التجرد إذ يرفض بصورة قاطعة عرض كريتو وبقية أصدقاء سقراط له مساعدته على الهرب من السجن، وهو لا يبدو مبالياً بالمرة بمصيره الشخصي وبحقيقة أن مؤدى ما يقوله يعني أنه يؤيد بنفسه تنفيذ حكم الإعدام الجائر. أليس هو من قال أمام المحكمة أن على المرء أن يلتزم الصدق والحق حتى ولو ترتب على ذلك أن يدفع حياته ثمناً لذلك؟ ثم ينتقل سقراط الآن إلى حسم الموضوع فيسأل كريتو: هل ما تقوله القوانين صحيح أم لا؟
كريتو: أعتقد أن ما تقوله صحيح
يردّ سقراط بتقديم المزيد من الشرح لنظريته في احترام الدولة – ومن زاويته هو عدم التمسك بالحياة لأي سبب كان- وهو يعطي لكلامه قوة خاصة بدعوة كريتو لتخيل ما سيقوله القانون في الامر مشروع تهريبه من السجن قبل يوم من تنفيذ حكم الإعدام.

تمثال لسقراط في إحدى الحدائق العامة في أثينا
تمثال لسقراط في إحدى الحدائق العامة في أثينا

سقراط: سيقول القانون بعد ذلك: فكر يا سقراط معنا بأن محاولتك الهرب من تنفيذ القانون تسبب لنا أشدّ الضرر، لأنه وبعد أن سببنا قدومك إلى هذه الدنيا ورعينا طفولتك ووفرنا لك التربية والتعليم وأعطيناك مثل أي مواطن حصة من خيرات البلد ، فإننا كنا نعلن دوماً بأن أي مواطن أثيني يبلغ الرشد ويكون قد تعرف على طريقة حياة المدينة ونظمها ومع ذلك لا يجد نفسه موافقاً على كل ذلك يمكنه السفر إلى أي مستعمرة أو مدينة أخرى يفضلها وأن يأخذ معه متاعه ولن يمنعه من ذلك أحد. لكن عندما يتعرف الرجل على المدينة ونظمها وقيمها ومع ذلك يختار أن يبقى فيها فإنه يكون قد دخل ضمناً في عقد يلتزم بموجبه تنفيذ كل ما تأمره به الدولة، ومن يتمرد على هذا الالتزام فإنه سيكون آثماً من ثلاثة وجوه. أولها أنه بتمرده علينا يكون كمن تمرد على والديه وثانيها لأننا نحن من وفّرنا له التعليم وثالثها لأنه دخل في تعاقد معنا يلتزم بموجبه تنفيذ ما يطلب منه لكنه لم يفعل.
يأتي سقراط إلى وجه آخر من الحجة عندما يجعل القانون يتابع حديثه الإفتراضي له فيقول: هناك أكثر من شاهد ودليل يا سقراط على أن القوانين والمدينة لم تكن تضايقك بأي حال، فأنت من بين الأثينيين جميعاً كنت أكثر من يقيم في المدينة بصورة دائمة، وأي مكان تمكث فيه فلا بدّ أنك تحبه ، وأنت لم تغادر أبداً المدينة سواء لمشاهدة الألعاب أو لأي سبب باستثناء مغادرتك المدينة لتأدية الخدمة العسكرية على الجبهات. أضف إلى ذلك، أنه كانت لديك الفرصة لاختيار عقوبة النفي بدل الإعدام لكنك أعلنت أنك تفضل الموت على النفي وانك لست قلقاً إزاء احتمال الموت لكنك تبدو وقد نسيت الآن تلك المشاعر البليغة وقررت ان تظهر الإحتقار لنا (الدولة) او لقوانيننا والتي تريد تدميرها. وها أنت تقوم بما يمكن فقط لعبد بائس أن يقوم به وهو الفرار والتمرد على الإتفاقات والعهود التي التزمت بها.
هنا يعود سقراط ليضع كريتو أمام الحقيقة متوقعاً منه أن لا يستمر في حالة الخوق والشعور بالخسارة الذي يعتريه مع بقية أصدفاء سقراط إزاء التنفيذ الوشيك لحكم الإعدام. ومن أجل شرح موقفه الرافض بصورة أقوى ينتقل سقراط إلى أسلوب جديد أكثر وضوحاً في عرض حجته .
سقراط: سيقول قانون أثينا : لتفكر جيداً يا سقراط، لو قررت أن تخرق القانون وتهرب بهذه الطريقة فأي منفعة ستأتيك أو ستأتي أصدقاءك من جراء ذلك. إن أصدقاءك سيحكم عليهم بالنفي وسيحرمون من المواطنية الأثينية، أو ستنزع ملكياتهم، هذا مؤكد تقريباً، أما أنت فإنك إن هربت إلى مدينة يونانية ثانية مثل طيبة أو ميغارا وكلاهما يطبقان أنظمة حكم جيدة فإنك ستأتي إليهم كعدوّ لأنهم سينظرون إليك كشخص مخرب للقوانين وستثبت للقضاة الذين حكموا عليك أن حكمهم كان صائباً، لأن من يفسد القوانين يمكن بسهولة أن يكون مفسداً للشبيبة وعقولهم. وفي نهاية المطاف هل نيل بضع سنوات من العمر يستحق كل هذا العناء؟ ثم لو فكرت من دون خجل بالهرب إلى مدينة أخرى أقل نظاماً مثل ثيسالي حيث توجد درجة كبيرة من الفوضى فإنهم سينظرون بعين الإعجاب إلى قصة هروبك من السجن مرفقة طبعاً بتفاصيل مضحكة مثل كيف تمّ تهريبك ملفوفاً بجلد ماعز أو غيره من سبل التخفي. وقد لا يكون هناك من سيذكرك بأنك وأنت في سن الشيخوخة هذه فعلت ما فعلت من أجل بضع سنوات من العمر، وقد يأتي بعض الرجال الغلاظ ليقولوا لك أشياء كثيرة مهينة. صحيح أنك ستعيش لكن كيف؟ ستعيش كمتزلف لجميع الناس وكخادم لهم، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن تأكل وتشرب في ثيسالي!وهل قطعت كل تلك المسافات من أجل وجبة عشاء؟ وأين ستكون مشاعرك النبيلة حول العدالة والفضيلة آنذاك؟
يختم سقراط مرافعته بإسم قانون أثينا ودولتها فيتابع بالقول على لسان القانون: إسمع يا سقراط.لا تفكر بالحياة أو بالأسرة أولاً بل فكر بالعدل أولاً إن لم تفعل ما يطلبه منك كريتو (أي الهرب من السجن) فإنك بقبولك الحكم تغادر هذه الحياة بكل براءة، كشخص مظلوم وليس كمرتكب للشرور، ليس كضحية للقانون بل كضحية للناس، لكن إن قررت أن تبادل الشر بالشر والاذى بالأذى مخالفاً كل العهود والعقود التي عقدتها معنا فإننا سنكون على عداء معك ما دمت حياً، كذلك، فإن أشقاءنا وهم قوانين العالم الآخر سيستقبلونك (عند موتك) كعدو لأنهم سيعلمون أنك فعلت كل ما في وسعك لتدميرنا، لذلك نقول لك استمع إلى ما نقوله ولا تستمع إلى كريتو.

من آثار أثينا القديمة
من آثار أثينا القديمة

رفضه الهرب من السجن وهي مطالعة بارعة لأن سقراط لم يعرض الحجج على لسانه بل جعل القانون نفسه يتكلم ليعطي للحجة قوة أكبر وليضع كريتو في موقف يفقد فيه الأمل بإمكان تحقيق مشروعه. حقيقة الأمر أن سقراط لم يكن مقتنعاً من البدء لكن الحكيم يمتلك من الصبر ومن أسلوب الحوار المتدرج الذي اشتهر به بحيث يجعل محاوره يصل إلى النتيجة التي يكون هو على قناعة تامة بها.
لذلك تنتهي محاورة كريتو بكلام صريح من سقراط لمريده:
سقراط: هذا الصوت (أي الحجة التي ساقها ضد فكرة الهرب) هو الذي يطن في أذني وهو يمنعني من سماع أي صوت آخر وأنا على يقين بأن أي شيء إضافي قد تدلي به سيكون مما لا طائل تحته، لكن تكلم إن شئت إن كان بقي لديك أي شيء تقوله.
كريتو: لم يعد لدي شيء أقوله.
سقراط: إذاً دعني اتبع ما يوحي إليَّ بأنه أمر الله.

صورة من التراث

صورة من التراث

صورة من التراث
صورة من التراث

الامير فخر الدين

“عرض دوق نابولي على فخر الدين حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين العرض،”

“السلطان العثماني مراد خان الرابع استعاد للدولة قوتها وجعل أول أهدافه إنهاء نفوذ فخر الدين الذي طال أمده وتحجيم الولاة وتقصير ولاياتهم”

فخر الدين الثاني
الطموح المظلوم

المعنيون مسلمون على مذهب التوحيد قبل مجيئهم لبنان
لكنهم تبنوا موقفاً متسامحاً تجاه كافة الطوائف الأخرى

عوامل القوة التي ساعدت على اتساع ملك فخر الدين

توحيد السكان وبناء جيش ضخم وتنمية الاقتصاد
وتقوية التحالفات وحسن الإدارة ومداراة العثمانيين

انتصار فخر الدين على والي دمشق في معركة عنجر
كان أهم موقعة خاضها أمير من لبنان في تاريخه الطويل

من أمير لمقاطعة الشوف إلى حاكم لكل لبنان
ولمناطق جغرافية واسعة من سوريا وفلسطين

في أول مساهمة مفصّلة من نوعها يتولى المؤرخ المدقق الدكتور حسن أمين البعيني تصحيح التأريخ الملفّق والملتبس للأمير فخر الدين الثاني المعني الكبير وهو يعرض في هذا المقال، وفي ضوء البحث التاريخي العلمي، لحقيقة الأمير كقائد فذ وكمؤسس لأول كيان لبناني متكامل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في ظل السلطنة العثمانية مؤكداً هويّة الأمير الإسلامية الدرزية وبراءته من أي شبهات تعامل مع الإمارات الأوروبية، وشارحا في الوقت نفسه العوامل التي أدت إلى نكبة الأمير والأسرة المعنية على يد السلطان مراد خان العثماني.

لا تكفي للإحاطة بجميع جوانب حياته وتاريخه الحافل بالأحداث والإنتصارات والإنجازات على مدى 43 سنة من تسلّمه الإمارة المعنية، كما إن الحديث عن جانب معيّن من شخصيته وتاريخه يكون محدوداً جدّاً. وبناءً على ذلك سيقتصر الحديث فقط على نقاط محدّدة، هي أبرز المحطات التاريخية، وتوضيح الإشكاليات، وتصويب الأخطاء، وجلاء الغوامض، والقضايا الخلافية حول فخر الدين ورمزيته.

الأصل والنسب
إعتماداً على أسماء الأمراء المعنيين وتسلسلهم، هناك ثلاثة أمراء يحملون الإسم “فخر الدين”، أو الصفة أو الكنية “فخر الدين”. أولهم فخر الدين عثمان المتوفّى سنة 1506م، الذي أخطأ من جعلوه فخر الدين بن عثمان، وهو باني جامع دير القمر سنة 1493 حسبما هو منقوش على بلاطة في مئذنة الجامع، وكنيته أو صفته “فخر الدين” هي مضافة إلى إسمه “عثمان” كالكثيرين من الرجال سابقاً، ولا سيما الأعيان، إذ كان يُعطى لأحدهم صفة أو كنية من لفظتين، ثانيّتهما هي، على العموم، “الدين” أو “الدولة”، مثل ركن الدين بيبرس، وجمال الدين حجى، وجمال الدين محمد، وشرف الدولة علي. وثاني الأمراء المعنيين هو فخر الدين المتوفّى سنة 1544، وهو والد قرقماس. وقد يكون إسم فخر الدين هذا هو الإسم كاملاً، أو كنية تسبق إسماً لا نعرفه. وثالثهم فخر الدين بن قرقماس. وبناءً على ذلك يكون فخر الدين بن قرقماس بن فخر الدين، الذي نتكلم عنه، هو الثاني بالنسبة إلى جده فخر الدين، والثالث بالنسبة إلى جده وإلى فخر الدين عثمان، لكنه مشهور بفخر الدين الثاني نسبة إلى جده، مع العلم أن الإسم “فخر الدين” حين يُكتب أو يُلفظ يتجه دائماً إليه دون غيره، نظراً لشهرته وأهميته.
الأمير فخر الدين من عشيرة عربية عدنانية، أي من القبائل القيسية، ومن العرب المستعربة. إنه ينتسب إلى الأمير معن بن ربيعة، المتسلسل من العرب الأيوبيين المتسلسلين من ربيعة الفَرَس بن نزار بن معد بن عدنان المتحدّر من نسل إبراهيم الخليل. وقد نزح أجداد المعنيين من جهات نجد، في الجزيرة العربية، إلى الجزيرة الفراتية، ومنها إلى جهات حلب حيث قطنوا في الجبل الأعلى (جبل السمّاق) ومنه انتقلوا إلى جبل لبنان. أما سبب تسميتهم بالأيوبيين، فهي لا تمت بصلة إلى الأيوبيين الأكراد، وإنما هي نسبة إلى أحد أمرائهم: أيوب. سلسل المؤرّخ طنّوس الشدياق، المتوفّى سنة 1861، الأمراء المعنيين بدءاً بسنة 1120م (تاريخ قدومهم إلى لبنان) فذكر إعتماداً، على الأرجح، على سجل نسب خاص بهم، 16 أميراً توارثوا الإمارة المعنية قبل فخر الدين، كما ذكر أسماء أبناء فخر الدين وأبناء وأحفاد أخيه يونس وصولاً إلى آخر أمير معني من الأسرة الحاكمة، وهو الأمير أحمد، المتوفّى بدون عقب سنة 1697 1.
ظهرت مؤخّراً مقولتان عن نسب المعنيين وفخر الدين، مبنيّتان على إستنتاجات خاطئة، وأدلّة غير مقنعة، أولاهما نسبتهم إلى التنوخيين والقول بفخر الدين المعني التنوخي، وثانيتهما نسبتهم إلى آل علم الدين الرمطونيين، التي قال بها بولياك2، أو إلى الأمير معن جد آل علم الدين هؤلاء الذين هم من آل عبدالله المنسَّبين إلى التنوخيين بالمصاهرة. وقد دُعوا بإسم آل علم الدين نسبةً إلى جدهم علم الدين سليمان بن علم الدين معن، ودُعوا بالرمطونيين نسبة إلى قرية رمطون الدارسة، الواقعة في شحّار الغرب على يمين مجرى نهر الدامور، وقدأقاموا فيها من أوائل الربع الأخير للقرن الثالث عشر إلى أن خربت في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي.
إن المعنيين ليسوا على الإطلاق من التنوخيين ليقال عن فخر الدين المعني إنه تنوخي، ولو كانوا كذلك لورد، على الأقل، ما يفيد عن تنوخيتهم عند مؤرّخين توسّعا في الحديث عن التنوخيين، وهما صالح بن يحيى المتوقّف عن الكتابة سنة 1453م، وإبن سباط المتوقّف عن الكتابة سنة 1520م. وكل ما ذكره إبن سباط عن المعنيين هو وفاة الأمير فخر الدين عثمان المعني سنة 1506.
وإن المعنيين ليسوا من آل علم الدين الرمطونيين، ولا ينتسبون إلى أحد اجدادهم معن، لأن هذا (واسمه الكامل علم الدين معن) هو إبن معتب الذي يعود في نسبه إلى الطوارقة الذين هم فخذ من آل عبدالله، وأجداده وأبناؤه معروفون ومذكورون في تاريخي صالح بن يحيى وإبن سباط حتى سنة 1520 وليس بينهم أي أمير معني3، ثم إن أحفادهم مذكورون في التواريخ بعد ذلك حتى نهاية آل علم الدين في موقعة عين داره سنة 1711.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن المعنيين قيسيون وقد تزعّموا القيسيين في لبنان، وأنهم ينتمون إلى جدهم الأعلى عدنان، وأن التنوخيين وآل علم الدين يمنيون ينتمون إلى جدهم الأعلى قحطان، ويتسلسلون من الملوك المناذرة اللخميين الذين حكموا في الحيرة.
وإذا كان النسب لا يجمع بين المعنيين وبين التنوخيين وسائر المناذرة، فإن هناك ما يجمعهم غير ذلك، وهو ثلاثة عوامل، أولها المجاورة في السكن في جهات الجبل الأعلى (جبل السمّاق) والسكن في جبل لبنان الجنوبي. وثانيها التحالف والجهاد ضد العدو المشترك الفرنجة، والتحالف في المرحلة الأخيرة من نهاية الإمارة التنوخية. وثالثها المصاهرة التي من وجوهها في القرن السادس عشر زواج الأمير قرقماس (والد فخر الدين) من الأميرة نسب التنوخية، وزواج فخر الدين من إبنة الأمير جمال الدين الأرسلاني.
كان فخر الدين يخاطب شيخ مشايخ الموحِّدين (الدروز) أو رئيسهم الروحيّ،الشيخ بدر الدين حسن العنداري، بالقول: يا خالي، لا لأنه شقيق والدته الأميرة نسب، وإنما لأنه من عشيرة معتبرة تنوخية بالمصاهرة، وذلك جرياً على المألوف في الماضي، والمتداول عند البعض اليوم، وهو قول الواحد من عشيرة للواحد من أخرى: يا خالي، إذا كانت أمه من هذه العشيرة.
ومن الأساطير والتزويرات في تاريخ لبنان عموماً، وفي تاريخ الأمير فخر الدين تحديداً، تنسيب فخر الدين إلى الفرنجة (الصليبيون)، وقد جاء ذلك أولاً في رسائل وتقارير رهبان المدرسة المارونية، وغيرهم من العاملين في الثلث الأول للقرن السابع عشر على إدخال فخر الدين في مشروع حملة أوروبية لإحتلال الأماكن المسيحية المقدّسة في فلسطين، وجاء في رسائل البابا المبنية على الرسائل والتقارير المذكورة وفي كتابات بعض المؤرّخين الأوروبيين. وهذا النسب المبتدع لفخر الدين المعني، على خلفية دينية واستعمارية، يعيده إلى غورفرو دي بويون، أول ملوك الفرنجة (الصليبيون) على مملكة بيت المقدس المؤسّسة في تموز 1099 بعد احتلال الفرنجة للقدس.

بعقلين القديمة في أواخر القرن التاسع عشر
بعقلين القديمة في أواخر القرن التاسع عشر

“الأمير فخر الدين عدناني قيسي نزح أجداده من نجد واستقروا في جبل السماق قبل انتقالــــهم إلى جبل لبنان”

فخر الدين المسلم الدرزي
الأمير فخر الدين درزي إبن درزي، لكنه أيضاً إرث وطني. وما الحديث هنا عن درزيته ودرزية أسرته المعنية إلا من قبيل ذكر الحقيقة التاريخية من ناحية، لأن هذا أخذ حيّزاً في كتابات بعض المؤرّخين المحليين والأجانب، ومن قبيل تبيان دوره ودور الموحِّدين (الدروز) في تكوين لبنان، وفي صنع تاريخه، من ناحية أخرى.
من الطبيعي أن يكون إعتناق المعنيين لمذهب التوحيد (مذهب الدروز) قد حصل إبّان وجودهم في جهات الجبل الأعلى (جبل السمّاق) قبل إنتقالهم إلى لبنان في سنة 1120م، ذلك أن الدعوة إلى مذهب التوحيد توقّفت في سنة 1047م، ولم يعد ممكناً الدخول فيه بعد هذه السنة. ومن الأدلة على درزية فخر الدين، ودرزية المعنيين، ما يلي:
1. إن بعقلين هي مكان ولادة فخر الدين في سنة 1572، ومركز إمارته في البداية، ودير القمر هي مركز إمارته بعد بعقلين. وكلا البلدتين مقّرا المعنيين منذ قدومهم إلى لبنان. وجداول الإحصاء العثمانية بين سنتي 1519، 1569 تظهر أن في بعقلين 119 متزوجاً وأعزباً جميعهم دروز، وأن في دير القمر 156 متزوجاً وأعزباً جميعهم من الدروز أيضاً. فهل يعقل أن يكون على بلدتي بعقلين ودير القمر المسكونتين بالدروز فقط، وعلى محيطهما المسكون بأكثرية درزية ساحقة، أمير غير درزي، مع الإشارة إلى أن الإحصاء المشار إليه متزامن مع نشأة قرقماس (والد فخر الدين) وفترة تسلمه الإمارة على الشوف.
2. إن والدة الأمير فخر الدين هي الأميرة نسب التنوخية، والتنوخيون غير مشكوك بدرزيتهم وحرصهم على التزاوج فقط مع الأسر الدرزية. يُضاف إلى ذلك أن جداول الإحصاء العثمانية التي ورد ذكرها تظهر أن في قريتهم عبيه 88 متزوجاً وأعزباً جميعهم دروز.
3. إن الوثائق العثمانية التي تعود إلى أواخر القرن السادس عشر، وإحداها مرسلة إلى والي دمشق بتاريخ 12 شباط 1585، تتكلم عن الأمير قرقماس (والد فخر الدين) فتقول: “إنه من طائفة الدروز مقدّم عاصٍ”4.

4. إن المحبّي المتوفّى سنة 1111هـ (1699م) يذكر عن فخر الدين أنه “إبن قرقماس بن معن الدرزي”5، كما إن المرادي المتوفي سنة 1206هـ (1791م) يذكر عن الأمير حسين إبن الأمير فخر الدين أنه “إبن قرقماس بن معن الدرزي”6.
5. إستمرار من تبقىّ من المعنيين، (المغيَّبين من التاريخ بناءً على مقولة إنقراض المعنيين في سنة 1697) في قرية إبل السقي, في الجنوب اللبناني، كانوا على مذهب التوحيد الدرزي حتى إنقراضهم في سنة 1963، تاركين في هذه القرية ما يذكّر بهم وبدرزيتهم، وهو الخلوة المعروفة بإسم “الخلوة المعنية”، واستمرار الوجود المعني (المغيّب من التاريخ أيضاً بناءً على المقولة المذكورة) ممثَّلاً بأسرة درزية تحمل إسم “آل معن” موجودة حتى اليوم في عرنة والريمة من سورية، وفي المعروفية وغريفه من لبنان7.
أخطأ بعض المؤرّخين في تحديد مذهب المعنيين، ومنهم طنّوس الشدياق الذي ذكر أنهم إسلام دون تحديد واضح لمذهبهم، بيد أننا نستشفّ من كلامه أنهم عنده على مذهب إسلامي غير المذهب الدرزي، لأنه قال عن التنوخيين وآل العماد وآل نكد وآل تلحوق وآل عبد الملك وآل حصن الدين إنهم دروز، وذلك في كتابه “اخبار الأعيان في جبل لبنان”. وفي قوله إن المعنيين إسلام وإن الأسر التي ورد ذكرها درزية، تمييز للدروز عن سائر المسلمين وجعلهم غير مسلمين، في الوقت الذي يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم سائر المسلمين، مسلمين . فالمعنيون مسلمون دروز، وفخر الدين هو أمير مسلم درزي.
ومن غرائب الأمور أن تتلازم أسطورة النسب الفرنجي لفخر الدين، التي ورد ذكرها، مع أسطورة دينه المسيحي الذي كان له في الأصل، بناءً عليها، وقد تخلّى أجداده الفرنجة عن هذا الدين بعد هزيمتهم في حطّين سنة 1187م، ولجوئهم إلى الجبال وعيشهم في وسط درزي. ثم إن مؤدلجي التاريخ إبتدعوا أسطورة عودة فخر الدين إلى المسيحية، بتنصّره في سنة 1633، وبوجود صليب في صدره عند إعدامه سنة 1635(!)
وإذا كانت درزية فخر الدين حقيقة لاشك فيها، فإن هناك حقيقة أخرى ملازمة لها، تكمن في نهجه، وهو أنه كان مسلماً درزياً متسامحاً لا يمّيز بين أتباع الطوائف والمذاهب داخل إمارته، وكان متجاوزاً الحدود الطائفية والمذهبية والمناطقية والقواعد الموضوعة في التعاطي بين أتباع المذاهب، وهو لم يحصر نفسه في الإطار التقليدي الذي حصر فيه انفسهم – قبله وبعده- العديد من الزعماء الدروز، فكان هذا مبعثاً لعظمته وانتشار نفوذه. وهو أيضاً لم يجار السواد الأعظم من قومه المحافظين الذين يشدّدون على حصر التزاوح فقط بين المسلمين الدروز، بل تزوّج وزوّج أبناءه من سائر المسلمين، وتعاطى في موضوع الزواج من زاوية المصلحة الشخصية والسياسية. وقد عُرف عن أجداده تزاوجهم مع حلفائهم الأمراء الشهابيين، لكنه هو تزاوج مع آل سيفا وآل حرفوش إضافة إلى الشهابيين، وذلك لتعزيز شبكة التحالفات التي أنشأها لتقوية وضعيه السياسي والعسكري.

“أكبر عملية تزوير أرجعت نسب فخر الدين إلى الصليبيين وزعمت تنصره مجدداً وأدخلته ضمن مشروع حملة أوروبية لإحتلال الأماكن المسيحــــية المقدّسة في فلسطين”

خطأ مقولة نشأة فخر الدين في كسروان
حين كان فخر الدين في الثالثة عشرة من عمره، قدمت في سنة 1585 حملة والي مصر العثماني إبراهيم باشا (وهو بالطبع غير إبراهيم باشا المصري) إلى جبل لبنان لإحكام السيطرة العثمانية عليه، وتحصيل الضرائب التي امتنع الدروز عن أدائها كونها باهظة لا قدرة لهم على دفعها، وجمع البنادق الحربية التي إمتلكوها وكانت أطول من بنادق الجيش العثماني. وما قيل عن أن سبب هذه الحملة هو حادثة جون عكار، حيث جرى سلب الأموال المرسلة من مصر إلى خزينة السلطان العثماني في الآستانة، ما هو إلا زعم أثبتت بطلانه الوقائع التاريخية.
نتج عن هذه الحملة مقتل خمسمائة أو ستمائة شيخ درزي غدراً في معسكر إبراهيم باشا في عين صوفر، جاؤوا لمقابلته والتفاوض معه، كما نتج عنها تدمير وإحراق ونهب قرى جبل لبنان الجنوبي، وخصوصاً تلك القريبة من عين صوفر، وموت الأمير قرقماس (والد فخر الدين) في قلعة شقيف تيرون (قلعة نيحا) بعد أن رفض المثول أمام القائد العثماني خوفاً من غدره، وفضّل الإلتجاء إلى القلعة والإحتماء بها. فتسلّم الإمارة المعنية بعده أخو زوجته نسب، الأمير سيف الدين التنوخي، مقابل مبلغ من المال قدّمه للقائد العثماني, وقسّم إقامته بين عبيه مركز إمارته، وبعقلين مركز إمارة صهره قرقماس. وقد ذكر البطريرك إسطفان الدويهي (1630- 1704) أن الأمير سيف الدين التنوخي “أخذ إلى عنده للشوف إبني شقيقته الأميرين فخر الدين ويونس. وبعد ست سنوات، رجع إلى عبيه في الغرب وولّى الأمير فخر الدين على الشوف”8.
من هذا الكلام الصادر عن مؤرّخ قريب للحدث نستنتج أن فخر الدين وأخاه عاشا في كنف خالهما الأمير سيف الدين التنوخي، وتحت رعاية والدتهما الأميرة نسب، إلا أن هناك أدلجة للتاريخ، بإختلاق مقولة نشأتهما في كسروان، وبحسب الرواية الخازنية، عند آل الخازن في بلّونة حيث تربيا هناك، وأول من أورد المقولة المختلقة هو المؤرّخ الإيطالي جيوفاني ماريتي الذي ذكرها في كتابه: “تاريخ الأمير فخر الدين”9. وتبنّاها القسّ حنانيّا المنيّر في كتابه: “ الدر المرصوف في تاريخ الشوف”10. وحذا حذوه طنوّس الشدياق في كتابه: “ أخبار الأعيان في جبل لبنان”11. وتبنّى مؤّرخون كثيرون، معظمهم موارنة، هذه الرواية على خلفية سياسية وطائفية مفادها ان الأمير الدرزي فخر الدين نشأ في بيئة كسروانية خازنية، وبيئة ثقافية مارونية. وهذا ما أرسى في نظرهم لعلاقة مستقبلية بينه وبين آل الخازن، وأعاد للموارنة فضل تنشئة أكبر حاكم عرفه لبنان، وفضل خلق صفة التسامح عنده مع النصارى من قبيل ردِّ الجميل لمن ربوّه.
إن كل ما ورد عن نشأة فخر الدين في كسروان مختلق وغامض، ومليء بالتناقضات والأخطاء، وبالإختلافات بين أسماء المربّين المزعومين لفخر الدين. ومن الإختلافات، مثلاً جعل الحاج كيوان مربّياً للأمير فيما لم يعرفه الأمير إلا بعد تسلّمه الإمارة، وقد جعلته الرواية المختلقة مسيحياً من أسرة نعمة ضو المارونية التي توطّنت دير القمر فيما هو مسلم حجَّ مرتين، ومن الإنكشارية، ومن خارج لبنان. ويكفي للدلالة على إختلاق هذه الرواية ما ذكره البطريرك الدويهي ووردت الإشارة إليه، وهو أنه أتى بإبني شقيقته منذ سنة 1585 إلى الشوف. ثم إن مؤرّخ تاريخ الأمير فخر الدين (الشيخ الخالدي الصفدي) لم يشر إلى شيء مما تضمنته، وإن طبيبه الأب روجيه الذي ألف كتاباً إسمه “فخر الدين أمير لبنان” لم يشر إلى ذلك. كما إن المؤرّخ الفرنسي لوران دارڤيو الذي أقام في الشرق وزار صيدا سنة 1658، ومكث فيها اكثر من سبع سنوات، قال في مذكراته إن فخر الدين عاش في كنف خاله حتى أصبح مؤهّلاً أن يحكم بنفسه.12
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن المقولة الخاطئة عن لجوء فخر الدين إلى كسروان متخفياً، وبقاءه فيها مختبئاً عن أعين العثمانيين، تخالف مقولة أكيدة، وحقيقة مسلّماً بها، وهي تسلّم خاله سيف الدين التنوخي الإمارة المعنية، وحفاظه عليها مدة خمس سنوات، وتجعل هذا الأمير الذي حكم الشوف والغرب عاجزاً عن حماية إبني شقيقته، وهذا من المسائل التي تثير الدهشة، ولا يقبلها عقل راجح.

بطريرك ماروني -إلى اليسار- وأحد رجال الدين الموارنة في عهد فخر الدين
بطريرك ماروني -إلى اليسار- وأحد رجال الدين الموارنة في عهد فخر الدين

تسلّم الإمارة وأسس بنائها
عاش فخر الدين بعد موت والده ست سنوات في كنف والدته الأميرة نسب، وخاله الأمير سيف الدين التنوخي. تعلّم الصبر والإيمان والحكمة من والدته التي ظلّت طوال حياتها مواكبةً له، ومرشدة في القضايا المهمة والمصيرية. وتعلّم من خاله إدارة شؤون الحكم، وكيفية التعاطي مع الولاة والقادة العثمانيين، حتى إذا كبر وتسلّم الإمارة في سن الثامنة عشرة، كان بفضل هذه الخبرة التي إكتسبها، وبفضل مهاراته الذاتية، مؤهّلاً للقيادة، ولتسيير شؤون الإمارة، ولإنطلاقة موفّقة في مسيرته الطويلة الناجحة.
بعض المراجع ذكر أن المعنيين أقاموا بعد قدومهم إلى لبنان في دير القمر أولاً، وبعضها الآخر ذكر أنهم أقاموا أولاً في بعقلين، ما جعل هاتين البلدتين مقرّ المعنيين في الشوف، وما جعل المعنيين فرعين، أشهرهما وأهمهما الفرع المقيم في بعقلين. وبعد أن توفي الأمير قرقماس لم يبقَ من المعنيين في الشوف سوى ولديه: فخر الدين ويونس، ذلك أن سائر الأمراء المعنيين تركوا الشوف عند قدوم حملة إبراهيم باشا سنة 1585، وأقاموا في إبل السقي في جنوب لبنان، ومنهم تحدّر المعنيون المعروفون بإسم آل علم الدين المعنيين. وبناءً على ذلك ورث فخر الدين وأخوه البيت المعني في بعقلين، والبيت المعني في دير القمر.
حين جاء فخر الدين من عبيه إلى الشوف لتسلّم الإمارة لاقاه أنصاره من القيسيين في السمقانية، وحوربوا له بهتافهم المعهود، وساروا معه إلى بعقلين، حيث بدأ حكمه فيها، واتخذها مقراً له. لكنه في سنة 1613، وقبل سفره إلى أوروبا، أمر أخاه يونس أن يقيم في دير القمر ويتولّى الأحكام فيها. وبعد أن عاد من أوروبا سنة 1618 إتخذ دير القمر مقرّاً له، لأنها كانت في ايامه أكبر من بعقلين، ولوقوعها على طريق رئيسة تنطلق من ساحل الدامور نحو البقاع، ولأن فيها نبع “الشالوط” الغزير نسبياً، الذي يؤمّن حاجة المقيمين فيها، فيما تفتقر بعقلين إلى المياه، إذ إن نهرها بعيد عنها، وليس فيها سوى عيون شحيحة أقربها “عنج النحلة” وعين حزّور” وهي تعوّض عن قلة المياه بالآبار.
إن البيت الذي وُلد فيه فخر الدين في بعقلين كان المقرَّ الأول لإمارته، ومقر إمارة ابيه وأجداده، وقد ظل قائماً إلى أواسط القرن العشرين، حين أزيل في أواخر عهد رئيس الجمهورية بشارة الخوري، لتوسيع الشارع الرئيس وسط البلدة. ولو أبقي عليه لكان معلماً يشير إلى وجود المعنيين في بلدةٍ هي مهدهم، ولكان مع التمثال الذي أقيم لفخر الدين على مسافة قريبة منه في باحة المكتبة الوطنية (سراي بعقلين سابقاً) معلمين أثريين يضافان إلى معالم بعقلين الأثرية، ومنها آثار معنية. وفي الواقع إن الحفاظ على بيت فخر الدين كان ضرورة تاريخية تراثية حتى لو اقتضى الأمر تحوير الطريق، وهدم عشرات البيوت بدلاً عنه، ودفع المبالغ الباهظة.
منذ أن تسلّم فخر الدين الحكم وهو في سن الثامنة عشرة أبدى مقدرةً في تسيير شؤون الإمارة، كانت تزداد مع تمرّسه بها، ومع مواجهته للتحدّيات المتتابعة. كان رجلاً طموحاً، ومستنيراً، وذكياً حكيماً يتقن فن السياسة وفن الحرب، ولا يتورّع عند الحاجة عن إستعمال أساليب عصره في المناورة والمداهنة والمؤامرة. عمل على توسيع إمارته وتقويتها والنهوض بها في شتّى المجالات، معتمداً الأساليب التالية:
– توحيد سكان الإمارة، لأن الوحدة بين مكوّناتها هي الأساس في بنائها والنهوض بها، وتحصينها ضد العوامل الخارجية.
– بناء جيش قوي جعله فخر الدين من عناصر وطنية، ومن المرتزقة السكمان، أو السكبان، تراوح عدده تبعاً لتوسَع مناطق نفوذه وشبكة تحالفاته. وقد وضع بعضه في القلاع، وزوّده بالأسلحة الحديثة بما في ذلك بعض المدافع.
– النهوض بالزراعة والصناعة، والتوسّع في العلاقات التجارية مع الخارج.
– ضبط الأمور الإدارية والمالية مما سهّل تنظيم الضرائب وجبايتها، ودفع المترتّب منها للدولة العثمانية دون تأخير، كما ساعد على منح الآستانة للأمير المزيد من الإلتزامات داخل لبنان وخارجه، وعلى سكوتها عن توسّعه.
– تحاشي الإصطدام مع الدولة العثمانية، والمحافظة على إنتظام العلاقات معها ، وتوسيع الإمارة وتقويتها دون إغضابها .

خارطة إمارة فخر الدين في أقصى توسعها
خارطة إمارة فخر الدين في أقصى توسعها

توحيد السكان
لم يكن المعنيون يمنيين ثم تزعموا القيسيين كما جاء في بعض المراجع، وإنما هم في الأصل قيسيون، وزعماء القيسيين في جبل لبنان، ومن أبيات الحداء المتقادمة التي كانت تُنشد في أيامهم، وتؤكّد قيسيتهم، البيتان التاليان:
نــــــــحنـــــــــــــــا عـــزاز بــــــــــحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــــــالحــــــــــــــــرب صــعـــــــــــــــــــــــب مــــــــنــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــــــا
مــــــــــــــــــــن بيــــــــــــــــــــت قيــــــــــــــــــــــس ســيوفنــــــــــــــــــــا ومــــــــــــــــــــن بيــــــــــــــــــــت معـــــــــــــــــــــــن رجــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــا
كان هذان البيتان من حداء القيسيين وهم يتأهبون للحرب، أو يذهبون إليها. وكان هتافهم “الهوبرة” التي هي، لفظة “هو البار” أي هو الباري بمعنى هو الله. وكان شعارهم الموضوع على علمهم الأحمر اللون: السوسن، أما هتاف اليمنيين فكان “يا المعروف” وأصلها: يا آل معروف، وهذه اللفظة هي لقب الموحِّدين (الدروز) المحبّب إليهم. وكان شعار اليمنيين الموضوع على علمهم الأبيض: زهرة الخشخاش. وقد أراد فخر الدين أن يوحّد أتباع الحزبين: القيسي واليمني، ومما فعله في هذا الصدد الجمع في علمه بين لوني علميهما: الأحمر والأبيض.
ظهرت ملامح غرضية جديدة في عهد فخر الدين، كانت جذور الغرضية اليزبكية- الجنبلاطية. وهذه الملامح نجدها في النزاع الذي نشأ بين الشيخ يزبك إبن عبد العفيف جد آل العماد، والشيخ جنبلاط. لكن فخر الدين سجن الشيخ جنبلاط في قلعة شقيف أرنون، وأنصف خصمه الشيخ يزبك، وأعطاه حكم بلاد صفد سنة، وبلاد بشاره سنة13. فلم يقوَ شأن هاتين الغرضيتين في أيامه، وإنما عاد وقوي شأنها في العهد الشهابي في صفوف القيسيين بعد نهاية الغرضية اليمنية.
وكما عمل فخر الدين على الجمع بين أتباع الغرضيتين: القيسية واليمنية لتوحيد سكان الإمارة، هكذا عمل على الجمع بين أبناء المناطق المختلفة، وأبناء الطوائف والمذاهب المتعدّدة. وقد كان له من تراثه الدرزي ذي الجذور الإسلامية ما يساعده على ذلك، إذ إن الدروز يتصفون بالتسامح السياسي والإجتماعي، ولا يعملون في المجال الديني على زيادة أعدادهم، لأن مذهبهم ليس مذهباً تبشيرياً كسائر المذاهب الدينية. وقد تجاوز فخر الدين الإطار الضيّق، الذي حصر فيه أنفسهم الكثير من الزعماء التقليديين الدروز، إلى الإطار الإسلامي الواسع الذي هو الإطار الطبيعي للدروز.
رأى فخر الدين أن العنصر المسلم الدرزي، الذي يشكّل الأكثرية الساحقة من سكان جبل لبنان الجنوبي بحاجة إلى عنصري الإدارة والعمل المتوافرين عند مسيحيي جبل لبنان الشمالي، فشجّع إنتقالهم إلى المتن والجرد والغرب والشوف، كما إنتقل إلى هذه المناطق نازحون مسيحيون من حوران وشمال سورية. وقد إستفاد فخر الدين من خبرتهم في الإدارة، ومن أيديهم العاملة والمهنية في إحياء الأرض الموات، وزيادة المساحة الزراعية وحسن إستغلالها، وفي تأمين حاجات الدروز إلى الحرف الضرورية يوم كانوا منصرفين إلى القتال والتمرّس بفنون الفروسية.
من الخطأ النظر إلى ما قام به فخر الدين من زاوية الإضطرار إلى تلبية حاجة المجتمع الدرزي إلى الأيدي العاملة والحرفية، فقط، بل إن ما قام به كان أيضاً من قبيل التسامح، ذلك أنه لم يتقيّد في معاملة المسيحيين بما كان معمولاً به آنذاك، وهو أن يسيروا إلى يسار المسلم، ولا يركبوا الخيل بسروج، وأن يلبسوا ما يميّزهم عن المسلمين. وفي هذا الصدد يقول البطريرك إسطفان الدويهي ما يلي:
“وفي دولة الأمير فخر الدين إرتفع رأس النصارى لأن أغلب عسكره كانوا نصارى وكواخية وخدامة موارنة. فصاروا يركبون الخيل بسروج ويلفّون شاشات وخرور ويلبسون طوامين وزنانير مسقّطه ويحملون البندق والقفاص المجوهرة. وفي أيامه تعمرّت الكنايس في بكفيا والعربانية وبشعله وكفرزينا وكفرحلتا، وقدموا المرسلين من بلاد الفرنج وأخذوا السكنة في البلاد”14.
ومن وجوه معاملة فخر الدين الحسنة للنصارى إعطاؤهم قرية مجدل معوش في الشوف، التي إشتراها إبنه علي من أهلها السنّة، والسماح للبطريرك يوحنا مخلوف الإهدني الماروني بالسكن فيها وبناء دار وكنيسة. وقد بلغت أخبار معاملة فخر الدين الحسنة للنصارى البابا بولس الخامس فكتب في 16 كانون الثاني 1609 إلى الأمير يشكر له عطفه على المسيحيين، خاصة الموارنة وما أتاه أخيراً في سبيلهم، “ وحثه ثانياً وثالثاً أن يواصل رعايته لأولاده المسيحيين وخاصة الموارنة”15.
قبل فخر الدين بعدة قرون كان النصارى جيران أجداد الموحِّدين الدروز، ثم جيرانهم في بدايات توّطن الفريقين لبنان: النصارى – وهم الأسبق بقليل إلى سكن لبنان– يقيمون في كسروان الذي كان يمتدُّ جنوباً حتى نهر بيروت، وأجداد الموحِّدين الدروز يقيمون إلى الجنوب منهم. وقد نشّبت بين الفريقين المواقع التي أّدّت إلى إنكفاء النصارى بإتجاه الشمال، وبعد ذلك إنحصر وجودهم في جبل لبنان الشمالي. وفي إستقدام فخر الدين لهم إلى جبل لبنان الجنوبي، وتشجيعهم على النزوح إليه، هو طيٌّ لصفحة العداء الذي إستمر من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الميلادي، ونقلٌ لصيغة المجاورة بالسكن إلى صيغة العيش الدرزي النصراني المشترك، التي قامت عليها لقرون الثنائية السياسية الدرزية النصرانية، وخصوصاً المارونية. وهذا العيش المشترك حصل في جبل لبنان الجنوبي الذي يحمل إسم “جبل الدروز” لأن الأكثرية الساحقة من سكانه حتى القرن الثامن عشر كانت من الموحِّدين (الدروز). وبالتقاء هذين المكوّنين الرئيسين لجبل لبنان وُضعت أسس كيان لبنان الذي ستلتقي فيه معهما سائر المكوّنات، وقد إستمّرا في العيش معاً، وفي قرى مختلطة، بالرغم من حصول الأزمات والفتن بينهما، مما يدلُّ على أن قدرهما ومصلحتهما أن يعيشا معاً.

شجرة أمراء آل معن

“فخر الدين وشقيقه يونس كانا في رعاية خالهما الأمير سيف الدين التنوخي خلال حملة التأديب العثمانية وقصة تعهدهما من آل الخازن في بلونة مختلقة بالكامل”

التوسّع الذي تجاوز الحدود
تقترن أهمية الإمارة المعنية، منذ قيامها في الربع الأول من القرن الثاني عشر الميلادي حتى نهايتها في سنة 1697، بإسم الأمير فخر الدين، ولولاه لكانت محدودة الأثر والدور، فبه كبرت، وبنهايته ضعفت، ثم ما لبثت أن إنتهت بعد 62 سنة من موته. لقد توسّعت في عهده وتجاوزت حدودها السابقة حتى شملت كل أراضي لبنان اليوم، كما تجاوزت حدود لبنان إلى محيطه فشملت قسماً كبيراً من بلاد الشام.
كانت الإمارة المعنية، عند تسلّم فخر الدين لها، تشتمل فقط على الشوف، أو ما يُعرف آنذاك بالشوف المعني الذي هو جزء من جبل صيدا. وكان شوف إبن معن يشتمل في أواخر العهد المملوكي، وأوائل العهد العثماني، على الشوف الشويزاني (السويجاني) والشوف الحيطي. وتبعاً لذلك كان فخر الدين واحداً من أمراء المقاطعات التي يتشكّل منها لبنان وفق النظام الإقطاعي الذي ورثه العثمانيون عن المماليك. وكانت خريطة الإقطاع تضم، بالإضافة إليه، أمراء عديدين، هم الأمراء البحتريون التنوخيون، والأرسلانيون في “الغرب”. و آل علم الدين في “الجرد”. و آل عسّاف في كسروان. وبنو سيفا في عكار وطرابلس، ثم في كسروان وبيروت بعد أن قضى يوسف باشا سيفا على الأمير محمد عسّاف سنة 1590. وآل حرفوش في البقاع الشمالي. وآل فريخ في البقاع الأوسط. وآل شهاب في وادي التيم. وآل الصغير في بلاد بشاره من جبل عامل. وكان أخطر هؤلاء على فخر الدين، جاراه اليمنيان يوسف باشا سيفا ومنصور إبن الفريخ.
إعتمد فخر الدين في توسّعه، وفي نزاعاته مع خصومه، على التحالفات مع أمراء المقاطعات وحكامها، ومنها تحالفه الدائم مع الشهابيين أمراء وادي التيم، وهو إستمرار للتحالف التاريخي الذي نشأ بين الأسرتين: المعنية والشهابية منذ توطنهما لبنان. ومن التحالفات تحالفه مع آل حرفوش ضد آل فريخ وآل سيفا، وتحالفه مع علي باشا جانبولاد ضد آل سيفا، وتحالفه مع بعض أمراء القبائل العربية مثل الأمير مدلج الحيارى، والأمير أحمد قانصو، والشيخ حسين بن عمرو، والشيخ أحمد الكتّاني.
تقرّب فخر الدين من والي دمشق مراد باشا القبّوجي بالهدايا والزيارات، فأعاد الوالي إليه سنة 1592 صيدا التي كانت للمعنيين، وإستدرج عدوّه منصور إبن الفريخ إلى دمشق وقتله، وأوعز إلى فخر الدين محاربة إبنه قرقماس المقيم في بوارج، الذي كثرت تعدّياته في البقاع، فهاجمه مع حليفه يونس حرفوش وعرب المفارجة وآل قانصو، ثم قضى عليه، وتقاسم أملاكه في البقاع مع إبن حرفوش. وكان القضاء على إبن الفريخ يفيده من أجل تسهيل الإتصال مع حلفائه الشهابيين في وادي التيم وحلفائه آل حرفوش في بعلبك، وإيجاد الأمن الضروري للمزارعين من جبل لبنان لإستثمار أراضي البقاع الأوسط.
ورث فخر الدين عن أسرته العداء مع آل سيفا، وكان صراعه معهم أطول الصراعات مع الأسر الإقطاعية خارج جبل لبنان الجنوبي، وقد إستمر من تاريخ تولّيه الإمارة حتى قرابة تاريخ نهايتها. ولم يُجدِ تصاهره معهم في وضع حد لهذا العداء الذي تعدّدت أسبابه ومنها التجاور في الممتلكات، والصراع على النفوذ، وإختلاف الغرضية التي هي يمنية عند آل سيفا وقيسية عند المعنيين.
قضى يوسف باشا سيفا على حليف المعنيين، الأمير عسّاف، في سنة 1590، وضمّ بيروت وكسروان إليه، فصار بذلك على حدود الإمارة المعنية، ويشكّل خطراً عليها. ثم إنه وأسرته إستقبلوا قرقماس إبن الفريخ عندما هاجمه فخر الدين، وحموه. فعزم فخر الدين على محاربته، وهاجمه مع حليفه موسى حرفوش سنة 1598، وإنتصر عليه في موقعة نهر الكلب، وأخذ منه بيروت وكسروان، ثم أعادهما إليه في السنة التالية بعد توسّط إبن خاله الأمير محمد جمال الدين أرسلان الذي تجمعه الصداقة والغرضية اليمنية مع آل سيفا. لكن النزاع عاد وتجدّد بينهما بسبب إعتداءات يوسف باشا سيفا على حلفاء فخر الدين (مقدمي جاج والحرافشة)، فهاجمه فخر الدين في جونية سنة 1605 وإنتصر عليه، وضمَّ بيروت وكسروان نهائياً إليه.
آنذاك برز علي باشا جانبولاد الذي شقّ عصا الطاعة على الدولة العثمانية لقتلها عمه حسين باشا، وتسلّم ولاية حلب، وتحالف مع فخر الدين لمحاربة يوسف باشا سيفا الذي يفصل بين أراضيهما بسبب سيطرته على عكار وطرابلس، والذي عرض مساعدته على الدولة العثمانية للقضاء على إبن جانبولاد مقابل إعطائه الإمارة على عسكر الشام. وقد تمكن فخر الدين وعلي باشا جانبولاد من إخراجه من طرابلس، وتبعاه إلى دمشق، ثم هزماه في موقعة عرّاد في تشرين الأول 1606. وفيما عاد فخر الدين إلى الشوف أكمل علي باشا ملاحقته لإبن سيفا، ثم تصالح معه، وتابع ثورته إلى أن قضى عليها الصدر الأعظم مراد باشا القبّوجي، واستولى على حلب. خشي فخر الدين إقتصاص مراد باشا منه، فأرسل إليه، وهو في حلب، ولده عليّاً البالغ من العمر تسع سنوات، مصحوباً بكتخداه مصطفى وبالهدايا. فقبل مراد باشا شفاعة الكتخدا ورضي عن فخر الدين، وجدّد له بإسم ولده علي سنجقيات صيدا وبيروت وغزير مقابل دفع ثلاثمائة الف غرش للسلطان العثماني.
إستمر العداء بين فخر الدين وآل سيفا، وتمظهر إبّان حملة والي دمشق حافظ باشا على فخر الدين سنة 1613، بإنضمام آل سيفا إلى حافظ باشا، ومهاجمة حسين، إبن يوسف باشا، دير القمر، وإحراق بعض بيوتها. وبعد عودة فخر الدين من أوروبا سنة 1618، هاجم في هذه السنة عكار، وهدم قصور آل سيفا فيها إنتقاماً منهم لما فعلوه أثناء غيابه، ونقل بعض حجارتها –وهي صفراء اللون- إلى دير القمر. ومما قاله في هذا الصدد أبياتاً زجلية تتناول ذلك، وتشير إلى تعيير آل سيفا له بقصر القامة، وإفتخارهم بطول قاماتهم، وهي التالية:
نحنــا زغـار وبـعين الـعـدو كبـــــار
إنتو خشب حور ونحنا للخشب منشار
بــحـق زمـزم وطيبه والنبي المختار
ما بـعمـّر الديـــر إلا من حجر عكّار
كافأ والي طرابلس فخر الدين، بعد إنتصاره على إبن سيفا، بمنحه إلتزام مقاطعتي البترون وجبيل اللتين كانتا لإبن سيفا، ثم أعطاه بعد إنتصاره الآخر على إبن سيفا سنة 1621 إلتزام مناطق عكار والضّنية وجبّة بشرّي والبترون وجبيل. ونال في سنة 1627 إيالة طرابلس بإسم ولده حسين إبن زوجته التي هي إبنة الأمير علي سيفا شقيق يوسف باشا سيفا.
أخذ فخر الدين مقاطعة يونس حرفوش، بعد أن وقف هذا وعمر إبن سيفا ضدّه في موقعة عنجر التي إنتصر فيها على والي دمشق مصطفى باشا، في تشرين الثاني 1623، وهذه الموقعة هي أهم المواقع التي خاضها، بل هي أهم موقعة خاضها أمير من لبنان في العصر الوسيط والحديث. لقد إجتمع مع مصطفى باشا رجال إبن سيفا وإبن حرفوش فبلغوا إثني عشر ألف مقاتل، فيما كان مع فخر الدين من رجال الشوف والجرد والغرب والمتن أربعة آلاف تمركزوا بقيادته في قب الياس، إضافة إلى ألف من رجال حليفه إبن شهاب أمير وادي التيم،سبقوه إلى عنجر، مدخل لبنان الشرقي من ناحية ودمشق. وحين وصل جيش الوالي إلى عنجر، إشتبك مع رجال إبن شهاب فيما كان فخر الدين يجتاز بفرسانه السهل الواقع بين قب الياس وعنجر. ودارت المعركة على أعدائه، ووقع مصطفى باشاً أسيراً بيد رجاله، لكنه ترجّل عن فرسه، وقبّل ذيل أثوابه إحتراماً لموقعه، ورافقه مكرّماً إلى بعلبك، وأشركه في الغنائم، ما جعل الباشا يصبّ جام عضبه على إبن حرفوش وإبن سيفا اللذين ورّطاه في هذا المأزق.
صار لفخر الدين بإسمه وبإسم أبنائه مقاطعات من لبنان، هي كسروان وجبيل والبترون وبشرّي والضّنية وعكار والبقاع البعلبكي والبقاع العزيزي، ومدن بيروت وصيدا وطرابلس. وكان سبق له أن تملّك صور وسلّمها إلى أخيه يونس الذي بنى فيها قصراً شبيهاً بالقلعة، وأخذ قلعة شقيف أرنون وبلاد بشاره من جبل عامل، وبهذا يكون أول أمير معني يبسط نفوذه على جبل عامل. وبضمّه هذه المناطق إلى ما كان معه من مقاطعات يكون قد سيطر على جميع الأراضي التي يتكوّن منها لبنان اليوم.
أما توسّع فخر الدين خارج لبنان، فقد بدأ بضم صفد وعجلون وبانياس سنة 1603. ثم صار له في تواريخ مختلفة، عجلون وغزّة ونابلس والجولان وحوران. وبفضل إمتداد نفوذه إلى حوران أنقذ دمشق من المجاعة في سنة 1624، بتزويدها بمئات أحمال الجمال من الحنطة الحورانية.
جرى توسّع فخر الدين على مراحل، وفي فترتين زمنيتين، هما قبل سفره إلى أوروبا سنة 1613، وبعد عودته منها سنة 1618. وكان يحسن إلتقاط اللحظات التاريخية، وإستغلال الفرص التي سنحت له إبّان ضعف ولاة الدولة العثمانية المجاورين له، وإنشغال الدولة بحروبها مع المجر والعجم، ومعالجتها للإضطرابات الداخلية التي أثارتها الإنكشارية، وكانت آنذاك بحاجة ماسة إلى الأموال المترتبة على ولاياتها، ووصولها إليها كاملة في أوقاتها المحدّدة، ومن مصلحتها الحيوية تلزيم القادرين على ذلك، وفي طليعتهم فخر الدين. وقد إستطاع فخر الدين أن يقوم بهذا بكل جدارة ودون تأخير، وأن يملأ نقاط الضعف والفراغ في المناطق المحيطة به، في لبنان وخارجه، بما توفّر لديه من فائض القوة.
كان بوسع فخر الدين، قبل سفره إلى أوروبا سنة 1613 ،أن يجنّد من رعاياه عشرة آلاف رجل وخمسمائة فارس. وبعد عودته منها، وبعد توسّعه وضمّه المقاطعات التي ورد ذكرها، أصبح بإمكانه أن يعدَّ للقتال خمسة وعشرين ألفاً، وكان ينشط ليبلغ جيشه الثلاثين ألفاً حسبما تذكر التقارير والمصادر الأجنبية. وهذا عدد ضخم بالنسبة إلى عدد سكان لبنان آنذاك. وكان عدد السكبان الذين جنّدهم في جيشه الف وخمسمائة رجل أخلصوا له، وإستبسلوا في الدفاع عن القلاع التي تولّوا حمايتها، والتي وضع في بعضها المدافع. وبعد أن كان له عند تسلّمه الإمارة قلعة شقيف تيرون فقط، صار له في ذروة توسّعه القلاع المهمة التالية:
في لبنان: قلعة شقيف تيرون – قلعة شقيف أرنون – قلعة صيدا- قلعة أبي الحسن- قلعة سمار جبيل – قلعة المسيلحة – قلعة القليعات – قلعة طرابلس – قلعة تبنين – قلعة صور.
في سورية: قلعة بانياس الواقعة جنوب سورية – حصن الأكراد – قلعة المرقب- قلعة صافيتا- قلعة صرخد (صلخد) – قلعة مصياف- قلعة تدمر، وهي معروفة بقلعة ابن معن.

سهل عنجر حيث انتصرت قوات فخر الجين على جيش مصطفى باشا الوالي العثماني
سهل عنجر حيث انتصرت قوات فخر الجين على جيش مصطفى باشا الوالي العثماني

في شرق الأردن: قلعة كرك الشوبك16.
ولمعرفة كيفية حكم فخر الدين للمناطق التي آلت إلى عهدته، وأوضاعها، نأخذ كمثالٍ ما قاله مؤرّخه الشيخ أحمد الخالدي الصفدي الذي وصف ما ألمَّ بصفد من محن ومصائب وخراب قبل تسلّم فخر الدين لها، وما آل اليه وضعها في ايامه فقال:
“مّن الله عليهم [الصفديين] بدولة مؤيّدة، ونعمة مخلّدة،ألا وهي الدولة المعنية التي هي بإمتثال الشرع معنية، وولّى عليها من هو فخر الدين وعماد للمساكين وكهف للمرتجين ومدد للملتجين، الأمير الجليل بلا الباس المعظّم قدره عند الله وعند الناس الأمير فخر الدين … دفع الله عنه كل بلية وحرسه من الشيطان بكرة وعشية. فآمنت به الطرقات. ونجت به النفوس من الهلكات. وإنقطعت بها آثار اللصوص الذين كانوا ينصبون لأذى المسلمين فيها الشصوص وعمرت البلاد. ورجع من كان نزح منها من العباد. وساد العدل في الرعية. ورضيت بأقواله وأفعاله البرية. واتى كل غريب إلى وطنه ومسقط رأسه ومحل سكنه لما نزل على تلك الأراضي من العدل والإنصاف. وزال بسببه هشيم الجور والإعتساف…” 17 كما ان ابنه علي لم يكلف أهالي صفد شيئاً من المترتب عليهم عند إشتداد الغلاء سنة 1621.
إن حكم فخر الدين للمناطق التي يتشكّل منها لبنان اليوم، بعد ضمّه ما لم يكن أصلاً تابعاً للمعنيين، حمل بعض المؤرّخين على إعتباره مؤسس الكيان اللبناني. وهذا يستدعي طرح الأسئلة التالية: هل كان فخر الدين يرمي إلى ذلك؟ وهل كان هناك كيان سابق بإسم لبنان أعاد فخر الدين بناءه؟ ام أنه هو الذي أسس كيان لبنان الحديث؟
إن معظم ما سيطر عليه فخر الدين يتوافق مع حدود لبنان الحاضرة. لكنه لم يكن هناك كيان إسمه “لبنان” لأن لبنان، ككيان سياسي وإداري، لم يكن له وجود بلفظته تلك قبل فخر الدين، وفي عهده، وبعده بقرنين من الزمن. وهو لم ينشأ مصغّراً إلا في سنة 1861 بإسمً متصرفية جبل لبنانَ، أو ما عُرف بعد ذلك بإسم “لبنان الصغير”، ثم نشأ مكبّراً في سنة 1920 بإسم (دولة لبنان الكبير). يُضاف إلى ذلك التسميات المختلفة التي أُعطيت للمناطق اللبنانية في التقسيمات الإدارية التي أحدثتها الدول التي سيطرت على لبنان عبر تاريخه.
وإذا كان البعض يعيدون جذور الكيان اللبناني إلى فينيقيا القديمة، فإن لفينيقيا تسميات عدة، وحدوداً مختلفة تبعاً لإختلاف التقسيمات الجغرافية والإدارية مع الزمن. فهناك فينيقيا التي سّماها البعض “فينيقيا اللبنانية”، وهي تشمل المدن الساحلية الممتدة من أرواد شمالاً إلى صور جنوباً. وهناك “فينيقيا السورية” التي هي الولاية الجنوبية لسورية، التي تشمل المدن الساحلية والبقاع، حسب التقسيم الاداري الذي أجراه الإمبراطور الروماني سبتيموس سفيروس سنة 195م18. وإذا كان بعض ما سيطر عليه فخر الدين داخلاً في جغرافية لبنان اليوم، فما هو حكم المناطق التي سيطر عليها خارج لبنان، مثل صفد التي دام إلتزامه لها من بدايات عهده حتى نهايته في سنة 1633، ومثل غيرها من المناطق التي كان نفوذه فيها عابراً. وما هو حكم المناطق اللبنانية التي تحالف مع أمرائها، مثل وادي التيم منطقة حلفائه الشهابيين. إن في ما ورد إشكالياتٍ عدة تؤرجح وضع فخر الدين بين صفتين: صفة الملتزم الذي يوسّع نطاق إلتزامه، وصفة مؤسس الكيان اللبناني. كما تؤرجحه بين صفتين أخريين هما صفة العامل على إنشاء لبنان في حدوده الطبيعية، وصفة الموسّع لهذه الحدود والمتجاوز لها.

الإزدهار غير المسبوق
تكمن أهمية الإزدهار الذي تحقق في عهد فخر الدين، وبفضله، في أنه غير مسبوق في نسبته العالية، وشموليته، وتعدّد نواحيه. فلقد رافق تنامي قوة إمارته العسكرية، وتوسّعها، توسّع في العمران والبناء، ولا سيما في مدن صيدا وبيروت وطرابلس، وبلدة دير القمر، وإزدهار للإقتصاد بدعائمه الثلاث: الزراعة والصناعة والتجارة. وفيما كان التوسّع والقوة العسكرية طفرتين مؤقتتين كان الإزدهار الإقتصادي نمواً مستداماً طال جميع السكان الذين إزدادت أعدادهم، واستمرّت إنعكاساته الإيجابية لمدة طويلة.
نشّط فخر الدين زراعة التوت، وأولاها إهتماماً خاصاً، فتوسّعت كثيراً في أيامه، وزرع، وعلى سبيل المثال، أربعة عشر الف نبتة في “مغراق” طرابلس، وأكثر من ذلك في أراضي الحيصة، وكان يُصنع من دود القزّ، الذي يُربّى على ورق التوت، أجود أنواع الحرير الذي يستهوي أصحاب معامل النسيج في أوروبا، وبلغت قيمة الصادرات منه ثلث خزانة الأمير في سنة 1614. ونشّط فخر الدين زراعة الزيتون، وإستجلب أنواعاً جديدة من إيطاليا، فزادت صادرات الزيت والصابون، وتلت صادرات الحرير. وهناك مقولتان عن أشجار الزيتون المعمّرة إنها تعود إلى عصر الرومان أو إلى عصر فخر الدين. وازدهرت ايضاً زراعة القطن والكتان لتصديرهما إلى الخارج. وجرى تحسين بناء المراقي (المصاطب، الجلول) بإعتماد الطريقة الإيطالية. وكان من الصادرات أيضاً الرماد لصناعة الزجاج. وبفضل كثرة الصادرات توفّرت للأمير نفقات التسلّح والجيش، والأموال التي يجب تأديتها للدولة العثمانية، وإزدادت مداخيل السكان.
عمد فخر الدين إلى تنشيط التجارة، فمنح التسهيلات للتجار الأوروبيين وشجّعهم على الإقامة في المدن، وعلى التبادل التجاري مع السكان، وبنى لهم خاناً في صيدا، لا يزال قائماً إلى اليوم، إسمه “خان الإفرنج”، يشهد على إزدهار هذه المدينة في أيامه، إذ تحوّلت من مدينة صغيرة إلى مدينة كبيرة بمستوى إستانبول وحلب ودمشق وطرابلس، وغيرها من عواصم الملاحة والتجارة في شرق البحر المتوسط.
وعلى صعيد البناء إهتم فخر الدين ببناء القلاع وترميمها، وبنى بعض الجسور كجسر نهر الأولي إلى الشمال الشرقي من صيدا، كما إهتم بمدينة بيروت، وبنى فيها قصراً لإقامته ، عليه أبراج أعطت إسمها للساحة التي لا تزال قائمة في وسط المدينة: ساحة البرج التي غدا إسمها “ساحة الشهداء” على إسم الشهداء الذين أعدمهم القائد العثماني جمال باشا في 6 أيار 1916، وفيه حديقة للوحوش. وبنى فخر الدين إلى جانب القصر سبيلاً بإسم زوجة إبنه علي التي توفيت في ريعان الشباب. وزرع أشجار الصنوبر بالقرب من بيروت. وحين أخذ إيالة طرابلس عزم على إعمار هذه المدينة وشجّع التجّار للإنتقال إليها من أجل إعادة الإزدهار إليها بعد ضعفها.
لقد عمل الكثيرون على النهوض بلبنان، وتحديثه وتطويره على غرار ما فعل فخر الدين، وأبرزهم في هذا المجال، بعد إنشاء دولة لبنان الكبير في سنة 1920، رئيس الجمهورية فؤاد شهاب ورئيس الحكومة رفيق الحريري، اللذان يجمعهما مع فخر الدين قاسم مشترك هو بناء الدولة والإعمار والإنماء.

“رفع فخر الدين عديد جيشه من عشرة آلاف إلى خمس وعشرين ألفاً كما زاد حصونه من واحد هو شقيف تيرون إلى 30 قلعة وحصن في لبنان وسوريا وفلسطين.”

فرديناند الأول دوق توسكانا
فرديناند الأول دوق توسكانا

حملة الحافظ والخيارات الصعبة سنة 1613
كان فخر الدين يعلم، دون شك، أنه واحد من عشرات الحكّام في الإمبراطورية العثمانية، وأن إمارته ما هي إلا بقعة صغيرة على خريطتها الواسعة، وقد أخذ عبرة من الكارثة التي نزلت ببيته وبالإمارة المعنية وبقرى الجبل، من الحملة العثمانية سنة 1585، وهي ضرورة تجنّب الصدام مع الدولة العثمانية، وعدم التمرُد عليها، وطاعة أوامر سلطانها، وتأدية الضرائب في أوقاتها. لذا لم يحصل خلال ثلاث وعشرين سنة من تولًّيه الإمارة ما يعكّر صفو العلاقات مع الدولة. وما جرى له معها أثناء تمّرد علي باشا جانبولاد بين سنتي 1604 و 1607، كان صداماً غير مباشر من خلال وقوفه مع علي باشا الثائر عليها ضد نصيرها يوسف باشا سيفا.
نجح فخر الدين في هذه المرحلة في الموازنة بين ما تسمح به الدولة العثمانية، وبين طموحاته في التوسّع وإمتلاك أسباب القوة، وقد كان يدرك أن تقوية عسكره بالعدد والعتاد، وبتحصين القلاع إنجاز له حدّين، إذ إن فيه ما يحصّن موقعه، ويحمي جانبه من أعدائه، وحتى من غضب الدولة العثمانية إذا اقتضى الأمر، كما إن فيه ما يغضب الدولة ويثير شكوكها. لكنه كان يراهن على المال والهدايا من أجل ان يكسب دوماً سكوت الولاة والقادة والمسؤولين العثمانيين عمّا يقوم به، وأن يحوّل غضبهم إلى رضى. وكان من الممكن أن يزيل شكوك الصدر الأعظم نصوح باشا، ووالي دمشق أحمد حافظ باشا، من تنامي قوته وامتلاكه القلاع، لو لم يخطء بالعمل بعكس إرادتهما ما جعلهما يعتبران هذا تحدياً لهما، ذلك ان حافظ باشا الذي تسلّم ولاية دمشق للمرة الثانية سنة 1609، ونصوح باشا الذي أُعيد إلى الصدارة العظمى سنة 1611، كانا عدوّين لفخر الدين، وقلقين من توسّعه، ويريدان تحجيم نفوذه، ويطمعان في أخذ المزيد من الأموال عن إمارته. وقد امر نصوح باشا بعزل حمدان بن قانصو، حليف فخر الدين، عن عجلون، وتسليمها لأمير الحج الأمير فرّوخ، فنفّذ حافظ باشا ذلك وطرد أيضاً الشيخ عمر شيخ عرب المفارجة، وهو حليف آخر لفخر الدين. وهنا أخطأ فخر الدين بنزوله عند رأي الحاج كيوان، فأعاد حليفيه إلى مركزيهما، قبل عودة موفده إلى مراد باشا، حاملاً تقديماته لإسترضائه. فلم يكن هذا بالأمر السهل على حافظ باشا بعد أن سبق لفخر الدين أن منعه سنة 1605 من محاربة حليفيه: الأمير يونس حرفوش حاكم بعلبك، والأمير أحمد الشهابي حاكم وادي التيم.
جهّزت الدولة العثمانية حملة برّية كبرى على فخر الدين، بقيادة حافظ باشا، وأمسك أسطولها الساحل اللبناني. وأخذ الحافظ يوزّع المقاطعات التابعة لفخر الدين، فأعطى الشيخ مظفّر علم الدين المعروف بالعنداري لسكنه في عين داره- الغرب والجرد والمتن، ويوسف باشا سيفا ولاية بيروت وكسروان، وأرناؤوط حسن آغا إيالة صيدا، ومحمد آغا إيالة صفد. فانضمَّ هؤلاء إلى قوات الحافظ، وإشتركوا معها في القتال ضد فخر الدين. لقد كان بإستطاعة الدولة العثمانية إحداث التصدّع في الجبهة الداخلية، وتقويض بناء الوحدة التي عمل فخر الدين لإيجادها، وذلك بتأليبها اليمنيين على القيسيين، وبمنحها الإقطاعات للأمراء المحليين، حتى إنها أوقفت ضده الأمير محمد إبن حميه جمال الدين الإرسلاني.
كان أمام فخر الدين أحد الخيارات الثلاثة التالية: إما مقابلة حافظ باشا والتفاوض معه ووضع مصيره بين يديه، أو التصدّي لحملته والإستمرار في قتالها، أو التنحّي عن الإمارة وترك البلاد.
فبالنسبة إلى مقابلة حافظ باشا كان فخر الدين يعلم حقده وحقد الصدر الأعظم نصوح باشا عليه، وإصرارهما على الكيد له، وإضعاف إمارته وإذلاله، ودليله على ذلك كبر الحملة البرّية والحملة البحرية المساقتين عليه، وإنتزاع المقاطعات منه، بإستثناء الشوف. وقد علم من الوفد الذي أرسله مرادَ الحافظ إذلاله، ذلك أن هذا الوفد، المؤلّف من مشايخ صفد وبيروت وصيدا وبينهم مؤرّخ فخر الدين الشيخ أحمد الخالدي الصفدي، قابل الحافظ ليصلح بينه وبين فخر الدين، فقال لهم: “المعني مراده الصلح، ولكن لو ملأ هذه الخيمة ذهباً لا يمكن ذلك ما لم يدس على هذا البساط. وحق نعمة السلطان لئن جاء إلى هنا لأقرّرن عليه بلاده، وأنعم عليه بما لم يحصل لأحد من قبله، فأرسلوا إليه وإعرضوا هذا الكلام عليه”19. لكن فخر الدين ما كان يثق بالحافظ ويرى فيه وجه إبراهيم باشا الذي غُدر في مخيمّه في عين صوفر بحوالي ستمائة شيخ درزي.
وبالنسبة إلى التصدّي للحملة العثمانية رأى فيه فخر الدين مجابهة لا تعادل فيها، بعد تخلّي الحلفاء عنه وتزعزع الوحدة الداخلية. وقد تأكّد له ذلك عندما عقد إجتماعاً على نهر الدامور ضمَّ أخاه الأمير يونس، والأميرين التنوخيين: منذر وناصر الدين، ومشايخ الشوف والغرب والجرد والمتن، ومشايخ آل الخازن وغيرهم، فلمس منهم عدم إستعداد لمقاومة حملة كثيرة العدد والمدد ، لأن نتائج حملة إبراهيم باشا ما زالت مائلة أمام أعينهم.
وبالنسبة إلى الخيار الثالث، أي التنحّي عن الإمارة وترك البلاد، كان الخيار المرَّ الذي قرّره فخر الدين, لكنه الأقل مرارة من أمرّين ورد ذكرهما. وصادف آنذاك قدوم مركبين فرنسيين ومركب فلمنكي (هولندي) إلى صيدا، فإستأجرها وسافر فيها إلى أوروبا مع بعض حاشيته وأخصّائه، وزوجته خاصكية الظافري، بعد أن سلمّ الأحكام لأخيه الأمير يونس، لأن إبنه الأمير علي كان آنذاك في حوران. لكن تنحيّه وسفره لم يحلاّ الأزمة مع حافظ باشا لإصراره على تسلّم قلعتي بانياس وشقيف أرنون اللتين وضع فيهما فخر الدين مئات الجنود من السكمان مع ذخائر وعلوفات تكفيهم لسنوات، وطلب من قائديهما عدم تسليمهما، فدافع الجنود عنهما ولم يسلّموهما إلى الحافظ الذي عمد للوصول إلى ذلك، ولبسط السيطرة العثمانية كاملة على جبل لبنان الجنوبي، إلى مزيد من الضغط على أبنائه.
أراد عسكر الحافظ إحراق بلدة غريفه، لكن أهلها وأهالي القرى المجاورة تجمّعوا عليه وهزموه، ومنعوه من ذلك. وعزم على إحراق قرى الشحّار الغربي، لكنه عدل عن ذلك مقابل مبلغ خمسة آلاف غرش. وأحرق حسين سيفا إبن يوسف باشا سيفا بعض بيوت دير القمر، ومن أجل رفع أذى العسكر وعيثه في القرى، ورفع الحصار عن القلاع، ألزم أعيان الشوف الأمير يونس أن يرسل والدته الأميرة نسب إلى الحافظ لمفاوضته، فذهبت إليه ومعها ثلاثون من “المشايخ العقال”، وقدّمت له الهدايا، فقبل بترك الشوف مقابل مبلغ من المال قدره ثلاثمائة ألف غرش، دُفع أكثره وبقي أقلّه، فأخذ الحافظ الأميرة نسب رهينة إلى دمشق20. وهو لم يقبل بترك الشوف إلا لصعوبة البقاء فيه شتاءً، لأنه حين أتى ربيع سنة 1614 عاد إليه.
إضطرَّ بعض أهل الشوف إلى الهجيج، أي ترك قراهم تجنباً لإنتقام الجند، فلحقت حملة منه بهم، لكنهم هزموها في مرج بسري، وقتلوا خمسمائة من أفرادها، واسروا الباقي. فأرسل الحافظ حملة من إثني عشر الف رجل لم يستطيعوا مقاومتها، وإنسحبوا إلى قرية الجرمق. وكانت بذور النزاعات التي زرعها الحافظ قد أثمرت، إذ إشتدت المعارك بين علي إبن الأمير فخر الدين وأخيه يونس، وبين اليمنيين، وخصوصاً الذين كان يقودهم الأمير مظفّر العنداري، والامير محمد ارسلان. كل هذا جعل أعيان الشوف وغيرهم يندمون على ما فعلوه لإرضاء الحافظ، ويندمون خصوصاً على خذلانهم للأمير فخر الدين عندما طلب منهم مقاومة الحافظ في مؤتمر الدامور.

جانب من قصر المديتشي الذي نزل فيه الامير فخر الدين في توسكانا - الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد
جانب من قصر المديتشي الذي نزل فيه الامير فخر الدين في توسكانا – الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد

إشكاليات علاقات فخر الدين الخارجية
كان فخر الدين منفتحاً على الصعيد الخارجي، كما على الصعيد الداخلي، فرغب في تنشيط التبادل التجاري مع الدول الأوروبية، والأخذ بالمستجدّات الحضارية وأسباب التقدم الحاصلة عندها، لتحديث إمارته والنهوض بها، فيما كانت هذه الدول تتطلّع إلى الشرق للتوسّع فيه، وترغب في الإستفادة من موقع فخر الدين كأمير قوي، ومن موقع إمارته الإستراتيجي، ومن إنفتاحه، لتحقيق أطماعها في أراضي الدولة العثمانية. وتلاقت مصالحها مع مصلحة البابوية في السعي لبسط الإشراف على الأماكن المقدّسة في فلسطين. وكان هناك، بالإضافة إلى ذلك، عنصر محلّي في بلاد الشام هو البطريركية المارونية التي استفادت من حسن معاملة فخر الدين لها ولرعاياها ولسائر المسيحيين، فشاءت الاستفادة منه أيضاً بإدخاله في مشروع يرمي إلى نزع سيطرة العثمانيين المسلمين عن مسيحيي بلاد الشام وقبرص، وعن الأماكن المسيحية المقدّسة.
نتج مما ورد ذكره، ومن إقامة فخر الدين في أوروبا مدة خمس سنوات، إشكاليات وتفسيرات عدة لعلاقاته مع الخارج، منها إعتباره من قبل البعض مرتبطاً بمشاريع أوروبية ضد الدولة العثمانية ، مقابل إعتبار البعض الآخر له عاملاً فقط، من خلال تطلّعه إلى الغرب، للأخذ بأسباب التقدم والنمو، وإعتبار إتهامه بالتوّرط في مشاريع أوروبية مشبوهة، ظلماً له. ولا يمكن إصدار الأحكام على فخر الدين في هذا الشأن إلا بعد إستعراض موقفه ومجريات الأمور التالية: مشروع معاهدة سنة 1608، إعادة طرح مشروع المعاهدة ودور الكنيسة المارونية في ذلك، فخر الدين في أوروبا. وفي ضوء ذلك سيظهر بطلان الإتهامات الموجّهة ضده وبراءته مما نُسب إليه.

“منح التسهيلات للتجار الأوروبيين وشّجعهم على الإقامة في المدن وعلى التبادل التجاري مع الســــــكان، وبنى لهـــم خانـــاً في صــيدا”

مشروع معاهدة سنة 1608
كان فرديناند الأول، دوق توسكانا المعروف أيضاً بغراندوق توسكانا، يطمح إلى إنتزاع جزيرة قبرص من الدولة العثمانية، فإغتنم الصراع بينها وبين العجم، والتحالف القائم بين فخر الدين وعلي باشا جانبولاد الثائر ضدها، وتوصّل، بواسطة سفيره قريع، إلى عقد معاهدة تعاون سياسي وإقتصادي وعسكري مع علي باشا21، ثم شاء تطويرها لتشمل فخر الدين وشاه العجم، بحيث يتم له إضعاف الدولة العثمانية، وتحقيق أطماعه.
إنتهى تمرّد علي باشا جانبولاد بالفشل، وعجز الأسطول التوسكاني عن إحتلال ميناء فاماغوستا في قبرص. وحين وصلت إلى فرديناند الأخبار الأولى عن إنكسار علي باشا، أرسل اسطولاً بحرياً لمعاودة الهجوم على قبرص، وفيه سفينة محّملة بالبنادق والمدافع والذخائر إلى علي باشا، وأمر سفيره ليونسيني التداول مع سفيره السابق قريع، ومع قائد الأسطول بما يجدر عمله. فإن وجدوا علي باشا بحالة تسمح له بالنهوض يسلّمونه البنادق والمدافع والذخائر، وإن كان العكس يتوجّهون إلى فخر الدين ويسلّمونه البنادق فقط، ويعقدون معه معاهدة كتلك التي عقدوها مع علي باشا.
عندما وصل ليونسيني إلى قبرص، وتأكد من هزيمة علي باشا جانبولاد وخضوعه للسلطان العثماني، قصد صيدا، والتقى، بحضور ترجمانه، فخر الدين في ثلاث جلسات حضرها أيضاً القنصل الفرنسي والقنصل الإنكليزي والتاجر الإنكليزي بروكس. سلّم ليونسيني إلى فخر الدين كتاب فرديناند وفيه انه رأى أن يعهد إلى فخر الدين، بعد فشل علي باشا، بالمهمة التي كانت موكولة إليه، وهي إحتلال القدس ودمشق وغيرهما من المدن السورية، ومساعدة فرديناند في التوسّع في جزيرة قبرص فيما لو قُدِّر له إحتلال فاماغوستا، على أن يكون له، مقابل تأمين حرية الحجّاج المسيحيين في الوصول إلى الأماكن المقدّسة، مبلغ سنوي من المال.22
تعهّد فخر الدين، حسبما جاء عند الأب بولس قرألي، بإحتلال دمشق والأماكن المقدّسة، لكنه فيما يتعلّق بمساعدة فرديناند على إكمال إحتلال قبرص لم يتعّهد إلا بتقديم المؤن فقط، لأنه غير مستعد لشطر جيشه. وإستكتب الترجمان رسالة إلى فرديناند، ورسالة شكر إلى نائب ملك إسبانيا في نابولي على إهدائه إليه سابقاً قطعتين من المدفعية، وكمية من الذخائر. أما شروطه التي طُلب منه تقديمها، فهي التالية:
• وضع خبراء في صبِّ المدافع مع المواد الضرورية تحت تصرّفه.
• إستفكاك ثلاثة اسرى توسكانيين لهم تمام المعرفة بإثنتين من قلاعه.
• رسو المراكب التوسكانية، القاصدة إلى الشرق، في ميناء صيدا.
• إعطاء البابا براءة لمسيحيي الشرق، التابعين له، لمساعدة فخر الدين.
• تزويده بتذكرة مرور يسافر بها إلى إيطاليا.
• إهداؤه اربعة هواوين ودرعاً جميلاً.23

قلعة نيحا التي اختبأ فيها الأمير فخر الدين لدى حصاره من العثمانيين -
قلعة نيحا التي اختبأ فيها الأمير فخر الدين لدى حصاره من العثمانيين –

ومع أن إجتماع فخر الدين بسفير فرديناند جاء بعد بضعة شهور من قلقه على مصيره عقب الهزيمة الساحقة لعلي باشا جانبولاد، وتوسّله المال والهدايا لكسب رضى الصدر الأعظم مراد باشا، ومع أنه كان يعرف عدم إمكانية دولة توسكانا النيل من الدولة العثمانية، إذ هي عجزت عن احتلال مدينة في قبرص، وتطلب منه المساعدة على إحتلال هذه الجزيرة: مع كل هذا فإن تصريحاته للسفير تظهر إستعداده للقيام وحده بما كان سيقوم به علي باشا لأنه أقوى منه، حتى إنه بغنى عن التحالف مع شاه العجم. وهذا ما يثير التساؤل عما إذا كان صرّح بذلك وعما إذا كان فعلاً قوياً حسبما صرّح، أم أن السفير ليونسيني شاء نقل ذلك إلى دوق توسكانا ليتوصّل هذا الدوق بواسطته إلى عقد معاهدة مع فخر الدين كما توصّل السفير قريع إلى عقد معاهدة مع علي باشا.
إنتهى إتصال فرديناند الأول بفخر الدين على هذه الصورة، لأن فرديناند توفّي في السنة التالية. وفي رأينا أن ما جرى هو مباحثات أولية لصياغة مشروع معاهدة يوقّع عليها بعد الإتفاق النهائي، في حال حصوله، ولم ينتج عنها سوى تنشيط التبادل التجاري. وما يؤكّد ذلك هو طبيعة هذه المباحثات وأجواؤها، وأن ليونسيني، الذي حرص على سرية المعاهدة مع علي باشا جانبولاد، أطلع القنصل الإنكليزي والتاجر بروكس على مضمون رسالة فخر الدين إلى دوق توسكانا، ولم يحافظ على سرّية المحادثات، إذ أفشاها في كل الثغور التي مرَّ بها ذهاباً وإياباً، للفرنسيين والإنكليز والإسبان، حتى إن البحّارة أنفسهم كانوا عارفين بها24.
ومما يعزّز الشكوك حول دقة المعلومات عن لقاء الأمير فخر الدين مع السفير ليونسيني، هو أنه ليس هناك من توقيع لفخر الدين على أي مستند، ولا ذكرٌ لتاريخ اللقاء الذي رجّح الأب بولس فرألي تاريخه في ربيع سنة 1608، بينما نقل إلينا تاريخ المعاهدة بين علي باشا جانبولاد والدوق فرديناند، وهو 3 تشرين الثاني 1607. وما يعزّز الشكوك أيضاً هو عدم التزام فخر الدين بشيء مع دولة إسبانيا الأقوى بكثير من دولة توسكانا، وذلك حين كان في إيطاليا، وفي أملاك ملك اسبانيا.

إعادة طرح مشروع المعاهدة ودور الكنيسة المارونية
توّفي دوق توسكانا فرديناند الأول سنة 1609، وخلفه إبنه قزما الثاني الذي وجّه إهتمامه لدعم الأمير يحيى ضد أخيه السلطان العثماني أحمد. وحين حاول الأمير يحيى الإتصال بفخر الدين لضمه إلى العاصين على السلطان أحمد، نصحه الحاج كيوان بألا يقوم بذلك، ثم نصحه حين إلتقاه في عكا بالرجوع إلى أوروبا، وبأن لا يضع ثقته بفخر الدين، “ربما ليوفر على فخر الدين مشكلاً جديداً يوسّع الخرق بينه وبين الباب العالي”25.
ومع هذا الحذر من فخر الدين وحرص الحاج كيوان على إبقاء علاقته جيدة مع الدولة العثمانية، نرى من يريد إدخاله في مشروع ضد هذه الدولة، إذ يُنسب إليه أنه حاول سنة 1611، أثناء وجوده في إيطاليا، وسنة 1623، وسنة 1624، وسنة 1633، إعادة طرح مشروع معاهدة تدخل فيه، بالإضافة إلى البابا، دولتا إسبانيا وتوسكانا. وقد جاء في مشروع سنة 1624 “أن تقوم حملة أوروبية بإحتلال مدينة صور، والتحصّن فيها، ثم الزحف منها إلى الأراضي المقدّسة”26. وبما أن هذا المشروع فشل بسبب تحاسد أسرة بربريني في روما، وأسرة مديتشي في توسكانا، فإن فخر الدين طرح بعد ذلك -حسبما قيل عنه- أن يصبح تادي بربريني أميراً على جزيرة قبرص، وأن يتوَّج فرديناند الثاني دومديتشي ملكاً على أورشليم في حال نجاح الحملة، كما وعد أن يجاهر بعد نجاحها بنصرانيته وان يعمّد أسرته وذويه، ويحمل جميع رعاياه على الإقتداء به.
لقد قُوّل فخر الدين ما لم يقل، كقوله إنه من سلالة غودفرو دي بويون. ونُسب إليه ما ليس له علم به، كوضع مشروع الحملة على الأماكن المقدّسة، ووضع الحل لتحاسد أسرتي بربريني ومديتشي. وفي الواقع إن مشروع الحملة وارد في تقرير المطران جرجس بن مارون الذي سافر إلى إيطاليا أربع مرات، فهو من وضع الكنيسة المارونية. ولتسويقه إختلق رهبان المدرسة المارونية في روما أسطورة إنتساب الدروز إلى مدينة Dreux وإلى الكونت Dreux، وأسطورة تحدّر فخر الدين من الملك الفرنجي غودفرو دي بويون، من أجل إقناع البابا بالمشروع. ويبدو أن البابا أوربانوس الثامن صدّق مقولة الأصل الفرنجي لفخر الدين، إذ وصفه في إحدى رسائله “بالقائد القوي الشكيمة، الذي يفتخر بتحدّره من القوّاد المسيحيين”27. وللدلالة على براءة فخر الدين مما قُوّل ومما نُسب إليه، هناك شواهد كثيرة، أبرزها ما يلي:
1. تواريخ سنوات 1623 و1624 و1633 تتوافق مع حرب الثلاثين سنة بين الدول الأوروبية، وهذا ما كان يعلمه فخر الدين، وتبعاً لذلك لا يمكن أن يطلب مساعدة من هذه الدول، أو قيامها بحملة إلى الشرق لإحتلال قبرص والأماكن المقدّسة. وتاريخ سنة 1624 يتوافق مع بلوغه أوج مجده وقوته، وحصوله على دعم والي دمشق مصطفى باشا، ورضى سائر الولاة العثمانيين، وهو في هذه الحال لن يطرح مشروعاً أجنبياً لتغيير هذا الوضع الممتاز، والإنتقال من تحت سيطرة عثمانية إسلامية إلى تحت سيطرة أو وصاية أوروبية مسيحية، مصيره فيها مجهول.
2. إن ما نُقل حرفياً من كتابات لفخر الدين، أثناء الحديث عن المشروع، مختلف بنصّه وأسلوبه عما نُسب إليه من نصوص ورسائل، مما يعني أن من كتبوا هذه الرسائل والنصوص أدخلوا فيها ما يريدون.
3. إن ما ورد بخط فخر الدين يخلو من الإشارة إلى المشروع ويقتصر على عواطف تجاه من يراسلهم، وطلب إستفكاك ثلاثة أسرى موجودين عند ملك إسبانيا مقابل إثنين وثلاثين أسيراً من النصارى عند فخر الدين28.
شَكّك العديدون بمشروع المعاهدة، ومنهم المؤرّخ ياسين سويد الذي قال إنه لم يكن أكثر من تقرير وضعه المطران جرجس مارون29. وقال في مكان آخر ما يلي: “أما القول بأن فخر الدين أراد أن يعيد مملكة اورشليم الصليبية [للأوروبيين] فذلك إفتئات على الأمير، وتجريح لطموحه السياسي. ولقد ثبت بالدليل القاطع عدم صحة هذه الرواية”30.
وقال المؤّرخ عادل إسماعيل ما يلي:”الوثائق الرسمية، التي قُدِّر لنا أن نطّلع عليها في المحفوظات المديتشية وفي المحفوظات الوطنية في باريس، تحدّد بوضوح شخصية الأمير وتصحّح الكثير من التفسيرات الخاطئة التي ذُكرت عن مسيرته السياسية وعلاقاته بتوسكانا وإسبانيا والكرسي الرسولي طوال مدة إقامته منفياً في إيطاليا (1613- 1618) أو بعد عودته منها إلى بلاده. وخلافاً لما قيل، ليس في تلك المحفوظات ما يشير إلى إتفاقات وقّعها الأمير مع إحدى تلك الدول ضد الباب العالي، وقد تصرّف فخر الدين في منفاه بحكمة وكرجل دولة مسؤول”31.
وخلاصة القول، بناء على ما ورد ذكره، إن فخر الدين لم يسعَ إلى عقد اية معاهدة مع أية دولة أوروبية، ولم يرتبط بمشروع معاهدة سنة 1608، ولا علاقة له بالمشاريع التي طرحت بعد ذلك.

“راهن فخر الدين على المال والهدايا لتغطية توسِّــعه وكسب سكوت الولاة والقادة والمسؤولين العثمانيين”

فخر الدين في أوروبا
قصد فخر الدين أوروبا لاجئاً لتلافي خطر داهم، وأقام فيها ريثما يصدر العفو عنه من السلطان العثماني. وقد صدر هذا العفو في بداية سنة 1615 عندما عُزل عدوه والي الشام حافظ باشا وقُتل عدوه الآخر الصدر الأعظم نصوح باشا، ذلك أن والي الشام الجديد جركس محمد باشا أطلق سراح والدته الاميرة نسب المسجونة في دمشق، ومعها العفو عنه32. لكن خبر هذا العفو وصل إليه بعد إنتقاله من توسكانا إلى مسّينا في صقلية التابعة لملك إسبانيا، أقوى الدول الأوروبية وألد أعداء الدولة العثمانية. ثم إنتقل إلى نابولي مع دوق دسّونا الذي عيّنه ملك إسبانيا حاكماً عليها بدلاً من مسّينا، وهذا ما أطال بقاءه ثلاث سنوات، جرى خلالها وقبلها إستغلال لوجوده في أوروبا، وخلق شبهات وعلامات إستفهام حوله.
بعد أن وطأت أقدام فخر الدين أرض نابولي التابعة لملك إسبانيا، جاءه أكابر موفدون من أميرها، دوق دسّونا، يسألونه ما يمكن أن يأتي من بلاده معهم في حال قصدوها، وما يمكن أن يقدّموه من ذخائر، فأجابهم حسبما نقل شاهد عيان هو مؤرّخه الخالدي: هذا أمر دين، لا أقدر أن أكفل أحد، لا أرضي ولا ولدي ولا أهل بلادي، وأنتم تعرفون قوة دين الإسلام وقوة آل عثمان، والذي مراده قهر القوتين لا يتكل على مشترى ذخيرة من الناس33. وحين سألوه كم يستطيع أن يجمع من الرجال، أجاب أنه كان بإمكانه أن يجمع عشرة آلاف، أما اليوم فلا حكم له إلا على نفسه. ويعلّق الخالدي على ذلك بالقول: إن هؤلاء الأكابر ما عادوا إهتموا بفخر الدين، وما عادوا يعطونه العلوفة المعتادة، فباع حلى زوجته، وأخذ يصرف من أمواله طوال مدة وجوده في نابولي. ثم إنه إعتذر عن تلبية دعوة ملك فرنسا للتوجّه إليه كي يرسل معه رسائل تشفع به عند السلطان العثماني لأن فرنسا صديقة الدولة العثمانية34.
بعد ذلك أرسل دوق نابولي إلى فخر الدين، رسالة من ملك إسبانيا يعرض فيها عليه حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين هذا العرض، وقال إنه “ما جاء يطلب ديناً ولا حكماً ولا حكومة، وإنما جاء ليحتمي عندما هاجمه عسكر لا يقدر على مجابهته35. وكلامه هذا وكلامه إلى موفدي دوق نابولي، ورفضه مقابلة ملك فرنسا، كل ذلك ينقض ما نُسب إليه من أطروحات عند عرض مشروع معاهدة سنة 1608 عليه، وما نُسب إليه من إعادة طرح مشروع المعاهدة سنة 1611.
كان وجود فخر الدين في أوروبا موضع إستغلال من دولها ومن البابا، وخصوصاً من الدولتين اللتين إستضافتاه: توسكانا وإسبانيا. “فلقد كانت حكومة توسكانا تبغي الإفادة الخاصة من وجود فخر الدين في ضيافتها مع التركيز على ألا يتألّق نجمه شخصياً، وعلى ألا تنجح مصالحة الخاصة”36. وكان ملك إسبانيا يأمل بمساعدة فخر الدين له ضد الدولة العثمانية، للحصول على موطئ قدم لدولته في الشرق، وهو الذي طلب من دوق دسّونا قدوم فخر الدين إلى بلاده. وحين لم يتوصّل إلى إدخاله في مشروعه، ولم يوفّق في تنصيره، إختلفت معاملة دوق دسّونا له، إذ ماطل الدوق في إعطائه رخصة مغادرة نابولي، فيما أصرّ هو على المغادرة، ونوى نسف المركب الذي وضع فيه عياله إن لم يسمح الدوق له بذلك37.
مارس فخر الدين أثناء وجوده في أوروبا الشعائر الأسلامية، ولم يأكل من ذبائح الإفرنج لانها غير مذبوحة على الطريقة الإسلامية. وهو لم يرتبط بأي مشروع أوروبي، ولم يتخذ أي موقف عدائي ضد الدولة العثمانية. ولم يكن هناك سوى شبهة وجوده في بلاد معادية لها. بيد أن هذا الوجود لم يؤثّر على علاقته بها، لأنها سمحت له بالعودة إلى بلاده، وأمّرته عليها، بعد عودته، مدة خمس عشرة سنة، ظلَّ خلالها على تواصل مع توسكانا، يتبادل وأبنه علي الرسائل والهدايا مع أميرها وأميرتها.
استفاد فخر الدين من وجوده في أوروبا بناحيتين فقط، هما توفّر الملجأ الأمين له إبّان غضب الدولة العثمانية عليه، ورؤيته بأم العين التطوّر الحاصل فيها. نزل أولاً في ميناء توسكانا (ليفورنو)، ثم أقام في عاصمتها فلورنسا، وفي مدن بيزا وباليرمو ومسّينا، ونابولي، وتعّرف على جزيرة مالطا أثناء عودته من بلاده سنة 1615 بعد زيارة خاطفة لها. وهذا أتاح له التعرّف على الحضارة الأوروبية، ورؤية معالم الفن والعمارة والنواحي الحياتية في أرقى المدن آنذاك. كما شاهد التقدّم في الأساليب الزراعية والصناعية، فأُعجب بكل ما رآه من مظاهر التقدم، وحاول إدخال ما يمكن منها إلى بلاده، ولا سيما الهندسة الإيطالية التي إعتمدها في بناء قصره في بيروت، وتنسيق الجنائن المحيطة به، وكأنما شاء ان يجعل من بيروت مثالاً عن فلورنسا. وطبّق بعض أساليب هندسة القلاع الأوروبية في ما بناه ورمّمه من القلاع، وعمل على تحسين طرق ونسل الحيوانات كالأبقار، بإستقدام النوع الجيد منها.

السجن الذي أودع فيه الأمير فخر الدين وأسرته لمدة سنتين وقد جرى إعدامه داخله - الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد
السجن الذي أودع فيه الأمير فخر الدين وأسرته لمدة سنتين وقد جرى إعدامه داخله – الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد

حملة الكجك والنهاية الكارثية
عاد فخر الدين إلى بلاده بعد غياب عنها مدة خمس سنوات وشهرين، فنزل في ميناء عكا، ومنه إنتقل إلى دير القمر وسط إستقبالات أنصاره ومحبيه المتشوّقين إلى حكمه على أثر الضعف الذي إنتاب الإمارة، والإضطرابات التي زعزعت أوضاعها. فتسلّم الأحكام من أخيه يونس وإبنه علي. وإنطلق في مسيرة ناجحة في العمران والإزدهار والنمو، ووسّع إمارته أكثر من ذي قبل، متجاوزاً حدود لبنان، آخذاً ما أمكن من أراضي حكام المقاطعات المجاورة، وولاة حلب ودمشق وطرابلس، بالغاً بذلك ذروة المجد والعظمة .
كان لا بدّ أن يصطدم فخر الدين عاجلاً أم آجلاً بالدولة العثمانية، لأنه توسّع كثيراً، وامتلك المزيد من القلاع، وأخذ هامشاً كبيراً من الإستقلال الداخلي، فيما هي دولة لا تزال قوية، تعمل على صيانة أراضيها من الاعتداءات الخارجية، وإحكام قبضتها على ولاياتها، وكان شأن فخر الدين في الصدام معها كشأن جميع الأمراء المحليين والولاة الذين اصطدموا بها عبر تاريخها، مع اختلاف عند بعضهم في الأسباب والأهداف.
بعد أن وضع السلطان مراد خان الرابع حدّاً لتوسّع العجم في العراق، وأنهى ثورة الإنكشارية في سنة 1632، إنصرف إلى إعادة بسط سيطرة الدولة كاملةً على بلاد الشام، وإنهاء نفوذ فخر الدين الذي طال أمده، إذ كان النهج السياسي العام هو في قضاء السلطان عند إعتلائه العرش على أخوته، كي لا ينافسوه وينافسوا ابناءه، وعدم إطالة عهد الولاة وملتزمي المقاطعات، وتبديلهم، أو القضاء عليهم، كي لا يتجذّر نفوذهم، حتى إن العزل أو التهديد به، كانا يُتخذان سبيلين للحصول على الهدايا وعلى الأموال.
ورد عند المؤرّخين أن السلطان مراد الرابع أمر بتجهيز حملة كبرى للقضاء على فخر الدين، لشكاوى وإحتجاجات رُفعت إليه، أو بلغت مسامعه ومنها إستقلال فخر الدين في شؤونه، وسوء معاملته للسكان، وتشييده الحصون وتحصينها وشحنها بالأسلحة. وبعض ما ذكره المحبّي في هذا المجال وفي معرض حديثه عن الكجك الذي قضى على فخر الدين، يقارب الحقيقة، إذ قال ما يلي: “وقد كان فخر الدين خرج عن طاعة السلطنة، وجاوز الحد في الطغيان، وأخذ كثيراً من القلاع من ضواحي دمشق، وتصرّف في ثلاثين حصناً، وجمع من طائفة السكبان جمعاً عظيماً، وبالجملة فقد بلغ مبلغاً لم يبق وراءه إلا دعوى السلطنة”38.
ليس من بين أسباب تجهيز الدولة العثمانية حملتها على فخر الدين، قلقها من إتصالاته بالخارج، ومقولة خروجه عن طاعة السلطان تهمة لتبرير القضاء عليه، لأن من الأسباب الرئيسة تجاوزه للسقف وللحدود المرسومة لأمير محلّي، وذلك بإمتلاكه القلاع وتحصينها، وبعضها إمتنع على الدولة العثمانية سنة 1613. ومن الأسباب الرئيسة توسيع نفوذه على حساب الولاة المجاورين، وخاصة والي دمشق الذي له مصلحة مباشرة في القضاء عليه وفي إعادة ترتيب أوضاع المقاطعات التابعة لدمشق كما كانت قبله ، وتحجيم الإمارة المعنية بإعادتها إلى حدودها السابقة.
أُختير لمحاربة فخر الدين أحمد الكجك باشا، الذي عينّته الدولة العثمانية والياً على الشام. والكجك هو ربيب فخر الدين قبل أن يترقّى في مناصب الدولة، إذ كان محصّلاً من قبله للأموال في وادي التيم، ويعرف الكثير من أسرار حكمه وجيشه وقلاعه. فجهّز الكجك حملة برية كبيرة، إجتمع فيها جند والي حلب، وجنود أمراء مقاطعات الشام كطرابلس وغزّة والقدس ونابلس وعجلون وحمص وحماه، فيما كان الأسطول البحري يمسك السواحل. فكان في هذا إستعادة، وبشكل أكبر، لمشهد حملة إبراهيم باشا سنة 1585 على الأمير قرقماس، وحملة حافظ باشا سنة 1613 على فخر الدين. كما فيه إستعادة لما حصل في هاتين الحملتين من تفسّخ في الجبهة الداخلية، إذ أنهار، وبسرعة، كما حصل سنة 1613، كل ما بناه فخر الدين من تحالفات ومن ترسيخ لوحدة صفوف السكان المنقسمين حول غرضيتين هما القيسية واليمنية، وذلك بمجرد أوامر وتدابير أو إشارات من الكجك باشا.

السلطان مراد خان الرابع أراد تركيز قوة السلطنة وأعتبر أولى مهماته إنهاء ظاهرة فخر الدين
السلطان مراد خان الرابع أراد تركيز قوة السلطنة وأعتبر أولى مهماته إنهاء ظاهرة فخر الدين

حين رأى فخر الدين تداعي صفوفه وتسليم قلاعه للكجك واحدة بعد أخرى، سلّم بعضها له ولقائد الأسطول البحري جعفر باشا ووضع صفوة عسكره في حصون راهن على صمودها، كما راهن على عامل الوقت، وعلى أمله بإمكانية إرضاء الكجك وجعفر باشا، لكن الإثنين كانا عازمين على تنفيذ أوامر السلطان العثماني بإنها ظاهرته، ويطمعان في الأموال التي أاضطر فخر الدين إلى تقديمها لهما لاسترضائهما.
ما كان فخر الدين يتوقّع الأمور التي جرى ذكرها، أو يتوقّع السرعة التي جرت فيها. وما كان أيضاً يتوقّع أمراً كان بداية نهايته، وهو الموقعة الكبيرة التي نشبت بين إبنه علي وقوات الكجك بالرغم من نصيحته لإبنه بتجنّب ذلك أو الإكتفاء بمناوشة هذه القوات إذا قضت الضرورة. لكن علياً الذي سارع إلى نجدة الشهابيين في راشيا عند مضايقة الجند العثماني لهم، إصطدم وهو في طريقه من صفد إليهم بقوات كبيرة من العثمانيين عند سوق الخان، هبطت إليه من التلال التي تمركزت فيها، فعوّل على بطولته وشجاعة رجاله، وخاض القتال دون أن يكون هناك تكافؤ في العدد، وقُتل في الموقعة، وقتل معظم رجاله، وجمعت جثثهم فوق بعضها ما أعطى للجسر القائم على نهر الحاصباني، الذي جمعت أو شُقعت عنده ،إسم “جسر الشقعة”.وكان من الناجين القلائل أمير معني لجأ إلى إبل السقي. وهذه الموقعة توازي في أهميتها، وإنما بنتائج معكوسة، موقعة عنجر الشهيرة التي إنتصر فيها فخر الدين وكانت منطلقاً لتألّقه، وبداية لتوسّعه بينما كانت موقعة سوق الخان بداية نهايته.
وكما فعل الأمير قرقماس سنة 1585، هكذا فعل إبنه فخر الدين، إذ إلتجأ إلى قلعة شقيف تيرون الحصينة (قلعة نيحا) وهي مجموعة مغاور قائمة وسط شاهق صخري مرتفع، يصعب الصعود إليها من تحت والنزول إليها من فوق، ومدخلها الوحيد هو ممر ضيّق من ناحية الشمال، من الصعب أيضاً إجتيازه. وكان يمكن لفخر الدين الإحتماء بهذه القلعة مدة طويلة لولا معرفة الكجك بمصدر المياه الذي يغذّي خزاناتها، وهو عين الحلقوم، وذلك بخيانة من زمّاره الذي أعلم بواسطة العزف زمّار الكجك، فاهتدى الكجك إلى المياه ورمى فيها الأقذار ودماء الذبائح ففسدت، عندها اضطر فخر الدين إلى الهرب ليلاً إلى مغارة جزين القريبة، وعرف جند الكجك مخبأه الجديد، وحفروا نفقاً تحت المغارة وقبضوا عليه.فاقتاده الكجك أسيراً إلى دمشق، ومنها أُخذ إلى الآستانة، حيث بقي أسيراً لمدة سنتين كان يأمل فيها بعفو السلطان، لكن السلطان أمر بإعدامه عندما بلغته أخبار الإضطرابات التي أحدثها ابن أخيه يونس (الأمير ملحم) والتي قتل في إحداها مدبرّ الكجك، فأعدم في سنة 1635، وقال الشاعر سعيد عقل، في الذكرى المئوية الثانية لموته، قصيدة طويلة هذا أحد أبياتها:
فيــــــــــــــــــه مـــــــــــــــــن وثبــــــــــــــــة الجريـــــــــــــــــح إلى الثــــــــــــــــأر وفيــــــــــــــــــــه مــــــــــــــــــــن إحتضــــــــــــــــــــار النســــــــــــــور
هذه النهاية الكارثية لفخر الدين كان من فصولها أيضاً إعدام زوجاته وإبنه الأصغر حسن في دمشق، وإعدام أبنائه منصور وحيدر وبلك معه في الآستانة: ولم يسلم من أبنائه سوى حسين الذي إستبقاه السلطان لصغر سنه وربّي تربية عثمانية، وغدا سفيراً للدولة في الهند، ولم ينجُ من عائلة شقيقه يونس سوى إبنه ملحم. وبهذه النهاية كانت بداية نهاية الإمارة المعنية التي إستمرت مع الأمير ملحم ثم مع إبنه الأمير أحمد ضعيفة متعثرة حتى وفاة الأمير أحمد دون عقب سنة 1697، ووراثة الأمراء الشهابيين للمعنيين.

““ليس في تلك المحفوظات (المديتشية) ما يشير إلى إتفاقات وقّعها الأمير مع إحدى تلك الدول ضد الباب العالي، وقد تصرّف فخر الدين في منفاه بحكمة وكرجل دولة مسؤول”
(د. عادل إسماعيل لبنان في تاريخه وتراثه” الجزء الأول- ص 15)”

الأمير الكبير
حمل فخر الدين ألقاباً عدة، منها لقب “أمير صيدا والجليل” الذي كان أحبّ الألقاب إليه، ولقب “أمير لواء صفد”، ولقب “امير سنجق صيدا وبيروت وصفد”. وجاء في ملحق لتاريخ الأمير فخر الدين أنه في شهر ربيع الأول من السنة 1034هـ (1624م) “أتى لفخر الدين فرمان عال بأن يكون متولياً على ديرة عرب بستان من حد حلب إلى حد القدس ومعطى إسم جده الأمير فخر الدين سلطان البر على المقاطعات المذكورة، وذلك بمسعى من كتخداه الحاج درويش مقابل مائتي الف غرش ذهبي إلى السلطان”39.
هنا تجدر الإشارة إلى أن إعطاء لقب “سلطان البر” لجد الأمير فخر الدين المعني الثاني، الحامل إسمه (فخر الدين) مشكوك فيه، لأنه جاء في رواية مشكوك فيها، هي خطبة فخر الدين الجد أمام السلطان العثماني سليم الأول في دمشق سنة 1516، بعد إنتصار السلطان على المماليك في موقعة مرج دابق في السنة نفسها، إذ من يستحق هذا اللقب آنذاك ليس فخر الدين الذي كان أميراً غير مشهور يشتمل قطاعه على الشوف فقط، وإنما أمير بدوي هو ناصر الدين إبن الحنش الذي كانت إمارته تحيط بإمارة فخر الدين وكان الأبرز بين شيوخ وأمراء مرحلة فتح العثمانيين لبلاد الشام وبداية حكمهم فيها، ومع هذا لم يحصل على لقب “سلطان البر” مع أن باشوات السلطان سليم” ألبسوه خلعة، وتسلّم نيابة بيروت وصيدا ومقدّمية البقاع، وأعطي الأمرية الكبرى وذخيرة إبن السلطان وإقطاع نوى “40.
أفاض المؤرّخ بيجيه دي سان بيير في الحديث عن أعمال فخر الدين الثاني وإنجازاته، وإزدهار إمارته وتوسّعها، وشبّهه بملك، فقال: “ وأي ملك يستحقُّ لقب “الكبير” كفخر الدين. أربعون سنة من الفتوحات والإنتصارات والتقدّم السريع الرائع في ظل حكومة عاقلة حكيمة”41.
قلّد فخر الدين الملوك والسلاطين في التوسّع، وإنما على نطاق ضيّق، وقلّدهم في بناء القصور، وإعتبر السلطنة نقل تخم كما جاء عند مؤرّخه الخالدي الذي قال في معرض الحديث عن إنتصاره في عنجر، وأخذه أملاك آل سيفا وآل حرفوش ما يلي: “فقويت نفسه وكانت قوية من قبل ذلك وراودته نفسه على السلطنة، وقال: السلطنة نقل تخم وكلما حكمنا بلاداً نتقوّى برجالها وننتقل إلى غير، وصار يعمّر في بيروت حارة للوحوش تقليداً للسلطنة42.
إذن لقّب المؤرّخ الأوروبي بيجيه دي سان ببير فخر الدين بملك كبير. ولقبّه سائر المؤرّخين بالأمير فخر الدين الكبير، لكبره وشهرته، لا لتمييزه عن الأمراء المعنيين الذين يحملون إسمه نفسه، لأن إضافة لفظة “الثاني” كافيةٌ لتمييزه عنهم، وللدلالة عليه. لقد عُرف بلقب “الكبير” قبل فخر الدين ثلاثة من أمراء “الغرب”، هم جمال الدين حجى، وأخوه سعد الدين خضر، وناصر الدين الحسين إبن سعد الدين خضر، والأمير علم الدين سليمان الرمطوني. وعُرف بهذا اللقب بعده الأمير بشير الشهابي الثاني. لكن الأمير فخر الدين هو الأكبر بين جميع هؤلاء الأمراء، والأكبر بين سائر الأمراء والحكام الأهليين في لبنان.
إن الأمراء البحتريين التنوخيين، الذين هم أشهر أمراء المناذرة اللخميين ، عُرفوا بأمراء منطقة “الغرب” وكان توسّعهم خارج هذه المنطقة محصوراً بمدينتي بيروت وصيدا وبالقرى المجاورة للغرب. وأقصى ما بلغه الأمراء الشهابيون من نفوذ خارج لبنان هو إلتزامهم لصفد. أما فخر الدين، فقد إمتد نفوذه من حلب وانطاكية في شمال سورية، إلى غزّة في جنوب فلسطين، كما وصل شرقاً إلى تدمر، وإلى صرخد (صلحذ) في جبل حوران. وتبعاً لذلك، ولإمتلاكه الجيش القوي، والقلاع التي بلغت الثلاثين، يكون قد بلغ من السيطرة البرية ومن علو الشأن ما لم يبلغه أي أمير، أو حاكم أهلي آخر، حتى إنه ما كان ينقصه ، كما قال المحبّي سوى دعوى السلطنة.
وبالمقارنة بين فخر الدين والملوك الفينيقيين، في بعض الوجوه، يمكن القول إنه إمتلك القوة البرية، وتوسّع براً في بلاد الشام، وغدا أهم حاكم أهلي فيها في زمانه. فيما كان للملوك الفينيقيين القوى البحرية، وتوسٍّعوا غرباً في حوض البحر الأبيض المتوسط حيث أقاموا المستعمرات والمحطات التجارية، لكنهم كانوا حكاماً لممالك مدينية، قلما إتحدت، أبرزها ارواد وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا (صيدون) وصور، ولم تتجاوز سيطرتها البرية شرقاً حدود الجبال اللبنانية.

“عرض دوق نابولي على فخر الدين حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين العرض،”

الرمز والشخصية الخلافية
كان فخر الدين ككل الكبار رمزاً، وكمعظمهم شخصية خلافية. إنه من أهم الرموز في تاريخ لبنان، كما هو أحد مواضيعه الخلافية فيما يتعلّق بمذهبه ومشروعه وعلاقاته بالخارج. لم يُنظر إليه، على العموم، نظرة موضوعية خالصة، بل كثيراً ما نُظر إليه من زوايا إيديولوجية، وخلفيات سياسية مختلفة، فإذا هو عند البعض نقيض ما يراه البعض الآخر. وقد نشأ الإختلاف حوله خصوصاً بين المؤرّخين اللبنانيين، وقوي بعد تأسيس دولة لبنان الكبير في سنة 1920 بحماية فرنسية، واستمرّ بعد الإستقلال، وسيظل طالما هناك خلاف على هوية لبنان وكيانيته، وصراع داخلي فيه، فئوي أو طائفي، وصراع على تاريخه عطّل حتى اليوم محاولات إصدار كتاب التاريخ المدرسي الموحّد، في الوقت الذي أنهى إتفاق الطائف، الموقّع سنة 1989، الحرب اللبنانية، ونصَّ مع الدستور اللبناني، المعدَّل على أساسه سنة 1990، على نهائية الكيان اللبناني، وعلى انه بلد عربي فيما كان معتبراً ذا وجه عربي.
برزت عند اللبنانيين إتجاهات فكرية عدة حول الدولة والقومية، هي فكرة الدولة الإسلامية التي هي إستمرار للنهج الفكري الذي كان سائداً في عهد الدولة العثمانية، وإستمر بعد ضعفها ونهايتها.وفكرة الكيان اللبناني. وفكرة الدولة العربية. وفكرة القومية اللبنانية المقترنة بصيغة الدولة المسيحية، وجلّ أتباعها من المسيحيين المؤمنيين بالكيانية اللبنانية المقترنة عند بعضهم بضرورة الحماية الفرنسية. وفكرة القومية السورية التي عبّر عنها هنري لامنس في كتابه عن سورية الصادر سنة 1920، قبل أن يعبّر عنها حزب أسسه انطون سعادة هو الحزب السوري القومي الإجتماعي. وفكرة القومية العربية.
إن صورة فخر الدين عند أصحاب الفكرة الإسلامية هي صورة المعادي للدولة العثمانية، والنصير لأعدائها. وهي عند أصحاب الفكرات الأخرى صورة البطل القومي، إذ هو عند أصحاب فكرة القومية اللبنانية بطل قومي لبناني، وعند بعضهم معيد بناء الوحدة الجغرافية والسياسية لفينيقيا القديمة. وهو عند أصحاب فكرة القومية السورية بطل قومي سوري، وعند أصحاب فكرة القومية العربية بطل قومي عربي عمل على تحرير قومه من الأتراك. وإضافة إلى هذه الصور هناك صورة لفخر الدين عند بعض المؤرّخين، هي صورة الملتزم في نطاق الإلتزام الضرائبي السائد في العهد العثماني، فلقد كان في نظر هؤلاء يوسّع منطقة إلتزامه إنطلاقاً من إمارته في الشوف، وكان أكثر ما أعطته له الدولة العثمانية هو رتبة أمير لواء، أي أمير سنجق بيروت وصيدا وصفد، فيما اخذ العديد من الإلتزامات بأسماء أبنائه.
أُعطي لحراك فخر الدين السياسي والعسكري، وللهدف منه، أوصاف عدة، منها بناء دولة قوية ومتطوّرة، والتحرّر من الأتراك المستبدّين، حتى إن الأمير شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام، والمشهور بتأييده للدولة العثمانية الإسلامية وبدفاعه عنها، قال: إنه لو استوسق الأمر لفخر الدين كان سلطاناً مسلماً عربياً في دولة عربية في بر الشام43.
ومن الأمور الخلافية حول فخر الدين، إضافة إلى الإختلاف حول صورته وحراكه وعلاقاته الخارجية، طائفته ومذهبه، وهذا ما إنعكس على الخطاب السياسي للطوائف اللبنانية. لقد حاول البعص تنصيره وتحديداً مورنته، وإعتبره بعض المؤرّخين مسلماً سنياً، وتمسك المؤحِّدون (الدروز) بدرزيته، وافتخروا بإنجابهم أكبر شخصية في تاريخ لبنان.
كُرّم الأمير فخر الدين بكثرة الكتابات عنه. وكُرّم بأشهر المسرحيات التي تتناول مآتيه وأبرز محطات تاريخه، وإنتصاره الكبير في عنجر سنة 1623. وأُطلق إسمه على شوارع وجادات عديدة في العاصمة اللبنانية بيروت، وفي أمكنة أخرى، منها، على سبيل المثال، الشارع الرئيس في بلدة مزرعة الشوف الذي يمّْر في “حارة المسيحيين” فيما أطلق على الشارع الرئيس الآخر فيها الذي يمرُّ في “حارة الدروز” إسم الأمير بشير الشهابي الثاني، وذلك من قبيل التركيز على الوحدة الوطنية وتجاوز الطائفية.
وأُقيم لفخر الدين تمثال، بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لولادته، على مدخل وزارة الدفاع في اليرزة كرمز وطني نضالي، سياسي وعسكري، ونهضوي. وحين طُرحت فكرة إقامة تمثال له بهذه المناسبة في الشوف، رغب أهل دير القمر في إقامته أمام قصره ببلدتهم لأنها عاصمة إمارته. ورغب أهل بعقلين في إقامة التمثال ببلدتهم لأنها مسقط رأس فخر الدين، ومقر إمارته الأول، ومنطلقها، ومقرُّ الآباء والأجداد ، وكان لهم ما أرادوا بالإتفاق مع أهل دير القمر، مع الإشارة إلى أنه يحق لدير القمر أن يقام فيها كبعقلين تمثالٌ لفخر الدين، وخصوصاً أنه ليس في أي منهما ضريح له أو مكان يضمُ رفاته. ووضع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الأساس للتمثال في 6 آب 1972 ، في باحة سراي بعقلين (المكتبة الوطنية اليوم) بحضور شيخ العقل محمد أبو شقرا والنائب بهيج تقي الدين ووفد من دير القمر منه المؤّرخ جوزيف نعمة. وشّكل أهل بعقلين لجنة إسمها “لجنة تكريم فخر الدين” جمعت التبّرعات وأوكلت إلى فنّان إيطالي صنع التمثال، فأقام مدّة في بعقلين ليتعرّف على هيئة أهلها وأهل المنطقة. وقد أزاح الرئيس سليمان فرنجية الستار عن التمثال في 23 آب 1975، بعد بضعة أشهر من قيام الحرب اللبنانية، التي كانت في أحد وجوهها حروباً داخلية ذات طابع طائفي ومذهبي، كما كانت، لدخول اللبنانيين في لعبة الأمم، حروبهم من أجل الآخرين، أو حروب الآخرين على أرض لبنان.
كان من فصول الحرب اللبنانية، ومسارحها، حرب الجبل التي قامت بين قطبي الثنائية التاريخية فيه: الدروز والمسيحيين، وهي ثنائية أوجدها وعزّزها تسامح فخر الدين وقومه الدروز، بتشجيعهم وتسهيلهم إنتقال المسيحيين من جبل لبنان الشمالي إلى جبل لبنان الجنوبي، كما وردت الإشارة إلى ذلك. إنتصر المقاتلون الدروز في آخر مراحل حرب الجبل في أيلول 1983 وشباط 1984, وبعد إنتصارهم جرى نسف تمثال فخر الدين في بعقلين كردّة فعل فورية على تصريح أحد خصومهم، عند خروجه من القصر الجمهوري في بعبدا، وقوله: “نحن أبناء فخر الدين”، ولسبب رئيس أهم من ذلك بكثير، هو التعبير عن النقمة على المارونية السياسية وتزويرها للتاريخ، إذ إنها في الوقت الذي قامت بهذا التزوير، وغالت في تمجيد فخر الدين، وأدلجة شخصيته خدمة لمشروعها السياسي، عملت ميليشياتها على زعزعة أسس الثنائية الدرزية المسيحية التي أوجدها فخر الدين من خلال مشروعها الفئوي الانتحاري، وصعود مقاتليها مع الدبابات الإسرائيلية إلى الجبل أثناء الإجتياح الإسرائيلي، ومقاتلتهم للدروز، وتهديدهم إياهم بالتهجير.

قصر الأمير فخر الدين في دير القمر
قصر الأمير فخر الدين في دير القمر

تناول المؤرّخ كمال الصليبي مسألة نسف تمثال فخر الدين وتزوير المؤرخين الموارنة للتاريخ، وإستياء الدروز من هذا، وذلك في معرض حديثه عما سمّاه “الحرب حول تاريخ لبنان” في كتابه “بيت بمنازل كثيرة” الصادر في سنة 1990، فقال:
“جاء أول تعبير عن هذه النشوة [ نشوة الإنتصار] بين الدروز نسفاً لتمثال فخر الدين في بعقلين، وإزاحة حطامه جانباً. وبدا هذا لغير الدروز أمراً غريباً خصوصاً ان صورة الأمير نفسه بقيت تحتل المكان المخصّص لها في قاعة قصر آل جنبلاط التاريخي ببلدة المختارة. ولم يكن هناك بين اللبنانيين – ومنهم الدروز- من يشك في أن شخصية فخر الدين، في تاريخ لبنان حرية بالإجلال الخاص من جميع أبناء البلاد، لكن نسف تمثال هذا الأمير، وفي الوقت الذي تمَّ فيه بالذات، كان عملاً رمزياً له مغزاه العميق بالنسبة إلى الدروز. فالأمير هذا كان في أيامه شخصية درزية إختلف في شأنها إلى أن جاء المؤرّخون فأمعنوا في تمجيدها وفي التضخيم بالمنصب الذي كانت تحتله خدمةً لأغراض مسيحية خاصة لا علاقة لها بالشخصية التاريخية. وهكذا فإن تلك الشخصية البرونزية التي أسقطت عن قاعدتها أرضاً ثم ألقيت بقاياها في المهملات، كانت تمثّل فخر الدين بتمجيده المسيحي الذي لا يستحقه. وكان تمثاله قد أقيم في مسقط رأسه بالشوف من قبل المؤسسة المسيحية اللبنانية الحاكمة ليقف شخصه التاريخي المزيّف شاهد زور على ما قامت به هذه المؤسسة نفسها من التزوير بشأن تاريخ لبنان. أما الصورة التي بقيت تحتل مكانتها في قصر المختارة، فهي تمثّل من ناحيتها شخصية فخر الدين التاريخية الحقيقية التي كان للدروز قبل غيرهم أن يقولوا كلمة الفصل بشأنها”44
بعد ثلاثين سنة من نسف تمثال فخر الدين في بعقلين، وُضع تمثال بدلاً عنه يختلف عنه بإختلاف الجهة الذي وضعته والرمز الذي تراه فيه، وهو الرمز الذي ظل له في الصورة الحقيقية المائلة في أذهان الدروز، وبإختلاف إسم المكان وشكل التمثال. كان إسم المكان سراي بعقلين، وفيها سجن يكتنفه الظلام، وربما المظلومية، كان فيه عند مهاجمته وإطلاق سراح المسجونين منه، في بداية الأحداث اللبنانية ، عشرات المساجين، وقد حوّله الزعيم وليد بك جنبلاط إلى مكتبة وطنية إفتتحها في 13/3/1987، وغدت مركز ثقافة، ومنارة فكرية. وكان التمثال القديم يظهر فخر الدين ممتطياً جواداً، وشاهراً سيفاً كأنه احد الفاتحين، فيما التمثال الجديد يظهره راجلاً واضعاً يده على سيف في وسطه اي في وضع المتأهّب للقتال، وللدفاع، وقد أزيح الستار عنه في 8 تشرين الثاني 2014 في إحتفال أقيم برعاية النائب وليد بك جنبلاط.
وبعد إنتهاء حرب الجبل بثلاثين سنة، والحرب اللبنانية بأربع وعشرين سنة، لا تزال تجري في لبنان حرب باردة، وفصول من الحرب الساخنة، كما لا يزال مهدّداً في أمنه ووجوده وكيانه ومصيره. وكان من المفروض أن تقوم فيه دولة على غرار ما أنشأه فخر الدين، بل افضل بكثير من ذلك، نظراً لتوافر الإمكانيات وإنفساح المجالات واختلاف الظروف. كما من المفروض ان تكون هناك كتابة صحيحة لتاريخ لبنان كأحد الأدلة على إنتهاء، الحرب فيه، وأحد العوامل التي تحول دون تجدّدها. إلا ان الحرب على تاريخ لبنان لا تزال قائمة، ومن مواضيعها الخلافية شخصية فخر الدين. وإذا كان من الطبيعي إستمرار الإختلافات حوله عند واضعي كتب التاريخ العام، فإنه من غير المنطقي بقاؤها في كتب التاريخ المدرسي الذي يُدرّس لجميع تلاميذ لبنان.
إن ما ورد ذكره عن التفسيرات والتقييمات المختلفة لجوانب من شخصية فخر الدين ورمزيته، ناتج من إختلافات وجهة النظر إليه. لكن هناك ما يجمع بين المؤرّخين الذين كتبوا عنه، وهو إقرارهم بعظمته، إذ إن الجميع يعترفون بأنه رمز تسامح وتوحيد، ورمز نهضوي، وأكبر حاكم عرفه لبنان، وواضع أسس كيان لبنان، وقائد صنع الأحداث، وقام بدور كبير هو أحد الشواهد على أهمية قومه الدروز في بلاد الشام، وأفضل مثل عن كبر دور اللبنانيين بالرغم من قلة عددهم، وكبر دور لبنان بالرغم من صغر مساحته.

الطب والجراحة في مصر القديمة

Medicine in Ancient Egypt

Imhotep

الطب والجراحة في مصر القديمة

أبو الطب أبقراط درس الطب في معبد أمحوتب
وأقرّ بمساهمة الطب المصري في تطوير الطب اليوناني

المصريون أتقنوا الجراحات وتقويم العظام وعلاج الأسنان
وطب الأمعاء وجراحة الرأس والطب النسائي والنفسي

مصر الفرعونية أنشأت كليات الطب ودونت قواعده
ووفّرت الضمان الصحي والإجازات المرضية للعاملين

يعتبر طب مصر القديمة أقدم طب موثق منذ بدء الحضارة عام 3300 ق.م. لغاية الغزو الفارسي عام 525 ق.م. لم تتغير ممارسة الطب المصري القديم طوال تلك الحقبة، وقد بلغ تطور الطب والجراحات في مصر حداً جعل من مصر القديمة محجة طالبي العلم وكل راغب في تعلم شيء من الطب أو من سبل إعداد العلاجات أو إجراء الجراحات ، وكان ملوك الدول المجاورة لمصر يبعثون للفرعون رسائل يرجونه فيها أن يرسل إليهم أطباء مصريين للعناية بمن يحبون. وقد وجد علماء الآثار خطاباً مرسلاً من أحد ملوك الحيثيين إلى فرعون مصر يرجوه فيه أن يرسل له طبيباً لعلاج أخته حتى تستطيع انجاب طفل، وقد ردّ الفرعون على ملك الحيثيين بأن سبب عدم الإنجاب لدى اخته يعود إلى تقدمها في السن وبالتالي بلوغها «سن اليأس» مما يعني أنه لا يمكن للطب أن يفعل شيئاً في حالتها. ونعرف أن ابقراط (ابو الطب) درس الطب في معبد أمحوتب في مصر وهو أقرّ بمساهمة الطب المصري القديم في تطوير الطب اليوناني. ويبدو التأثير الكبير للطب المصري القديم على حضارة اليونان وعلوم الطب فيها من واقع ان المصادر الأساسية للمعلومات عن الطب المصري القديم كانت كتابات هوميروس التي يعود تاريخها إلى العام 800 ق.م. وكذلك كتابات هيرودوتس التي تعود إلى سنة 440 ق.م.. لقد اعتنى اليونانيون على العموم بالتعلم من حضارة مصر ليس فقط على صعيد الطب بل في المجال الفلسفي أيضاً، إذ كان لمعابد مصر تأثير كبير على فلاسفة اليونان وقد درس عدد منهم أبرزهم فيثاغوراس الحكمة في معابد المصريين وعلى يد حكمائهم..

تقدم كبير في كل المجالات
وتشير الآثار المكتشفة في مصر أن طب مصر القديمة كان من التقدم بحيث شمل اجراء جراحات خارجية وتقويم العظام واستخدام عدد كبير من العقاقير، كما برع المصريون في علم الجراحة بسبب ما خبروه عن جسم الإنسان عبر مهنة التحنيط وقاموا بتطوير جملة من الأدوات الجراحية الدقيقة والفعالة. .وبالرغم من تداخل الطب المصري القديم بالسحر والتعاويذ، إلا أن الأبحاث الطبية أظهرت فعالية العلاجات المصرية القديمة في كثير من الأحيان بل واتفاق التراكيب الدوائية المصرية القديمة بنسبة 37% مع الصيغ المعروفة وفقاً لدستور الصيدلية البريطاني الصادر عام 1973. وقد ذكرت النصوص الطبية المصرية القديمة خطوات محددة للفحص والتشخيص والعلاج غالباً ما كانت منطقية وملائمة من منظور الطب الحديث.
حسب المخطوطات المصرية القديمة، فإن أحد الكهنة الكبار ويدعى «إمحوتب» يعتبر مؤسس علم الطب في مصر القديمة، كما يعتقد أنه مبتكر الكتابة الهيروغليفية ، مما جعل المصريين القدماء يقدسونه في العصور المتأخرة من عصر الفراعنة باعتباره «إله الشفاء»، كما إن تقدم التكنولوجيا الطبية بالاضافة الى التوصّل الى ترجمة النقوش والمخطوطات البردية الطبية المكتوبة باللغة الهيروغليفية عام 1822 ساهم الى حد كبير بفهم الطب المصري القديم وتقدير الأهمية الخاصة التي كانت له في العصور القديمة.

  كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالأعشاب والتقنيات الجراحية
كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالأعشاب والتقنيات الجراحية

مخطوطات ومكتشفات
وتعتبر مخطوطتا «ادوين سميث» و«إيبرس» من أهم المخطوطات الطبية البردية حول الطب في عصر الفراعنة، ومن المحتمل أن تكون مخطوطة «سميث» قد كتبت عام 1600 ق.م. ويعتقد أن هذه المخطوطة مأخوذة عن مخطوطة قديمة تعود إلى 3000 سنة ق.م. وأن أمحوتب هو من كتب هذه المخطوطة التي هي عبارة عن كتاب تدريسي يتضمن ملاحظات دقيقة حول علم التشريح ومعاينة المريض والتشخيص والعلاجات لعدد كبير من الأمراض الأكثر شيوعاً آنذاك. أما مخطوطة «إيبرس» فيعود تاريخ كتابتها الى العام 1550 ق. م. ويعتقد أنها قد نسخت عن مجموعة من المخطوطات التي يعود تاريخها الى العام 3400 ق.م. وهي عبارة عن مجموعة من التعويذات والممارسات الطقسية التي تتوخى «طرد الشياطين المسببة للمرض».
مخطوطة «ادوين سميث»
تختلف مخطوطة سميث عن باقي المخطوطات الطبية البردية التي تعتمد السحر في غالبيتها بأنها تؤكد على وجود أسس علمية ومنطقية للطب المصري القديم، إذ إن المخطوطة تتحدث عن طريقة البحث الطبي وكيفية التشخيص وتهيئة العلاج بحيث يمكن اعتبارها دليلاً تعليمياً لطب المكونات العلاجية والتي تستخدم عناصر حيوانية ونباتية فضلاً عن الفاكهة والمعادن.
تتضمن المخطوطة شروحات لطرق معالجة الجراح الناتجة عن الصدمات وبخاصة الجراح الناتجة عن المعارك العسكرية، وتبتدئ بكيفية علاج جراح الرأس ثم جراح الرقبة فجراح الاذرع ثم جراح الصدر. وحسب المخطوطة فإن العملية العلاجية يجب أن تبدأ بفحص المصاب وتشخيص الحالة ثم التنبؤ بامكانية العلاج وبعد ذلك يعرض على المصاب الخيارات العلاجية، بدءاً بتقطيب الجراح والعلاج والوقاية من الالتهاب بواسطة العسل ووقف النزف بواسطة اللحم النيء وبعض الطرق العلاجية الأخرى..
تحتوي هذه الوثيقة أيضاً على ملاحظات تشريحية فتقدم أول توصيف لعملية تقطيب الجمجمة، السطح الخارجي للدماغ، السحايا، السائل الدماغي، والنبض داخل الجمجمة.
كما إن الاجراءات المعتمدة في هذه المخطوطة تدل على مستوى معرفي في مجال الطب يتخطى معرفة أبقراط الذي مارس الطب بعد ألف سنة من تاريخ كتابة المخطوطة.

مخطوطة «إيبرس»
تعتبر مخطوطة «إيبرس» من أقدم وأضخم مخطوطات الطب المصري القديم المحفوظة، وهي تحتوي على 700 «وصفة سحرية» وعلاج، كما تحتوي على دراسة عن القلب تفترض أن القلب هو مركز التزود بالدم وتتصل به أوعية لتزويد كل عضو من أعضاء الجسم بالدم. ويبدو أن قدامى المصريين لم يعرفوا الكثير عن الكلى وجعلوا من القلب مركزاً لالتقاء عدد من الاوعية التي كانت تنقل كل السوائل الى الجسم، الدم، الدموع، البول، والمني.
تحتوي المخطوطة ايضاً على بعض النصوص المتعلقة بالامراض العقلية كالاكتئاب والخرف والتي كان ينظر اليها بنفس الطريقة التي ينظر بها الى الامراض الجسدية. اضافة الى ذلك، تحتوي المخطوطة على نصوص عن الحمل ومنع الحمل، الامراض المعوية، امراض العين، الامراض الجلدية، طب الاسنان، الحروق، وتقويم العظام..
من أهم الوصفات التي التي كان يكتبها الطبيب المصري القديم وصفات لعلاج العيون. إن كثرة الرمال وعواصف الغبار وكثرة الذباب والحشرات جعلت إصابات العين كثيرة . وكان تزيين العينين بالكحل من أساليب الوقاية الأكثر شيوعاً، وكذلك كان الطبيب المصري القديم يصف الحقن الشرجية كثيراً وكانت هناك طرق لمنع الحمل أو لزيادة القدرة الجنسية، أو القدرة على الحمل أو علاج أوجاع الجسم عند المرأة.
نعلم في عصرنا هذا أن المصري القديم كانت له معرفة بجميع الأمراض وجميع أعضاء الجسم . ونجد في بعض الموميوات أعضاء اصطناعية من الخشب، كما كان خبيراً بتقنيات فتح الجمجمة. ويدل شكل العظام المعالجة بسبب كسر أو جرح أن الشخص المعالج عاش سنوات طويلة بعد أن أجريت له العملية الجراحية. .

لائحة علاجات
في ما يلي بعض العلاجات التي تضمنتها مخطوطة إيبرس:
الربو: خليط من الأعشاب يسخن على طوبة من طين ليتنشق المريض الدخان المنبعث من الخليط.
البطن: لإفراغ البطن تمزج مقادير متساوية من حليب البقر، الحبوب، والعسل ثم تطبخ وتصفَّى وتقدم للمريض على أربع دفعات.
علامات الموت: نصف بصلة ممزوجة برغوة الجعة كانت تعتبر علاجاً لذيذاً لدرء الموت.

مخطوطة «كهون» المتعلقة بأمراض النساء
تعتبر مخطوطة «كهون» أقدم وثيقة طبية على الاطلاق. يعود تاريخها الى العام 1800 ق.م. و وهي تقدّم عرضاً لامراض النساء وطرق علاجها كمشاكل الحمل والخصوبة ومنع الحمل. تتضمن المخطوطة 34 قسماً يتطرق كل قسم الى مشكلة معينة بحيث تشخص المشكلة ويقترح طريقة علاجها من دون التنبؤ بحالة المريض المستقبلية بعد العلاج. تنحصر العلاجات باستخدام الأدوية دون اللجوء الى اية عمليات جراحية. يعتبر الرحم المصدر الأساسي للامراض النسائية التي عادة ما تظهر في اقسام مختلفة من الجسم.
تعتمد الآقسام السبعة عشر الاولى نفس التصميم بحيث تبدأ بتسمية المرض ثم تعمد الى توصيف مختصر لعوارضه التي غالباً ما تكون لها علاقة بالأعضاء التناسلية. يلي هذه الأقسام قسم يصف عملية التبخير بالدخان التي تؤدي الى حصول الحمل ثم ثلاثة اقسام تتعلق بمنع الحمل وكيفية تحقيقه بواسطة وصفة طبية مكونة من روث التمساح الممزوج بالعسل والحليب. الأقسام السبعة اللاحقة تتعلق بطريقة فحص الحمل التي تعتمد على وضع بصيلة بصل عميقاً داخل قطعة من اللحم وتعتبر الامرأة حاملاً اذا تمكنت من شم رائحة البصل. .

الغذاء
أذا اردنا دراسة الحالة الصحية ضمن حضارة معينة يجب ان نأخذ في الاعتبار العادات الغذائية لتلك الحضارة. لقد كان المصريون القدامى على وعي تام بأهمية التوازن والاعتدال في النظام الغذائي. لكن بالرغم من توافر المحاصيل الزراعية في معظم الاوقات، فإن مصر القديمة لم تنج دوماً من المجاعة.
كان القمح والشعير من أهم المحاصيل الزراعية في مصر القديمة وكان المصريون يستخدمون القمح والشعير لصناعة الخبز بطرق مختلفة ويستخدمون الشعير لصناعة الجعة، كما إن زراعة الخضار واشجار الفاكهة كانت منتشرة على نطاق واسع.
استخدم المصريون القدامى الاعشاب والتوابل والزيت المستخرج من نبتة بذر الكتان في تحضير وجباتهم. أما لحوم الغنم، الماعز، الخنزير والطيور فكانت متوفرة للطبقة العليا فقط بينما كان السمك في متناول الجميع.
كانت التقاليد الراسخة والمستمرة من أهم ميزات مهنة الطب في مصر القديمة. وكان في قمة الهرم كبير المسؤولين الطبيين، وهو الذي كان يشرف على المدراء والمفتشين الذين كانوا بدورهم يشرفون على الاطباء. كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالاعشاب والتقنيات الجراحية. بالرغم من ذلك، فإن بعض اطباء مصر القديمة كانوا يمارسون السحر والرقية والتعويذات، بالإضافة الى وجود مراتب في ممارسة الطب واختصاصات متعددة كطب العيون وطب الجهاز الهضمي وطب الشرج وطب الاسنان..
انتشرت في مصر القديمة مؤسسات كانت تدعى «دور الحياة» ويعتقد أنه كانت لتلك المؤسسات وظيفة علاجية إذ وجدت فيها نقوش لأسماء بعض الاطباء، وقد تمتع موظفو تلك المؤسسات ببعض الامتيازات كالضمان الصحي و تعويض نهاية الخدمة والاجازات المرضية.

“الطب المصري القديم صنع جهاز استنشاق من الصخور الساخنة والأعشاب لمداواة الســـعال والإلتهابات الرئوية”

ممارسة الطب
تحلّت ممارسة الطب في مصر القديمة بسمعة ممتازة. وكان للأطباء المصريين بعض المعرفة في علم التشريح حيث كان بمقدور المختصين بالتحنيط أن يدخلوا أداة معقوفة من خلال فتحة الأنف ليتمكنوا من كسر عظم غلاف الجمجمة الرقيق واخراج الدماغ، كما إنه كانت للمحنطين معرفة بمواقع الأعضاء الداخلية التي كانوا يخرجونها عبر شق صغير في أصل الفخذ الأيسر. يبقى أن نشير هنا الى أنه لا يمكن التأكد مما اذا كان لدى اطباء مصر القديمة المعرفة التشريحية التي كانت لدى المحنطين.
كان الاطباء المصريون أيضاً على دراية بوجود النبض وعلاقته بالقلب ولكنهم لم يميزوا بين الاوعية الدموية والأوتار والاعصاب، وكانت لديهم نظرية تقول بوجود أقنية تحمل الهواء والمياه والدم الى الجسم كما يحمل نهر النيل الماء لمصر. فاذا سد مجرى النيل تضررت المحاصيل كذلك الحال بالنسبة لجسم الانسان، اذا سدت المجاري تعرض الإنسان للمرض ولهذا السبب كانوا يستخدمون الملينات لفتح المجاري..

الجراحة
كان الاطباء المصريون يمارسون الجراحة لعلاج الاصابات المسببة للجراح، وهذه الإصابات صنفها المصريون حسب درجة الخطورة الى ثلاث فئات: الاصابات القابلة للعلاج، الاصابات المشكوك بقابليتها للعلاج، والاصابات غير القابلة للعلاج. الادوات الجراحية التي استخدمها الاطباء شملت السكاكين، الكلابات، المثقاب، ملاقط السحب، الكماشات، الميزان، الملاعق، المنشار، واوعية مخصصة لحرق البخور.
من المرجح أن ختان الذكور كان سائداً بين المصريين القدامى بالرغم من عدم ذكر الطريقة التي كانت تجرى بها، وبالرغم من عدم وجود أدلة كافية تؤكد ذلك كما إن هناك بعض الوثائق التي تشير الى ان عمليات الختان كانت تحصل اثناء الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة ادخال اعضاء جدد الى بعض الجمعيات الدينية، مما يوحي بأن ممارسة الختان كان امراً خاصاً وليس عاماً. الاطراف الاصطناعية استخدمت ايضاً من قبل المصريين القدامى كأصابع القدم الاصطناعية ومقلة العين الاصطناعية ولكن لغايات تجميلية فقط.
ان استخدام الجراحة والتحنيط، وتشريح الجثث على نطاق واسع سمح للمصريين القدامى بفهم وظائف معظم اعضاء الجسم بصورة صحيحة. على سبيل المثال، لقد افترض المصريون أن وظيفة القلب كانت تنقية الجسم من الشوائب وتزويده بالحيوية وهذا الافتراض لا يبتعد كثيراً عن وظيفة القلب بإمداد الجسم بالاوكسيجين وتنقيته من ثاني أوكسيد الكربون.

طب الأسنان
بالرغم من أن طب الأسنان لم يكن بارزاً كباقي حقول الطب، فقد كان حقلاً مهماً، وقد بدأ المصريون بممارسة طب الأسنان كمهنة مستقلة في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد.واحتوى النظام الغذائي في مصر القديمة على الكثير من المواد الكاشطة كالرمل المتبقي من عملية طحن الحبوب مما تسبب بتآكل أسنان المصريين بصورة ملحوظة – جميع بقايا المصريين تظهر اسناناً بحالة سيئة جداً – ولكن علماء الآثار لاحظوا تناقصاً ملحوظاً في شدة وعدد حالات التآكل خلال الحقبة الواقعة ما بين 4000 و 1000 سنة ق.م. ويعتقد أن يكون تحسن تقنيات الطحن قد تسبب بهذا التناقص.
علاج الأسنان لم يكن فعالا ًعلى الاطلاق بحيث أن كل ما كان يرجوه من عانى من التهاب في أحد اسنانه، أن يفقد هذا السن. ولم يعثر على أية وثائق تشير الى وجود أدوات يمكن استخدامها لقلع الأسنان من قبل اطباء الاسنان في مصر القديمة وهذا يعني أنهم لم يمارسوا عملية قلع الأسنان. بعض البقايا تظهر عمليات قلع اسنان قسرية وكان الافيون يستخدم لتخفيف حدة الألم.

صورة من أحد المعابد المصرية القديمة تظهر الحياة بعد الموت وقد صورت الروح كطائر أخضر يغادر الجسد
صورة من أحد المعابد المصرية القديمة تظهر الحياة بعد الموت وقد صورت الروح كطائر أخضر يغادر الجسد

مجموعة الأدوات الطبية
توجد على حائط معبد كوم أمبو من عهد البطالمة لوحة تُعرف بأنها «خزنة الأدوات الطبية» لا يزال علماء الآثار يبحثون في كيفية استخدام الطبيب المصري لكل من تلك الأدوات في العلاجات المختلفة . وتظهر اللوحة مقصاً و زرديات و ميزاناً و منشاراً وخرامات وقطع لوف وأكياساً وكؤوساً وشنائط. وكان المقص يشبه إلى حد كبير مقصاً موجوداً في المتحف القبطي بالقاهرة والذي استخدمه أطباء أقباط لمعالجة جروح كبيرة قبل القيام بخياطة الجرح ، وكان المقص يستخدم أيضاً في قص الأربطة لربط الجروح وكضمادات . وكانت الأكياس في الغالب تستخدم للحفاظ على العقاقير والأدوية. أما الشنائط فكانت تستخدم في الكحت أو لتنظيف العظام ولوضع الدواء .
الجهاز يعتبر خرامة لثقب الجمجمة ولفتحها، فكان الطبيب المصري القديم يقوم بقطع وإزالة قطعة من عظم الرأس إما بالكحت أو باستخدام إزميل.
لم تذكر عمليات الرأس في المخطوطات المصرية القديمة وإنما وصلت إلينا عن طريق «كوربوس هيبوكراتيكوم» ، كما عثر على عمليات في الدماغ أجريت على أناس أحياء من اقدم عصور مصر القديمة ، ومن عهد الدولة الحديثة و العصر المتأخر، وكل هذا مثبت تاريخياً وتدل علامات الشفاء على نجاح عمليات جراحية .
كان من عتاد كل طبيب عدة من الأربطة. واستخدم المصري القديم لذلك أربطة من التيل المختلفة الأنسجة والطول والعرض. من تلك الأربطة ما يسمى بالمصري القديم «فيتت» وهي ألياف نباتية، وكان هذا الرباط يغمس في المادة العلاجية مثل عسل نحل و مرهم أو زيت ، أو يستخدم جافاً أحياناً، كما كانت الألياف النباتية تستخدم كضمادات. وتذكر المخطوطات نوعين من ألياف «فيتت» و «فيتت-إن-ديبت» أي فيتت من نبات الديبت.الأربطة يصنع كل منها من نبات مختلف.
ويبدو أن الطبيب المصري القديم عرف «جهاز استنشاق» وتوجد مخطوطة تصف كيفية صناعة هذا الجهاز الذي كان يحتوي على صخور ساخنة ، وعقار طبي ، ورأس وقصبة من الغاب، وكان يستخدم لعلاج الكحة واحتقان الصدر.

مرض السل
أشار عدد من الأبحاث التي اجريت على بعض بقايا المصريين القدامى بتفشي مرض سل العمود الفقري في مصر القديمة. كانت أهم الدلائل لتفشي هذا المرض هو العثور على عدد من الحدبات في تلك البقايا والتي يسببها انهيار الفقرات الصدرية بسبب ذلك المرض، كما إن العثور على بعض المنحوتات الحجرية والخشبية والعاجية التي تمثل اشخاصاً مصابين بالحدب يدعم نتائج هذه الأبحاث.

شلل الأطفال
لا يمكن التحقق من الإلتهاب الفيروسي لخلايا القرن الامامي في الحبل الشوكي وبالتالي التحقق من وجود دليل على شلل الأطفال الا بعد انقضاء فترة الحضانة للفيروس، الا أن الباحثين اعتمدوا على قصر الساق اليسرى في بعض المومياء كدليل لانتشار شلل الأطفال في مصر القديمة.

التشوهات الخلقية: القزامة
هناك حوالي 207 حالات معروفة من القزامة من خلال بقايا الهياكل العظمية معظمها يتمثل برأس وجذع طبيعيين وأطراف قصيرة. تمثال القزم «سينيب» مع عائلته الطبيعية البنية خير دليل على أن المصريين القدامى كانوا يتقبلون الأقزام كباقي افراد المجتمع.

السحر والطقوس الدينية
كان السحر والطقوس الدينية جزءاً لا يتجزأ من حياة المصري اليومية. كان المصريون يعتقدون أن الآلهة الشريرة والشياطين هي التي تسبب الامراض ولهذا كان العلاج يبدأ بمناشدة الآلهة المعبودة. غالبية المعالجين كانوا من الكهنة الذين يستخدمون السحر والتعويذات كجزء من العلاج. ويمكن ملاحظة العلاقة بين السحر والعلاج من خلال استعراض المكونات المستخدمة والتي كانت في معظمها تستخلص من مادة معينة أو من نبتة أو من حيوان له سمات مشابهة لسمات المرض تماشياً مع مبدأ «علاج المثيل بالمثيل» الذي كان متبعاً في تلك الحقبة، وهكذا فإن بيضة النعامة كانت تستخدم لعلاج الجمجمة المكسورة، وحجاب يمثل قنفذا كان يستخدم لعلاج الصلع. وكان استخدام الحجاب أو التعويذة شائعاً جداً وخصوصاً لعلاج الامراض والوقاية منها ومن الأرواح الشريرة وفي بعض الأحيان لاكتساب بعض الميزات كالقوة والسرعة.

لوحة-وجدت-في-أحد-المعابد-تظهر-مدى-تنوع-وتعدد-أدوات-الطب-والجراحة-في-مصر-1
لوحة-وجدت-في-أحد-المعابد-تظهر-مدى-تنوع-وتعدد-أدوات-الطب-والجراحة-في-مصر

نماذج من العلاجات المصرية القديمة

العلاج بالاعشاب
صبار الألو فيرا: يزيل الصداع، يخفف آلام الصدر، يشفي الحروق، التقرحات، الحساسية، والامراض الجلدية.
الحبق: ممتاز في علاج القلب.
الهيل: يستخدم كتابل في الطعام، يساعد على الهضم، ويدواي النفخة والغازات.
الحلبة: علاج اضطرابات الجهاز التنفسي، تطهير المعدة، تهدئة الكبد والبنكرياس، وتقليص الورم.
الثوم: ينشط، يداوي النفخة والغازات، يسهل الهضم، ملين، يقلص البواسير، يطرد الأرواح من الجسم. أثناء بناء الاهرامات، كان العمال يأكلون الثوم يومياً ليتزودوا بالحيوية والقوة اللازمتين لمتابعة العمل.
العسل: كان يستخدم على نطاق واسع كمضاد للإلتهاب ولتضميد الجراح مثل استخدام زيت الخروع، الكزبرة، والجعة.
البصل: مدر للبول، يساعد على التعرق، يقي ضد الزكام، يخفف آلام عرق النسا والآلام عامة.
البقدونس: مدر للبول.
النعناع: يخفف من الغازات، يسهل الهضم، يوقف التقيؤ، وينقي النفس.
السمسم: يسكّن اعراض الربو.
التمر الهندي: ملين.
الزعتر: يسكن الألم.
الزعفران: يشفي الجراح، كان يستخدم ايضاً لصبغ البشرة والألبسة.
الخشخاش: يزيل الأرق، يزيل الصداع، مخدر، ويخفف من آلام الإضطرابات التنفسية.

قرية الكفير

افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (فاطر: 32)

قــرية الكفـــير

موئل التآخي ومنبت النجباء

لبلدة الكفير مكانة خاصة في قلوب أهلها وفي قلوب اللبنانيين، فهي قرية التآخي الدرزي المسيحي وقرية التضامن وحنين الإغتراب وهي منبت التميّز والإبداع وهي فوق ذلك مسقط رأس أحد أبرز رجالات الإستقلال في سوريا رئيس وزرائها في ثلاث حكومات متتالية فارس بك الخوري. هذه القرية الوادعة على سفوح حرمون غنية أيضاً بالتاريخ والإرث الثقافي، غنية بالأدباء والمفكرين المبدعين والأهم أنها لا تعيش على ماضيها بل تنعم بحاضر زاهر يجعلها حالة لافتة بين البلدات الجبلية في لبنان.

منها انطلق فارس بك الخوري إلى رئاسة حكومة سورية
وفي ربوعها تفتح خيال أملي نصر الله وإبداعها الأدبي

سليم بك كيوان خدم الباب العالي وصادق جمال باشا
وتمكّن بذلك من فك شباب كثيرين من حبل المشنقة

مغتربو الكفير لم يطيقوا الحنين إلى الوطن
فأنشأوا جمعية وأتوا بالبريد والتلفون إلى القرية

تعود تسمية الكفير الى اللغة الآرامية وتعني ضيعة أو منطقة ومن المحتمل أن تكون تسمية الكفير تصغيراً عربياً للفظ «كفرا» وتعني القرية الصغيرة، أما التسمية التي شاعت هي «كفير الزيت» حيث كانت السلطات العثمانية ومن بعدها سلطات الإنتداب الفرنسي تطلب من المساحين وضع إسم كفير الزيت على الخرائط للإشارة الى بلدة الكفير والسبب في ذلك يعود الى غنى هذه البلدة بأشجار الزيتون ولشهرتها في معاصر الزيتون التي ما زالت آثارها ماثلة حتى يومنا هذا.

الموقع الجغرافي
ترقد قرية الكفير في أحضان جبل حرمون على ارتفاع يتراوح ما بين 800 و1050 متراً فوق سطح البحر وهي تقع في الجهة الشمالية لقضاء حاصبيا وتتبع إدارياً لقضاء حاصبيا ولمحافظة النبطية. وبسبب موقعها الوسيط تشكّل الكفير صلة الوصل الطبيعية بين البقاع والجنوب وتحيط بها وتجاورها عدة قرى منها بلدة عين عطا من الشرق ومن الشمال الشرقي وقرى لبايا وميمس من الغرب ومن الجنوب قرية الخلوات، ومن الشمال مزرعة السفينة وقرية مرج الزهور. تبعد الكفير عن حاصبيا مركز القضاء نحو 10 كلم، وعن النبطية مركز المحافظة نحو 55 كلم ، وعن العاصمة بيروت نحو 100 كلم.
تتميز القرية بوفرة موارد المياه والمتمثلة بعدد كبير من الينابيع الدائمة وبعض الأنهر والسواقي الموسمية، ومن الينابيع عين الطاسة وعين الزمروني وعين الزقاني في الجهة الجنوبية، أما في الجهة الغربية فهنالك نهر الفاتر وهو عبارة عن نهر موسمي يتلاشى خلال فصل الصيف ونبع السفينة في الشمال الشرقي وعين الخسف بالإضافة الى عين الضيعة وفوار الساحة في وسط البلدة .
السكان والعائلات
يبلغ عدد سكان قرية الكفير 3420 نسمة، لكن المقيمين منهم لا يزيد عددهم على 1570 نسمة بسبب إنتقال قسم كبير من أهل القرية للسكن والعمل في ضواحي العاصمة أو في المهاجر القريبة والبعيدة.
سكان البلدة، المقيمين والمغتربين، هم من الدروز والمسيحيين ويتوزعون على العائلات التالية :
موحدون دروز: نوفل، نجاد، غرز الدين، عواد، العيسمي، أبو العز، صقر، الحلبي، الدمشقي.
مسيحيون: أبو جمرا، أبو رحال، مخايل، كساب، أبو شلش، أبو رزق، أبو نصر، لاون، إندراوس، فاخوري، غنطوس، جليان، الخوري، البسيط ، أبو راشد، ثابت، حوراني، الخرباوي.

أحياء البلدة
تتألف بلدة الكفير من عدد من الأحياء والحارات التي يسكن كلا ً منها عدد من العائلات المذكورة سابقاً واللافت أن هذه الأحياء تتوزّع مناصفة تقريباً بين الدروز والمسيحيين .
وعلى الرغم من التمدّد العمراني الذي حصل في القرية واتساع مساحة الأبنية الحديثة، إلا انها ما زالت تحافظ على العمارة التقليدية القديمة في بعض احيائها، ولعلّ أبرز ما تكتنزه هو ذكرى باقة من الأعلام والنابغين الذين خلدوا إسم لبنان عالياً وفي طليعتهم فارس بك الخوري أول رئيس حكومة مسيحي في سوريا بعد الإستقلال، والكاتبة أملي نصر الله، وجيمس أبو رزق ونيك رحال وسليم بك نوفل .
كانت منازل الكفير القديمة تقام بالقرب من مناهل المياه في وسط البلدة والتي تتمثل بعين الضيعة وفوار الساحة، وكانت تلك الدور تتألف من طبقة واحدة مبنية من الطين وتحتوي على عدد من الغرف إضافة الى بيكة «أرضية» إلى جانب المنزل تأوي المواشي والحيوانات خلال فصل الشتاء وكان أصحاب اليسر يمتلكون منزلاً تعلو سطحه علّية وبجوارها مصطبة لقضاء فصل الصيف وأمامها مساحة فسيحة تعرف بالمشرقة، ومع مرور الزمن وتبدّل العادات تبدّلت أساليب العمارة واتخذت بدءاً من الأربعينات أو الخمسينات من القرن الماضي طابع البيت اللبناني التقليدي المشاد من الحجر مع الأسقف العالية والبلكونات الواسعة لكن تبدلت طبيعة البناء في ما بعد لتتخذ طابع الأبنية الحديثة المبنية من الإسمنت والمغطاة جدرانها الخارجية بالحجر الصخري والكثير من تلك الأبنية اتخذ شكل البناء المتعدد الطبقات.

الإغتراب وجمعية الإخاء الكفيري
لا تختلف الكفير عن غيرها من البلدات الجنوبية واللبنانية في توجه أبنائها نحو المغتربات البعيدة منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد ارتبطت تلك الهجرات أولاً بتردي أوضاع الاقتصاد في معظم ولايات الدولة العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر ثم انتشار الفقر وأخيراً قيام الحرب العالمية الأولى مع ما جرّته من مصائب ومجاعات على اللبنانيين. وقد توجّهت الهجرات الأولى من الكفير نحو الأرجنتين وبعض دول اميركا الجنوبية ثم أميركا الشمالية، وفي النصف الثاني من القرن الماضي توجه بعض الرواد نحو استراليا وفتحوا بذلك بابا لهجرة أبناء القرية إليها، وفي وقت متأخر وخصوصاً ابتداءً من الستينات ثم السبعينات تزايدت حركة الهجرة نحو منطقة الخليج العربي لتصبح عملياً نمط الهجرة الأكثر هيمنة في يومنا الحاضر.
يجب القول هنا إن بلدة الكفير تميّزت بين البلدات الأخرى في قوة شعور التضامن بين أبنائها وعمق الرابطة العاطفية التي حافظ عليها المغتربون الكفيريون في المهاجر. وكان أبرز ثمار ثقافة التضامن تلك تأسيس جمعية الإخاء الكفيري في الولايات المتحدة الأميركية في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد أعلنت الجمعية آنذاك أن هدفها هو تحسين الوضع المعيشي لذوي المغتربين وكذلك ردّ الجميل للبلدة عبر جمع الأموال من الناجحين في الخارج لتقديم خدمات حيوية للكفير لم يكن سهلاً توفيرها في تلك الفترة من تاريخ لبنان في ظل الإنتداب الفرنسي. ومن أجل التواصل مع الوطن ومعرفة الحاجات التي يمكنها العناية بها أسست الجمعية فرعاً لها في البلدة للمتابعة وبدأت ثمار عمل الجمعية بالتوالي لتشمل بخيرها جميع ابناء القرية دروزاً ومسيحيين. ففي مطلع العام 1930 موّلت الجمعية جرّ مياه الشفة من ساحة القرية الى مختلف أحيائها، ثم قامت بإنشاء مبنى البلدية وبناء طابق في المدرسة القديمة ومن ثم وفي العام 1950 تأسيس مركز للبريد أتبعته بتدشين مقر خاص لتوزيع البريد في المنطقة، ومن المرجح أن موضوع البريد كانت له أهميته بالنسبة إلى المغتربين وذويهم فكان لمأثرة الجمعية صدى ترحيب واسع لأنها تمكنت بذلك من ربط القرى ببلدان الإغتراب وجعلت التواصل بالرسائل متاحاً وسريعاً نسبياً خصوصاً بعد إدخال البريد الجوي. . ولنفس الغرض أيضاً ساعدت الجمعية على تأمين مركز للإتصال الهاتفي في العام 1951 بجهود المغترب رامز الخواجا، فسهلت بذلك الإتصال الفوري عبر الهاتف الدولي بالمغتربات.

جانب-من-مبنى-تراثي-في-الكفير
جانب-من-مبنى-تراثي-في-الكفير

 

أحراج الزيتون
أحراج الزيتون

 

 

 

 

 

 

 

الحراك الشبابي والإجتماعي
أدى نجاح تجربة جمعية الإخاء الكفيري إلى تفعيل الحراك الاجتماعي والثقافي في الكفير فتأسست الرابطة الثقافية في منتصف الستينات من القرن الماضي على يدّ مجموعة من الطلاب الذين حددوا هدف الرابطة بتطوير المجالات الثقافية والتربوية والرياضية والصحية مما جعل المجتمع في تلك الحقبة متميزاً عن سواه من المجتمعات المجاورة، كما تأسس في القرية نادي الحرية الرياضي الذي لعب دوراً مهماً خلال الحرب الأهلية في جمع المجتمع المحلي تحت راية الرياضة كما قام عدد من الجمعيات التي تعنى بالشأن المحلي مثل «جمعية تمكين المرأة» و«الإتحاد النسائي» وفرع «لجمعية نور».

كنيسة البلدة
كنيسة البلدة

إقتصاد القرية وإغراءات النزوح
على الرغم من أهمية الموارد الزراعية للكفير ولاسيما الزيتون ومشتقاته، فإن الاقتصاد المحلي تميّز بإنتقال تدريجي من الزراعة إلى القطاعات الخدمية مثل التجارة والعقار والوظائف وأموال الاغتراب، وزادت خلال العقود الثلاثة الاخيرة بشكل خاص نسبة الموظفين في

القطاع العام ولاسيما القطاع العسكري والقطاع التربوي، ويعود تراجع أهمية الزراعة إلى تنامي عدد السكان وتزايد حاجات الأسر وعدم كفاية الاقتصاد المحلي للقيام بتلك الحاجات. ولحسن الحظ فإن لبنان بلد اغتراب وله في هذا المجال خبرات وتاريخ طويل والاغتراب يمثل أحياناً صمام الأمان والخيار الأخير أمام الأجيال الشابة، وكذلك يمثّل النزوح إلى العاصمة بيروت أو إلى أي من المراكز الحضرية حيث يمكن الحصول على عمل والقيام بعبء معيشة الأسرة وتعليم الأولاد.

زراعة الزيتون
يعود ازدهار زراعة الزيتون في بلدة الكفير الى النصف الأول من القرن الثامن عشر وقد استمر تنامي هذه الزراعة حتى باتت تغطي ما يقارب الـ 20 % من الأراضي الزراعية في القرية، وتلقت زراعة الزيتون ابتداءً من خمسينات القرن الماضي دفعة قوية جديدة بسبب ازدياد الطلب على الزيتون وارتفاع سعر الزيت فتم خلال العقود الخمسة الأخيرة زرع المزيد من أراضي البلدة بتلك الشجرة وبات الزيتون بالتالي يغطي نحو ثلثي الأراضي الزراعية في الكفير، وبسبب أهمية الزيتون فقد تطورت في الكفير أيضاً صناعة عصر الزيتون وإنتاج زيت الطعام وكذلك صناعة الصابون الذي تستخدم فيه الزيوت الناجمة عن جمع الزيتون المتساقط قبل القطاف ويسمى «زيتون الجوال».

الصنوبر والنحل
يشكّل انتاج الصنوبر مصدر دخل متنامياً لعدد من العائلات في الكفير ولاسيما بعد الارتفاع المتواصل في اسعار الصنوبر عاماً بعد عام حتى وصل سعر كيلوغرام الحب الابيض منه إلى 90,000 ل.ل. واللافت أن بلدة الكفير تحيط بها مساحات كبيرة من الصنوبر الحكومي الذي يقع تحت تصرف البلدية والتي تعمد الى تضمينه لمن يرغب من الأهالي.
كما تنامت تربية النحل في بلدة الكفير لتتحول إلى مصدر دخل ذي شأن للعديد من نحالة البلدة والعائلات التي تهتم بهذا النشاط المجزي.

التعليم في القرية
يعود التعليم في الكفير الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدأ مع تأسيس مدرسة بروتستانتية عرفت بـ «مدرسة الإنكليز» ثم ومع نهاية القرن التاسع عشر أسس الروس مدرستين تابعتين للروم الأرثوذكس واحدة للصبيان والثانية للبنات لكن المدرستين كانتا مفتوحتين لجميع أبناء القرية مسيحيين ودروزاً، وبعد انتهاء الطلاب من دراستهم في المدرستين كان يتم ارسال المتفوقين منهم الى مدينة الناصرة في فلسطين لمتابعة تحصيلهم العلمي وقد ساهم بعض الخريجين لاحقاً في نشر التعليم في المنطقة من خلال ممارسة التدريس، لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى توقف التعليم في هاتين المدرستين.
يذكر الأستاذ فيصل نوفل أن بعض المتفوقين في المدرستين كان لهم الأثر البارز في إحياء التعليم في القرية والقرى المجاورة بينما اشتهر من الساسة الذين تخرجوا من القرية فارس بك الخوري الذي شغل منصب رئيس الوزراء السوري في العام 1946 كما لمع إسم الاعلامية عبلة الخوري اضافة الى عدد من الذين برزوا في المجال التربوي .
اللافت أن «التعليم الرسمي» بدأ في ظل الإنتداب الفرنسي وذلك عندما قامت سلطات الانتداب عام 1920 بإنشاء مدرسة الكفير تحت اشراف نظارة المعارف العمومية، وبدأت المدرسة إعطاء الدروس للطلاب في مبنى وقف الروم الأرثوذكس ثم تمّ توسيع المبنى بدعم من قبل المغتربين بحيث أصبحت المدرسة قادرة على استيعاب عدد أكبر من الطلاب الوافدين اليها من قرى قضاءي راشيا وحاصبيا.
ويشير الأستاذ فيصل نوفل إلى أن مدرسة الكفير شهدت تطوراً لافتاً بعد الإستقلال مستفيدة من المساعدات التي يقدمها المغتربون ولاسيما جمعية الإخاء الكفيري التي ساهمت في توسيع المدرسة وتقديم كافة المستلزمات التربوية من مختبرات ومكتبة وقاعات جيدة للتدريس وتأمين مدرسين من ذوي الخبرة والكفاءة، وقد اشتهرت المدرسة بمستوى التعليم الذي كانت تقدمه وبالعديد من الخريجين الذين لمعوا في عدة ميادين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأديبة أملي نصرالله والقاضي منيف حمدان والصحافي راجح الخوري والوزير عصام أبو جمرة وعدد كبير من الأطباء والمهندسين وأصحاب المهن، لكن مما يؤسف له أن مدرسة بهذه العراقة تراجع دورها مع الأيام لصالح المدارس الخاصة إلى أن أدى الأمر إلى إقفالها من قبل الدولة لعدم توافر الحد الأدنى من التلامذة المسجلين، وانتقل من بقي من الطلاب إلى مدارس أخرى وتمّ إلحاق المدرسين من أبناء البلدة بالمدارس الرسمية في البلدات المجاورة . فهل الذنب هنا ذنب الأهالي الذين يعتقدون أن المدارس الخاصة تؤمن تعليماً أفضل أم هو تراجع التعليم الحكومي بصورة عامة أمام الزحف المستمر للتعليم الخاص؟
المفارقة هي أنه بينما لم تستطع بلدة الكفير الحفاظ على مدرستها العريقة فإنها اليوم تضم ثانوية رسمية زاهرة تقدّم التعليم للمراحل التكميلية والثانوية لطلاب البلدة والبلدات المجاورة، وحققت الثانوية نجاحاً جعلها تستقطب الطلاب من البلدات المحيطة وذلك بسبب مستوى التعليم المميز والفريق التربوي الكفوء الذي يتولى التعليم فيها.
حلّت ثانوية الكفير لفترة كمركز للتعليم الثانوي للمنطقة محل ثانوية حاصبيا الرسمية خصوصاً بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، إذ بات من الصعوبة بمكان الانتقال الى حاصبيا بعد إقفال معبر زمارية فتم انشاء فرع لثانوية حاصبيا في القرية في العام 1984 وشغل فرع الثانوية جزءاً من مبنى الكنيسة قبل انتقال الثانوية إلى مبناها الحديث الحالي وإعطائها إسم «ثانوية الكفير الرسمية التي برز من خريجيها الوزير وائل أبو فاعور.
والجدير بالذكر أنه وبسبب عدم وجود جامعة أو فرع لجامعة رئيسية في المنطقة فإن خريجي الثانوية وخريجي الثانويات الأخرى يجدون أنفسهم مضطرين للانتقال إلى صيدا أو الى مدينة زحلة حيث توجد أقرب الجامعات الرسمية او الى كلية العلوم الإقتصادية في ضهر الأحمر والكثير من الطلاب ينتقلون الى الجامعة اللبنانية في الحدث أو لفروع أخرى في العاصمة لمتابعة تحصيلهم العلمي.

منزل-فارس-الخوري
منزل-فارس-الخوري

شخصيات وأعلام من الكفير
أملي نصر الله: ولدت عام 1931 وعاشت طفولتها الأولى في بلدة الكفير كانت تختلس السمع الى الأساتذة في المدرسة المجاورة لمنزلها قبل أن تدخلها بقدر كبير من الشغف بالمعرفة ثم لتنتقل الى الكلية الإنجيلية لتبدأ مسيرتها المهنية في التعليم ثم الصحافة لتغطي تكاليف الدراسة .
عاشت طفولتها كسواها من أطفال القرى، فعملت في جوال وقطاف الزيتون وفي حصاد القمح حيث أغنت هذه الحياة ذاكرتها، فاكتسبت الحرف الاول في مدرسة الضيعة وبعد سنوات قبل أن يكتشف خالها الكاتب ايوب نصر وهو أحد أصدقاء جبران في الرابطة القلمية الموهبة الأدبية لديها فأخذ يغذيها من خلال الطلب اليها كتابة مواضيع أدبية.
روايتها الأولى «طيور ايلول» باكورة تبعتها سلسلة من الأعمال الأدبية مثل : شجرة الدفلى، الإقلاع عكس الزمن، الجمر الغافي، خبزنا اليومي، يوميات هرّ وغيرها من الروايات التي وصلت بها الى العالمية، ومازال منزلها في القرية حتى اليوم يغمره الحنين والشوق الى سنوات خلت.
فارس بك الخوري : ولد فارس بك الخوري في الكفير في 20 تشرين الثاني 1873 وتابع دراسته الأولى في مدرسة البلدة قبل ان ينتقل الى المدرسة الاميركية في صيدا ونظراً إلى تفوقه تمّ تعينه مدرساً في احدى مدارس زحلة قبل ان يعود الى متابعة تحصيله الجامعي في الكلية الإنجيلية السورية التي عرفت في ما بعد بالجامعة الأميركية في بيروت. انتقل إلى سوريا حيث عين ترجماناً للقنصلية البريطانية (1902، 1908 ) درس الحقوق ومارس المحاماة ودخل العمل السياسي ليتم انتخابه نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني عام 1914، لكنه اتهم بعد سنتين بالتآمر على السلطنة العثمانية التي نفته الى اسطنبول. عاد إلى سوريا بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب ثم عمل مع حكومة الملك فيصل الأول، أيضاً انتخب نقيباً للمحامين ونائباً لرئيس الكتلة الوطنية، تولّى رئاسة المجلس النيابي السوري عامي 1936 و1943 وتمّ تكليفه برئاسة الحكومة السورية وقد شكّل ثلاث حكومات متوالية في عهد الرئيس شكري القوتلي .
سليم بك نوفل : ولد سليم حمد نوفل في الكفير سنة 1865 في أسرة مؤلفة من ستة أشقاء وشقيقتين، منذ نعومة أظافره كان ثاقب البصيرة ينظر الى ما حوله نظرة تختلف عن أقرانه حيث كانت تربيته على حب العمل وتحمل المسؤولية تصنع منه رجلاً، إمتاز بحبه

فيصل نوفل
فيصل نوفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للآخرين ومساعدتهم حيث كان نصير المستضعفين في مجتمعه .
كان أبيّ النفس طاهر اليدين، محباً، قليل الكلام، حاد البصر والبصيرة معاً، عُرف بهيبته ووقاره وقامته الفارعة بين الناس، شعاره خدمة الأخيار من الناس ورفع الحيف عن المظلومين، عمل في الزراعة ثم عين وكيلاً عن دروز وادي التيم وفلسطين لدى الوالي التركي في دمشق حيث مكث فترة طويلة في الشام، وكان هدفه المحافظة على استقرار منطقته، كما إنه لعب دوراً بارزاً في إبعاد حبل المشنقة عن الكثير من أبناء منطقته مستفيداً من علاقته الجيدة بجمال باشا.
بسبب خدماته الطويلة والمكانة التي حققها منحته الحكومة العثمانية لقب بك والعديد من الأوسمة الرفيعة واهداه السلطان العثماني سيفاً قيماً ما زال محفوظاً في دارة الأمير مجيد ارسلان في خلدة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد الى قريته وهو لا يزال محافظاً على الهيبة والوقار اللذين كان يتمتع بهما وكان محط احترام ابناء الكفير من دروز ومسحيين، يستمعون الى حكمته ورأيه السديد، وأبرز ما قام به خلال تلك الفترة تعاونه مع وجهاء البلدة من دروز ومسيحيين لتجنيب القرية تداعيات الثورة السورية الكبرى عام 1925.

تاريخ من التآخي
تتميز بلدة الكفير بتاريخ طويل من التآخي بين الدروز والمسيحيين يتمثل بوجود حياة اجتماعية وثقافية مشتركة بين جميع أهل القرية وعدم وجود توترات من أي نوع وهذا ما نراه في مشاركة أبناء القرية بعضهم بعضاً في الأفراح والأتراح وتعاونهم في شؤون التنمية واحتواء المشكلات والحفاظ على السلم الأهلي، وهذا ما حصل في ثورة 1925 عندما قام سليم بك نوفل يرافقه اسبر مخايل بجولات في الليل طوال تلك المرحلة استهدفت تحييد القرية والحفاظ على الاستقرار وطمأنينة النفوس. وخلال ثورة 1958 أظهر ابناء القرية حرصهم الشديد على وحدة البلدة وقد حصل الأمر نفسه خلال الحرب الأهلية، إذ بقي المجتمع الكفيري موحداً متماسكاً وقد جعل هدفه الأول إبعاد شبح الفتنة والإقتتال عن البلدة والحفاظ على علاقات الود التاريخية بين الموحدين الدروز وأهل بلدتهم المسيحيين.

المقامات الدينية
يوجد في البلدة مقامان دينيان يأمهم الموحدون الدروز على مدار العام وهما مقام النبي شعيب في منطقة السفينة ومقام النبي شيت في منطقة شعيث. ويوجد الى جانب المقام ناووس حجري يعود الى العهد الروماني وعليه مجموعة من النقوش إضافة الى عدد من الآثار القديمة المحيطة والتي تعود الى حقبات تاريخية قديمة.
وتوجد في البلدة كنيستان: كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس وكنيسة أخرى للروم الكاثوليك.

الشيخ سعيد الدمشقي يتذكر
الشيخ سعيد الدمشقي رجل ثمانيني يعدّ من حكماء القرية بسبب سنه وذهنه المتوقد وذاكرته الغنية بالأحداث. «الضحى» إلتقته في حوار سألت فيه الشيخ سعيد عن كفير أيام زمان وما الذي يراه قد تغير الآن، هنا ملخص الحوار.

> هل من شيء خسرته الكفير وتتمنى لو يعود الآن؟
هذه القرية على الرغم من صغر مساحتها لكنها اكتنزت الكثير. عندما كنت طفلاً اكثر ما كان يدهشني النول الذي كان يحيك الأقمشة وكانت الكفير تضم أربعين نولاً تصنع الأقمشة على أنواعها وألوانها وكانت هذه تباع في المنطقة وفي خارجها لإستخدامها في خياطة الألبسة، لكن هذه الصناعة انهارت وكان آخر هذه الأنوال في العام 1936.
> ما هي أبرز محطات الذاكرة لديكم ؟
النخوة التي كانت تعتبر الصفة العامة لأبناء القرية والتي كانت تظهر في مختلف جوانب الحياة ولاسيما بناء المنازل والتي كانت تشاد من الطين وكان سقف المنزل يحتاج الى عدد من الجسور الخشبية والتي يزيد وزن كل جسر على 1000 كلغ يجتمع ما يقارب الاربعين شاباً وينتقلون الى الحرش المجاور للقرية ويتم وضع عدد من الأخشاب تحت الجسر الخشبي لرفعه وكان ذلك يحتاج إلى 16 شاباً يقومون برفع الجسر ويبدأ الشباب بالمناوبة على حمله وكل ذلك كان يتم على وقع الأهازيج والغناء، لكن أطرف شيء كان جلوس عازف المجوز على الجسر الذي يحمله الشبان بهدف العزف وإذارة حماس الشباب وشد أزرهم، أما نحن فكنا كأولاد نركض بجانبهم ونحن نصفق.

فقدنا العافية والطمأنينة
ويقول الشيخ سعيد ان ما فقدناه اليوم في الكفير هي الصحة ويتابع: كان الجميع تقريباً أصحاء وكانت الناس لا تحتاج الى أي دواء في حياتها ولم يكن هناك أطباء، بينما نجد اليوم أن الأمراض انتشرت والأطباء كثروا ونعمة الصحة زالت ربما لأن الناس لم تعد تعمل في الأرض وتتبع نظام حياة سليمة مثل الإستيقاظ الباكر والغذاء الطبيعي من الأرض وعدم استخدام الكيماويات وغيرها مما هو شائع في يومنا.

زمان المونة
ويضيف الشيخ سعيد: جميع منازل القرية كانت تعمد الى جمع مستلزمات المونة خلال فصل الصيف فيمتلئ البيت بالبرغل والقورما والكشك واللبنة «المكعزلة» والزيتون والطحين اضافة الى الحبوب المختلفة مثل القمح والحمص والعدس والفول وأيضاً الزبيب والدبس والتين والقضامة .
كل بيت كان يضع في المنزل خروفاً يعرف بـ «المقطوع» حيث يتم علفه والإهتمام به ليصار الى ذبحه على عيد الصليب ومن ثم تحويل لحمه ودهنه الى قورما والتي تعتبر من اساسيات المونة، وتكون الأسر قد جمعت القمح من البيادر وحوّلت بعضاً منه الى برغل من خلال سلقه لينضج ومن ثم تجفيفه ونقله الى المطحنة ليصار الى جرشه برغلاً.
أما تحويل القمح الى طحين فكان يتم من خلال عدد من المطاحن في وادي القرية التي كانت تعمل خلال فصلي الشتاء والربيع عندما تكون مياه النهر الموسمي جارية، فكانت تدير حجر المطحنة، أما خلال الأشهر المتبقية من السنة فكان السكان ينقلون قمحهم الى حاصبيا او الى بلدة شبعا المجاورة .

العرس أيام زمان
كان العرس، حسب الشيخ سعيد، من أبرز العادات التي اندثرت حيث كان يستمر اياماً عدة مع ما يرافقه من لهو وفرح على وقع المنجيرة والمجوز . كان الشبان يجتمعون في ساحة القرية، وعند حلول الظلام ينتقلون الى منزل العريس بالحدى والأهازيج . وخلال تلك السهرات كانت تجري تمثيليات تهدف الى تسلية الحضور وإضحاكهم وكان اختيار العروس يتم بواسطة الأم «فهي أخبر بالنسوان» وبمصلحة إبنها.

زمن الحشمة
يتابع الشيخ دمشقي حديثه، ويستذكر طريقة ارتداء الملابس التي كانت تلتزم الحشمة عند النساء من خلال الثياب الطويلة المحتشمة. حتى الشباب كانوا شديدي الحرص على ملابس تظهر رجولتهم وكانوا يتمتعون بالحياء والأدب والشجاعة، أما اليوم فلم تعد هناك قواعد واضحة للسلوك وأصبح كل واحد يقول إنه حر في نفسه، وعندما يتصرف كل شخص على كيفه لا يبقى هناك مجتمع ولا حتى أسرة..

الكفير والتكنولوجيا
كان الفونوغراف اول الآلات الداخلة الى القرية وقد دخل في أعقاب الثورة السورية في العام 1925، وقد أتى به أيوب الالتهخوري بعد زيارة لأخيه فارس في دمشق، وكان من يمتلك الجريدة مصدراً مهماً للمعلومات بين أبناء القرية، فجريدة القلم الصريح دخلت الى القرية مع الأستاذ شوقي الحاج وكان أبناء القرية يقصدونه لمعرفة أخبار العالم، وكذلك جريدة نيويورك تايمز الأميركية وجريدة «السمير» كانتا تصلان الى أيوب نصر وكان مغترباً في الولايات المتحدة ولو متأخرتين ومما قالته الأديبة أملي نصرالله «السمير مكتبتي حيث كنت اتفرج على الصور وعلى العالم من خلالها» كما دخلت جريدة «النهار» القرية منذ عددها الأول من خلال الأستاذ سمعان الحاج ومن ثم دخل الراديو وقد استقدمه أحد أبناء القرية بعد زيارة الى الولايات المتحدة وبعد ذلك دخل التلفاز، أما الهاتف فدخل القرية في أربعينات القرن الماضي وكذلك مركز البريد.

المصادر
• سامي الخوري: أمل لا يغيب .
• الأستاذة منى عواد مدرّسة مادة التاريخ في ثانوية الكفير .
• المؤرخ عارف الخوري الكتاب الذهبي .
• بعض الشخصيات التي وردت في التحقيق.

الأمير شكيب ارسلان

لله أيامُ تُذكر ولا تعاد، فذكرها عند الأجداد ارتعاش في الأبدا، وغمّ وحزن في ذاكرة الأبناء والأحفاد.
أيامٌ سوداء من تاريخ لبنان نستعيد ذكرها لما تحمله من عبر وتاريخ مجيد، تاريخ الكفاح من أجل الحرية والكرامة والتضامن والمحبة في ما بيننا. أما الحكاية التي نحن في صددها هنا فقد جرت وقائعها كالتالي:
مطلع القرن العشرين، وخلال الحرب العالمية الأولى، مرّت على لبنان أيامٌ لا تُمحى من الذاكرة، لقد كانت أيام الجوع والجراد والتشريد والتنكيل والبؤس والشقاء، لكن أسوأ ما نكب به اللبنانيون في تلك الأيام كان التجنيد الإجباري، وهو ما كان يُعرف عند العامة وباللغة التركية بـ «سفر برلك». كانت الدولة العثمانية تخوض عدة حروب على أكثر من جبهة وتتراجع، وكانت في حاجة ماسة بالتالي إلى تعبئة الجنود من ولاياتها ، فصدرت أوامر من الباب العالي بأن على جميع الذين تتراوح أعمارهم ما بين ستة عشر عاماً وستين عاماً أن يلبوا نداء حمل السلاح والإلتحاق بالخدمة العسكرية، ولم تسمح الأوامر بإعفاء أحد حتى ولو كان الرجل وحيد أهله.
من هؤلاء الذين تمّ تجنيدهم من أرسل إلى جبهة البلقان، ومنهم من أرسل إلى جبهة الأناضول والحدود الإيرانية التركية ومنهم من أرسل إلى جبهة ترعة السويس، وتوزّع الباقون على الجبهات والمواقع العسكرية التي تحمي حدود السلطنة. وبسبب تقهقر أوضاع الجيش التركي ومهاراته وتسليحه بالمقارنة مع مهارة وتسليح الدول الأوروبية وروسيا وغيرها فقد اعتبر من جندوا وارسلوا في تلك الفترة كثيرون لكن الذين كانوا يعودون كانوا قلّة وكان الجبل خصوصاً ساحة أحزان وثكالى وأرامل.
عمّ الهلع والخوف الجميع، وتفرّق الناس أيدي سبأ كما يقال، واتجه قسم كبير من الرجال نحو جبل الدروز كونه كان معفى من الخدمة العسكرية بعد حروب الكرامة والدفاع عن الحرية بينه وبين السلطات وسواها. أما من كان معه سبع ليرات ذهبية، فقد دفعها ثمن تذكرة للسفر عبر البحار السبعة، كما كانوا يقولون، إلى ديار الإغتراب متحملاً السفر بحراً وعبر بواخر تعجّ عنابرها بالجرذان والفئران.
أما البقية الباقية من الناس الضعفاء الذين لا حول ولا قوة لهم، فبقوا في قراهم، مسكنهم البراري نهاراً، ومأواهم الكهوف والأكواخ البعيدة عن أماكن السكن ليلاً.
كان من مصائب تلك الفترة أيضاً كثرة المخبرين والجواسيس الذين بثتهم السلطات من أجل جمع المعلومات عن الأشخاص القابلين للتجنيد وكان من بينهم بعض مخاتير القرى ورجال الجندرمة والمخافر، وقد وجد هؤلاء في نكبة التجنيد فرصة لإبتزاز الناس المشمولين بالأوامر وقد تمكنوا من جمع أموال كثيرة وجمعوا الأراضي أيضاً من جرّاء دورهم التعس في استغلال ظروف التجنيد والخوف في قلوب الناس. وكان هناك بصورة خاصة رئيس مخفر في بلدة حاصبيا، شركسي غريب الأطوار، جشع وفاسد متكالب على المال وكان يُدعى أبو هاشم. وقد اتفق هذا مع بعض المخاتير والمخبرين ممن هم على شاكلته من حيث الطمع والسفالة، فكانوا يأخذون ليرتي ذهب عن كل فرد يغضّون الطرف عنه كي لا يُساق إلى الجندية، ثم يتقاسمون المبلغ، ليرة للمختار، وأخرى لرجال الأمن، لكنهم غالباً ما كانوا يوقعون بالضحية أكثر من مرة ويطلبون الذهب ثانية مما أوقع كثيرين في الإفلاس والبؤس وشجع أكثر على الهجرة والفرار إلى أرض الله الواسعة.
بلغ السيل الزُبى عندما طلبت السلطات من أربعة عشر من المشايخ المقيمين في خلوات البياضة الإلتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية.
هنا ثارت حمية المشايخ والأعيان وأبناء المنطقة فكانت مبادرة من الشيخ أبو اسماعيل خير الدين الذي ترك أعماله وتجارته وانتقل إلى دمشق الشام للسّعي لدى الوالي التركي كي يعفيهم من الخدمة.
لدى وصوله، علم بوجود الأمير شكيب أرسلان هنالك، فأسرع لمقابلته في مكان وجوده، غير أنه لم يتمكّن من مقابلته في اليوم الأول بعد أن أخبره معاونه، نسيب بك الأطرش، بأن الأمير ذهب للغداء عند آل العظم، ولن يعود هذا اليوم.
في اليوم التالي، وعند محاولته مقابلة الأمير من جديد، أجابه معاونه أن الأمير يعتذر عن استقبال الزائرين لضيق الوقت عنده.
صعد الدم إلى وجه الشيخ أبو اسماعيل بعد سماعه الإعتذار، وصرخ في وجه مستقبله: «إنني آتٍ من وادي التيم من بلدة حاصبيا، ومن قبل مشايخ البياضة لأمر ضروري ومصيري يتعلق بهم ولا بدّ من أن أقابل الأمير شكيب. أفليس من حقنا قرع بابه والإستغاثة به؟
طرق الصوت والصياح مسامع الأمير، فهبّ من مكتبه مستطلعاً الخبر، وإذ به أمام شيخ متجهّم الوجه، غاضب النظرة، بحالةٍ لا توصف من الإنفعال وضيق الصدر.
طيّب خاطره، ثم وجّه اللوم إلى مرافقه لتصرفه على تلك الطريقة من دون علمه، ورحّب برسول المشايخ ودعاه للدخول وسأله عن حاجته مؤكداً أنه ي «أطلب ما تريد ونحن آذانٌ صاغية»
دخل الشيخ، وجلس بوقارٍ واحتشام، ثم تكلم برصانة قائلاً: «عطوفة الأمير، عاش السلطان، وعاشت الدولة العليّة. نحن عبيدها وجنودها، لكن لكل أمر حدّه. فهل يرضيكم أن يساق أئمة الدين في خلوات البياضة إلى الجبهات ويسلخوا سلخاً عن خلواتهم وعباداتهم ليحملوا السلاح والعتاد والذخيرة ويقاتلوا في بلادٍ وأصقاع لا يعرفونها».
إنفرجت أسارير الأمير الذي طمأن الشيخ خير الدين بأنه لن يُساق أي شيخ إلى الجبهات مؤكداً له بأنه سيبقى في دمشق حتى يتأكد من تحقيق طلبهم. وأضاف الأمير شكيب بأنه سيذكر المسؤولين بأن الأديرة المسيحية والمدارس الدينية الإسلامية وقاطنيها يطبق عليها مبدأ الإعفاء من الخدمة العسكرية، وبالتالي يجب تطبيق المبدأ نفسه على خلوات البياضة لأنها أوسع من دير، وأكبر بكثير من مدرسة دينية، بل هي مع قاطنيها جامعة روحية لها حرمتها».
وهكذا، عاد الشيخ أبو اسماعيل من دمشق مسرور الخاطر، منفرج الأسارير، وقصد فور عودته البياضة وأخبر مشايخها بما حدث معه، وبما تكفّل به الأمير شكيب وقد كان لهم ما أرادوا وما هم أهل له. .

أيام غرّاء من حياة أمير البيان شكيب أرسلان

الأمير شكيب أرسلان
الأمير شكيب أرسلان

• وُلد في بيروت عام 1870، نجل الأمير محمود أرسلان، ويتسلسل نسبه إلى 31 جدّاً في لبنان.
• درس في مدرسة الحكمة على يد العلامة الشيخ عبدالله البستان، وما بين العامين 1890 و 1892 على يد الشيخ محمد عبده بعد نفيه إلى بيروت.
• اتصل بالمصلح والفيلسوف جمال الدين الأفغاني، وكان مع رأيه بأن لا يحكم العرب إلا حاكمٌ مستبد وعادل في تلك الأيام.
• اشترك في الحرب العالمية الأولى، وزار طرابلس الغرب مجاهداً ضد الاستعمار الإيطالي.
• اشترك في المؤتمر السوري الفلسطيني لمعاضدة القضية الفلسطينية.
• انتُخب رئيساً لنادي الشرق في برلين عام 1925.
• ذهب إلى أميركا واشترك في المؤتمر الدولي 1928.
• أدّى فريضة الحج عام 1929.
• عام 1933، وفّق في إقناع الدولة المستعمرة الإيطالية بعودة نحو 80 ألف ليبي إلى مدينة برقة وطرابلس مع إعادة أراضيهم وأملاكهم لهم.
• انتُخب رئيساً للمجمّع العلمي العربي في دمشق.
• قضى سنوات الحرب العالمية في سويسرا.
• عاد إلى لبنان عام 1949، ومكث 40 يوماً بعد اغترابه الطويل حيث وافاه الأجل رحمه الله.
هذا صوت الأمير يخاطب روح شوقي بعد وفاته قائلاً:
« لو نسيَ عهدك الأولون والآخرون، لما خفرت لك عهداً، ولا مزّقت لك ودّاً، وإنك في الغيب عندي لكما في المشهد، وأنت تعلم أنها صداقة أربعين سنة، تساقينا كؤوسها صفواً من دون قذى، وتبادلنا رياحينها عفواً من دون أذى.
فإن أظمأ عهدك النسيان، فلي مدامع ترويه، وإن شطّت بشعرك النوى، فإن الدهر كلّه يرويه. وإنه وإن بكاك الناس حبّاً بالأدب، ورحمة للسان العرب، فإنني لأبكيك بصفتين: صفة الأديب البر بلغته، الغيور على صناعته، وصفة الأخ الضنين بأخوته، الحريص على مروءته. فأنا في مقدمة من لك من الأخوان والأتراب الذين يبكون فضلك، ويذكرون عهدك إلى أن يواروا التراب».
(من كتابه «شوقي أو صداقة أربعين سنة»)

قصة لأقوياء القلوب فقط
طبخة هريسة بالأفاعي!!

نأتي الآن إلى قصة غريبة لكنها حقيقية وهي ربما سترسل القشعريرة في أطراف كثريين.
بداية القصة هي موسم حصاد القمح في قرى الجنوب، وأجمل أيام الفلاح هي أيام الحصاد، رغم التعب الذي يورثه خصوصاً وأنه يجري في قيظ تموز .
الممتع في الحصاد أنه يتم لجني محصول الخير الذي انتظره الفلاح بعد أن ألقى بذاره لأشهر طويلة وغالباً ما يترقب الفلاح وضع الطقس وكميات المطر آملاً أن يسقط منه في أشهر الربيع خصوصاً ما يساعد الموسم ويزيد الجنى.
وكانت للقمح على الدوام هالة من التكريم إذ ذكره القرآن الكريم في أكثر من سورة وموضع وذكرته التوارات وذكر في الإنجيل وانتقل التكريم إلى الخبز فكان أول ما تعلمناه من أهلنا في سن الصغر تكريم الخبز فلا نترك ما قد يقع منه على الأرض او نرمي بما يبقى بعد الطعام، وإذا وقعت قطعة منه فعلينا أن نسرع للمّها ثم تقبيلها ووضعها فوق رؤوسنا على سبيل الشكر على النعمة والإستغفار.
ولحصاد القمح في وادي التيم أعراسٌ وأعيادٌ وإحدى القرى التي كان موسم الحصاد فيها موسم فرح وتعاون وتوتدد اجتماعي. قرية بكّيفا إحدى قرى وادي التيم الأعلى، وقد حدثني أحدهم من «آل دهام» عن قصة مثيرة حدثت أيام الحصاد أوائل القرن الماضي، وفيها أن شخصاً من آل بركة يملك حقلاً مزروعاً بالقمح كان قد تأخر عن غيره من أبناء بلدته في الحصاد وذلك لاتساع أملاكه ووفرة زرعه. والعادة المتبعة آنذاك عند أبناء القرى إذا ما تأخر أحدهم عن رفاقه في الفراغ من حصاده هي «الفزعة» بحيث يتنادى الجميع إلى مساعدة صاحب الأرض ويهبون هبة رجل واحد لإنجاز الحصاد الذي تأخر.
وكانت «الفزعة» تبدأ بأن ينادي أحدهم بالصوت ومن أعلى سطح يتوسط بيوت القرية أنه يوم كذا ستفزع البلدة لمساعدة فلان ابن فلان في حصاد الحقل من أبنائها وكأنهم اليوم جمعية تعاونية.وكان المنادي يذكر بأن الحاضر يجب أن يبلغ الغائب أي الذي لم يسمع النداء لسبب من الأسباب بحيث يعم النبأ ويُبلغ موعد الفزعة إلى الجميع. ومن تقاليد الفزعة أيضاً أن يولم صاحب الحقل بعد انتهاء الحصاد أو أثنائه للمشاركين في العونة وكان الطعام المفضل في تلك الحال هي طبخة الهريسة المؤلفة من القمح ولحم الضأن وعظامه وكانت توضع على النار لمدة طويلة حتى يمتزج القمح واللحم ونخاع العظم مكوناً مزيجاً لزجاً ورخواً يتهافت الناس على تناوله للذة طعمه وفائدته.
كانت الفزعة من نصيب الشيخ أبو محمد بركة، لهذا توجه المذكور إلى بلدة راشيا فجلب منها عظام ذبائح عدة ملآنة باللحم وطلب من زوجته تحضير «أكلة هريسة» تكفي لأكثر من خمسين شخصاً.
في زاوية من زوايا ذلك الحقل شجرة بطمٍ قديمة كقدم الدهر. وضعت تحتها الشيخة أم محمد دست الهريسة بعد أن ضمنتها القمح المقشور والعظام المكتنزة باللحم مضيفة إليها ما يناسبها من السمن والملح والبهارات ثم أشعلت النار تحتها، وبقيت أكثر من ساعتين وهي توقد الحطب وتحرك العظام والقمح كي لا يلتصق شيئ من الطعام في قعر الدست. وبعد أن اطمأنت إلى قرب النضوج خففت النار كي يكتمل نضوج الطبخة على مهل فيزداد بذلك الطعام طراوة وشهية. ثم خرجت نحو الحقل تحادث الحصادين وتشكرهم على نخوتهم وأريحيتهم.
بشرت أم محمد الحصادين أيضاً بأن الهريسة أصبحت جاهزة تقريباً متمنية أن تنال إعجابهم وتسر ذوقهم وكانت تتحدث وتسرف في وصف العناية التي بذلتها في إعداد الطبخة وما دخل فيها من لحم وعظم وسمن وبهارات إلى آخر ما هنالك.
بعد هذه المجاملات الدارجة في القرى وبعد أن اقترب موعد الغداء رجعت أم محمد إلى الدست مسرعة ثم تناولت ملعقة الخشب الكبيرة كي تحرك الطعام، وعندما أدارت بنظرها نحو الدست، جمد الدم في عروقها من هول ما شاهدت وفظاعة ما رأت. حية كبيرة عائمة على سطح الهريسة وقد غمر بعض جسدها الدهن والسمن.
إحتارت في أمرها وتسارعت الأفكار في رأسها، كانت تقلب يديها وهي في حيرة تقارب حدّ اليأس وهي تختلس النظر إلى الحصادين، استجمعت قواها وقررت ببساطة أن ترفع الأفعى العائمة من دست الهريسة وتلقيها جانباً عمدت إلى ملعقة الخشب لترفع الحية عن الطعام، لكن ما إن حرّكتها حتى تناثرت أجزاء الأفعى وامتزجت أقسامها مع الهريسة وكأنها جزء من ذلك اللحم المتساقط عن العظام لطراوتها وسرعة نضوج لحمها.
أم محمد وقفت جامدة متسمّرة مكانها محتارة في أمرها، ما العمل وما التدبير..؟ إذ لم يعد من وقت كافٍ أمامها لإعداد طبخة أخرى أو حتى الذهاب إلى البيت وإحضار البديل، وأيضاً إذا أعلمتهم بما حدث فطبعاً لن يقدم أحد على تناول الطعام لخوفهم على حياتهم من جهة والإشمئزاز وقرفهم من الجهة المقابلة، وأيضاً كان يخالجها الخوف وقلق المصير نفسه. لكن ما العمل وماذا سيأكل الفازعون؟
استقر رأيها أن تتناول هي وزوجها الطعام قبل الجميع فإن ظهرت أعراض تسمم مثل القيء فإنها ستمتنع عن تقديم الطعام وإن تمّ كل شيء من دون أية أعراض فإنها ستدعوهم إلى تناول الهريسة باعتبار أن الخطر يكون قد زال.
أكلت مقدار صحن كبير وكذلك زوجها، وانتظروا قليلاً ولم يشعرا بأية أعراض. في ذلك الوقت كان الحصادون قد اجتمعوا تحت الشجرة بل إن بعضهم بدأوا لشدة جوعهم بتناول الطعام قبل أن تدعوهم وبسبب صعوبة مقاومة تلك الأكلة الشهية. آنذاك دارت أم محمد بالصحون على الجميع مرحبة مؤكدة لهم أنها «طبخة لذيذة ستنال حتماً إعجابكم» راجية غضّ النظر عن التقصير «إذ كان واجبكم ذبح كبش هنا ويا ليت ذلك»، وفي قرارة نفسها ناذرة داعية إلى مقام النبي بهاء الديكل من خطر في بالها من أنبياء وأولياء من أن يساعدوها على أن يكون هذا الطعام هنيئاً مريئاً ولا ينتج عنه أي سوء.
أكل الجميع واستزادوا ومنهم من تناول صحوناً عدة والمرأة شاخصة بنظرها نحوهم متظاهرة بالفرح والسرور مرددة من وقت لآخر : هنيئاً مريئاً وأكثر من ألف أهلاً وسهلاً.
مضت الأيام وكذلك الأسابيع، والجميع عند التقائهم بالشيخة أم محمد كانوا يشكرونها ويثنون عليها وعلى شطارتها في الطبخ قائلين مرددين إنه «لتاريخه لم يتذوقوا أكلة أطيب وألذ من تلك الهريسة».
بقدوم موسم الحصاد الجديد أتى أحدهم دارة أبو محمد قائلاً لزوجته : لبيك يا أم محمد نحن حاضرون «لفزعة» جديدة وشرطنا الوحيد أكلة لذيذة كطبخة السنة الماضية.
المرأة آنذاك أصبح بإمكانها مصارحة صديق العائلة بما حدث معها فقالت: لا تفاجأ يا أخي ربما إن الشهية والطعم الزائدين لتلك الطبخة، عائدان للحم الحيّة التي وجدتها فوق الدست وعند محاولتي رفع جسدها تناثرت قطعاً صغيرة بين الطعام.
المفاجأة الكبرى وغير السارة مطلقاً، وأن القدر سينفّذ، وخوفاً من ذكر اسم الحية، رغم كونه مضى أكثر من عام على أكل لحمها وسمها ولم يمت، فبسماعه لما قالته المرأة شهق صديق العائلة شهقة غريبةً ثم أسلم الروح معها وكأن الحية قد لدغته للتوّ. ومن الممكن أن صاحبنا كان ممن لديهم رعب نفسي من الأفاعي وهو مرض نفسي موجود وبعض الناس يؤدي مجرد ذكر اسم الحية على مسمعهم (فكيف لو رأوها) لإطلاقهم صرخات جنونية وإلى ذعر وانهيار أعصاب، وقد تكون الصدمة أثارت في المسكين مشاعر رعب عارمة أثرت على قلبه وكل أعصابه فلم يقوَ جسده على الإحتمال.

الاسلام واخلاقيات الحرب

“بلغ الخليفة عمر أن بعض جنوده يؤمِّنون الفارسي حتى إذا سلّم إليهم قتلوه فغضب غضباً شديداً و أقسم ليقطــــعن عنق من يفـــعل ذلك من جنــود المســـلمين”
“كان الرسول (ص) يكره اسم «حرب» وهو بدَّل أسماء أبناء الإمام علي (ر) عندما كان يسميهم بذلك الاســـم فأصبحوا حسن وحسين ومحسن”
“غوستاف لوبون: الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم “

تفرّد الإسلام في أخلاقيات الحروب
إن نسي العالم فكيف ينسى المسلمون؟

القرآن الكريم ذكر السلم مائة وأربعين مرة
ولم يذكر كلمة الحرب سوى ست مرات

غوستاف لوبون
غوستاف لوبون

المفكِّر الفرنسي غوستاف لوبون
الإسلام انتشر بالدعوة وجاذبية مبادئه وليس بالسيف بدليل إسلام الشعوب التي قهرت العرب مثل الترك والمغول

بسبب حالة الجهل التي انتشرت في بعض أوساط المسلمين وانفلات الحبل على غاربه تفرقاً واقتتالاً وابتداعاً في الدين ما لم ينزل الله به سلطان كاد الأعداء يحققون أمراً سعوا إليه عبر الأزمان دون أن يفلحوا وهو تشويه صورة الدين الحنيف وطمس حقيقته كرسالة للحق والعدل والرحمة وقد جعلوا من بعض حالات التطرف والأعمال الغاشمة قميص عثمان يتوسلونها للتأليب على الدين القويم والافتئات عليه وعلى تاريخه المجيد الذي لا يضاهيه تاريخ في التسامح والرحمة والسلوك الإنساني.. في هذا العرض الموجز تذكير بحضارةالإسلام وعظمته في نظرته للحرب وأخلاقياتها وهو ما يعارض بالكلية الأعمال الوحشية التي يقوم بها اليوم بعض أدعياء الإسلام ومن تسلل بينهم من جهات يحركها أعداء الأمة المتربصين بها الدوائر. ويتضمن المقال شرحاً لمفهوم الإسلام الصحيح للعلاقة مع الشعوب والأمم المخالفة، وهي نظرة مستوحاة من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأقوال وأفعال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وفي كل ذلك تاريخ ناصع ما أحوجنا إلى قراءة فصوله والتعلم منه لعلنا نستذكر عظمة ديننا وحضارتنا الإسلامية السمحاء ونكشف القناع عن القوى الشيطانية التي تريد بالعرب والمسلمين وتمهد ربما لشن حرب شاملة على الإسلام لا تستهدف ثرواتهم وأوطانهم ومجتمعاتهم فحسب بل تستهدف في الوقت نفسه صورة الإسلام وثقة المسلمين بأنفسهم ونظرة العالم إليهم.
إنَّ حُسْنَ الخُلُق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب تفعله كل أُمَّة في أوقات السّلْـمِ مهما أوغلت في الهمجية، ولكن حُسْن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أُمَّة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتَّصِفَ به. إن رؤية الدم تُثِيرُ الدم، والعداء يؤجِّج نيرانَ الحقدِ والغضب، ونشوة النصر تُسْكِرُ الفاتحين فتوقعهم في حمى التشفِّي والإنتقام وانعدام الرحمة.
لقد شرع الدين الإسلامي الحنيف لكل شي ولم يترك وجهاً من وجوه الحياة إلا وحدد لها أحكامها وكانت للحرب وأصولها وللتعامل مع الخصوم في الحرب والسلم نصيب كبير من النصوص الشرعية، فاهتم القرآن الكريم والرسول (ص) وأصحابه بوضع قواعد وأخلاقيات لا سابق لها في حضارتيها ورقيّها للحرب، أي إن
الإسلام لم يترك الحرب دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحدُّ ممَّا يُصَاحبها من انفلات للغرائز الحيوانية في المقاتلين وجعل الحروب بذلك مضبوطة بالأخلاق ولا تُسَيِّرُهَا الشهوات، كما جعلها ضدَّ الطغاة والمعتدين لا ضدَّ البرآء والمسالمين.

اجتاح المغول العالم الإسلامي لكن قوة الإسلام جعلتهم يتحولون إليه ويقاتلون تحت رايته في ما بعد
اجتاح المغول العالم الإسلامي لكن قوة الإسلام جعلتهم يتحولون إليه ويقاتلون تحت رايته في ما بعدله

قواعد الحرب في الإسلام
وتتمثَّل أبرز هذه القيود الأخلاقية التي وضعها الإسلام على الحرب بما يلي:
1. عدم قتل النساء والشيوخ والأطفال فكان رسول الله (ص) يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه (ص) يأمرهم بتجنُّب قتل الولدان، فيروي بُرَيْدَةُ فيقول: كان رسول الله (ص) إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سريَّةٍ أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، وكان مما يقوله.«وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا». وفي رواية أبي داود: يقول رسول الله (ص) «وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلاَ طِفْلاً، وَلاَ صَغِيرًا، وَلاَ امْرَأَة.»
2. عدم قتال العُبَّاد فكان رسول الله (ص) إذا بعث جيوشه يقول لهم: «لاَ تَقْتُلُوا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ» وكانت وصيته (ص) للجيش المتجه إلى مؤتة «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ ‏تَغُلُّوا، ‏وَلاَ ‏تَغْدِرُوا، ‏‏وَلاَ ‏تُـمَثِّلوا، ‏وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، أَوِ امْرَأَةً، وَلا كَبِيرًا فَانِيًا، وَلا مُنْعَزِلاً بِصَوْمَعَةٍ».
3. عدم الغدر: فكان النبي يوَدِّع السرايا موصِياً إياهم«وَلاَ ‏تَغْدِرُوا» ولم تكن هذه الوصية في معاملات المسلمين مع أخوانهم المسلمين، بل كانت مع عدوٍّ يكيد لهم، ويجمع لهم، وهم ذاهبون لحربه! وقد وصلت أهمية هذا الأمر عند رسول الله أنه تبرَّأ من الغادرين، ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدورُ به كافراً، فقد قال النبي (ص) «مَنْ أَمَّن رَجُلاً عَلَى دَمّهِ فَقَتَلَهُ، فَأنَا بَرِيءٌ مِنَ القَاتِل، وَإِنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِرًا» وقد ترسَّخت قيمة الوفاء في نفوس الصحابة حتى إن عمر بن الخطاب (ر) بلغه في ولايته أنَّ أحد المجاهدين قال لمحارب من الفرس: لا تَخَفْ. ثم قتله، فكتب إلى قائد الجيش: «إنه بلغني أنَّ رجالاً منكم يَطْلُبُونَ العِلْـجَ (الكافر)، حتى إذا اشتدَّ في الجبل وامتنع، يقول له: «لا تَخَف».فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغنِّي أن أحدًا فعل ذلك إلاَّ قطعتُ عنقه!»
4. عدم الإفساد في الأرض فلم تكن حروب المسلمين حروب تخريبٍ كالحروب المعاصرة، التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشدَّ الحرص على الحفاظ على العمران في كل مكان، ولو كان في بلاد أعدائهم، وظهر ذلك واضحاً في كلمات أبي بكر الصديق (ر) عندما وصَّى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، ومما جاء في تلك الوصية «وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ» . وهو شمول عظيم لكل أمر حميد، وجاء أيضاً في وصيته للجند «لا تُغْرِقُنَّ نَخْلاً وَلا تَحْرِقُنَّهَا، وَلا تَعْقِرُوا بَهِيمَةً، وَلا شَجَرَةً تُثْمِرُ، وَلا تَهْدِمُوا بَيْعَةً». وهذه تفصيلات تُوَضِّح المقصود من وصية عدم الإفساد في الأرض لكي لا يظن قائد الجيش أن عداوة القوم تُبيح الفساد.
5. الإنفاق على الأسير: إن الإنفاق على الأسير ومساعدته واجب يُثَاب عليه المسلمُ، وذلك بحكم ضَعْفِ الأسير وانقطاعه عن أهله وقومه، وشِدَّة حاجته للمساعدة، وقد قرن القرآن الكريم بِرَّهُ بِبِرِّ اليتامى والمساكين، فقال في وصف المؤمنين: }وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا{ (الإنسان:8)
6. عدم التمثيل بالميت: فقد نهى رسول الله (ص) عن المُثْلَة (أي التمثيل في القتلى) فروى عبد الله بن زيد (ر) قال «نهَى النَّبِيُّ (ص)عَنِ النُّهْبَى، وَالمُثْلَة،. وقال عمران بن الحصين : «كَانَ النَّبِيُّ (ص) يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنِ المُثْلَةِ» ورغم ما حدث في غزوة أُحُد من تمثيل المشركين بحمزة عمِّ الرسول، فإنه لم يُغيِّر مبدأه، بل إنه (ص) هدَّد المسلمين تهديداً خطيراً إن قاموا بالتمثيل بأجساد قتلى الأعداء، فقال «َأشدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلاَلَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْـمُمَثِّلِينَ» ولم تَرِدْ في تاريخ رسول الله حادثةٌ واحدة تقول بأن المسلمين مثَّلوا بأَحَدٍ من أعدائهم.
هذه هي أخلاق الحروب عند المسلمين.. تلك التي لا تُلْغِي الشرف في الخصومة، أو العدل في المعاملة، ولا الإنسانية في القتال أو ما بعد القتال. وقد صرَّح (ص) بهذا الأمر حين قال: «‏إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق».

العلاقة مع غير المسلمين
يدل الخطاب القرآني دلالةً واضحةً على أنَّ القاعدة في التعامل مع غير المسلمين هي تقديم السلام على الحرب، واختيار التفاهم لا التصارع، ومن أدلة ذلك أنَّ القرآن الكريم أورد كلمة السلم بمشتقاتها مائة وأربعين مرة، في حين ذُكِرَت كلمة الحرب بمشتقاتها ست مرات فقط!!
ويرى الشيخ محمود شلتوت أن السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة، وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم، فهم والمسلمون في نظر الإسلام أخوان في الإنسانية.
ويرى شيخ الأزهر السابق جاد الحق -رحمه الله- أنه من الواجب على المسلمين أن يقيموا علاقات المودة والمحبة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، والشعوب غير المسلمة نزولاً عند هذه الأخوة الإنسانية، منطلقاً من الآية الكريمة }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا{ (الحجرات: 13)، فتَعَدُد هذه الشعوب ليس للخصومة والهدم، وإنما هو دعوة من الله تعالى للتعارف والتوادّ والتحابّ.
ويشهد لهذه الآراء العديد من الآيات التي أمرت بالسَّلْم مع غير المسلمين إن أبدى هؤلاء الاستعداد والميل للصلح والسلام؛ فيقول الله تعالى: }وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا{ (الأنفال: 61) وهذه الآية الكريمة من كتاب الله عز وجل تبرهن بشكل قاطع على حب المسلمين وإيثارهم لجانب السلم على الحرب.
قال السدي وابن زيد: «معنى الآية: إن دعوك إلى الصلح فأجبهم» والآية التالية لهذه الآية تؤكد حرص الإسلام على تحقيق السلام، فلو أن الأعداء أظهروا السلم، وأبطنوا الخيانة، فلا عليك من نياتهم الفاسدة، واجنح للسلم قال الله تعالى: }وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين{( الأنفال: 62) أي أن الله يتولى كفايتك وحياطتك.
ولهذا كله كان رسول الله (ص) يعتبر السلام من الأمور التي على المسلم أن يحرص عليها ويسأل الله أن يرزقه إياها، وكان يدعو فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».
كما كان (ص) يكره كلمة حرب ولا يحب أن يسمعها وفي الحديث عنه (ص) «أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: ‏عَبْدُ اللَّهِ ‏وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، ‏وَأَصْدَقُهَا: ‏حَارِثٌ ‏وَهَمَّامٌ، ‏وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّة»
وكان الرسول (ص) يُغيّر اسم مَن اسمه «حرب» إلى اسم آخر أحسن وأجمل، وعلى سبيل المثال كان الإمام علي (ر) يسمي ولده «حرب» فيبدله الرسول بإسم آخر حتى صار لعلي (ر) ثلاثة بنين هم حسن وحسين ومحسن وقد اختار الرسول (ص) لهم أسماءهم لأنه لم يكن يحب أن يسمي علي (ر) أياً من أولاده «حرب».

صلاح الدين الأيوبي كان مثالا على سماحة الإسلام في الحرب
صلاح الدين الأيوبي كان مثالا على سماحة الإسلام في الحرب

الحرب.. آخر الدواء
كان الرسول (ص) يعلم أصحابه ويوجِّهَهُم فيقول لهم مربياً: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ.» فالمسلم بطبيعة تربيته الأخلاقية التي يتربى عليها من خلال القرآن الكريم وسنة النبي (ص) يكره القتل والدماء، ومن ثَمّ فهو لا يبدأ أحداً بقتال، بل إنه يسعى بصدق لتجنب القتال وسفك الدماء..
ومع أن أهداف القتال في الإسلام كلها نبيلة إلا أن رسول الله (ص) لم يكن متحمساً أبدًا لحرب الناس، ولا مشتاقاً لقتلهم، وذلك على الرغم من بدئهم للعدوان، وعداوتهم الظاهرة للمسلمين، وكان من أظهر الدلالات على ذلك أنه كان يدعوهم إلى الإسلام قبل القتال، ولا ينبغي أن يفهم أحدٌ أنه يفعل ذلك ابتداءً، فيبدو وكأنه إكراه على اعتناق الإسلام، فقد كان رسول الله (ص) يفعل ذلك عند تعين القتال فعلاً، فإذا حضر الفريقان إلى أرض القتال جعل للفريق المعادي فرصة أخيرة لتجنب إراقة الدماء، وهذه من أبلغ صور الرحمة، لأن الفريق المعادي مستباح الدم في الميدان، والعفو عنه غير متوقع، كما إن الرسول (ص) كان يفعل ذلك والقوة في يد العدو هو تحت رحمته.
قال ابن القيم في «زاد المعاد» تحت عنوان: الدعوة قبل القتال: «وكان عليه الصلاة والسلام يأمر أمير سريته أن يدعو عدوَّه قبل القتال إما إلى الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيب أو بذل الجزية، فإن هم أجابوا إليه قبل منهم وإلا استعان بالله وقاتلهم.
وهذا الخُلق الرائع من إنشاء الإسلام الذي لم يستبح الغدر بأحد قبل إعلامه، فجعل الدعوة قبل القتال لازمةً، وتلك قمة لم تسمُ إليها أمة قبل الإسلام أو بعده. فما زال أهل الأمم الأخرى يعتبرون كل الوسائل في الحرب مشروعة لتحقيق النصر على العدو بما في ذلك الأسلحة الكيماوية والقنابل النووية التي قتلت الملايين في الحروب العالمية والغدر وتدمير الاقتصاد والمدن على أهلها واستحلال الحرمات، بينما لم يقاتل النبي (ص) قوماً قط إلا بعد أن دعاهم إلى الله تعالى.
وعندما أرسل النبي (ص) عليّاً بن أبي طالب (ر) إلى خيبر أوصاه قائلاً: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ ‏حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ‏ ‏حُمْرُ النَّعَمِ»، فالرسول (ص) في هذا الموقف -وهو القائد المقبل على معركة كان من المفترض أن يلهب حماسة جنده، ولكنه راح على النقيض يهدّئ من حماسة علي (ر) ويأمره ومن معه بالهدوء والرويَّة، كما هو واضح في قوله (ص) «انْفُذْ عَلَى رِسْلِك» أي اذهب وكن متروياً.

عظمة الإسلام لن تبدل حقيقتهاأعمال جهلة العصر
عظمة الإسلام لن تبدل حقيقتهاأعمال جهلة العصر

علاقات الإسلام الدولية
إن الأصل في علاقة دولة الإسلام مع غيرها من الدول هو الدعوة أي عرض الإسلام عرضاً صحيحاً يقيم الحجة ويقطع العذر، هذا أصل العلاقة التي ينبني عليها السلم أو الحرب في الإسلام .
وقد كان «أهل الذمة» معصومي الدم والمال، وإن عقدوا عهد هدنة مدةً لا حرب فيها، كانوا «أهل عهد»، وإن أبوا إلا حرب الإسلام ورفضوا الانصياع لأمر الله تعالى وصدوا عن سبيله، فهم «أهل حرب» .
وليس غريباً على الإسلام أن تكون له أخلاقيات في الحرب وإن لم يعرفها أعداؤه … لإنه دين الله الذي جعل الأخلاق أصلاً من أصوله ومنهاج حياة. ولم تكن القوة هي العامل المهم في انتشار الإسلام إلى أقاصي الأرض كما زعم بعض المستشرقين، فقد ترك العربُ المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلامَ واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل . فقد انتشر الإسلام في ربوع العالم واعتنقته الشعوب طواعية لا عن إكراه، شهد بذلك الموافق والمخالف، يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب» وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في مطلع عهده:
«لقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذاً بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند – التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل – ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليوناً فيها، ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، وها هو عدد مسلميها يزيد اليوم على عشرين مليوناً. . ويقول الكاتب في موضع آخر :«فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم» ويتحدث عن صور من معاملة المسلمين لغير المسلمين فيقول : «وكان عرب إسبانيا – عدا تسامحهم العظيم – يتصفون بالفروسية المثالية، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى ذلك من الخصال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوروبا منهم في ما بعد.
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: «العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود – الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها – سمح لهم جميعاً دون أي عائق بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح ؟ أين يروي التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ وبعد فظائع الإسبان واضطهاد اليهود، إن السادة والحكام المسلمين الجدد لم يزجوا بأنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية، فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب فيقول: إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتة وهم لا يستخدمون معنا أي عنف »
فهذا هو الإسلام، وتلك حضارته في واقع التاريخ، وفي كلام مخالفيه
شهـــــــــــــد الأنــــــــام بفضله حتى العــــــــدا والفضــــــــل مـــــا شهــــــــدت بــــــــه الأعـــــــــداء
لقد نهى الإسلام بشدة عن قتل النساء والأطفال والشيوخ ومن لا يقاتل من المدنيين، بل ويرتفع الإسلام بالمسلم إلى ذروة الإنسانية حين يأمره بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف وحمايته وإيصاله إلى بلده ومأمنه }وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ{(التوبة 6)
كما نهى عن الغدر بالأعداء حتى ولو كان المسلم يخشى خيانتهم }وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ{ فلا يَأْخذ العدو على غرة قبل أن ينبذ إليه على سواء فلا يغدر بعهدٍ عقده مع المسلمين.
إن جميع الحروب في الإسلام لم تكن لإسالة الدماء أو لحب القتل أو للهدم أو الدمار، وفي تاريخ كل تلك الحروب المدونة تفاصيلها بدقة لم تغتصب امرأة ولا أهين رجل بغير وجه حق، ولا انتهكت حرمة فتاة ولا عبث بذوات الخدور، ولم تُدمر الديار ولم يُرتكب عار أو شنار، ولم تُزهق النفوس البريئة، ولا ضرب حجر في غير موضعه فأصاب آلاف الأبرياء ؛ ولم تكن للفاتحين المسلمين سجون يعذب فيها أحد بألوان العذاب ..وهذا صلاح الدين الأيوبي يوم فتح القدس وقد أمَّن أهلها على دورهم وأرواحهم، وأمر بالبحث عن طفل ضاع من أمه – فهي تبكي بكاء مراً – حتى أحضره إليها وطمأن قلبها.
ملكنــــــــــــا فكـــــــــان العفــــو منـــــــــا سجيــــــــــــة فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فلا عجبـــــــــًا هـــــــــذا التفـــــــــاوت بيننــــــــــــــــــــــــــا فكــــــــــل إنـــــــــاء بـــــــــالذي فـيــــــــــــــــــه ينضــــــــــــــــــــــــــــــح

ثقافة و آداب

كريتو سقراط يرفض عرض أصحابه تسهيل فراره ويعطي كريتو قبل ساعات من تجرِّع السمّ درساً في احتقار الموت والتزام الفضيلة الموت أفضل …

“عرض دوق نابولي على فخر الدين حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر …

Medicine in Ancient Egypt Imhotep الطب والجراحة في مصر القديمة أبو الطب أبقراط درس الطب في معبد أمحوتب وأقرّ بمساهمة الطب المصري …

افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن وَمِنْهُمْ …

لله أيامُ تُذكر ولا تعاد، فذكرها عند الأجداد ارتعاش في الأبدا، وغمّ وحزن في ذاكرة الأبناء والأحفاد. أيامٌ سوداء من تاريخ لبنان …

“بلغ الخليفة عمر أن بعض جنوده يؤمِّنون الفارسي حتى إذا سلّم إليهم قتلوه فغضب غضباً شديداً و أقسم ليقطــــعن عنق من يفـــعل …

تاج العارفين أبو القاسم الجنيد قدوة العبادة والزهد والمعلم لأجيال من الصوفيين دعا لكتم التوحيد عن غير أهله وحارب الشطح والغلوّ طلب …

مــاذا تعلمنــا فلسفـة التــاو والحكمــة الصينيـة القديمـة من لاو تسه إلى تشوانغ زي التاو (الله) أصل الوجود، مجرد عن الماهية أزلي لا …

دفاع سقراط أمام محكمة أثينا. كيف خاطب الحكيم قضاته في أشهر مرافعة في التاريخ؟ لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف …

بمناسبة ذكرى شهداء 6 أيار جمال باشا في سوريا ولبنان .هزائم عسكرية وتهجير منظم ونهاية بائسة كان أحمد جمال باشا (1873-1922) نموذجاً …

محاورات افلاطون